شهدت العلاقات بين الصومال وتركيا تناميًا كبيرًا مؤخرًا؛ من خلال الاتفاقية الجديدة التي تمَّ توقيعها وإطلاقها في شهر فبراير الماضي، وتأتي أهمية هذا التنامي في العلاقات من مُنطلق تصاعُد القدرة والنفوذ الإستراتيجيين لتركيا، بجانب أهمية الموقع الإستراتيجي للصومال، والذي يكاد يُهيمن بشكلٍ شبه كامل على منطقة القرن الإفريقي برًّا وجوًّا وبحرًا. وتزداد أهمية التحركات والإجراءات التركية الصومالية بسبب تزايد المخاطر والتهديدات الأمنية والعسكرية في القرن الإفريقي والبحر الأحمر. فما هو الإطار التاريخي لتلك العلاقات؟ وكيف يُمكن فهم تمدُّد النفوذ التركي في الفترة الأخيرة في منطقة القرن الإفريقي من خلال تنامي العلاقات التركية الصومالية؟ وكيف يُمكن فهم الدور المصري في هذا الإطار؟ تلك هي التساؤلات التي سنحاول الإجابة عليها خلال هذا التقرير..
الإطار التاريخي للعلاقات بين تركيا والصومال: مرَّت العلاقات بين البلدين بأربع مراحل: أولها؛ الفترة من 2002 وحتى 2011: في هذه الفترة أُعيد التمثيل الدبلوماسي بين البلدين بعدما كانت تركيا أغلقت سفارتها في مقديشيو في 1991 مع بداية الحرب الأهلية في الصومال، ولكن العلاقات في هذه المرحلة اقتصرت على التركيز في مجال المساعدات الإنسانية التركية للتخفيف من المجاعات والأزمات الاقتصادية في الصومال. وفي هذه المرحلة ظلت العلاقات بين الصومال وتركيا محدودة نسبيًّا، ولذلك لم يزد حجم الصادرات التركية للصومال عام 2010 عن 5.1 مليون دولار فقط. وثانيها؛ الفترة من 2011 وحتى 2015: افتتحت تركيا أكبر سفارة لها في الخارج في مقديشو في عام 2011، وردَّت الصومال بالمثل بافتتاح سفارة في أنقرة. وخلال هذه الفترة، زادت تركيا بشكل كبير مساعداتها للصومال، بما في ذلك في مجالات الرعاية الصحية والتعليم وبناء المستشفيات والمدارس ومشاريع البنية التحتية. وبدأت الخطوط الجوية التركية رحلات مباشرة إلى مقديشو، مما عزَّز العلاقات الاقتصادية. وثالثها؛ الفترة من 2016 وحتى 2020: استمر تطور العلاقات بين تركيا والصومال. وفي عام 2016، زار الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود تركيا، ووقَّع البلدان عدة اتفاقيات للتعاون في مجالات مختلفة، بما في ذلك الدفاع والأمن. وفي عام 2017 افتتحت تركيا في مقديشو أكبر قاعدة تدريب عسكرية تركية خارج تركيا؛ للمساعدة في تدريب القوات الصومالية، وبسبب سعة هذه القاعدة فإنه يُمكنها تدريب ما يصل إلى 1500 جندي في الدورة التدريبية الواحدة. وبلغ إجمالي صادرات تركيا إلى الصومال 150 مليون دولار، في حين بلغت الواردات من الصومال 5.5 مليون دولار. وفي 2020 أرسلت تركيا مساعدات طبية للصومال لمواجهة جائحة كورونا.