مسارات مغلقة للأزمة العراقية مع قرب نهاية المهلة  الدستورية لاختيار رئيس الحكومة

في الوقت الذي يتزايد فيه إهدار الدم العراقي في الشارع، يتباعد التوافق السياسي بين الأطراف السياسية العراقية حول شخصية رئيس الحكومة المؤقتة، للخروج بالأزمة السياسية من النفق المظلم، الذي دخلت فيه البلاد، بفعل مواجهة التظاهرات والاحتجاجات الشعبية المناهضة للفساد والحرمان، بالعنف المفرط الذي أوقع مئات القتلى وآلاف المعتقلين، وسط نلاعب طائفي مقيت، عبر مليشيات مسلحة تؤجج الأوضاع بممارسات دموية لإخافة الشارع العراقي من البحث عن بديل. وعلى رأسها الحشد الشعبي الشيعي المتورط في قتل المتظاهرين، من خلف قوات الأمن النظامية.

وعلى الرغم من امتلاك العراق لواحد من أكبر احتياطات النفط في العالم، فإن معدلات البطالة مرتفعة للغاية والخدمات العامة توشك على الانهيار.

وهو ما نتج عنه حالة من عدم الرضا العميق وسط العراقيين، الذي يقل أكثر من نصف عدد سكانه عن 21 عاما.

مطالب مشروعة

ويطالب المحتجون بتوفير فرص عمل ومكافحة الفساد، وينددون بتردي الخدمات العامة في بلادهم الغنية بالنفط.

فبحسب المحلل السياسي العراقي جمال جصاني، في صحيفة “الصباح الجديد” العراقية فإن “مشكلة العراقيين تمتد بجذورها إلى لحظة ولادة العراق الحديث (في العام 1921)، حيث فشلوا في الوصول إلى عقد اجتماعي وسياسي يؤسس لنظام يضع حدا لصولات العراقيين ضد بعضهم البعض. هذا الخلل البنيوي الذي أكدته الاحتجاجات الأخيرة”.

وقد جاءت التظاهرات العراقية كاسرة كافة الحواجز والخطوط الحمراء، ومتجاوزة للطائفية، منذ أكتوبر الماضي، رغم المذابح والاعتداءات المتتالية في الميادين في بغداد وكربلاء والجنوب، حتى اضطر عبد المهدي للاستقالة.

والتي جاءت بعد إدانة المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين ودعوته مجلس النواب إلى تشكيل حكومة جديدة.

وقال السيستاني: “بالنظر إلى الظروف العصيبة التي يمر بها البلد، وما بدا من عجز واضح في تعامل الجهات المعنية مع مستجدات الشهرين الأخيرين… فإن مجلس النواب الذي انبثقت منه الحكومة الراهنة مدعو إلى أن يعيد النظر في خياراته بهذا الشأن ويتصرف بما تمليه مصلحة العراق.

مهلة دستورية

ومع اقتراب المهلة الممنوحة من الرئيس العراقي برهم صالح للبرلمان لتسمية رئيس وزراء بديل للمستقيل عادل عبد المهدي، تستمر الخلافات بين الكتل البرلمانية في الوصول لشخصية تجمع عليها الأطراف السياسية.

ووفق الدستور العراقي، يكلف رئيس الجمهورية زعيم الكتلة الأكبر في البرلمان بتشكيل الحكومة الجديدة ويمهل 30 يوما لتشكيل الحكومة وعرضها على البرلمان لنيل الثقة.

وإذا فشل رئيس الوزراء المكلف في تشكيل حكومة أو رفض البرلمان منح الثقة للحكومة المقترحة، يقوم الرئيس بتكليف شخص آخر بتشكيل الحكومة خلال 15 يوما.

معضلة الاشتراطات الحزبية

وفي ظل ضبابية المشهد السياسي، ومع تصعيد العنف بمواجهة التظاهرات الشعبية المتواصلة في بغداد والمحافظات الجنوبية، وعدم التوافق بين الكتل على مرشح لقيادة الحكومة للمرحلة المقبلة، تتعقد الأزمة بشكل قد يصعب حلها بمرشح يحظى بتوافق سياسي، وسط عدم تفاؤل من قبل كتل سياسية فاعلة بالمشهد العراقي.

حيث يضع بعض النواب وبعض الكتل شروط معينة يجب أن تتوافر برئيس الحكومة الجديد، مما يُعقد من إمكانية التوافق، وهو ما قد يهدر المهلة الدستورية لاختيار البديل لرئيس الحكومة التي تنتهي في 17 ديسمبر الجاري، وفق الدستور العراقي.

وفي مطلع الأسبوع الجاري تلقي الرئيس برهم صالح، شروطا جديدة لاختيار رئيس للحكومة، موقعة من 120 نائبا.

