في مقالة بعنوان “الصرخات الفردانية وتغيرات الحالة الثورية في مصر1“، للباحث المصري أحمد عبد الحليم، تناول فيها ظاهرة الاحتجاج الفردي في المجتمع المصري.
في مقالته أشار “عبد الحليم” إلى أربع حالات؛ (1) حالة الشاب المصري محمود محمد، الذي خرج في 24 يناير 2014، وكان يبلغ من العمر حينها 17 عامًا، ليحتَفل بالذكرى الثالثة لثورة يناير، مرتديًا “تيشيرت” ملصق عليه عبارة “وطن بلا تعذيب”، ليتم القبض عليه في أحد الكمائن شرق القاهرة، ويدخل السجن كغيره من عشرات آلاف السجناء السياسيين في مصر، ويقضي قرابة عامين سجينًا، ثم يخلى سبيله2. (2) حالة المهندس أحمد بدوي، الذي خرج في منطقة التجمع الخامس بالقاهرة، في 21 أبريل من عام 2019، رافعًا لافتة مكتوب عليها “لا للتعديلات الدستورية”، ليلقى نفس المصير، بالقبض عليه من قوات الأمن المصرية، وسجنه قرابة 4 سنوات، قبل خروجه ضمن قائمة العفو الرئاسي في يناير عام 20233. (3) حالة السيدة المصرية، التي وقفت في منتصف شوارع القاهرة وحدها، في 12 يناير 2024، تهتف تضامنا مع شعب غزة4. (4) حالة عبد الجواد محمد، وهو أمين شرطة في قسم كرموز5، حيث صعد على إحدى اللوحات الإعلانية الكبيرة في حي سيدي جابر بمدينة الإسكندرية، يهتف “السيسي خاين وعميل، مش خايف منك يا سيسي”، حتى جاءت قوات الأمن وقبضت عليه، وأخفته قسريًا حتى كتابة هذه السطور6.
وفسر الباحث في مقالته هذه الظاهرة بأسباب ثلاث:
- السياسات السلطوية؛ حيث القمع بكل أشكاله، وحيث تصحير المجال السياسي، وتفكيك كل القوى والفاعليات المستقلة.
- فشل التنظيمات السياسية والمجتمعية والنقابية، جراء سياسات النظام، وجراء اختلافها ومشكلاتها البنيوية.
- نتاج الاغتراب الذي هو بدوره “نتاج للحياة الاجتماعية المعاصرة، إذ استبدلت الروابط الاجتماعية والسياسية بالروابط الاستهلاكية، وباتت مفاهيم الفردانية، والإنجاز، والانشغال بالذات، هي نمط حياتي هُوياتي مُمَارس لدى كثير من الاجتماعات”.
السؤال: هل هذا التفسير كافيا؟
بحسب “عبد الحليم” فإن الفردانية القائمة على الانجاز على المستوى الشخصي، والانهمام بالذات، ليست معنية بالشأن العام، بالتالي صعود الفردانية يعني خفوت وتراجع الاهتمام بالشأن العام.
لكن هل تكفي هذه المقولة لتفسير تراجع الاحتجاج السياسي/الجماعي في مصر؟ في المقابل يقدم آصف بيات –كما ينقل عنه محمد تركي الربيعو7– في كتابه الصادر 2010، تفسير آخر، إذ يتحدث “عن وجود حراك غير مرئي، يقوده مئات الآلاف من أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة داخل المدينة العربية”، فهو يعتبر أن “بائعو الشوارع، ليسوا أناسا فوضويين، يعيشون في السوق السوداء، وإنما باتوا بمثابة شبكات تتحالف في ما بينها لمحاولة الالتفاف على القوانين والسيطرة على زوايا بديلة”، هذه الرؤية عادت للظهور من جديد في كتابه الصادر 2021، إذ يشير إلى أن “السياسة ليست مجرد احتلال للأماكن، وإنما يمكن أن تكون في بعض الأحيان منسوجة في العمل والحياة اليومية والنضال من أجل البقاء”، وأن فشل الناس في البقاء في المجال السياسي لا يعني تغيبهم عن الفعل السياسي الجماعي، إنما قد يعني فقط أنهم عادوا إلى “انتهاج فكرة الزحف الهادئ”.