[1] ووقَّعت أنقرة في نفس العام اتفاقية للتنقيب عن الغاز والبترول في المياه الصومالية، وتوسَّطت بين الصومال وكينيا للتوصل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية المشتركة بينهما، وأنشأت أنقرة قاعدة فضائية في الصومال بكلفة 350 مليون دولار لإطلاق الأقمار الصناعية منها. ورابعها؛ الفترة من 2021 وحتى 2024: وهي المرحلة التي وصلت لدرجة الشراكة الإستراتيجية؛ حيث شهدت توقيع اتفاقية تعاون دفاعي وأمني شامل عام 2024. وكانت قد برزت العلاقات الأمنية والعسكرية بين تركيا والصومال بشكل أوضح في نهاية عام 2022، عندما كشف حسين معلم محمود، مستشار الأمن القومي للرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، عن مشاركة الطائرات المسيرة التركية “بيرقدار 2” في الحرب التي تشنّها بلاده على حركة الشباب.[2]
اتفاقية فبراير 2024: وقَّعت تركيا والصومال في 8 فبراير 2024 اتفاقية للتعاون الدفاعي والاقتصادي ومكافحة الإرهاب لمدة عقد كامل، وذلك خلال زيارة وزير الدفاع الصومالي عبد القادر محمد نور لأنقرة. وقد وصف الاتفاق بالتاريخي، لكونه يشمل جوانب مختلفة عسكرية واقتصادية وإنسانية. وبموجب الاتفاقية، يتوجّب على أنقرة حماية سواحل الصومال وتأمينها في مقابل منح أنقرة حق استغلال 30% من ثروات الساحل الصومالي الأطول في القارة الإفريقية. وتتضمن الاتفاقية مكافحة جرائم القرصنة، ومنع التدخلات الأجنبية والصيد غير القانوني وتهريب السلاح، وتدريب وبناء القوات البحرية الصومالية وإمدادها بالمعدات. ورأت الحكومة الصومالية، على لسان وزير الإعلام داوود أويس جامع، في الاتفاقية حمايةً لسيادتها، فيما اعتبر رئيس الوزراء حمزة عبدي بري أنها “تنهي مخاوف الصومال من الإرهاب والقراصنة، وتمنع التهديدات والانتهاكات الخارجية”. ورغم أن رئيس الصومال حسن شيخ محمود أكّد أن “الاتفاقية لا تستهدف أي طرف ثالث”، فإن من بين عدة دلالات هامة لتوقيت توقيعها وأبعادها، فقد جاءت بعد شهر تقريبًا على اتفاق بين إثيوبيا وحكومة “أرض الصومال” مطلع يناير الماضي، يقضي بتأجير أديس أبابا ميناء “بربرة” من أرض الصومال لإيجاد منفذ لها على البحر الأحمر، وهو ما رفضته مقديشو وأنقرة، بوصفه “اعتداءً مباشرًا على سيادة الصومال، وباعتباره يُهدِّد بتأجيج الأوضاع وعدم الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي”. وقد أجرى الرئيس الصومالي شيخ محمود اتصالًا هاتفيًا في 5 يناير الماضي بنظيره التركي الذي دعا إلى إنهاء “التوتر المثير للقلق بين الصومال وإثيوبيا على أساس وحدة أراضي الصومال”، مؤكدًا أن “التعاون بين البلدين سيستمر تدريجيًا”، كما أصدرت تركيا بيانًا يؤكد رفضها واستنكارها الشديدين لمذكرة التفاهم التي وقَّعتها إثيوبيا مع حكومة أرض الصومال، لأنها “اعتداء على حقوق الشعب الصومالي ومصالحه”، وهو ما يعني أيضًا أن الاتفاق يهدف إلى ردع جهود إثيوبيا للوصول إلى البحر عبر أرض الصومال الانفصالية، ويُعزِّز الحضور التركي المُتصاعد في القارة الإفريقية. يُذكر أنّ تركيا تدير عددًا من الموانئ البحرية والجوية الرئيسية في مقديشو، إذ بنت وأدارت مطار مقديشو، وهذا يوفر 80% من عائدات الحكومة الصومالية. وبالتالي، فإن الاتفاق يعني أن تركيا ستكون موجودة في البحر الأحمر ومتمددة فيه، ولن تكتفي بسواحل الصومال التي تمتد من المحيط الهندي وخليج عدن وباب