الاستعمار والدولة العربية الحديثة وميلاد الحركة الإسلامية وجماعات العنف

ظهرت حركات الإسلام السياسي كردة فعل على ابتلاع الدولة للمجال الديني، وتعاملها مع الفاعلين داخل هذا المجال -من مؤسسات علماء كالأزهر، وطرق صوفية، وأوقاف يغذي هذا المجال ويضمن استمراره واستقراره- إما بمنطق التأميم كما حدث مع الأزهر والطرق الصوفية، وإما بمنطق التصفية كما حدث بصورة كبيرة مع قطاع الأوقاف؛ حيث قاد ابتلاع الدولة للمجال الديني، إلى إفقاد القِوَى الدينية الموروثة عن حِقْبَة ما قبل الدولة الحديثة فاعليتها، وأفقدها تالياً ثقة الشارع، وفتح المجال أمام الحركات الإسلامية ككل، وحركات الإسلام السياسي خاصة لملأ الفراغ الذي خلفته القُوَى الدينية التقليدية من جرّاءِ ضمورها وتراجع فاعليتها.

كذلك لا يمكن فهم خلفيات ظهور حركات الإسلام السياسي بمعزل عن الدوافع الأولية لهذه القوى؛ من قبيل الحفاظ على الهوية الإسلامية في مواجهة حركة تحديث داخلي اتخذت من القيم والمفاهيم الغربية نموذجاً لها. أو بمعزل عن انهيار الإجماع الداخلي تحت معاول التحديث الذي فكك بُنى المجتمع التقليدية الموروثة، والتراجع الحثيث في قوة وتأثير مؤسسة العلماء التقليدية، الناطق باسم الإسلام والحارس لقيمه طوال قرون.

كما لا يمكن فهمه بمعزل عن سيطرة الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية على مقدرات العالم الإسلامي في شكل مباشر أو غير مباشر، مع سقوط الخلافة وفشل محاولات توطينها في المنطقة العربية، أو بمعزل كذلك عن حملات التبشير النشطة أبان نشأة هذه التنظيمات، أو عن الهجرة اليهودية المتصاعدة إلى فلسطين حينها.

إشكالية تسييس الديني وتديين السياسي:

ولدت الحركات الإسلامية كما قلنا من رحم تأميم الدولة للمجال الديني وابتلاعها له، وهو ما جعل من التدافع داخل هذا المجال شأناً سياسياً، وسرع من عملية تسييس الشأن الديني وإخضاعه لسيطرة الدولة وانحيازاتها، ومن ثم استنبطت حركات الإسلام السياسي -بشكل متسرع- أن الدولة هي حصان طروادة الذي يستخدم في تشكيل المجال الديني وإعادة ترتيبه. كما قادت عملية تسييس المجال الديني إلى نتيجة أخرى ليست أقل سلبية، وهي تديين المجال السياسي، وتصنيف القُوَى السياسية وفق مواقفها الدينية.

تديين المجال السياسي، وتسييس المجال الديني كنتيجة مباشرة لتأميم الدولة للمجال الديني قاد إلى نتائج أخرى تبدو للوهلة الأولى متباينة؛ فهو من جهة أسس لحالة التمايز بين المجالين الديني والسياسي، وهو ملمح للمجتمعات الحديثة، ولم يكن موجودا أبان الدولة السلطانية؛ حيث كان الدين هو الإطار الجامع لكل صيغ الاجتماع السائدة.

لكنه قاد من جهة أخرى إلى ظهور الحركات الإسلامية؛ فهذه الحركات هي نتاج المجتمع الحديث الذي يتمايز فيه المجالين الديني والسياسي، فهي ليست مؤسسات علمائية، وليست جماعات صوفية، إنما حركات سياسية حديثة ذات توجه ديني، بالتالي لو قلنا تجاوزًا إنها نجحت في استعادة نموذج الاجتماع السائد ما قبل الدولة الحديثة، فلن تجد لنفسها مكان في هذا الاجتماع، لأنها ببساطة أبنة الترتيبات الاجتماعية التي خرجت عليها، وعلى الرغم من ذلك تدعوا هذه الحركات للخروج على هذا التمايز.

كون الحركات الإسلامية هي أبنة مشروع تحديث المجتمعات العربية، أنتج عدة ظواهر، منها: نظر كثير من الإسلاميين إلى “تطبيق الشريعة” باعتباره مجرد عملية أسلمة لمفهوم السيادة؛ حيث تحولت الشريعة في جزء كبير منها، من عِلاقة بين العبد وربه، إلى سيف مسلط على رقبة الجميع، بدعوى الحاكمية، وحيث يتحول “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” من ممارسة حوارية من خلالها يتوصل المجتمع إلى الاتفاق على الكود الأخلاقي الذي يضبط تفاعلاته، إلى ممارسة سلطوية بموجبها تفرض مجموعة تصوراتها عن الحلال والحرام والجائز والممنوع على المجتمع كله، ويعاد هندسة المجتمع بما يجاري قيم هذه المجموعة.

تسييس المجال الديني وتديين السياسي هو اختراع الدولة الحديثة قبل أن تتلقفه الحركات الإسلامية، فهو نتاج طبيعي من جراء ابتلاع الدولة كل شيء، وكون ممارسة اي شأن عام يمر من خلال قنوات الدولة. فالدولة العربية سيست الدين، وهو ما قاد بشكل حتمي ومتوقع إلى تديين المجال السياسي.

