السيسي وتوريط المؤسسة الدينية في ضلاله السياسي.. .الحملة على تركيا نموذجا
يراد للأزهر الشريف ومشيخته وهيئة كبار علمائه أن يكونوا كباقي فروع المؤسسة الدينية كدار الإفتاء ووزارة الأوقاف والكنيسة الأرثوذوكسية وباقي الكنائس، يراد له من جانب الطاغية عبدالفتاح السيسي وأجهزته الأمنية أن يكون مانح البركة لسياسات النظام القمعية وإضفاء مسحة من الشرعية الدينية على مواقفه السياسية الشائنة التي يمكن أن تصل أحيانا حد التواطؤ والخيانة والتفريط في السيادة الوطنية ومساندة الجبابرة والظالمين على حساب الأقليات المسلمة في عدد من دول العالم. فالنظام حريص كل الحرص على توريط الأزهر والمؤسسة الدينية بشقيها الإسلامي والمسيحي في ضلاله السياسي وتوظيفها لدعم سياساته مهما كان حد الاختلاف حولها، ومهما كان شذوذها وانحرافها، وآخر هذه الفخاخ الموقف من الدعم التركي للحكومة الشرعية في ليبيا والمعترف بها دوليا، والتي وظَّف النظام العسكري الانقلابي المؤسسة الدينية لدعم ومساندة موقفه السياسي دون اعتبار لمصالح مصر والعرب والمسلمين ودون حتى أن تقوم هذه الهيئات الدينية بوضع تصوراتها عن هذه القضية وتكييفها من زاوية شرعية؛ على اعتبار أن الحكم فرع عن تصوره كما يقول علماء الأصول؛ لكن هذه التصورات قامت بها الأجهزة الأمنية، وحيل بين المؤسسة الدينية ومناقشة هذه التصورات كما حيل بين استقلالها جبال متراكمة من الطغيان أقامها الحكام أو حتى القابلية للاستبداد من جانب شيوخ هذه المؤسسات، وكان من الأولى لهذه المؤسسات الدينية النأي بنفسها عن القضايا السياسية الشائكة باعتبارها مؤسسات علمية دعوية وليست سياسية. يكشف الفخ الذي وقعت فيه هيئة كبار العلماء ــ رغما عنها أو بإرادتها ــ موقف سلطة السيسي وأجهزته الإعلامية من بيانين للأزهر: الأول صدر في النصف الثاني من ديسمبر 2019 حول اضطهاد الحكومة الصينية لمسلمي الأويجور، ووضع الملايين في معسكرات اعتقال لإجبارهم على ترك الإسلام. والثاني صدر في 4 من يناير 2020 لدعم موقف النظام من المساندة التركية للحكومة الشرعية ضد عدوان الجنرال خليفة حفتر الذي يتواصل منذ شهر إبريل 2019م وأفضي إلى مقتل المئات وإجبار مئات الآلاف على ترك بيوتهم ومنازلهم. ففي حين رحبت السلطة ببيان هيئة كبار العلماء حول دعم سياسات النظام ضد تركيا وليبيا، ونشرته على نطاق واسع عبر الفضائيات والصحف والمواقع التابعة لها وعبر كتائبها الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي، في سياق توظيف النظام للأزهر في خدمة أهدافه السياسية؛ فإن رؤساء تحرير الصحف والمواقع الإلكترونية ومديرو القنوات التلفزيونية وعددا كبيرا من الإعلاميين تلقوا تعليمات من جهازي المخابرات العامة، والأمن الوطني، بمنع نشر بيان الأزهر الشريف صباح السبت 21 ديسمبر، أو حتى التعليق عليه والذي يتضامن فيه مع المضطهدين دينياً حول العالم، بالتزامن مع الاحتفال باليوم العالمي للتضامن الإنساني الذي يوافق 20 ديسمبر من كل عام. التوجيهات وصلت من ضباط بارزين في المخابرات والأمن الوطني عبر تطبيق “واتسآب”، تشدد على “منع نشر بيان الأزهر”، مبررة القرار بالعلاقات الجيدة التي تجمع بين النظامين المصري والصيني، على الرغم من أن بيان الأزهر لم يُشر صراحة إلى معاناة أقلية “الأويجور” المسلمين في الصين، وهو ما التزمت به جميع الصحف والفضائيات حتى إن موقع مبتدأ التابع لجهاز المخابرات العامة اضطر إلى حذف الخبر بعد نشره بمجرد أن جاءته التعليمات الأمنية. ويعلم الأزهر وتعلم هيئة كبار علمائه ودار الإفتاء والأوقاف أن نظام السيسي كان قد شن حملة اعتقالات وتضييق على الطلاب الأويجور المسلمين الذين كانوا يدرسون بالأزهر الشريف حيث تم اعتقال