يبدو الرفض الصارم من جانب السلطة الفلسطينية لصفقة القرن الأمريكية التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حضور رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 28 يناير2020م طبيعيا وإن كان مشكوكا في مصداقيته؛ إذ من غير المتصور أن يكون للسلطة موقف آخر؛ لكن الأكثر أهمية هو الأفعال والتي تتناقض تماما مع هذه المبالغة في إبداء الرفض؛ ذلك أن أفعال السلطة في رام الله تصب نحو تكريس الصفقة وتمريرها لا مواجهتها وإسقاطها.
ورغم رفض (أبو مازن) للصفقة إلا أنه أبدى توافقا مع المطالب الأمريكية في نقطة واحدة هي استمرار الحرب على «المقاومة الفلسطينية المشروعة»، وخص بالذكر حركتي حماس والجهاد اللتين أعلن ترامب في مؤتمره العزم على قطع مصادر تمويلهما، فيما قال عباس في المؤتمر الذي عقد رداً على الصفقة: “إننا مستمرون في سياساتنا الحالية، ومتمسكون بالمفاوضات، وملتزمون بمحاربة الإرهاب”.([1]) وقبيل إعلان ترامب عن صفقة القرن، قال الناطق الرسمي باسم الرئاسة الفلسطينية، نبيل أبو ردينة، إن السلطة الفلسطينية ستدرس الخيارات كافة، وضمنها مصير السلطة الوطنية، رداً على “صفقة القرن”، وأي قرار سيخرج سيكون مدعوماً عربياً ودولياً، في إشارة إلى خيار حل السلطة الوطنية التي تم تأسيسها وفقاً لاتفاق أوسلوا؛ ومن ثم تتحمل (إسرائيل) مسؤولية الاحتلال بشكل مباشر.
وثمة عوامل كثيرة تؤكد هذه الشكوك وتثبت أن موقف السلطة مصطنع ضمن سياسات المراوغة والمناورة منها:
أولا، أن السلطة هي من وقعت اتفاقية “أوسلو” في 13 سبتمبر 1993م، برعاية أمريكية وهي الاتفاقية التي شرعنت احتلال الصهاينة لـ78% من أراضي فلسطين التاريخية، واعتبرت المقاومة المشروعة “عنفا وإرهابا” بحسب نص الاتفاقية، بل إن السلطة تعاونت ونسقت بشكل كامل مع الاحتلال طوال الـ25 سنة الماضية ضد جميع أشكال وصور المقاومة الفلسطينية، بل ألزمتها “أوسلو” بتجريم المقاومة وإكراه جميع الفلسطينيين على الاستسلام لمسار المفاوضات العبثية. كما نصت هذه الاتفاقية على نزع أي سيادة فلسطينية على الدولة الفلسطينية الوهمية فلا يوجد جيش فلسطيني ولا سيادة على الحدود والمعابر والسماء والمياه الإقليمية والاقتصادية، وتركت قضايا القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود لمفاوضات الوضع النهائي لكن أشارت إلى تقسيم القدس إلى “شرقية وغربية” وفي حق العودة أشارت إلى “حق العودة مقرونا بحق التعويض” وهي مؤشرات تحمل دلالات بإمكانية التنازل والتفريط مستقبلا.
ثانيا، أبو مازن، رئيس السلطة حاليا، هو صاحب وثيقة “أبو مازن/ بيلين” وهي الملحق الذي سربته وسائل إعلام عالمية ونشرته صحيفة “القدس العربي”، والتي تتفق مع “صفقة القرن” المشئومة في معظم بنودها، ورغم نفي أبو مازن للوثيقة إلا انه اعترف بأن ثمة مقترحات عرضت بشأن الوضع النهائي. وبحسب النص الحرفي لهذه الوثيقة التي تناولت تفاصيل ومقترحات حول مفاوضات الوضع النهائي بعد أوسلو ونصت على أن القدس في أبو ديس والعيزرية، والأماكن المقدسة تحت السيادة الإسرائيلية في إطار صيغة “الفاتيكان”، والمستوطنات الكبرى باقية، وفترة اختبار نوايا لعشرين عاماً، والدولة المستقلة منزوعة السلاح، وإلغاء الأونروا واستبدالها بهيئة جديدة لاستيعاب النازحين وتوطين اللاجئين في أماكن إقامتهم ودون صخب! وهذا عين ما نصت عليه “الصفقة الأمريكية الملعونة”.