دولة ما بعد الاستقلال وولادة جماعات العنف الإسلامي:

تأميم الدولة للمجال الديني، وسيطرتها عليه بصورة تامة، فتح المجال لتمدد الحركات الإسلامية في المساحات التي خلفتها المؤسسات الدينية التقليدية، وقاد هذا بدوره إلى تسييس المجال الديني وتديين المجال السياسي. وهو من جهة أخرى قاد إلى نتيجة أخرى ليست أقل سلبية، وهي استنبات العنف في قلب المجال السياسي.

يمكن في هذا الشأن الحديث عن مرحلتين رئيستين في تاريخ العنف لدى حركات الإسلام السياسي؛ الأولى: خلال الحِقْبَة الاستعمارية حيث ترزح الدولة والمجتمع تحت نير الاستعمار. المرحلة الثانية: في ظل دولة الاستقلال.

في ظل المرحلة الأولى ظهر العنف ولكن في مواجهة ومقاومة الاستعمار، نشير هنا إلى تأسيس “النظام الخاص” الجناح العسكري للإخوان المسلمين، في سياق اندلاع المقاومة ضد الاحتلال الانجليزي في العالم العربي مع بدء الحرب العالمية الثانية، وبعد فشل المسار التفاوضي، وفشل ثورة 1919 وقيادة الوفد التي خرجت من رحم الثورة في إنجاز الاستقلال، ومن ثم اكتسبت المقاومة المسلحة جاذبية أكبر، خاصة مع انطلاق حركات التحرر الوطني، ومع الانهاك الذي منيت به الامبراطورية الانجليزية من جراء التكاليف الحالية للحرب.

في المرحلة الثانية، كان الاستقلال قد تحقق، وظهرت دولة ما بعد الاستقلال في منطقتنا العربية، فما الذي حفز ظهور الموجة الثانية من عنف الحركات الإسلامية؟

نشير هنا إلى سببين؛ الأول: أن دولة ما بعد الاستقلال ما كانت قد استقرت بعد على الصيغة المناسبة لإدارة علاقتها بالمجتمع، ودخلت في عدة محاولات لتجريب نماذج تحديث وتنمية مستوردة، لم تسفر هذه المحاولات عن النتائج المرجوة، وكانت تكلفتها الاجتماعية عالي، وقادت إلى حدوث اتساع متنامي في الهوة بين مؤسسة الدولة والشعب

الثاني: زادت أزمة الهوية التي تعيشها المجتمعات حضورًا وتبلورًا، مع استمرار سياسات استيراد النظم والأنساق القيمية من الغرب دون كثير تفكير في مدى اتساقها مع السائد لدى هذه المجتمعات من نظم وأنساق قيم عمرها مئات السنين؛ فالعنف هنا كان كاشفا عن حالة الاستقطاب الحاد في المجتمعات الإسلامية وعن انغلاق الأفق السياسي.

السبب الثالث: كان إخفاق الدولة الوطنية الحديثة في كل دعاويها بتحقيق التنمية والاستقلال والكرامة، ومع تطبيعها مع الاستعمار، من خلال التطبيع مع الكيان الصهيوني، والتطبيع مع النظام الدولي المرتهن لسيادة الغرب؛ خاصة أن هذا النظام سرعان ما صور الاسلام باعتباره عدو، وذات طبيعة مناهضة للحداثة وقيمها، خاصة مع اطروحة صدام الحضارات، من ثم شعر كثير من الإسلاميين باغترابهم عن النظام الدولي القائم، زاد من هذا الشعور، الدعم المطلق من جانب القوى الكبرى في هذا النظام للكيان الاستعماري الاستيطاني في فلسطين.

من قلب هذه التفاعلات تجدد العنف منذ نهاية السبعينات وحتى نهاية التسعينات، وبرز كأداة تعبير أساسية، بل ووحيدة أحياناً، لعدد من القوى الإسلامية. عنف أهوج اجتاح البلاد والعباد، امتد من دمشق وحماة إلى القاهرة وأسيوط، ومن الجزائر والمدية إلى الرياض والخبر، عنف وضع الآلاف من الشبان الإسلاميين في مواجهة الدولة وأجهزتها وأذرعها الأمنية.

الخاتمة:

ولدت الحركات الإسلامية بشقيها السياسي والجهادي من قلب التطورات التي طالت المجتمعات العربية مع نشأة الدولة الوطنية الحديثة في المنطقة ومع قدوم الاستعمار؛ فالحركة الإسلامية أبنة هذا التاريخ وربيبة تطوراته. حتى تصوراتها الدينية هي تصورات حداثية بامتياز.

من جهة أخرى، فإن تديين السياسي وتسييس الديني هو نتيجة مباشرة لسياسات الدولة العربية في التعاطي مع المجال الديني، مع تبنيها سياسات تأميم المجال الديني وإخضاعه بصورة تامة للدولة، ما فتح المجال أمام الحركات الإسلامية للتمدد في المساحات التي خلفها انسحاب المؤسسات العلمائية وانزوائها تحت ثقل ضربات التحديث.

ومن جهة أخرى فإن تسييس المجال الديني عبر إخضاعه وكل المساحات للسيطرة التامة من جانب الدولة، ومع ابتلاع الدولة للدين، نشأت ظاهرة تديين المجال السياسي. وعليه لا يمكن فهم تجربة الحركات الإسلامية في معزل عن تجربة التحديث والاستعمار أو عن سياسات الدولة الحديثة في التعامل مع المجال الديني في مجتمعاتنا.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022