تقوم الاستراتيجية الإعلامية التي يتبعها نظام الانقلاب في مصر للتغطية على فشله -السياسي والاقتصادي وهزائمه الأمنية المتكررة في سيناء أمام حفنة من المسلحين لا تتعدى المئات بحسب تقديرات رسمية سابقة- بخلق حالة كبيرة من البروباجندا والصوت العالي مع كثافة الدعاية والتسويق للرواية الأمنية وطمس ما عداها والتشويش المستمر على كل صوت يستهدف خلق حالة نقاش معمقة وصادقة؛ بحثا عن حلول مجدية ومخرج للأزمة التي تمر بها البلاد منذ الانقلاب العسكري منتصف 2013 م على المسار الديمقراطي.
تعتمد استراتجية النظام العسكري على ثلاثة أضلاع:
- الأول هو التمترس خلف صناعة السينما و الدراما (فيلم “الممر” ومسلسل “الاختيار” نموذجا) وذلك بهدف تزييف الوعي وصناعة واقع بديل يقوم على الخيال والتوهم للتغطية على الواقع المرير والحقيقية المؤلمة والفشل المتواصل، وتوظيف بطولات سابقة للمؤسسة العسكرية للدعاية والتغطية على هزائم المؤسسة حاليا وانتهاكاتها بحق الشعب المصري، وأسطرة “جعله أسطورة” نماذج من الجيش والمبالغة في تمجيدها إنما يستهدف بالأساس صورة المؤسسة العسكرية في صورة هذا النموذج الذي يراد أسطرته؛ لترميم شعبية المؤسسة العسكرية المتآكلة واستعادة قدر من الهيبة والاحترام المفقود؛ إضافة إلى رفع الروح المعنوية المتردية لعناصرها بسيناء.
- الثاني، هو خلق حالة من التشويش المستمر والصراخ العالي كما يحدث في برامج التوك شو الحكومية والمانشيتات والعناوين بالصحف والمواقع التابعة للآلة الإعلامية للنظام والتي تقوم أيضا بدور التزييف وتشكيل وعي يقوم على نشر الأكاذيب وطمس الحقائق وتشويه المعارضين وتسويق رويات النظام مهما كانت ركيكة ومهما كانت مفبركة وتصوير قادة الجيش رغم فسادهم واستبدادهم وقصور كفاءتهم وهوسهم بالسلطة والنفوذ باعتبارهم يمثلون منتهى الوطنية والانتماء.
- الثالث، حصر التناول الإعلامي في البيانات الرسمية ومنع أي جهة إعلامية من تناول حقائق ما يجري في سيناء وفق قانون الإرهاب الذي تم سنه في 2015م، والذي يهدد بالسجن كل من يتناول ما يجري في سيناء يخالف ما تصدره البيانات الرسمية الصادرة عن المؤسسة العسكرية أو وزارة الداخلية. وهي البيانات التي دأبت على الإعلان عن اغتيالات جماعية لنشطاء وشبان، وهي عادة ما تحدث لأبرياء معتقلين أو مخطوفين قسريا في محاولة لرفع الروح المعنوية للجنود في سيناء أو لأنصار النظام؛ ويبقى الفاعلون الحقيقيون على الأرض يواصلون دك كمائن الجيش واصطياد عناصره. ولعل بيان وزارة الداخلية بشأن تفجير بئر العبد الذي وقع في 30 إبريل الماضي خير مثال على ذلك؛ فقد ادعت مقتل 18 وصفتهم بالإرهابي لكن منصة “نحن نسجل” كشفت أن الصور المرفقة للضحايا تم نشرها من قبل لضحايا حوادث وقعت سنة 2017م، كما دأبت على طمس الوجوه وعدم ذكر الأسماء تعبيرا عن حرص الوزارة على إخفاء الحقيقة لا كشفها وهو ما يضع البيان كله وحتى مقتل الــ18 موضع الشك والادعاء؛ فإما أنهم مخطوفون قسرا ومعتقلون سابقون تم قتلهم بدم بارد، وإما أن البيان كله مفبرك ولم يقتل أحد من الأساس ؛ والهدف من البيان هو رفع الروح المعنوية للضباط والجنود بسيناء وللسيساوية بشكل عام ولحفظ صورة الداخلية أمام النظام والمجتمع حتى لو ببيانات مزيفة مفبركة!
