هل يصنف التعاطي التركي مع الأزمة في خانة الإدارة الراشدة
تركيا ومقتل خاشقجي هل يصنف التعاطي التركي مع الأزمة في خانة الإدارة الراشدة يشير الرشد السياسي إلى مجموعة من الأحكام المنبثقة عن منظومة معيارية تعطي للرشد معناه وحقيقته[1]؛ فالرشادة السياسية تقوم على الجمع الذكي بين فروض المعايير الحاكمة وبين الاستجابة لاكراهات الواقع. في حين أن المفهوم البسيط لإدارة الشيء، هو التعامل معه للوصول إلى أفضل النتائج الممكنة، بما يحقق مصالح القائم بالإدارة؛ من هنا فإن إدارة الأزمة تعني "التعامل مع عناصر موقف الأزمة باستخدام مزيج من أدوات المساومة –الضاغطة والتوفيقية (العصا والجزرة)– بما يحقق أهداف الدولة ويحافظ على مصالحها الوطنية، وهي أيضًا "محاولة لتطبيق مجموعة من الإجراءات والقواعد والأسس المبتكرة، تتجاوز الأشكال التنظيمية المألوفة وأساليب الإدارة الروتينية المتعارف عليها، وذلك بهدف السيطرة على الأزمة والتحكّم فيها وتوجيهها وفقًا لمصلحة الدولة[2]. وعليه فالإدارة الراشدة للأزمة هي التي تعني التعامل مع الأزمة للوصول إلى افضل النتائج الممكنة؛ بتحقيق أهداف الدولة التي تتعامل مع الأزمة، في الوقت الذي تحافظ فيه على قيمها الرئيسة؛ فهي تستهدف تحقيق مصالح الدولة بالتوازي مع الحفاظ على قيمها الرئيسية. وبالتالي فتقييم أداء الحكومة التركية في تعاطيها مع أزمة مقتل الصحفي جمال خاشقجي يكون بقياس سلوكها على مقياس الإدارة الراشدة للأزمة، والذي يجمع بين تحقيق المصلحة واحترام قيم الدولة التركية في ظل حكم العدالة والتنمية. وهو ما سنتناوله في هذه السطور. تتوزع المقالة على ثلاثة محاور وخاتمة؛ المحور الأول: يحاول تسليط الضوء على الأهداف التي حاول النظام التركي تحقيقها عبر إدارته أزمة اغتيال خاشقجي؛ وهو ما يمنحنا فرصة تقييم هذه الأهداف بمعايير الإدارة الراشدة للأزمة. المحور الثاني: يستكشف ملامح السياسة التركية في تعاطيها مع أزمة خاشقجي، ويسعى ليرى كيف انعكست أهداف الحكومة التركية من أزمة خاشقجي على على هذه السياسة وظهرت في ملامحها الرئيسية. المحور الثالث: يبحث كيف انعكست أهداف ومعالم السياسة التركية على استراتيجياتها في التعاطي مع أزمة خاشقجي: المحور الرابع: نستعرض فيه أبرز محطات الأزمة؛ بصورة تعطينا القدرة على استشفاف (أهداف، ومعالم، واستراتيجيات) التعاطي التركي مع الأزمة. الخاتمة: وفيها نحاول الإجابة على سؤال مدى نجاح تركيا في إدارة أزمة اغتيال تركيا بشكل عقلاني رشيد. أهداف النظام التركي في إدارته أزمة اغتيال خاشقجي: تقييم الموقف التركي وتطوراته من أزمة خاشقجي، ورصد مكانة البعد الأخلاقي في السلوك أنقرة حيال الأزمة، يستلزم بداية الوقوف على محددات الموقف التركي من الأزمة، وأهدافه منها، وهو ما نحاول الوقوف عليه في هذه السطور: يبدو أن الموقف التركي، لا يستهدف تعرض السعودية لأي هزات قد تؤدي إلى تحللها، وتدرك أنقرة خطورة ذلك على مجمل أوضاع العالم الاسلامي، والأقرب أن المقاربة التركية ترى أن حادث "خاشقجي" المأساوي يجب أن يضع حدا لسياسات ولي العهد، إن لم يكن بتغييره عبر إجراءات من داخل الأسرة الحاكمة، فعلى الأقل كبح جماحه وتقليم أظافره[3]. فالتوجهات السعودية في ظل قيادة بن سلمان، أفرزت سياسات أضرت تركيا كثيرا، سواء بتورطها في ملف الانقلاب الفاشل، أو بالعبث في الفناء الخلفي لتركيا، من خلال الدعم السخي الذي تقدمه السعودية لميليشيا الحماية الكردية بالتعاون مع الجانب الأمريكي[4]، إضافة إلى حملات الإساءة – التي وصلت إلى حد التطاول- ضد أردوغان في وسائل الإعلام المقربة من ولي العهد داخل المملكة وخارجها. هذه السياسة العدائية من جانب ابن سلمان وفريقه تجاه تركيا وقيادتها