يوسع آصف بيات مجال الفعل السياسي، ولا يقصره على المجال السياسي، إنما يرى أن الفعل السياسي يتخلل كل مظاهر الحياة الاجتماعية، يمارسه الناس بهدف مقاومة عسف السلطة بشكل هادئ ومرن لا يوقعهم تحت مطرقتها، بهدف التغيير البطيء السلس الذي يتسرب دون أن يثير معارضة تقوضه. وكيف أنه وبمرور الوقت وتفاقم الأوضاع السيئة تتمدد الاحتجاجات في المجال العام دون تنظيم يخطط لها أو يوجهها فيما وصفه “بيات” بـ “فن الحضور”؛ بالرغم من الاستبداد أو الديمقراطية المقيّدة8.
يفرغ النظام المجال السياسي من فاعليه المؤثرين، ويستبقيه تحت سيطرة تامة من جانب الأجهزة الأمنية؛ بهدف الاحتراز من تكرار مشهد يناير 2011؛ على افتراض أن مشهد يناير ما كان له أن يحدث دون سقف الحرية العالي، الذي أتاح للفاعلين السياسيين وشباب النشطاء، التواجد والتنسيق والتنظيم والتحاور، وبالتالي تأميم المجال العام لن يسمح بتكرار مشهد الثورة. هذا التفريغ المقصود والممنهج ينتج حالة الاحتجاج الفردية التي أشارت إليها مقالة أحمد عبدالحليم.
لكن من جهة أخرى، تثير هذه الحالة التساؤل: أين يذهب الساخطون على النظام في حال تم إغلاق المجال السياسي؟
هنا يكتسب طرح آصف بيات قدرته التفسيرية، فهو من جهة يخبرنا أين يذهب الساخطين على النظام؛ فـ ” المهاجرون الريفيون والفقراء المدقعون” يتجنبون التورط المباشر في انتفاضات واسعة النطاق، أما “الطبقة الوسطى الفقيرة” فهي في أوقات الثورات تميل إلى قيادة الآخرين ولعب دور أوسع، فإذا انحسرت الثورات يتراجع المهمش إلى استراتيجيته المتمثلة في الزحف الهادئ9. فهو بالتالي يرفض فكرة ثورة الجياع؛ حيث يخرج الفقراء الجوعى –البروليتاريا الرثة- فيدمرون كل شيء؛ وينتقد شيوع هذا التصور لدى كثير من النخب في مصر وتونس وإيران10. والطبقة الوسطى الفقيرة لدى بيات هي “طبقة تحمل رأس مال تعليمي، وشهادات جامعية، ومعرفة جيدة بالعالم، وتوقعات عالية” ومع ذلك “تدفع اقتصاديا لتعيش حياة الفقراء في الأحياء الفقيرة وتقتات عبر أعمال غير رسمية وهشة”، هذه الطبقة ذوى الخلفية المتواضعة ولكن المثقفين يملكون غضبا أخلاقيا عميقا في مواجهة الأنظمة الفاسدة والأجهزة الأمنية القاسية11.
هذه المجموعات من المهمشين يجمعها شعور الغبن، وتعمل بشكل هادئ بدون قيادة أو تنظيم أو خطاب على تعزيز فرصها أو حيازة بعض المكاسب (تأمين أوى، مرافق حضرية، وظائف)، وفي حال حدوث أي انفتاح تستفيد هذه المجموعات من حالة الانفتاح المستجدة في الدخول إلى المجال السياسي ومحاولة تنظيم نفسها وتحقيق وجود سياسي لها وحراك سياسي يعبر عنها وعن مطالبها.
أما الفقراء جدا، والمهاجرون الريفيون الوافدون مؤخرا، والأميون، فهم يحجمون عن المشاركة في احتجاجات عامة، إنما يفضلون الانتظار ورؤية ما يحدث، لكنهم ينخرطون عندما تبدأ الطبقة الوسطى الفقيرة في الحشد، وهم يميلون بشكل عام إلى الانخراط في نضالات أكثر واقعية ومحلية.