وقال النائب عن المكون المسيحي، يونادم كنا، في تصريح صحفي، إن “20 نائبا من كتل مختلفة التقوا صالح، وقدموا له قائمة مذيلة بتواقيع عشرات النواب، تضم شروطا محددة يجب أن تنطبق على رئيس الحكومة المقبل”، مبينا أن “من أهم تلك الشروط، ألا ينتمي إلى حزب وألا يكون مزدوج الجنسية، وهي شروط تتناغم مع شروط المتظاهرين”.

وأشار إلى أنه “حتى الآن لا يوجد مرشح للمنصب، وإذا لم يتم تقديم مرشح خلال الفترة المتبقية، فإن كتلة “سائرون” ستتولى ترشيح شخصية منها”.

من جهته، وجه زعيم ائتلاف الوطنية، إياد علاوي، دعوة لرئيس الجمهورية، لـ”إنقاذ العراق”، داعيا رئيس الجمهورية، في بيان، لبدء حوار شامل يضم ممثلين عن بعض القوى السياسية التي لم تشارك بالقمع، والتي ناهضت الدكتاتورية السابقة، ومن المتظاهرين السلميين ومن الاتحادات والنقابات المهنية، وذلك للحوار حول مفوضية وقانون الانتخابات، ورئاسة الوزراء، ودور ومهام الحكومة المؤقتة ومحاسبة من تسبب بعمليات القتل الجماعي للمتظاهرين، ليكون الحوار خطوة في طريق إنقاذ البلاد.

وحذر من أن “الأوضاع الحالية تتطلب من رئيس الجمهورية إجراءات سريعة للمساهمة في الخروج من المأزق الحالي، والحفاظ على قراره السيادي ووحدته الوطنية بتصحيح مسار العملية السياسية ومعالجة الانحرافات التي شهدتها طيلة السنوات الماضي”.

 

توازنات القوى ومعضلة التوافق

ويتخوف الكثيرون من المشاورات السياسية، والتي تعتمد في إجمالها على توازنات القوى السياسية القائمة، وهو ما ينذر بإعادة إنتاج عادل عبد المهدي جديد، باسم جديد، وهو ما حذر منه المحلل السياسي، محمد السعيد إدريس في “الخليج الإماراتية” بتأكيده أن “مشاورات هذه الطبقة الحاكمة المطلوب إسقاطها لاختيار خليفة لعادل عبد المهدي تؤكد أن ما يحدث الآن هو إعادة إنتاج عبد المهدي، وإعادة إنتاج حكومته مع تغيير فقط في الأسماء وفي تولي الحقائب الوزارية، وهي إجراءات ليس لها غير معنى واحد هو التخطيط لإخماد الانتفاضة الراهنة للشعب العراقي اعتماداً على أدوات الاستبداد والقهر الأمني، وهو ما يفرض مما لاشك فيه ثمنا مضاعفا سواء في أعداد القتلى والجرحى أو في تدمير مؤسسات الدولة، وهي كلها مطالب تخدم مصالح كل من يعملون، بشتى السبل، للحيلولة دون عودة العراق دولة قوية موحدة ومتماسكة وقادرة على الدفاع عن سيادتها الوطنية، وتحقيق التقدم واستقلالية القرار الوطني دون أي تبعية أو إملاءات خارجية إقليمية إيرانية أو دولية أمريكية.

مسارات المستقبل المضطرب

وأمام هذه الأوضاع، فمن المرتقب أن تتجه الصراعات حول من يخلف عبد المهدي بين الكتل السياسية إلى مزايدات لكسب رضا الشارع الثائر، وهو أمر صعب المنال، لأنه لم يعد يثق بالوعود التي مل الاستماع إليها لعدم جدواها، فضلاً عن القناعة بعدم قدرة هذه الكتل على القيام بإصلاحات جوهرية ترقى إلى مستوى طموحاته.

إذ أن تشكيل الحكومة الجديدة وتسمية رئيس الوزراء الجديد سيكون بمثابة اختبار للنخب السياسية فيما يتعلق بمدى جدية دعواتها للاستجابة لرغبات الشارع المنتفض.

حيث تريد الأطراف المسيطرة على السلطة بالعراق تسويق فكرة أن استقالة الحكومة، التي جاءت اضطرارا وليس اختيارا، كافية تماما لتلبية مطالب المحتجين، وكأن المشكلة التي أخرجت هؤلاء المحتجين إلى الشوارع، وجعلتهم يدفعون فاتورة دم حقيقية (أكثر من 400 ضحية و18 ألف مصاب)، هي مشكلة شخصية مع عادل عبد المهدي، أو مع مجلس الوزراء، وقد انتهت باستقالته، وليست مشكلة جوهرية تتعلق بالنظام السياسي نفسه، والأطراف الخارجية المتحكمة به.

