كارثة محطة مصر.. عندما يتقدم أمن النظام على أمن المجتمع
كارثة محطة مصر.. عندما يتقدم أمن النظام على أمن المجتمع بعد شهور قليلة من كارثة غرق السفينية المصرية "سالم إكسبريس" في 15 ديسمبر/كانون الأول 1991م ومقتل "476" حاجا مصريا كانوا على متنها قبالة سواحل ميناء الغردقة على البحر الأحمر. تم إنتاج فيلم "ضد الحكومة" الذي أدى بطولته الفنان الراحل أحمد زكي، والذي دق ناقوس الخطر من حوادث الطرق والقطارات والسفن؛ محذرا من حالات الإهمال والفساد الحكومي التي تسفر عن مقتل آلاف المصريين كل عام في حوادث الطرق والقطارات؛ وخلال المشاهد الأخيرة من الفيلم الذي كتبه "بشير الديك" وقف البطل "أحمد زكي" أمام المحكمة صارخا بأعلى صوته «لا بد لي أن أقف.. هذه جريمة كبرى.. لا بد أن يحاسب من تسبب فيها، وإنني لا أطلب سوى محاسبة المسؤولين الحقيقيين عن قتل 20 تلميذًا لم يجنوا شيئًا سوى أنهم أبناؤنا". زكي في صرخته سعى إلى تكسير تابوهات تأليه الوزراء والمسؤولين، معلنًا: "ليست لي سابق معرفة بالأشخاص الذين أطلب مساءلتهم، لكن لدي علاقة ومصلحة في هذا البلد، لدي مستقبل هنا أريد أن أحميه، أنا لا أدين أحدًا بشكل مسبق، ولكنني أطالب المسؤولين عن هذه الكارثة بالمثول أمامكم .. فهل هذا كثير؟! أليسوا بشرًا خطائين مثلنا؟! أليسوا قابلين للحساب والعقاب مثل باقي البشر؟!»[1]. لكن يبدو أن صرخات أحمد زكي لم يسمعها نظام العسكر في مصر الذي يسيطر عليها منذ انقلاب 23 يوليو 1952م، فإذا قضى جنرال نحبه قتلا بالسم أو الرصاص، أو حتى بثورة شعبية؛ جيء ــ حتما ـ بجنرال بديل حتى تبقى مصر رهينة حكم الجنرالات فلا يسمح مطلقا بتولي مدني ـــ مهمما كانت كفاءته ــ حكم مصر. ولم تتوقف الحوادث المؤلمة المروعة، فقد غرقت بعد ذلك العبارة "السلام 98" وللعجب أنها كانت ملكا لنفس الشركة المالكة لسالم إكسبريس، وغرق على متنها في فبراير 2006 أكثر من "1400" مصري من الذين كانوا يعملون في المملكة العربية السعودية، في الوقت الذي كان فيه مبارك بإستاد القاهرة الدولي؛ يستمتع مع أسرته وحاشيته بمشاهدة مباريات كأس الأمم الإفريقية التي نظمت وقتها بالقاهرة. وقبلها وفي 20 فبراير "2002" وقعت كارثة "قطار الصعيد" التي تعد أكبر كارثة في تاريخ السكة الحديد المصرية منذ إنشائها(1856م) كثاني خط سكة حديد في العالم بعد بريطانيا هذه الكارثة أسفرت عن مقتل حوالي"400" مصري، حيث ظل القطار رقم "832" المتجه من القاهرة إلى أسوان، مسرعا وهو مشتعل بالنيران مسافة 9 كم، وراح الركاب يقفزون من النوافذ والأبواب أملا في النجاة، ومن لم يستطع القفز منهم تفحم في مكانه. كارثة قطار الصعيد ألهمت الكاتب السينمائي أحمد عبدالله في كتابة فيلمه الرائع "ساعة ونصف"[2] والذي أخرجه وائل إحسان وأنتج سنة 2012م؛ وقام ببطولته لفيف من شباب الفن والتمثيل والذي باتوا اليوم من كبار النجوم وفي مقدمة الفيلم تم إهداؤه لشهداء حوادث القطارات في مصر. ووفقاً للأرقام الرسمية[3] الصادرة عن الهيئة العامة للاستعلامات، تمتلك مصر خطوطاً حديدية بطول 9570 كم و705 محطات ركاب، و1330 مزلقاناً، و3500 عربة ركاب، و10 آلاف عربة بضائع، و800 جرار قطار. وتؤدي هيئة السكك الحديدية دوراً فاعلاً في خدمة نقل الركاب، من خلال تنفيذ 920 رحلة في اليوم الواحد، وتشير إحصائيات الهيئة القومية لسكك حديد مصر إلى نقل 500 مليون راكب سنوياً، بمعدل 1.4 مليون راكب يومياً، بوصفها وسيلة النقل الأنسب للفقراء لانخفاض تعرفتها بالمقارنة مع وسائل النقل البري، فضلاً عن نقل 6 ملايين