وفق هذا المنظور الذي يقدمه آصف بيات، فإن الناس لا يتوقفون عن ممارسة السياسة، وعن مواصلة نضالاتهم الصغيرة من أجل فرص أفضل ومقاومة الأوضاع القائمة، هذه النضالات جمعية لكنها غير منظمة وبدون قيادة، لكنها موجودة تزحف بهدوء في معارك صغيرة لا تثير ارتياب السلطة.
المعارضة في مصر والترحال بين المساحات:
لم يختفي الفعل السياسي الجماعي، في شكله الاحتجاجي، من مصر، ما حدث فقط هو أنه ارتحل من مساحة السياسي، إلى مساحة النضال اليومي من أجل تحقيق انتصارات صغيرة، لا تأخذها السلطة بعين الاعتبار، ما دامت لا تهدد بقائها، أو تقلص بشكل ظاهر سيطرتها.
فيما يلاحظ المراقب أن الاحتجاجات الجماعية قد يخفت صوتها في لحظات معينة، لكنها ما تلبس وتعاود الظهور، وقد شهدنا عدد من الاحتجاجات العمالية، التي طالب أصحابها برفع مرتباتهم حتى تتساوى مع الزيادة التي أقرتها الحكومة للحد الأدنى للأجور، في 7 فبراير 202412، حيث شهدنا إضرابا عن العمل، لورديتين متتاليتين، في شركة “ليوني وايرينج سيستمز” لتصنيع الضفائر الكهربائية للسيارات، في 27 مارس 2024، في 4 مصانع من مصانع الشركة العشر، بمدينة نصر، والمنطقة الصناعية بمدينة بدر13، وقبلها، في 6 فبراير 2024، احتج المئات من عمال شركة مطاحن الخمس نجوم في السويس، على رفض الإدارة صرف الزيادة السنوية في الأجور مع راتب يناير الماضي14.
وفي إحدى أكبر شركات البناء التابعة لمجموعة طلعت مصطفى، نظّم أكثر من 100 موظف بشركة الإسكندرية للإنشاءات، وقفة احتجاجية، في 28 فبراير 2024، في حي مدينتي، للمطالبة بزيادة الأجور ووقف موجة تسريح العمال التي حدثت في الأشهر الأخيرة15. فضلا عن احتجاج عمال شركة مصر للغزل والنسيج في المحلة، في 22 فبراير 2024، للمطالبة بتطبيق «حزمة الرئيس» الاجتماعية التي أقرتها الحكومة، خصوصًا ما تضمنته من زيادة الحد الأدنى للأجور إلى ستة آلاف جنيه16. نشير كذلك إلى الاحتجاجات المناهضة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، من أمام نقابة الصحفيين، ومن ميادين أخرى، على الرغم مما قابلها من قمع أمني واعتقالات للمشاركين؛ فبحسب المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، فقد طالت الحملة الأمنية والقضائية المستمرة منذ بدء حرب العدوان على غزة في أكتوبر الماضي، العشرات، على خلفية مشاركتهم في وقفات منددة بالعدوان الإسرائيلي، أو تعليق لافتات في الشارع أو كتابة منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي لدعم فلسطين، وبحسب بيان المبادرة فـ “على مدار الأشهر السبعة الماضية حضر محامو المبادرة المصرية ممثلين عن الدفاع في عدد من التحقيقات في ثماني قضايا مختلفة أمام نيابة أمن الدولة العليا، أُدرج على ذمتها ما لا يقل عن 120 شخصًا على خلفية دعم فلسطين”17.
الخاتمة:
شهدت الفترة الأخيرة ارتفاع الأصوات المعارضة لما يجري في مصر، لم يقف ذلك عند حدود الاحتجاجات سواء كانت وقفات أو اضرابات، بل يمكن تلمس ذلك أيضا في مشهد الانتخابات النقابية، حيث يواجه عادة المرشح المقرب من السلطة، منافسة شرسة من قبل مرشحي الاستقلال، لمسنا ذلك ولمسه المراقبين في كل الانتخابات النقابية التي شهدتها الفترة الأخيرة.