وأمام هذا، يرى مراقبون أن المخرج الأنجع –بحسب التقديرات الاستراتيجية- في ظل التطورات الراهنة، تنحصر في صياغة لقانون انتخابات جديد، وتشكيل مفوضية انتخابات جديدة، يمكنهما ضمان انتخابات عاجلة نزيهة وشفافة، يجب أن تنجزا بعيدا عن سطوة مجلس النواب الحالي، وأن هكذا مهمة يجب أن تكون من مهمات الحكومة المؤقتة المقترح  تشكيلها، وفق الأطر الدستورية، على أن يتم ذلك بعد حل مجلس النواب لنفسه بالطريقة التي قررها الدستور.

ولكن مع صعوبة ذلك الحسم للملفات الاستراتيجية الضامنة للوصول إلى نتاج مرضي لثورة أكتوبر بالعراق، فإن العراق كوطن بات على شفا الهاوية والتفكك أكثر من أي وقت مضى منذ الغزو الأمريكي عام 2003.

فرئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، أجبر على الاستقالة بعد شهرين من الاحتجاجات العنيفة أدت إلى مقتل حوالي 450 شخصا وإصابة الآلاف.

وهو ما أدى إلى فراغ في السلطة في بغداد تسعى إيران إلى ملئه بينما تبدو قدرة الغرب على التأثير على ما يحدث محدودة للغاية.

فالأزمة في العراق تعكس إخفاق التسوية الدستورية التي تم وضعها بعد الإطاحة بصدام حسين، فالنظام الموضوع مبني على أساس المحاصصة الطائفية لدعم الاستقرار عن طريق ضمان مناصب لجميع الفئات المتنافسة، مثل الشيعة والسنة والأكراد.

مع أن هذا النظام أدى إلى تفشي الفساد الذي تسبب في إعاقة بالغة للاقتصاد.

كما أنه من المتوقع أن تستمر الفترة الانتقالية، فترة من الزمن، في ضوء التوازنات وصراعات القوى والطوائف الدينية والسياسية، فالعراقيون اعتادوا على الانتظار شهوراً عدة في أعقاب كل انتخابات برلمانية حتى تتوصل الكتل الرئيسية إلى توافق على الشخصية التي ستشكل الحكومة.

وهذا التأخير ناجم عن طبيعة المحاصصة الطائفية والقومية للحكم في العراق. وعملية التوفيق بين مطالب جميع الكتل والأحزاب الممثلة البرلمان أمر في غاية التعقيد والصعوبة وتخضع للكثير من المساومات.

بعض هذه القوى والكتل لها علاقات وارتباطات بالدول الإقليمية والخارجية ولا بد أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح ومواقف هذه الدول عند تسمية رئيس الحكومة أو الوزراء.

كما أن القوى التي تشارك في الحكم منذ 2003 لن تتنازل بسهولة عن المكاسب التي تتمتع بها. وبعض هذه القوى لديها مليشيات وتشكيلات عسكرية قوية تحمي بواسطتها نفوذها.

مأزق القوى السنية

وأمام هذه السيناريوهات، تزداد أزمة المكون السني بالعراق، حيث أن موقف القوى التي تمثل العرب السنة والمناطق الغربية من العراق والتي لم تتعاف بعد من آثار الحرب المدمرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، فيفتقر إلى الوضوح.

وهذه القوى شريكة في منظومة الحكم الحالية ولا بد أنها تشعر بالقلق مما يحمله المستقبل من مفاجآت، خاصة وأن تنظيم الدولة الاسلامية لا يزال ينشط في بعض مناطقهم ويشن عمليات عسكرية.

فيما يمر العراق بظرف غير عادي ولا يملك أي طرف عراقي أو إقليمي مفاتيح حل الأزمة التي يعيشها وهي بشكل أساسي نتاج تراكمات كل الفترة التي أعقبت الغزو الأمريكي عام 2003 حتى وصلت إلى لحظة الانفجار الحالية.

ففي مقابل مطالب المحتجين المتمثلة بتعديل قانون الانتخابات بما يخدم عملية تمثيل عادلة للمواطنين وتأسيس مفوضية مستقلة للانتخابات، وصولاً إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، تتمسك قوى السلطة باستمرار عمل الدورة البرلمانية الحالية وإجراء الانتخابات العامة بعد انتهائها في عام 2022.  وهو على ما يبدو لن يمر على الشارع العراقي الثائر، وسط الحشد الإقليمي والترقب الدولي، وحالة الوعي الشعبي التي لن ترضى إلا بالوصول إلى المسار المأمول للثورة العراقية، التي تتجاوز حدود الطائفية، كما يجري في لبنان.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022