بقلم: حازم عبد الرحمن
للشهر الثامن على التوالي, يواصل الشعب الجزائري فعالياته لإنهاء حكم العسكر, ولا يجد ردا شافيا من المؤسسة العسكرية يؤكد تخليها عن الوصاية على الشعب, بل إن تتبع خطابات رئيس الأركان الجزائري، أحمد قايد صالح (80 عاما)، يظهر عنادا وتصعيداً في لهجته بإزاء الفعاليات، وقد قال أخيراً إن “التحامل على المؤسسة العسكرية هو جزء من مخطط خبيث هدفه الوصول إلى تقييد أو تحييد دور الجيش”. مع إشاراته المستمرة إلى ما يسميه “المؤامرة”، وتهديده بوجود معلوماتٍ مؤكدةٍ حول تورط جهات محددة، قال إنه سيكشف عنها في الوقت المناسب, ويتجاهل الجنرال الثمانيني أن تصريحاته حول الشأن السياسي لا تستند إلى شرعية دستورية؛ فمؤسسات الدولة المعنية بالانتخابات الرئاسية قائمة, وهناك الرئيس الجزائري المؤقت عبد القادر بن صالح في موقعه منذ مارس 2019 , وهو المنوط به مخاطبة الشعب فيما اغتصبه منه رئيس الأركان القلق جدا على مستقبل العسكر في حكم البلاد, ويصطنع لذلك مناسبات وزيارات, زادت عن حدها المعتاد, بما يعني أن هدف الجنرال هو استمرار نهج الحكم بوصاية العسكر, مع تجاهل تام لمطالب الشعب الجزائري, والتي توجه جانب منها إليه شخصيا, يطالبه بالرحيل باعتباره من أفراد العصابة.
*مصالح الجنرال
مثل كل العسكرين القابضين على سلطة الحكم في دول العالم الثالث, هناك مكاسب للجنرالات تدفعهم إلى التشبث بمقاعدهم, ورئيس الأركان الجزائري أحمد قايد صالح لديه الكثير من الأعمال والاستثمارات هو وأولاده السبعة، وله أرصدة كبيرة في بنوك دولة الإمارات العربية المتحدة, ويعقد أنجاله صفقات تجارية مربحة مع الجيش, وهناك فساد يغطي عليه بقاء العسكر المتسلطين, أما أن يحكم الشعب فهذا يعني فتح ملفات الفساد للجنرالات, ويوقف استنزافهم لاقتصاد البلد وافر الثروة, وهو ما يقلقهم من مطالب الشارع.
وفي وصفه للجنرال قايد صالح يقول غازي حيدوسي، وزير الاقتصاد الأسبق أن الجنرال صالح ذو قدرات فكرية محدودة جداً، ويري حيدوسي أن الجنرال قايد صالح ما هو إلا “الناطق الرسمي باسم جنرالات المافيا الذين لا تزال قبتهم في مكانها.. وتمسك بالسلطة الحقيقية”, كما أنه معروف بكونه ‘‘شخصية فظة ومتهورة وقليل التفكير؛ وهو ما يعني أن زملاءه قد يضحون به ويقدمونه قربانا للشعب من أجل الحفاظ على بقاء النظام العسكري, وهذا الاحتمال وارد بنسبة كبيرة, خاصة بعد أن حدد المتظاهرون اسم قايد صالح كمطلوب للرحيل, ويبدو أن الدور سيأتي عليه.
*مغادرة العسكر السياسة
من الصعب مغادرة الجيوش الحاكمة لسلطات الحكم والسياسة؛ بسبب ما تنهبه من ثروات الشعوب, لكن مغادرتها ممكنة, جبرا وقسرا بثورة كاملة, أو طوعا تدريجيا بالسياسة, كما حدث في تركيا؛ حيث جرى خلع الجنرالات من السياسة بالتدريج, وفي حالة الجزائر يصعب تصور خروج العسكر الطوعي من الهيمنة على السلطة السياسية, وقد تغول الجنرالات بعد بقائهم في الحكم فترات طويلة, وأصبحوا يخططون للاستمرار في البقاء, والالتفاف على مطالب التغيير, وقد أثبتت التجربة أن استجابتهم لمطالب الجماهير غير حقيقية, وأنهم لا يلبثون إلا أن يعودوا مرة أخرى إلى فرض الوصاية على الشعب وإلغاء إرادته وحقه في أن يحكم نفسه بنفسه؛ لذلك ليست هناك ثقة في تنظيم العسكر أي انتخابات نزيهة, وعندما جرت في الجزائر قبل 27 عاما انقلبوا عليها لأنها لم تكن في صالحهم، ويرى الجزائريون أن دعوات رئيس الأركان إلى الإسراع في إنجاز الانتخابات الرئاسية هي استمرار لطريقة العسكر في الإدارة حتى يستنسخوا النظام المهترئ وينقذوا أنفسهم من المحاسبة، وبعد الانقلابات على الربيع العربي انعدمت الثقة في وعود العسكر وتعهداتهم, ويؤكد التاريخ أن المؤسسة العسكرية ظلت تلعب الدور المركزي في اختيار رؤساء الجزائر، منذ انقلابها على الحكومة المؤقتة عام 1962، ثم الانقلاب على الرئيس أحمد بن بلة في 1965، وفرض الرئيس الشاذلي بن جديد عام 1979، ووقف المسار الانتخابي في يناير 1992، واختيار محمد بوضياف رئيسا لمجلس الدولة، ثم الدفع بالجنرال ليامين زروال إلى الرئاسة عام 1995، واستقدام عبد العزيز بوتفليقة عام 1999.