ثالثا، ما أجبر السلطة على رفض الصفقة كذلك أن الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني ترفض هذه الصفقة الأمريكية، حيث كشفت نتائج استطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والرأي العام بشأن صفقة القرن أن 94% من الفلسطينيين يرفضون الصفقة، ويرى 84٪ أنه على السلطة الفلسطينية التراجع عن اعترافها بإسرائيل، بينما 77٪ يؤيدون إنهاء التنسيق الأمني، و 78٪ من الفلسطينيين يؤيدون استمرار المظاهرات. بينما يرى 70% من الفلسطينيين أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبو مازن لا ينفذ ما يقوله. وفي تعليقها على هذه النتائج ترى القناة السابعة الإسرائيلية أن ذلك يمثل انتصار لخيار المقاومة المسلحة وإسقاطا مدويا لخيار المفاوضات قائلة «أغلبية كبيرة من الفلسطينيين يريدون سحب الاعتراف بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني ووقف العمل باتفاقية أوسلو واللجوء للعمل المسلح».([2])
رابعا، رغم الزعيق والضجيج الذي يبديه أبو مازن رفضا للصفقة، فإنه اكتفى بهذا الصوت العالي دون أي فعل أو عمل مقاوم لهذه الصفقة يعزز مواجهتها وإسقاطها، فلم يجر أبو مازن أي إجراء يتماشى مع هذا الخطاب ولايزال التنسيق الأمني يتم على أعلى المستويات بين السلطة والاحتلال. ولم يتم حتى اليوم تفعيل قرار المجلس المركزي الفلسطيني الذي أقره في دورته السابعة والعشرين في 5 مارس 2015م، بتعليق الاعتراف بإسرائيل ووقف التنسيق الأمني معها؛ وهو ذات القرار الذي تم اتخاذه في الدورة الثلاثين برام الله في 15 يناير 2018م وذلك ردا على اعتراف الرئيس الأمريكي بالقدس عاصمة أبدية للصهاينة. وهو ذات القرار الذي اتخذه المجلس الوطني في 2016 و2017م وحتى التهديد الأخير، لكن كل هذه القرارات بقيت حبرا على ورق بسبب تجميد أبو مازن لها ورفضه الصارم الخروج من مربع “أوسلو”.([3])
خامسا، تلويح أبو مازن بحل السلطة هو من قبيل المراوغة والطبل الأجوف والتهديد، ذلك أنه في خطابه أمام الجامعة العربية كشف عن حجم التنسيق الأمني حيث شن هجوما حادا على الولايات المتحدة الأمريكية لافتا إلى أن مفاوضات “أوسلو” جرت بإشرافه وإشراف شيمون بيريز بمعزل عن الأمريكيين، ليصل إلى نتيجة أنّ الولايات المتحدة تعيق الحل، وأنها لو تركت الفلسطينيين والصهاينة وحدهم لتوصلوا إلى نتيجة، كما حدث في اتفاق أوسلو؛ لكنه تجاهل بشكل تام دور الاحتلال في إعاقة التقدّم نحو حلّ متفق عليه وفق اتفاق أوسلو!، وفي الاجتماع ذاته، أعلن عباس أنه أبلغ الولايات المتحدة وإسرائيل وقف التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال، مؤكّدًا أنهم بعد اليوم لن يحظوا بحماية، أو بمعلومات “أبو أبوهم ما بقدر يحصل عليها”! وهو اعتراف نادر بحجم الخيانة مع الاحتلال والتأثير العنيف الذي يقوم به التنسيق الأمني لوأد وإجهاض المقاومة في الضفة المحتلة وربما تكون له عيونه في غزة، كما تكشف الدور الوظيفي القذر الذي تقوم به السلطة لحماية أمن الاحتلال. ذلك أن وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال يعني بشكل مباشر الإقرار بالفشل التام لمسار المفاوضات والسلام الوهمي وفتح الباب على مصراعيه أمام جميع أشكال المقاومة وهو ما يستلزم إعادة النظر في بنية السلطة وأجهزتها الأمنية ووظيفتها؛ لأنه يمثل انتقالا بالمشروع الوطني الفلسطيني من مرحلة التيه إلى مرحلة الوعي والإدراك وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير وسحب الاعتراف بالاحتلال وإطلاق المقاومة الشعبية الشاملة في الضفة والقطاع المحاصر. هو انتقال من مربع أوسلو إلى مربع الفعل الثوري المقاوم؛ وهو دور بلا شك لا يبدو أن عباس مؤهل للقيام به.