الآلاف وترحيل المئات منهم استجابة لطلب الحكومة الصينية سنة 2018م. وهو العام الذي بلغت فيه حجم التجارة بين القاهرة وبكين حوالي 13.8 مليار دولار. ورغم أن بيان الأزهر لم يصرح مطلقا بالصين ودعا فقط احتواء الدول والحكومات للأقليات الدينية إلا أن نظام السيسي استكثر نشر بيان لدعم المسلمين المضطهدين في الصين! والغريب أن مجلة فورين بوليسي، رصدت في تقرير مبكر لـ”روبرت سبرنجبورج” -وهو أستاذ العلوم السياسية بقسم شؤون الأمن القومي في الكلية البحرية الأمريكية وباحث متخصص في العسكرية المصرية- في سبتمبر 2014 هذا “التديين للسياسة”، يقول الكاتب إنه “يتوقع أن يستخدم السيسي الدين لإضفاء صبغة شرعية على حكمه الدكتاتوري، وهو ما لم يلحظه المراقبون الغربيون” على حد قوله. ويضيف: “أصبحت المؤسسات الإسلامية في مصر في عهد السيسي أكثر من مجرد أدوات دعم للنظام؛ بل أضحت جزءًا من الطغيان نفسه، ومن المفارقات في حملة السيسي ضد التطرف الإسلامي، أن هذه الحملة نفسها هي نوع من التطرف الديني”. المشكلة أن هؤلاء الذين هاجموا التيارات الإسلامية وقالوا “لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين”، لا يجدون غضاضة الآن في استخدم الدين لدعم السياسات الجديدة المتبعة وتبرير القمع باسم الله، كما كانت تفعل الكنيسة في دعمها لملوك الغرب في العصور الوسطى، ولا يعترضون على “تديين” السياسة، ما يضفي هالة دينية “شرعية” على كل ما يصدر عن السيسي وحكومته. قراءة في بيان الهيئة بيان هيئة كبار العلماء يأتي في أعقاب رفض نظام السيسي توقيع مذكرتي تفاهم بين الحكومة التركية وحكومة الوفاق الليبية برئاسة فائز السراج. الأولى تتعلق برسم الحدود البحرية لضمان حقوق البلدين في ثروات الغاز الضخمة التي يضمها شرق البحر المتوسط، وهي الاتفاقية التي تصب أساسا في صالح مصر وترد لها 7 آلاف كم مربع على الأقل من حقوقها البحرية التي تمتلئ بالغاز والتي تنازل عنها السيسي للصهاينة والقبارصة واليونانيين، ولا تمس مطلقا حدودها البحرية كما صرح مسئولون بحكومة السيسي. والثانية تتعلق بالتعاون العسكري، لدعم الحكومة الشرعية ضد عدوان الجنرال الدموي خليفة حفتر المدعوم من تحالف الثورات المضادة في مصر والسعودية والإمارات إضافة إلى فرنسا. وفي أعقاب موافقة البرلمان التركي الخميس 2 يناير2020 على طلب الحكومة إرسال قوات عسكرية إلى طرابلس لدعم حكومة الوفاق المعترف بها دوليا ثارت ثائرة عواصم تحالف الثورات المضادة في القاهرة والرياض وأبو ظبي. وإذا كانت المخاوف من توريط المؤسسة العسكرية المصرية في ملف ليبيا استحوذ على كل المراقبين والمهتمين بالشأن السياسي في أعقاب حملة الدعاية الواسعة التي شنتها الآلة الإعلامية لنظام 30 يونيو العسكري من أجل التسويق لتدخل عسكري في ليبيا تحت مزاعم الدفاع عن الأمن القومي، فإن النظام قد ورط بالفعل المؤسسة الدينية في سيل من الفتاوى والبيانات السياسية التي تنحاز لقرار السلطة وتبرر تصرفها وتضفي عليه مسحة دينية تبارك هذه السياسيات بعيدا عن مدى مشروعيتها أو حتى مناقشة ما يمكن أن تحققه من مصالح أو تلحقه من خسائر للبلاد؛ وذلك في إطار تصعيد الحملة على تركيا والمبالغة في العداء حدا افتعال معركة وهمية ضمن إطار السياسات الهروبية للنظام من مواجهة تداعيات الفشل في ملف سد النهضة الذي يهدد الأمن القومي المصري بعنف وشدة، وكذلك للتغطية على فشل النظام في كثير من الملفات السياسية والاقتصادية الأخرى. الجديد في مسألة توريط المؤسسة الدينية هذه المرة وتوظيفها سياسيا لإضفاء مسحة دينية على سياسات النظام وشرعنتها وإكسابها بعدا دينيا هو توريط هيئة كبار العلماء التابعة للأزهر الشريف، والتي طالما نأت بنفسها عن التورط…