السيسي والتحولات الضخمة في بنية المجتمع.. قراءة في التأثيرات السلبية للانقلاب
مقدمة استقرّت المفاهيم السياسية لنشأة الدول على أربعة أضلاع: أولا،مجتمع أو شعب. ثانيا،أرض أو إقليم يمثل الوعاء الحدودي لهذه الجماعة. ثالثا، المعتقدات والتصورات السائدة في المجتمع. وأخيرا، سلطة تنظّم العمل داخل هذه الجماعة، تخدم الشعب وتحمي الأرض وتصون المعتقدات. وما تشكلت السلطة أي سلطة إلا من أجل تحقيق أهداف البشر والمجتمع نحو النمو والاستقرار والأمان؛ لأن الإنسان هو أصل الاجتماع، وغاية التنظيم، وأي انحراف عن هذه الأولويات إنما يمثل تعزيزا لوضع السلطة على حساب المجتمع. ولذلك فإن وجه الخطورة ليس في مجرد الاجتماع أو التنظيم، بل في استبداد أصحاب السلطة على مر العصور، وأخطر منه تحولها إلى وراثة داخل الأسرة الواحدة كما في النظم الملكية والإمارات الصغيرة أو داخل الطائفة أو الفئة والطبقة الاجتماعية كوراثة الحكم داخل النظم العسكرية الشمولية. وبمقدار صلابة المجتمعات وتماسكها ووعيها بخطورة حكم الفرد واستبداده بالحكم والقرار على حساب المجتمع تتحدد ملامح نظام الحكم، فإذا كانت الأولوية لضلع المجتمع وتقديس حريته واحترام قراراته عبر آليات منظمة يتم التوافق عليها يكون مجتمعا راقيا ونظام حكم يمضي على المسار الصحيح. وإذا طغى ضلع السلطة كان نظام الحكم استبداديا شموليا وكان في حد ذاته تهديدا لأمن واستقرار المجتمع كله والعصف بكل مكاسبه وطموحاته وأهدافه، وإذا طعى ضلع “المعتقدات” وتوظيف “الدين” بما يمنح مزايا لطبقة رجال الدين والكهنوت على حساب المجتمع، يكون نظام الحكم “ثيوقراطيا” وهي صورة من نظم الحكم اختصت بها أوروبا في العصور الوسطي عندما كانت الكنيسة تتحكم في كل شيء وتفرض تصوراتها على الجميع باسم الدين. لهذه الأسباب؛ فإن المستبدين والطغاة دائما ما يعملون على تفكيك مظاهر القوة داخل المجتمع وإضعافه من أجل تكريس حكمهم؛ ولتحقيق هذه الغاية المدمرة، فإنهم غالبا ما يتسترون وراء عبارات منمقة مثل حماية الدولة والمجتمع من الفوضى وعدم الاستقرار ؛ رغم أنهم في حقيقة الأمر أبرز عوامل زعزعة الأمن والاستقرار داخل المجتمعات. إزاء هذه المفاهيم يمكن تفسير ما جرى في 30 يونيو 2013م، وما أعقبه من انقلاب على المسار الديمقراطي الذي كان يمثل حالة نادرة من التوافق داخل المجتمع المصري في أعقاب نجاح ثورة 25 يناير في الإطاحة بالمستبد محمد حسني مبارك من سدة الحكم، والإصرار على إقامة نظام تعددي يسمح بالحرية والتداول السلمي للسلطة عبر الاحتكام إلى صناديق الاقتراع النزيهة التي لا تعبث بها يد الشيطان؛ وتعزيز قدرات المجتمع وحماية منظمات المجتمع المدني كالأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية بتنوعاتها المختلفة، وتعزيز قيم الحريات والانتصار للعدالة ومصالح المجتمع على حساب شبكات المافيا والفساد وأركان الدولة العميقة. ومع نجاح الجيش في إجهاض المسار الديمقراطي والانقلاب على الحكومة المنتخبة قبل عام واحد فقط، كان لذلك تأثيرات شديدة الخطورة على مستقبل البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا؛ حيث تحولت مافيا الدولة العميقة وشبكات المصالح من حكم البلاد من وراء ستار إلى الانفراد بالسلطة مباشرة وبشكل سافر. وفي هذه الدراسة نستعرض بالرصد والتحليل جزءا من التأثيرات الاجتماعية شديدة الخطورة على مستقبل مصر والتي تفاقمت بشدة في مرحلة ما بعد الانقلاب، وباتت مهددة للمجتمع وتكريسا لحالة التشظي والانقسام الحاد في اعقاب حملات الكراهية التي شنتها سلطات انقلاب 30 يونيو لإضعاف قوى المجتمع و تدمير قدراته المناعية. تحولات كبرى في بنية المجتمع فمرحلة ما بعد انقلاب 30 يونيو تتسم بقدر هائل من السلوكيات السلبية التي تفاقمت داخل المجتمع المصري حتى تحول بعضها إلى ظاهرة تستوجب المواجهة