مزيد من التركيع
ومنذ رفض السلطة قرار الإدارة الأمريكية في 6 ديسمبر 2017 الاعتراف بالسيادة “الإسرائيلية” على القدس عاصمة أبدية؛ تأزمت العلاقة مع واشنطن ورام الله، عندما أعلن عباس أن الإدارة الأمريكية الراهنة لم تعد وسيطا عادلا كما يجب أن تكون، ولا ندرى متى كانت أمريكا وسيطا عادلا. وجاء الرد الأميركي على دفعات متسارعة، تمثلت في إغلاق مكاتب بعثة المنظمة والسلطة الفلسطينية في الولايات المتحدة، وإغلاق القنصلية الأميركية في القدس، وقطع المساعدات الأميركية عن السلطة الفلسطينية، ومن ثم قطع المساعدات الأميركية عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وسعي الولايات المتحدة إلى إقناع الدول الحليفة لها بإيقاف تلك المساعدات أسوةً بها.
و استبعدت إدارة ترامب، من مقترح الميزانية للسنة المالية المقبلة 2021، تمويل أجهزة الأمن الفلسطينية، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ 27 عامًا، بحسب جريدة «هآرتس». ومع ذلك، يتضمن طلب الميزانية 200 مليون دولار لـ «صندوق التقدم الدبلوماسي» الذي يمكن استخدامه كوسيلة إغراء للسلطة للقبول بالصفقة الأمريكية. وبحسب وزارة الخارجية الأمريكية، فإن جزءًا من هذه الأموال يمكن أن يذهب إلى «اتفاق لاستئناف المساعدة الأمنية في الضفة الغربية». لكن مثل هذا الاتفاق من المرجح أن يتطلب من السلطة الفلسطينية قبول خطة ترامب.([4])
وقررت حكومة الاحتلال تقليص ما تجمعه من ضرائب مباشرة وغير مباشرة لصالح الفلسطينيين، واستقطعت منها الأموال التي تقوم السلطة بدفعها لأسَر الشهداء والأسرى، على أساس أن دفع السلطة هذه الأموال يندرج تحت مُسمى “دعم الإرهاب” ضد (إسرائيل).