طن من البضائع سنويا. وتشير إحصاءات غير حكومية إلى مقتل نحو ستة آلاف مصري، وإصابة أكثر من 21 ألفاً آخرين على خلفية حوادث القطارات خلال السنوات العشر الأخيرة، وارتفع معدل الحوادث في عام 2016 وحده إلى 722 حادثة. تكرار الحوادث في مصر وضعها بين أسوأ 10 دول على مستوى العالم في ارتفاع معدلات حوادث القطارات التي تؤدي إلى الوفاة، وإدراجها على "الخريطة السوداء" لحوادث القطارات، وهو ما يكشف عنه خبراء في المعهد القومي للنقل. كارثة محطة مصر المروعة وصباح الأربعاء 27 فبراير 2019م، استيقظ المصريون على فاجعة جديدة، حيث انفجر تانك بنزين الجرار رقم "2310" بالمصد الخرساني لرصيف نمرة "6" بمحطة مصر كبرى محطات القطارات في المنطقة العربية كلها، والذي أدى إلى مقتل 21 مصريا وإصابة أكثر من 45 آخرين بينهم 6 حالات خطرة وتفحمت بعض الجثث حتى إنه لم يتم التعرف على هوييها إلا بتحليل "DNA"، لكن تقديرات إعلامية تصل برقم الضحايا إلى حوالي 30 قتيلا. وكان الأكثر ألما وبشاعة هو مقاطع الفيديو التي تناقلها النشطاء للضحايا وهم يتفحمون دون وجود أدني أدوات الاستعداد داخل أكبر محطات مصر لمواجهة مثل هذه الحوادث المروعة، ولولا شجاعة شخصين قاما بإنقاذ أكثر من 10 ضحايا بالمياه لارتفع عدد القتلى إلى 40 شخصا. ومن المفارقة المدهشة أنه في ذات الوقت الذي وقع فيه الحادث المؤلم، كان وزير النقل الدكتور هشام عرفات يشارك في فعاليات المؤتمر الأول لرقمنة السكك الحديدة بمدينة كيب تاون بجنوب إفريقيا، الذي شهد حضور عدد كبير من وزراء النقل الأفارقة وعدد كبير من الخبراء الدوليين المتخصصين في مجال السكك الحديدية، ووقف بين المشاركين مزهوا بأن مصر تضع خريطة طريق لإصلاح منظومة السكك الحديدية في دول إفريقيا!. كما أن منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن أكثر من 1.25 مليون شخص يلقون مصرعهم سنوياً نتيجة لحوادث الطرق، وأن 90 في المائة من تلك الوفيات تقع في الدول ذات الدخول المتوسطة والمنخفضة. وتصنف المنظمة مصر ضمن أسوأ 10 دول في مجال حوادث الطرق!. ولم تكن حادث محطة مصر هي الوحيدة التي آلمت المصريين يوم الأربعاء الدامي، حيث شهد موجة من الحوادث التي أثارت الكثير من التساؤلات، منها نشوب حريق في كنيسة القديسة دميانة بالهرم، وآخر في محطة مياه المنصورة بمحافظة الدقهلية "دلتا مصر" هذا بالإضافة إلى حادث قطار بمرسى مطروح (شمال غرب). تعليمات الأجهزة الأمنية وفي أعقاب الغضب الشعبي الواسع جراء المشاهد المؤلمة لاحتراق الضحايا في انفجار جرار محطة مصر واجه نظام العسكر وإعلامه هذه الكارثة بالإجراءات التالية: أولا، تباطأ إعلام النظام عدة ساعات عن تناول الكارثة انتظارا للتعليمات من جانب المخابرات والأجهزة الأمنية[4] التي تحدد للفضائيات والصحف والمواقع وحتى كتائب النظام الإلكترونية مسارات التناول والتوجهات والمضامين وزويا المعالجة الإعلامية؛ ونقلت صحيفة "العربي الجديد"عن مصادر في مجموعة إعلام المصريين التابعة للمخابرات العامة، أنّ المسؤولين في قنواتها أبلغوا جميع العاملين بضرورة عدم نشْر أية مواد عن الكارثة حتى تأتي التعليمات؛ وبينما كان المصريون يبحثون عن وسائل الإعلام التي تبث مباشرة وتتابع الكارثة عن قرب كانت فضائيات النظام تبث برامج الشيف الشربيني وبرامج المطبح؛ ولم تبدأ هذه الفضائيات في تناول الكارثة إلا الساعة الواحدة ظهرا بعد مرور 4 ساعات كاملة على الحادث المروع! وذلك بعد صدور بيان من الرئاسة وجّه خلاله بـ"محاسبة المتسببين في حادث قطار محطة مصر"،…