احتكار النظام لسوق الدراما
ومنذ 2014م، سعى النظام العسكري إلى السيطرة المطلقة على محتوى العمل الدرامي بما لا يمس الوضع السياسي أو ينتقد الوضع الراهن، وصولا إلى توظيف الدراما سياسيا من أجل تمجيد النظام رغم فشله وتفريطه في التراب الوطني وتمجيد المؤسسة العسكرية والأمنية رغم انتهاكاتها المروعة، وفي ظل تراجع صناعة الدراما المصرية خلال السنوات الماضية، كانت مؤسسات النظام العسكرية والأمنية تجهز خطة للسيطرة على السوق بالكامل، بدأت في يونيو 2017 بتصريحات من رئيس الانقلاب وعدد من المسئولين بعدم رضاهم عن محتوى المسلسلات ورغبتهم في تقويمها، وتحوّل الأمر إلى إجراءات رقابية بالجملة كإنشاء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام للجنة الدراما، وكتابة السيناريوهات بالأمر، والتوجيهات السيادية كما ظهر في تشابه مضمون معظم مسلسلات الموسمين الماضيين، وظهور مكثف لظباط الشرطة والجيش في قصص المسلسلات. لم يكن ذلك كافيًا، بل امتدت السيطرة في الوقت نفسه للقنوات الفضائية، والتي أصبحت معظمها تحت إدارة مجموعة «إعلام المصريين»، والتي تمتلك أيضًا شركة «سينرجي» للإنتاج الفني، وعين رئيسها تامر مرسي رئيسًا للمجموعة، وهي الخطوة التي تسببت في الأزمة الكبرى للدراما، بتحوّل أحد صُنّاعها إلى متحكم وحيد في جهات شرائها وعرضها، وهو ما يعني احتكار النظام لسوق الدراما من الألف إلى الياء. وتملك «إعلام المصريين» التي استحوذت عليها شركة «إيجل كابيتال للاستثمارات المالية» -وهي صندوق استثمار مباشر مملوك لجهاز المخابرات العامة المصرية- عدة مؤسسات إعلامية من ضمنها قنوات «أون» التي تعرض مسلسل الاختيار حاليا، وتليفزيون «الحياة» وعدة قنوات أخرى وصحف ومواقع صحفية منها موقع «دوت مصر»، فضلًا عن مؤسسة «اليوم السابع» الصحفية وجريدة «صوت الأمة».([1])
الأهداف والرسائل
ليس الهدف من هذه الورقة البحثية تحليل مسلسل “الاختيار” فنيا كعمل درامي توافرت له إمكانات هائلة للنجاح لكن الهدف هو رصد الأهداف والرسائل السياسية التي يراد تكريسها وتسويقها عبر توظيف الإبهار الدرامي سياسيا لخدمة أهداف ومخططات النظام الذي اغتصب الحكم بانقلاب عسكري مكتمل الأركان. ومن هذه الأهداف والرسائل:
أولا، الهدف الرئيس هو ترميم شعبية المؤسسة العسكرية
التي تآكلت خلال السنوات التي تلت ثورة 25 يناير، فارتكبت أحط الجرائم وأبشعها وسفكت دماء الآلاف من المصريين، من أجل إعادة إنتاج نظام مبارك بصورة أخرى تكرس مصالح الجيش وتضمن استمرار نفوذه السياسي والاقتصادي، فهي من كانت تمثل “الطرف الثالث” الذي أثار الفوضى بعد الإطاحة بمبارك وعملت على إفشال المرحلة الانتقالية والحيلولة دون تأسيس نظام ديمقراطي، ولما نجحت ضغوط الشعب في اختيار رئيس مدني منتخب لأول مرة في تاريخ البلاد، تآمرت المؤسسة العسكرية وقادت انقلابا عسكريا وحشيا بعد عام واحد فقط من انتخاب الرئيس، ونسفت المسار الديمقراطي بكل عنف ووحشية، وعملت على إعادة تصميم النظام سياسيا واقتصاديا بما يضمن مصالحها ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني وممالك وإمارات الخليج الثرية التي تربطها علاقة مصالح مع المؤسسة العسكرية. مسلسل “الاختيار” إذا هو محاولة إعادة الاحترام والهيبة لصورة المؤسسة العسكرية، خاصة فيما يتعلق بـ”حربها على الإرهاب”، وحملتها المتواصلة ضد من تصفهم بالمتطرفين في سيناء منذ عام 2013، وهي الحملة التي لا يبدو أنها تؤتي ثمارَها، خاصة في ظل الهجمات المتكررة التي يشنها أتباع تنظيم “ولاية سيناء” والمتعاطفون والمتعاونون معه على مواقع الشرطة والجيش هناك، ولا سيما في مدن رفح والعريش والشيخ زويد ومؤخراً في بئر العبد، وكانت آخر هذه الهجمات -ويا للمفارقة- قبل أيام مع بدء عرض المسلسل.