ومع الإعلان عن باقي تفاصيل الصفقة الأمريكية ازداد الموقف تأزما بين الإدارة الأمريكية وسلطة رام الله، فهل تستهدف أمريكا و”إسرائيل” التخلص من السلطة؟ وهل يمكن لهما الاستغناء على الأدوار الوظيفية الحساسة والخطيرة التي تقوم بها السلطة؟
أهمية السلطة للاحتلال
تحظى سلطة أوسلو بأهمية كبرى للغاية بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي؛ فواقع الأمر أن السلطة هي بمثابة غطاء فلسطيني للاحتلال الذي يمارس من خلالها السيادة على جميع المناطق التي يفترض أنها تقع تحت سلطتها، كما يمارس من خلالها جميع صور وأشكال وجرائم الاحتلال، وقد عبر صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح عن ذلك صراحة بتصريح مثير في فبراير 2018م مؤكدا أن «وزير الأمن الإسرائيلي هو الرئيس الفعلي للسلطة، وإن منسق “الإدارة المدنية” التابعة للاحتلال هو رئيس الوزراء».([5])
ومعنى إسقاط السلطة أو حلها أن (الاحتلال الإسرائيلي) سوف يتولى بشكل مباشر إدارة حياة ملايين الفلسطينيين وسيكون مسئولا عن توفير مقومات الحياة لهم ومواجهة رفضهم ومقاومتهم بشكل مباشر دون مساعدات خارجية كتلك التي تحظى بها السلطة الفلسطينية، ولهذه الأسباب لن تسمح “أمريكا أو إسرائيل” بتهديدات عباس بحل السلطة فعلى أقل تقدير فإنها ترفع الحرج عن الاحتلال باعتبارها تقوم هي بجميع أدوار الاحتلال بالوكالة.
الأمر الآخر، أن للسلطة أهمية حساسة للغاية في مسألة التنسيق الأمني، وهو دور لا يمكن للاحتلال الاستغناء عنه مطلقا؛ ولعل هذا هو سر تباهي عباس بهذا الإنجاز الكبير في خدمة الاحتلال أمام جامعة الدول العربية. ورغم أن السنوات الماضية شهدت تعظيما لنفوذ الإدارات المحلية المدنية داخل مناطق السلطة وهو ما يمكن تفسيره باعتباره أحد سيناريوهات الاحتلال حال تم حل السلطة أو انهيارها؛ وإذا عجز الاحتلال عن توفير البديل لعباس وحال دون ذلك الصراع العنيف بين مراكز القوى بالسلطة والأجنحة التي تتناقض مصالحها الخاصة، فإن الاحتلال سيلجأ إلى التعامل بشكل مباشر مع الإدارات المحلية المدنية كبديل لعباس؛ بما يسمح باستمرار خدمات التنسيق الأمني. ويبدو أن الاحتلال قد تمكن خلال الربع قرن الماضي من تجنيد الكثير من قيادات السلطة الأمنية التي ترحب بالقيام بأدوار أكثر قذارة من تلك التي يقوم بها أبو مازن، بخلاف تجنيد عشرات الآلاف من عناصر السلطة الأمنية للقيام بالتجسس والخيانة لحساب الاحتلال ومده بالمعلومات التي يحتاج إليها لوأد وإجهاض أي شكل من أشكال المقاومة.