يخبرنا ذلك أن على الرغم من انتشار القيم الفردانية، وغلبة الشخصي على الاهتمام بالشأن العام، وعلى الرغم من روح الاغتراب التي تراها بادية في مصر، إلا أن الاهتمام بالشأن العام لا يزال مستمرا، وأن العمل الجمعي في المجال العام في مصر، موجود ومستمر، هو فقط يرتحل من السياسي إلى الاجتماعي، ويغير من تكتيكاته استجابة للسياقات الضاغطة.
1 أحمد عبد الحليم، الصرخات الفردانية وتغيرات الحالة الثورية في مصر، نون بوست، 7 مارس 2024، في: https://tinyurl.com/26746xe3
2 اليوم السابع، السوشيال ميديا تزف “محتجز التيشيرت” بعد إخلاء سبيله.. “هاشتاج “محمود محمد” فى قائمة ترند “تويتر”.. صباحى: حمد الله على سلامتك يا بطل.. خالد تليمة: دخل السجن طفلا وخرج رجلا.. يوسف الحسينى: يحيا العدل، 22 مارس 2016، في: https://tinyurl.com/25ltloaq
3 مدى مصر، ثاني أيام الاستفتاء: القبض على شاب رفع لافتة «لا».. واحتجاز رئيس «الدستور» لاعتراضه على حشد موظفين بالـ«إجبار»، 21 أبريل 2019، في: https://tinyurl.com/2d6j7vaz
4 التلفزيون العربي، “موقف شجاع”.. سيدة مصرية تلقى إشادة بعد تضامنها وحيدة مع غزة، 12 يناير 2024، في: https://tinyurl.com/2ye4tsaz
5 المساء بريس، بوادر ثورة .. شرطي مصري يصرخ فوق لوحة إعلانات :السيسي خائن، 4 مارس 2024، في: https://tinyurl.com/22uvwrvf
6 عربي 21، “السيسي خاين وعميل”.. هتاف لشاب يعتلي لوحة إعلانية في الإسكندرية (شاهد)، 2 مارس 2024، في: https://tinyurl.com/267zjwd9
7 محمد تركي الربيعو، سوسيولوجيا التفاؤل… يوميات آصف بيات في المدينة العربية، 26 أبريل 2024، في: https://tinyurl.com/2c9o7hap
8 سمير مرقص، “آصف بيات” والربيع العربي (1/2)، عروبة 22، 4 مارس 2024، في: https://tinyurl.com/2crceeh8
9 آصف بيات، عوام الربيع العربي، ترجمة: يسري مرعي، معهد العالم للدراسات، 1 مايو 2017، في: https://tinyurl.com/23pxk8c4
10 المرجع السابق.
11 المرجع السابق.
12 العربية نت، السيسي يقر رفع الحد الأدنى للأجور في مصر لـ6 آلاف جنيه، 7 فبراير 2024، في: https://shorturl.at/tDGX6
13 أحمد خليفة، إنهاء إضراب عمال “ليوني وايرينج سيستمز” بعد وعود بزيادة الرواتب، المنصة، 27 مارس 2024، في: https://shorturl.at/aDT48
14 مدى مصر، عمال شركة مطاحن الخمس نجوم في السويس يواصلون اعتصامهم احتجاجًا على رفض الإدارة صرف الزيادة السنوية في الأجور، ويرفضون ربط الزيادة باستبدال العقود الدائمة بأخرى مؤقتة، 6 فبراير 2024، في: https://shorturl.at/clNQW
15 أحمد بكر، عمال بـ«طلعت مصطفى» يحتجون على انخفاض الأجور وتسريح زملائهم، مدى مصر، 1 مارس 2024، في: https://shorturl.at/pqST8
16 مدى مصر، «الأمن الوطني» يفرج عن 4 من عمال «غزل المحلة».. والإضراب مستمر | «النواب» يوافق على تغليظ عقوبة «حبس السلع»، 26 فبراير 2024، في: https://shorturl.at/ouwJ5
17 المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، منذ بداية حرب غزة: اعتقال 120 مصرياً على الأقل بينهم طفلين واتهامهم بـ”الإرهاب” بسبب دعم فلسطين، 2 مايو 2024، في: https://tinyurl.com/2cd8runn