المندب، مع كل ما يترتب على ذلك من تداعيات تنبّهت لها الولايات المتحدة الأميركية، فذهبت بعد أسبوع واحد فقط من الاتفاق الدفاعي بين تركيا والصومال إلى توقيع اتفاق أمني مع الصومال في 15 فبراير، تعهَّدت بموجبه واشنطن بتوفير تدريب وتأهيل عالي المستوى للجيش الوطني الصومالي، وتطوير قدرات لواء دنب المعروف محليًا باسم “قوات البرق”، لتمكينه من مواجهة التحديات الأمنية للبلاد؛ وذلك إلى جانب بناء 4 مراكز تدريب عسكرية في مقديشو وبيدوا وجوهر وطوسمريب وكيسمايو.[3] وقد وافق البرلمان الصومالي بمجلسيه، الشعب والشيوخ، في جلسة غير عادية مشتركة، على الاتفاقية. وصوَّت 213 عضو في البرلمان الفيدرالي لصالح الاتفاقية، بينما رفضها 3 أعضاء من أصل 331 عضوا بمجلسي البرلمان الصومالي.[4]
توقيت الاتفاقية وأسبابها: جاءت الاتفاقية في وقت ازدادت حدة التوتر بين الصومال وإثيوبيا الجارتين في القرن الإفريقي منذ التقارب بين إثيوبيا وأرض الصومال، الذي تجسد من خلال توقيع “مذكرة تفاهم” في الأول من يناير الماضي، تنص على استئجار إثيوبيا ساحل أرض الصومال الممتد على 20 كيلومتر على خليج عدن لمدة 50 عام. وبدورها، ندَّدت مقديشو بالاتفاق “غير القانوني”. وأكَّدت سلطات أرض الصومال أنه مقابل هذا المنفذ إلى البحر، ستصبح إثيوبيا أول دولة تعترف بها رسميًا، وهو ما لم يفعله أي جانب منذ أعلنت هذه المنطقة الصغيرة -التي يبلغ عدد سكانها 4.5 ملايين نسمة- استقلالها من جانب واحد عن الصومال عام 1991.[5] ويُمكن إجمال أسبابها في النقاط التالية: توقيع مذكرة التفاهم بين صوماليلاند وإثيوبيا باعتبارها خطوة للاعتراف بأرض الصومال كيانًا مستقلًّا وهذا ما أغضب حكومة مقديشو، وولوج إثيوبيا إلى المياه الدافئة وضمان منفذ بحري في البحر الأحمر في المياه الصومالية في مقابل الاعتراف بصوماليلاند، ما يحدث خللًا في التوازنات الإقليمية في جيوبوليتيك القرن الإفريقي، ويهدد الأمن القومي العربي، وتزايد هجمات الحوثيين على السفن المحملة بالبضائع في البحر الأحمر، إلى جانب تهريب الأسلحة من الحوثيين إلى جماعات متشددة في الصومال، وأخيرًا المخاوف المتزايدة من حدوث اضطرابات أمنية في المياه الصومالية إثر عودة نشاط القراصنة الصوماليين ما يُهدِّد التجارة الدولية العابرة في باب المندب التي تُعد 5% من التجارة العالمية.[6]
تأثيرات الاتفاقية: يُمكن أن تترك هذه الاتفاقية تأثيرًا على توازن القوى والمصالح الإقليمية والدولية في منطقة القرن الإفريقي، ومن المُتوقَّع في المدى المنظور أن يكون لها تداعيات مباشرة على الفاعلين واللاعبين الدوليين في المنطقة، ويُمكن تلخيص تأثيراتها في عدة نقاط: أولها؛ طمأنة الصومال: تُمثِّل هذه الاتفاقية نقلة نوعية في تعزيز شراكتها الأمنية والاقتصادية مع تركيا التي تحظى بحضور كبير في الصومال، سيما منذ عام 2011، واستغلالها الفرص الاقتصادية والاستثمارية في مقديشو، وهو ما مكَّنها من حجز أسبقية الحضور والتأثير في المشهد الصومالي أمنيًّا وسياسيًّا. وثانيها؛ التوجُّس الإثيوبي: مع