يعزز من أهمية السلطة في مسألة التنسيق الأمني، أن الأعوام الأخيرة شهدت تصعيدا في أعمال المقاومة بالضفة المحتلة، وقد شهد العام 2018م، ارتفاعًا ملحوظًا في عمليات المقاومة بالضفة التي أدت إلى مقتل 16 إسرائيليًّا، منهم 7 جنود، وإصابة حوالي 200 بجراح مختلفة؛ إذ أورد تقرير لمركز القدس خلال الأشهر العشرة الأولى من العام 2018 أن الضفة شهدت 40 عملية إطلاق نار، و33 عملية طعن ومحاولة طعن، و15 عملية دهس ومحاولة دهس، و16 مظاهرة حاشدة، و39 حالة صد لاعتداءات المستوطنين، و53 عملية إلقاء أو زرع عبوات ناسفة، إضافة إلى أكثر من 260 عملية إلقاء زجاجات حارقة، فضلًا عن حوالي 3400 عملية مواجهة وإلقاء حجارة في مناطق مختلفة في مواجهة قوات الاحتلال والمستوطنين. ويبلغ المعدل الشهري لهذه العمليات: 4 عمليات إطلاق نار، 3.3 طعن، 1.5 دهس، 5.3 زرع أو إلقاء عبوات ناسفة، 26.2 إلقاء زجاجات حارقة.([6])
نحو سلطة أكثر خنوعا وتفريطا
تذهب صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في مقال نشرته يوم 9 فبراير2020م إلى أن «صفقة القرن» تكتب الفصل الأخير في حياة السلطة الفلسطينية؛ المقال الذي جاء تحت عنوان «السلطة الفلسطينية سفينة تغرق»، استدل على ذلك بأن السلطة كانت غائبة عن إعلان الصفقة يوم الثلاثاء 28 يناير 2020م، وثانيا، لأن السلطة أعلنت رفضها للصفقة بألف لا، وثالثا، أن رئيس السلطة هدد بقطع العلاقات مع الإدارة الامريكية ووقف التنسيق الأمني مع “إسرائيل”. وأفرد التقرير عوامل أخرى رأى أنها تسهم في كتابة الفصل الأخير للسلطة، وهي تآكل الثقة بين الفلسطينيين في السلطة ذلك أن تهديدات عباس بوقف التنسيق الأمني يراها قطاع كبير منهم “جوفاء” بالنظر إلى الفشل المتكرر للسلطة في وقف ضم “إسرائيل” للأراضي الفلسطينية، حتى إنه لم يبق من بنود اتفاق “أوسلو” الذي منح الفلسطينية سلطة ذاتية على 22% فقط من الأراضي سوى التنسيق الأمني الذي أسهم في تكريس الاحتلال حيث تنفق عليه السلطة معظم ميزانيتها على حساب قطاعات الصحة والتعليم والزراعة مجتمعة بخلاف تحفيز الفساد وانتشاره ، وبعد 25 سنة فشلت السلطة في تحقيق ما وعدت به من سلام وعدالة ودولة وتقرير مصير؛ في ظل خلل واضح في موازين القوى بين “إسرائيل” والسلطة، لكن الأكثر خطورة ــ بحسب التقرير ــ أن “الخطة الأمريكية” كشفت وإلى الأبد أنه مهما كانت الإدارة الفلسطينية “معتدلة” ــ وفق تصورات واشنطن وتل أبيب ــ فلن يحظى الفلسطينيون بأي حقوق؛ وباتوا أمام خيارين: إما القبول بالاحتلال أو إكراههم على القبول به؛ فلا مكان لهم في أي خطط مستقبلية. ([7])
ويحظى سيناريو تفكك السلطة الفلسطينية بقدر من الاهتمام في أروقة مراكز البحث “الإسرائيلية”؛ ففي تلخيص للوضع الإستراتيجي للكيان الصهيوني والتحديات التي تواجهه خلال العام الجاري “2020” يري مركز أبحاث الأمن القوميّ، التابِع لجامعة تل أبيب، بعد اختتام مؤتمره السنويّ، في النصف الثاني من شهر فبراير 2020م([8]) أن الدولة الفلسطينيّة ذات السيادة لن تكون موجودةً، أيْ لن يكون هناك واقع قائم على وجود دولتين. وأنه في غياب الوحدة الفلسطينيّة وتفكّك المجتمع الفلسطينيّ من الداخل، قد تنهار السلطة الفلسطينيّة في عهد رئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عباس (أبو مازن).