قبل خروجها عن السيطرة؛ حيث يشهد المجتمع المصري تفشيا للإلحاد والعنف والجريمة والمخدرات والانتحار والطلاق، وسط مؤشرات تؤكد كثافة نشاط عبدة الشيطان والشواذ، وباتت الجريمة المنظمة أكثر اختراقا داخل المجتمع من خلال مافيا بيع الأعضاء وخطف الأطفال وتهريب الآثار، بينما تؤكد أرقام وبيانات وزارة الداخلية تزايدا مضطردا في معدلات الجرائم، وأهمها السرقة بالإكراه في ظل تفاقم الوضع الاقتصادي وارتفاع معدلات الغلاء وتآكل قيمة الأجور والمرتبات بعد قرارات التعويم الكارثية في نوفمبر 2016م، والتي أفضت إلى هبوط عشرات الملايين من المصريين تحت خط الفقر دفعة واحدة، بعد أن انخفضت قيمة الجنيه أمام الدولار والعملات الأجنبية الأخرى بنسبة تصل إلى أكثر من 100%، وفاقم من تفشي هذه الظواهر عدة أسباب أخرى على رأسها توجهات النظام نحو رفع أسعار جميع السلع والخدمات بشكل يفوق دخول المصريين ومرتباتهم، إضافة إلى الاستبداد السياسي وقمع المعارضين واحتكار المؤسستين العسكرية والأمنية الفضاء السياسي والإعلامي والاقتصادي، وسط توجهات وسياسات تستهدف الحد من قدرة المجتمع المدني على المشاركة في مواجهة هذه الظواهر والحد من مخاطرها. أولا التلاعب في الهوية المصرية الأكثر خطورة هو التلاعب بالهوية المصرية حيث يجري في هدوء أوسع انقلاب على تلك الهوية المصبوغة بالعروبة والإسلام؛ من أجل تشكيل أجيال جديدة لا تستمد قيمها من الإسلام ولا تجري في دمائها أصول العروبة وشموخها، مع الإخلال بهذه التركيبة من أجل دمج الكيان الصهيوني لتتحول العلاقة مع الاحتلال من عدو إلى صديق في إطار تشكيل ما يسمى بالشرق الاوسط الكبير؛ وذلك بعد أن تمكن جنرالات العسكر من تغيير العقيدة القتالية للجيش ليكون العدو هو من يرفض دمج “إسرائيل” في التركيبة الإقليمية برعاية أمريكية خالصة. وكان «مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي»[1]قد أصدر في 28 يناير 2019م، دراسة أعدها الباحثان عوفر فنتور وأساف شيلوح، بعنوان «هوية مصر في عهد السيسي: السمات المميزة للإنسان المصري الجديد»، تناولت فيها مظاهر ومآلات الحملة الواسعة التي يشنها نظام زعيم الانقلاب عبدالفتاح السيسي من أجل إعادة صياغة الهوية الوطنية لمصر؛ من خلال السعي أولا لتقليص مركّبها الإسلامي والعربي، وثانيا احتواء سماتها الثورية، وثالثا العمل على بناء جيل مصري جديد يكون أكثر استعداداً للاصطفاف حول الأجندة التي يفرضها النظام، إلى جانب أنها ترمي رابعا إلى تحسين صورة النظام في الخارج. وتقول الدراسة، إن الخطاب الحاكم لجدل الهوية الذي فجره نظام السيسي، يقوم على مبدأين أساسيين: أولاً؛ الإنسان المصري يمثل النقيض للإسلامي. ثانياً؛ الهوية المصرية تمثل فسيفساء من 8 مركّبات: الفرعونية، اليونانية، الرومانية، القبطية، الشرق أوسطية، والأفريقية، إلى جانب المركّبين الإسلامي والعربي. وتلفت الدراسة إلى حقيقة أن النظم الشمولية هي التي عادة ما تنشغل في شنّ حملات، تهدف إلى التأثير على مركّبات الهوية الوطنية أو تسعى إلى بناء توازنات جديدة فيها؛ من أجل إيجاد متطلبات تضمن بقاء نظامه وضمان استمراره واستقراره، من خلال إثارة جدل الهوية أملا في أن يسهم ذلك في صياغة بيئة داخلية وبناء نخبة شبابية، تكون أكثر استعداداً لاستخدام كل الأدوات والوسائل التي تخدم النظام وتعمل على تحقيق أهدافه. وفي يوليو 2018 كلف زعيم الانقلاب القوات المسلحة بتنبي ما أسماه بمشروع “الهوية المصرية”[2]وذلك لأن عقيدة الجيش المصري تغيرت بالفعل وفقا لتصورات السيسي وأركان نظامه، فبات الإسلاميون والثوار هم “الآخر العدو” وأضحت “إسرائيل” هي الصديق الذي يتعين دمجه والتقرب منه والعمل على ضمان أمنه واستقراره بتوثيق العلاقات والتحالفات العسكرية والاقتصادية والسياسية! ثانيا الانقسام الحاد وبالتزامن مع السعي…