إعلان الاتفاقية الإطارية بين مقديشو وأنقرة، وجد هذا الخبر صداه في دوائر النخبة الإثيوبية كما لفتت هذه الاتفاقية انتباه الصحافة الإثيوبية؛ حيث علَّقت إذاعة مستقبل أورميا للأخبار على الاتفاقية بمزيج من علامات التساؤلات والاستنكار حول مستقبل الاستثمارات التركية في إثيوبيا، كونها -أي تركيا- ثاني أكبر مستثمر في إثيوبيا بعد الصين. وثالثها؛ الانزعاج الإماراتي: تُعد دولة الإمارات العربية المتحدة شريكا إستراتيجيًّا بالنسبة للصومال، خاصةً فيما يتعلق بالقضايا الأمنية؛ حيث تتولى مهمة تدريب الجنود الصوماليين في مراكز تدريب عسكرية في مقديشو وفي إقليم بونتلاند، لكن لطالما كان الحضور العسكري التركي والإماراتي في الصومال مثيرًا للتوترات والجدل منذ عام 2017، قبل أن تضطر أبوظبي إلى وقف تعاونها العسكري مع مقديشو إبان الأزمة الخليجية عام 2018، لكن استؤنفت تلك العلاقة منذ إعادة انتخاب حسن شيخ محمود رئيسًا للصومال لولاية ثانية، في مايو عام 2022، ووقَّع البلدان على اتفاقية أمنية في أبوظبي عام 2023، لكن لم يصادق عليها البرلمان الصومالي بعد، ولهذا فإن السياسة الإماراتية تجاه الصومال يلفها كثير من الشكوك والغموض -وفق متابعين- حيث إنها توفر المساهمات والدعم العسكري وتحديدًا اللوجستي للحكومة الفيدرالية في مقديشو، وفي المقابل تعتبر إثيوبيا شريكًا إستراتيجيًّا وأحد مفاتيح ضمان بقائها ومد نفوذها في القرن الإفريقي، ولديها أيضًا تعاون وثيق مع صوماليلاند إذ تعمل شركة موانئ دبي على إدارة ميناء بربرة دون موافقة من الحكومة المركزية، ولهذا يُمكن أن تُشكِّل الاتفاقية الإطارية بين مقديشو وأنقرة عقبة أمام مستقبل الاستثمارات الإماراتية في إثيوبيا (تقدر بنحو 3 مليارات دولار أميركي) في حال فشلت جهود إثيوبيا في الوصول إلى المياه الدافئة وهو ما يُمثِّل ضربة مزدوجة وذات أبعاد متعددة بالنسبة للإمارات وإثيوبيا في آن واحد. ورابعها؛ تناسُق الحضور التركي الأميركي: مع تزايد المخاوف من توسع دائرة الحرائق في البحر الأحمر وانفراط عقد الأزمات في باب المندب نتيجة هجمات الحوثيين والقراصنة على السفن المحملة بالبضائع المتجهة إلى تل أبيب، إلى جانب الحضور الصيني والروسي في المنطقة، تتجه المقاربة الأمنية التركية والأميركية في المنطقة نحو تنسيق الأدوار في القرن الإفريقي، وللتأكيد على ذلك فإن واشنطن وقَّعت مذكرة تفاهم مع مقديشو بعد الاتفاقية الإطارية بين الصومال وتركيا، لبناء خمس قواعد للجيش الصومالي خاصة وحدة “دنب”. ولهذا فإن سباق دبلوماسية التعاون الأمني مع الصومال وبناء القواعد العسكرية بين أنقرة وواشنطن محموم راهنًا، هذا فضلًا عن وجودهما العسكري في البحر الأحمر، ضمن إطار عضويتهما كأقوى عضوين في حلف شمال الأطلسي “الناتو”.[7]