سيناريوهات مستقبل السلطة
أمام هذه المعطيات فإن مستقبل السلطة يدور بين عدة سيناريوهات:
الأول، هو بقاء السلطة كما هي، مع ضغوط أمريكية وإسرائيلية تستهدف إجبار عباس على مزيد من الخضوع والركوع؛ لأن رفضه الظاهر للصفقة الأمريكية رغم أفعاله وسياساته التي تكرسها بالفعل؛ يضع إدارة ترامب وحكومة الاحتلال في ورطة عدم الاعتراف الدولي؛ لأن الصفقة تعصف بكل معنى للقانون الدولي والشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة؛ فإما إن يعلن عباس قبوله بالصفقة فيتم الإبقاء عليه، أو يبقى رافضا فيتم التخلص منه. ووفقا لتقدير موقف أعده شلومي ألدار، الخبير الإسرائيلي في الشؤون الفلسطينية، فإن الاحتلال لا يريد التخلص من (أبو مازن) بقدر ما يريد بقاءه ضعيفا أمامها ومسيطرا على الأوضاع في الضفة الغربية رقم وجود قناعة “إسرائيلية” بأن أي خطوة ضم أراض في الصفة سوف تفضي إلى اندلاع مظاهرات شعبية ولكن “إسرائيل” تثق في قدرة عباس على منع الشارع الفلسطيني من الذهاب إلى خيارات عنيفة وقاسية ضد الاحتلال.([9])
السيناريو الثاني، هو إعادة بناء وهندسة السلطة بما يتماشى مع المرحلة الجديدة، ولكي تكون أكثر مطاوعة وتكيفا مع الوضع الجديد؛ فقد انتهى أبو مازن(85 سنة) بانتهاء أوسلو، والآن دخلت القضية في مرحلة “صفقة القرن” التي عصفت بكل معنى للقانون الدولي والشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة؛ والأرجح أن تنتقي واشنطن وتل أبيب قيادة بديلة من داخل أجهزة السلطة تكون أكثر خنوعا ومطاوعة وتضفي على الصفقة مسحة من مشروعية زائفة. خصوصا وأن الإمارات بدعم من حكومة العسكر في مصر ترى في القيادي المثير للجدل محمد دحلان رجل المرحلة المقبلة القادر على لجم القيادات المتمردة داخل السلطة وتأسيس مرحلة جديدة تقوم على أساس المزيد من التواطؤ والخيانة. وإذا تمكنت أمريكا والاحتلال من إعادة هندسة السلطة وفق هذه التصورات فإن المرحلة التالية هي توسيع نفوذ السلطة حتى قطاع غزة وفق مخططات القضاء على المقاومة والتخلص من صداع غزة، واستنساخ تجرية السلطة في الضفة إلى غزة العصية على الاحتلال حتى اليوم. وبالطبع يزاحم دحلان في ذلك شخصيات أخرى مثل صائب عريقات وماجد فرج وآخرون، ولكن تبقى كفة دحلان أعلى من الآخرين.
السيناريو الثالث، هو حل السلطة ردا على تنصل الاحتلال من اتفاق اوسلو وصفقة القرن التي عصفت بكل الأسس التي قامت عليها أوسلو، او انهيار السلطة لأنها بالفعل فقدت مبرر وجودها وباتت عبئا على الفلسطينيين وأضرت بالقضية وانحرفت ببوصلتها من مقاومة مشروعة تحت احتلال إلى سلطة حاكمة تقمع شعبها وتحترف الخيانة في خدمة الاحتلال وهو بالطبع سيناريو لن تسمح به (إسرائيل) التي ترى في وجود السلطة ضرورة تقدم لها خدمات شديدة الأهمية والخطورة على مستوى رفع الحرج عنها باعتبارها قوة احتلال أو عبر التنسيق الأمني الذي جعل من الضفة الغربية كيانا عاجزا بلا حول ولا قوة.
ولكن هذا السيناريو الثالث مستبعد لأسباب عديدة، أهمها أن الفجوة بين السلطة ومؤسساتها من جهة والشعب من جهة ثانية؛ قد أوجد قيادة غير مستعدة لدفع أي أثمان في أي معركة مع الاحتلال. أما إذا حدث وحلت السلطة فعليا، فإن أول ما يترتب على ذلك إلغاء كافة الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل عمليا وبالتالي غياب الضامن لشكل العلاقة مع الاحتلال، وهذا خيار ترفضه أوروبا وأميركا وإسرائيل أيضا. إضافة إلى ذلك، فإن حل السلطة يعني فورا انتقال التبعية الإدارية للفلسطينيين إلى الاحتلال في كل مناحي الحياة وبكامل التكاليف، بعد نحو ربع قرن من عدم المسؤولية المدنية والاحتلال غير المكلف. وثالثا فإن إنهاء اتفاق أوسلو يعني خسارة سنوات من التمهيد والتهيئة لتطبيع عربي وإقليمي من جهة، والتوقف عن التنصل من المسؤولية تجاه الفلسطينيين وإلقائها على عاتق السلطة من جهة ثانية.([10]) أضف إلى ذلك أن هذا السيناريو ربما يفضي إلى حالة من الفوضى العارمة في الضفة، ويخلق أزمة كبرى تتعلق بالحالة المعيشية لموظفي السلطة الذين سوف تتوقف مرتباتهم بحلها؛ وهو ما ليس مسموحا به من جانب الاحتلال.