مشهودة، إذ قال ولي العهد في تصريحاتٍ أدلى بها أوائل العام الجاري 2018، لوسائل إعلام مصرية، إنَّ تركيا وإيران والإسلام السياسي «محور شر»، وفي مقال له بصحيفة "يني شفق"، كتب الصحفي التركي "محمد آجات" يقول: (يعلم الجميع أنه بقدر وجود ساعين لدفع العلاقات بين البلدين إلى التدهور داخل العائلة المالكة السعودية، فإن هناك كذلك من يجتهد للمحافظة عليها في مستوى جيد. كما لا يخفى على أحد أن فريق ابن سلمان يهاجم تركيا أحيانا من خلال وسائل الإعلام المستأجرة وأحيانا أخرى بتصريحات مزعجة مباشرة)[5]. وعليه، فالاستراتيجية التركية في هذا الملف تهدف -باعتقادي- إلى تحقيق ثلاث غايات؛ الأولى دفع السعوديين إلى قول الحقيقة كاملة بشأن مقتل خاشقجي، والثانية تقويض سلطة محمد بن سلمان باعتباره المسؤول عن هذه العملية التي تمت داخل الأراضي التركية، والثالثة ردُّ تركيا لاعتبارها من خلال المطالبة بمحاكمة كل من تورط في هذه العملية على الأراضي التركية[6]. ملامح السياسة التركية في تعاطيها مع أزمة خاشقجي: حكمت المواقف التركية من أزمة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بالقنصلية السعودية في اسطنبول عدد من المعالم/ الملامح/ التوجهات البارزة، أهمها: المعلم الأول في سياسة التعاطي التركي مع أزمة اغتيال خاشقجي، كان إبعاد القيادة السياسية –ظاهرياً- عن تفاعلات القضية وتطوراتها، وبقائها بعيدًا عن الواجهة، واقتصار ظهورهم على تأكيد استمرارية التحقيقات والمسار الجنائي. بصيغة أخرى الإبقاء على الازمة في بعدها القانوني أطول فترة ممكنة، وتناولها في الإطار السياسي بصورة تبدو هامشية. في هذا السياق جاء خطاب أردوغان[7] على الأزمة صادماً للكثيرين[8]، الذين توقعوا اتهام صريح للقيادة السعودية بضلوعها في حادث الاغتيال. فمن البداية "أمسكت الاستخبارات التركية كما بينت نيويورك تايمز[9] بزمام الملف، والتي تعلم كممثلة لتركيا ودونًا عن العالم تفاصيل الجريمة كاملة، في حين اقتصر دور الساسة على تصريحات هادئة تجاه المملكة، وصلت لتشكيل فريق تحقيق مشترك معها؛ لمعرفة مصير ضحية يعرف الطرفان مصيرها، وإن ظل مكانها مجهولًا"[10]. المعلم الثاني يتعلق بالدور المثالي الذي لعبه الإعلام التركي، ومن وراءه الإعلام العالمي، في إكساب القضية بعداً أخلاقياً واضحاً، وفي حشد الرأي العام العالمي في مربع مناهضة عملية الاغتيال، وإدانة النظام السعودي في عملية الاغتيال، التي يمكن وصفها بالفاشلة رغم نجاحها في تصفية الصحفي المستهدف من وراءها. فقد نجحت أنقرة عبر نوافذها الإعلامية في تشكيل ضغط دولي بارع ومتزايد لصالح قضية "خاشقجي" باعتبارها قضية جنائية، كما نجحت في عدم حصر القضية في بعدها الدبلوماسي فقط[11]، ونجحت في تحويلها من أزمة ثنائية بين الدولتين إلى قضية عالمية؛ وهو ما يعني فتح الباب الكبير لأنقرة بخروجها من المأزق الدبلوماسي واستلام مفاتيح اللعبة، وفي ذات الوقت تأزيم المملكة السعودية بوضعها أمام مرمى العالم. المعلم الثالث: يمكن أن نسميه إلقاء الكرة في ملعب دول العالم، وإحراجها أمام شعوبها من جهة، ووضعها في مواجهة رأي عالمي يتشكل في سرعة، رافض لعملية الاغتيال، ويعلم تورط النظام السعودي فيها، وينتظر ما تؤول إليه القضية. فبحسب مراقبين "اعتمدت أنقرة على أسلوب الإطالة والتسريبات المحسوبة، ومخاطبة الرأي العام العالمي، في سبيل حشد أكبر قدر من الضغط على السلطات السعودية، وهو ما بدا أنه نجح بالفعل في انتزاع اعتراف من الرياض بقتل خاشقجي داخل قنصليتها في اسطنبول؛ فكل التحركات التركية، منذ مقتل خاشقجي، لا تهدف إلى المواجهة مع السعودية، بقدر ماهي تهدف إلى خلق وتوسيع رأي عام دولي غاضب تجاه الجريمة، ووضعها تحت طائلة…