مستقبل الاتفاقية وانعكاساتها: لعبة التنافس الدولي في القرن الإفريقي: وصفت مذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وصوماليلاند بأنها تطور مهم، يزيد اشتعال التنافس الدولي في المنطقة، التي ما إن تهدأ عواصفها حتى تتجدد من جديد، وذلك إبان التوصل إلى اتفاقية “بريتوريا” في جنوب إفريقيا عام 2022 بين الأطراف الإثيوبية لإخماد الحرب في إقليم تيجراي، سرعان ما انزلق السودان إلى دائرة الحرب منذ أبريل عام 2024، هذا فضلًا عن الأزمة الأمنية في الصومال المتمثلة في الحرب المستعرة بين الحكومة الفيدرالية وحركة الشباب، وكذلك هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، ووجود قواعد عسكرية في جيبوتي لكل من الصين وأميركا واليابان وفرنسا، يضاف إلى ذلك التوجه التركي نحو هذه المنطقة بإبرام اتفاقيات أمنية مع الصومال وجيبوتي، بالتنسيق مع قوى دولية مثل الولايات المتحدة الأميركية وإقليمية مثل إثيوبيا، وهو ما يخلط الأوراق والحسابات الجيوسياسية في المنطقة التي تواجه تنافسًا دوليًّا منذ عقود. وتأتي الاتفاقية الإطارية المُوقعة بين مقديشو وأنقرة عاكسة تمددًا تركيًّا في المياه الإقليمية بالقرب من خليج عدن، وتعزيز حضورها ووجودها في كل من الصومال ودول الخليج (قطر) واليمن. ومن ثمَّ فمن الصعوبة التكهن حول قياس مدى ارتدادات الاتفاقية الإطارية بين مقديشو وأنقرة على مصالح تركيا في كل من إثيوبيا وصوماليلاند؛ حيث إن التعاون الاقتصادي بين تركيا وإثيوبيا يناهز 300 مليون دولار أميركي سنويًّا، ويبلغ حجم استثماراتها نحو ملياري دولار أميركي ويتم الانتهاء من 13 مشروعًا اقتصاديًّا ضخمًا تديره 20 شركة تركية تشغل قرابة 20 ألف إثيوبي، وكذلك توجد قنصلية تركية في صوماليلاند، وتنفذ الهيئات التركية مشاريع تنموية في هرجيسا، كما أن لديها مصالح اقتصادية ودبلوماسية في الصومال؛ إذ توجد أكبر سفارة تركية في إفريقيا في مقديشو، ويقدر حجم التجارة بين البلدين سنويًّا بنحو 250 مليون دولار أميركي، كما تدير شركة البيرق التركية ميناء مقديشو منذ عام 2014 وتشغل فافوري التركية مطار مقديشو منذ عام 2015، ويبلغ حجم الاستثمارات التركية في الصومال 100 مليون دولار أميركي، كما أن لديها اتفاقيات أمنية موقعة مع إثيوبيا وزودتها في أعقاب حرب تيجراي بمسيرات تركية لاحتواء خطر الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، وتعد حليفًا موثوقًا، ولهذا يمكن أن تواجه أنقرة مأزقًا في التوفيق بين مصالحها في إثيوبيا والصومال.[8]
تركيا في القرن الإفريقي: نظرًا لتلك العلاقات القوية والتبادل التجاري بين تركيا ودول القرن الإفريقي، ومن خلال استخدام أدواتها الدبلوماسية وقوتها الناعمة، يُمكن أن تلعب أنقرة دور وساطة لنزع فتيل التوترات في منطقة القرن الإفريقي، بين الصومال وإثيوبيا، لكن تكمن صعوبة جمة في إقناع حليفتها الصومال بدخول مفاوضات مع إثيوبيا ما لم تسحب الأخيرة مذكرة تفاهم مع هرجيسا، كما أن التراجع عن هذه المذكرة من قبل آبي أحمد ليس بالأمر الهين راهنًا، لأنها اعتبرت مطلبًا شعبيًّا، يلفت الانتباه عن التصدعات الداخلية إلى أزمة خارجية لها تأثيرات وانعكاسات ذات أبعاد مختلفة على استقرار المنطقة. ولهذا، فإن أعباء الحضور التركي في المنطقة أمام رهان واختبار صعب في التوفيق