إزاء هذه المعطيات المتوافرة، فإن السيناريو الثاني هو الأقرب للحدوث خلال المرحلة المقبلة، وإن كان ذلك لا يمنع من إبداء بعض الصبر على عباس وفق السيناريو الأول بشرط قبوله بشكل صريح بالصفقة بدلا من التظاهر برفضها علنا وتكريسها سرا بعدم الإقدام على أي فعل يقاوم الصفقة أو يسعى لإسقاطها، لكن السيناريو الثاني في كل الأحوال هو الأوفر حظا؛ لأن عباس في نهاية المطاف قد أوشك على الرحيل إن لم يكن بفعل تدخل مباشر بالتخلص منه فبفعل السن واقتراب رحيله؛ وهو ما يضع المقاومة أمام سيناريوهات تستهدف القضاء عليها ولن يكون ذلك متاحا بشكل وافر إلا بعد إعادة هندسة السلطة بناء على متطلبات المرحلة الراهنة، مرحلة الركوع التام مدفوعا بضغوط من النظم العربية المتواطئة وفق معادلة «خذوا فلسطين ودعوا لنا عروشنا».
تم الانتهاء منه في السبت 22 فبراير2020م
[1] عدنان أبو عامر/هل تعود للمفاوضات أم تلجأ للسيناريو الأسوأ؟ الخيارات المريرة للسلطة الفلسطينية للرد على صفقة القرن/ عربي بوست 30 يناير2020
[2] عادل عبدالجواد/استطلاع: 94% من الفلسطينيين ضد صفقة القرن .. ومسؤول إيراني يهدد بتدمير إسرائيل/ المال نيوز الخميس 13 فبراير2020
[3] المجلس المركزي الفلسطيني يقرر “تعليق الاعتراف” بإسرائيل حتى اعترافها بدولة فلسطين/ فرانس 24 15 يناير2018
[4] إدارة ترامب تستبعد تمويل أجهزة أمن السلطة الفلسطينية من ميزانية العام المقبل/ مدى مصر الأربعاء 12 فبراير 2020
[5] صائب عريقات: الرئيس الحقيقي للشعب الفلسطيني هو ليبرمان ورئيس الوزراء هو مردخاي، قناة شبكة قدس الإخبارية على موقع يوتيوب، 20 فبراير/شباط 2018،
[6] بالتفاصيل.. عام 2018 شهد ارتفاعاً ملحوظاً في عمليات المقاومة بالضفة/المركز الفلسطيني للإعلام 31 أكتوبر 2018
[7] إسلام محمد /نيويوك تايمز: «صفقة القرن» تكتب الفصل الأخير في حياة السلطة الفلسطينية/ مصر العربية 09 فبراير 2020
[8] زهير أندراوس/مركز أبحاث الأمن القوميّ: السلطة ستنهار بعهد عبّاس والدولة الفلسطينيّة المُقترحة بـ”صفقة القرن” لن تقوم والحلم الصهيونيّ بدولةٍ يهوديّةٍ سينتهي وحزب الله الأخطر على الكيان/ رأي اليوم” 18 فبراير2020
[9] عدنان أبو عامر/تقدير إسرائيلي: إسرائيل تريد عباس ضعيفا لكن مسيطرا على الضفة/ “عربي 21” الخميس، 20 فبراير 2020
[10] عوض الرجوب/ماذا سيحدث لو أعلنت القيادة الفلسطينية نهاية اتفاق أوسلو؟/ الجزيرة نت 27 يناير2020