*مفاجأة الجيش
في مفاجأة لم تكن في الحسبان, أعلن الجيش الجزائري أنه بصدد “التوبة السياسية” عن التدخل في صناعة الرؤساء في البلد، و”تحرير المبادرة الشعبية”، وهاجم مجموعة من القوى السياسية والقنوات والكتاب الذين يتبنون مواقف مناوئة له ولخياراته في الأزمة السياسية الراهنة, وجاء في بيان افتتاحي نشرته مجلة “الجيش” الناطقة باسم المؤسسة العسكرية، وتصدرها وزارة الدفاع، أن “عهد الإملاءات وصناعة الرؤساء قد ولى بلا رجعة”، مشيرا إلى أن “بعض المناوئين للجيش يجهلون ذلك”, لكن البيان قال أن قرار الجيش “ترجيح الشرعية الدستورية، من خلال تنظيم انتخابات رئاسية في أقرب الآجال، يتمخض عنها انتخاب رئيس للجمهورية بعيدا عن كل المهاترات والمزايدات، ومحاولة فرض الشروط التعجيزية والإملاءات المسبقة، والترويج لأفكار استعمارية بائدة لفظها التاريخ ورفضها الشعب”.
ولا تبدو عبارة أن “عهد الإملاءات وصناعة الرؤساء قد ولى بلا رجعة” جذابة اليوم, بعد التعهدات الكثيرة التي قطعها العسكر على أنفسهم, ثم نكثوا بها, وإذا كانت الرسالة صادقة, والوعد أكيدا؛ فإن ما يجب عمله فورا هو الاستجابة لمطالب الشارع التي يكررها منذ أكثر من سبعة أشهر؛ بمرحلة انتقالية وبناء نظام سياسي مدني, بعيدا عن هيمنة العسكر, أما أن تزعم قيادة الجيش في الوقت الحالي أنها قررت الابتعاد عن التدخل في الشأن السياسي، وعدم لعب أي دور في المسارات السياسية، وأنها لن تلعب أي دور في اختيار الرئيس المقبل، فإن غالبية القوى والمتابعين للشأن الجزائري لا يصدقون ذلك، ويعتبرون أن تدخل الجيش لفرض الحل الدستوري للأزمة السياسية التي تلت استقالة الرئيس بوتفليقة، وتمسكه بحكومة نور الدين بدوي، دليل على استمرار التأثير السياسي للجيش، وأن ذلك مؤشر على إمكانية لعبه دورا خفيا لصالح مرشح رئاسي من رجالات النظام سابقا.
وقد أخطأ الجيش في مهاجمة قوى سياسية ومدنية مناوئة لمواقفه والمسار السياسي الذي يتبناه، واتهامه بعضهم بأنهم ” بعض الأذناب التي تحاول تعكير صفو مسار الحوار بالترويج لمراحل انتقالية للوقوع في فخ الفراغ الدستوري، ومحاولة تغليط الرأي العام داخليا وخارجيا بأفكار مشبوهة ومسمومة، مستغلة في ذلك آمال وطموحات ومطالب الشعب المشروعة”, كما أن زعم الجيش بأن المسار والمواقف التي تبناها حظيت بـ”تزكية من الشعب الجزائري بكل مكوناته لا يمكن تصديقه لأن الفعاليات الأسبوعية لإقصاء الجيش عن السياسة والحكم تقول بغير ذلك, وكان من دواعي عدم الثقة والتصديق أيضا استخدام بيان الجيش مصطلح “العصابة” للدلالة على الرموز والمجموعات السياسية والمالية التي كانت في محيط نظام بوتفليقة ومستفيدة منه، وأغلبهم في السجن أو قيد الملاحقة السياسية”، لكنه استخدم نفس المعنى للدلالة على قوى سياسية ديمقراطية تطالب بمرحلة انتقالية ومجلس تأسيسي.
ويعكس بيان مجلة الجيش محاولة الجنرالات تقديم خطاب يقترب من فعاليات الشارع ومطالبه, للالتفاف حولها, وهي حالة تتشابه مع ما فعله العسكر في مصر في أثناء ثورة 25 يناير حيث تراجعوا تكتيكيا بإعلانهم تأييد الثورة, وزعموا أنهم حماتها في حين كانوا يخططون للانقضاض عليها, وما عاد أحد يصدق أن الجنرالات زاهدون في الحكم, ولو كان إعلانهم أن زمن صناعتهم الرؤساء قد انتهى صحيحا فليعلنوا توبتهم النصوح التي سيكون من شروطها الإقلاع عن الذنب الذي ارتكبوه بصناعة رؤساء سابقين, والندم على ذلك, و العزم على عدم العودة إليه, بينما الحقيقة أن العسكر عازمون على الاستمرار في ارتكاب الذنوب بحق الشعب الجزائري؛ لذلك رفض المشاركون في مظاهرات الجمعة الـ 29 بالجزائر مقترح رئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح بتنظيم انتخابات رئاسية قبل نهاية 2019., ورفعوا شعارات تطالب بالتغيير وتنحية ما تبقى من رموز نظام بوتفليقة، كما رفعوا شعارات أخرى رافضة للانتخابات ولهيئة الوساطة والحوار، وطالبوا “بدولة مدنية وليست عسكرية”.
إن المطلوب من جنرالات الجزائر الآن الانسحاب من السياسة فعلا, وليس مراوغة للالتفاف على الثورة, وأن يوقنوا أن محاولات فرض الوصاية على الشعوب قد ولى زمانها, والعصر الجديد هو عصر إرادة الجماهير, ولن يكون بمقدور عسكر الجزائر الالتفاف على إرادة الشعب في التغيير حتى لو قدم الجنرالات قائد الأركان أحمد قايد صالح قربانا لإرضاء الشارع أو حتى عزلوه أو قدموه للمحاكمة.