بين أطراف إقليمية تتجه نحو تصعيد أزماتها بما لا يخدم جهود ردع انزلاق المنطقة إلى أتون الحرب الأهلية مجددًا. كما أن الإنجاز الأهم الذي سيتم تحقيقه في نطاق الاتفاقية والذي يهم المجتمع الدولي بأكمله هو إعادة تنشيط القوات البحرية الصومالية من خلال الدعم التركي. وفي إطار هذه الاتفاقية، سيتم العمل على إنشاء قوات بحرية صومالية مختصة ومكتفية ذاتيًا بدعم من أصدقائنا الأتراك. هذه العملية سوف تُحدث تأثير الدومينو. وفي وقت محدود سوف تستعيد القوات البحرية الصومالية ذات المهارات العالية هيمنتها التي فقدتها بعد الحرب الأهلية في البحار الصومالية. حيث سيعمل على تدريب البحرية الصومالية قوات البحرية التركية، والتي تحظى بالاحترام على الصعيد الدولي. وبالتالي سوف تقوم البحرية الصومالية بدورها بإحكام سيطرتها على المنافذ المائية للصومال ومياهه الإقليمية. كما ستقوم بالقضاء على جميع أنواع الأنشطة غير القانونية سواء المحلية منها أو الخارجية في المياه الإقليمية الصومالية.[9]
مصر والتحولات في القرن الإفريقي: بعد مُضي عدة أشهر من الاتفاقية المبرمة بين صوماليلاند وإثيوبيا والتي اعتُبرت ردًّا طبيعيًّا على الاتفاقية الإطارية بين مقديشو وأنقرة، فإن ثمَّة مُتغيرات جديدة في جيوبوليتيك دول القرن الإفريقي في ما يتعلَّق بطبيعة التحالفات والتشابكات الموجودة؛ حيث تلعب مصر أدوارًا متعددة في محاولتها لحشر إثيوبيا في الزاوية المعزولة، فقد تحوَّلت الصومال من شريك أمني وتجاري إلى خصم لا يُستهان به بالنسبة لإثيوبيا، نظرًا للدبلوماسية التي تمارسها حاليًّا في المحافل الدولية والإقليمية وتسليط الأضواء على إثيوبيا باعتبارها مصدرًا للقلاقل والفوضى في المنطقة اتساقًا مع رؤية السياسة الخارجية المصرية تجاه إثيوبيا. هذا إلى جانب تشابك العلاقات أكثر بين مصر وإريتريا بعد زيارة أفورقي الأخيرة إلى القاهرة والتي أكد فيها الرئيسان على ضرورة حماية سيادة واستقلال ووحدة الصومال، وقبلها زيارة وزيرة الخارجية المصري، سامح شكري، إلى أسمرة، بعد انكشاف رغبة إثيوبيا في الوصول إلى البحر الأحمر، ولهذا يُمكن تقسيم جيوبوليتيك القرن الإفريقي إلى محورين: محور تقوده مصر ويضم كلًّا من الصومال وإريتريا والسعودية، ومحور آخر، بزعامة الإمارات، ويضم كلًّا من إثيوبيا وأرض الصومال، كما أن حسابات واشنطن وبيجين وأنقرة حاضرة في المشهد، لمنع الصومال وإثيوبيا من الذهاب إلى جولة مواجهات عنيفة مُجددًا وفي حرب غير متكافئة بين الجارتين.[10]
الخُلاصة؛ لا شك أن كل هذه المراحل التي مرَّت بها العلاقات بين تركيا والصومال، ثم ما وصلت إليه الآن في عام 2024؛ كل هذا يُوضّح أن هذه العلاقات حقَّقت المصالح الوطنية العليا لكلا البلدين؛ إذ أعطت نفوذًا إقليميًّا كبيرًا لتركيا -عسكريًّا وأمنيًّا ومِن ثَم سياسيًّا- في القرن الإفريقي والبحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن وبحر العرب، وكل هذا يزيد من الأوراق التي تُمسك بها تركيا في الصراع والتنافس على النفوذ، سواء في إقليم الشرق الأوسط وشرق إفريقيا، أو حتى على المستوى الدولي. ومن ناحية أخرى استفادت دولة الصومال حليفًا قويًّا سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا -هو تركيا- في مواجهة التحديات العديدة التي تواجهها في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية من تدهور في مواردها الاقتصادية وتصاعد حدة الإرهاب والصراعات السياسية والقبلية، وكذلك مطامع القوى الإقليمية مثل إثيوبيا وكينيا وغيره، أو مطامع قوى دولية كالولايات المتحدة وفرنسا والصين وبريطانيا؛ حيث تدعم بعض هذه القوى الإقليمية والدولية تقسيم الصومال، بينما يطمع بعضها الآخر في الهيمنة على الإرادة الوطنية لجمهورية الصومال.
ويأتي توقيع الاتفاق الدفاعي بين تركيا والصومال ضمن سياق الاستراتيجية التركية لتوسيع حضورها ونفوذها في القارة الإفريقية وتنويع علاقاتها الاقتصادية وفتح أسواق واستثمارات جديدة في إفريقيا، وتحديدًا الصومال وجيبوتي، والتمدُّد خارج الجغرافيا التقليدية للدور والحضور والنفوذ التركي. وتستهدف أبعاد الاتفاق توسعة التعاون العسكري والأمني الثنائي بين تركيا والصومال، ولاسيما أنه يستهدف أيضًا التدريبات العسكرية المشتركة، وتقديم المعدات اللازمة للقوات الصومالية، بما في ذلك الطائرات المسيرة التركية “بيرقدار”، إضافةً إلى تبادل المعلومات الاستخبارية والتعاون ضد الإرهاب، الأمر الذي يُعزِّز الدور التركي دوليًا وعالميًا في إفريقيا، ولاسيما عقب تراجُع الحضور الأوروبي عمومًا، والفرنسي على وجه الخصوص، في القارة الإفريقية، وقُبيل مغادرة قوات حفظ السلام الإفريقية “أتميس” الصومال في ديسمبر 2024.
[1] عبد المنعم منيب، “العلاقات التركية الصومالية وأثرها في القرن الإفريقي”، قراءات إفريقية، 23/6/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/z6oK0Fl2
[2] ثابت العمور، “الاتفاق الدفاعي بين تركيا والصومال… الأبعاد والتداعيات”، الميادين، 26/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/DHxYbI8
[3] ثابت العمور، مرجع سبق ذكره.
[4] معاوية فارح، “اتفاقية تعاون دفاعي مع تركيا.. الصومال «يتسلح» لـ«حرب متعددة الأوجه»”، العين الإخبارية، 21/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/rJt1H3q
[5] “الصومال توقع اتفاقا مع تركيا لحماية مياهها الإقليمية وبناء قوة بحرية”، الجزيرة نت، 21/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/SmpeS8uM
[6] الشافعي أبتدون، “التعاون العسكري-الاقتصادي بين الصومال وتركيا: الحيثيات والمآلات”، مركز الجزيرة للدراسات، 17/3/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/ne1U8u2B
[7] الشافعي أبتدون، مرجع سبق ذكره.
[8] الشافعي أبتدون، مرجع سبق ذكره.
[9] عبد القادر محمد نور، “الدور الاستراتيجي لاتفاقية التعاون بين تركيا والصومال في تحقيق أمن ورفاه القرن الإفريقي (مقال)”، وكالة الأناضول، 27/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/8IfckHpe
[10] عبد المنعم منيب، مرجع سبق ذكره.