ثانيا، تكريس الانقسام المجتمعي
وقطع الطريق على أي أمل في لم الشمل الوطني، فالمسلسل يحتوي على كثير من الرسائل لكن أكثرها خطورة على الإطلاق هو تعميق تكريس الانقسام السياسي في مصر، الذي بدأ في أعقاب انقلاب 3 يوليو 2013م، ويمكن فهم أهداف ورسائل مسلسل “الاختيار” من خلال اعتماد النظام على الاستغراق في نظرية “صناعة العدو” وتكريس الانقسام المجتمعي، ويقصد بالعدو هنا “الإسلاميون” بعد أن بات الاحتلال الإسرائيلي صديقا وحليفا وعلى هذا الأساس يصر النظام على تقسيم المجتمع المصري واعتبار نصفه على الأقل من الإسلاميين عدوا له منذ انقلاب 3 يوليو 2013م، ويتم توظيف الخطاب السياسي والإعلامي وجميع مؤسسات الدولة لنسج الأكاذيب وفبركة الأخبار والقضايا والتهم حول هذا العدو “الوهمي” (الإرهاب) الذي يتسع بحسب أهواء النظام ليضم جميع الإسلامين الرافضين لانقلابه، كما يتسع ليضم قوى علمانية أبدت معارضتها لسياسات النظام وتوجهاته. فالإرهاب هو البعبع الذي صنعه النظام بنفسه ويبالغ في تضخيمه من أجل توظيفه سياسيا وإقليميا ودوليا لخدمة أهداف ومصالح النظام حتى لو تعارضت مع الأمن القومي المصري، فصناعة العدو تتم عبر مراحل عديدة تتمثل في وجود أيديولوجيا (فكر معتدل أو متطرف يتم تشويهه أو تضخيمه والمبالغة فيه وشيطنته وشيطنة أصحابه) ثم وضع استراتيجية محددة وخطاب شيطنة تبريرا للقمع والفتك به، وثالثا توجيه صناع الرأي من الإعلاميين والمثقفين لشيطنة هذه الإيديولوجيا وأصحابها، وأخيرا، تحديد آليات توظيف القوة والعنف لشرعنة القتل والإبادة الوحشية، وعلى هذا الأساس يتم التخويف المستمر من أكذوبة “هدم الدولة” والفوضى وحكم ما يسمى “بالإرهاب” والإلحاح على الخلط العمد بين مفهومي الدولة والنظام والتلاعب بهذه المفاهيم لتكريس حالة من اللاوعي تضع الرئيس ومؤسسات الحكم موضع الدولة والوطن بحيث تصير المعارضة للنظام معارضة للدولة ذاتها وخيانة للوطن، فــ«صناعة العدو في النظم الاستبدادية لا تتم عفوياً، وإنما تستند إلى أسس ونظريات علمية، هدفها ترسيخ الخوف وافقاد الجماهير الإحساس بالأمان، وفق تخطيط استراتيجي، تعمل عليه الأجهزة الأمنية والمخابراتية والآلة الاعلامية، فصناعة العدو هي صناعة خوف يمنع تطلع الشعوب إلى التغيير، ويدفعها إلى قبول قرارات وسياسات وممارسات النظام الاستبدادي مهما كانت ظالمة او مجحفة، خشية ذلك الخطر الداهم والتهديد المجهول. “فالعدو وحده ومؤامراته الدنيئة هي المسئولة عن الفشل والأزمات التي تواجه الشعوب التي ترزخ تحت نير الاستبداد، فيما تواجه النظم الحاكمة هؤلاء الأعداء وتحبط مؤامراتهم فتحافظ على مؤسسات الدولة وأمن الشعب”. تلك الرسالة التي دائماً يحاول أن يروجها الإعلام الشمولي تجد صداها لدى الجماهير الجائعة والخائفة، التي بدورها لا تستطيع مواجهة آلة البطش والقمع الجبارة؛ فتلجأ وربما لا شعورياً ووفق ما يسمى سيكولوجياً بالحيل الدفاعية، إلى تحميل معاناتها لهؤلاء الاعداء([2]) “الوهميين”». ووفقا لكتاب «صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح؟»، للمؤلف «بيار كونيسا» ([3]) فإن نظم الحكم وأجهزة المخابرات ترى في صناعة العدو ضرورة باعتباره حاجة اجتماعية سياسية عليا يحقق كثيرا من الأهداف التي تتعلق بالتماسك المجتمعي وتحميله خطايا الفشل والإخفاق ونعته بأحط الصفات؛ ليلبي نوازع الإحساس الكاذب لدى الطغاة والمستبدين وحتى نظم ديمقراطية بالحسن والتظاهر بالصلاح الكاذب والتقوى المصطنعة.
ثالثا، تسويق الرواية الأمنية مهما كانت مفبركة وشديدة الركاكة،
ويستهدف المسلسل تكريس الرواية الأمنية حول ثورة يناير والإخوان والانقلاب وما يجري حاليا في سيناء، والحط مما عداها من روايات مهما كانت قوية وموثقة وشديد العمق والإقناع، وعلى هذا الأساس يتم توظيف عناصر العمل الدرامي لتحقيق هذا الهدف، فيتم توظيف القصة والسيناريو وانتقاء الممثلين والبنية النفسية لشخصيات العمل والمبالغة في تجميل عناصر الجيش ليظهروا في صورة طيبين غيورين على الوطن ويتصفون بصفات أسطورية ، مقابل الإسلاميين المتشددين الإرهابيين الذين يمثلون الشر. فـ«”المسلسل” يعكس منطق اللعبة الصفرية التي تمارسها وتجيدها كافة الأنظمة السلطوية، والتي تقوم على مبدأ: إما نحنّ وإما همّ. يحاول المسلسل “أسْطَرَةَ” العسكر، وترسيخ صورتهم الذهنية لدى العوام، وذلك من خلال استعراض “أسطوري” لشخصية ضابط الصاعقة المقدم أركان حرب أحمد صابر منسي، الذي لقي مصرعه في إحدى هجمات تنظيم “ولاية سيناء” عام 2017. وذلك في مقابل زميله ضابط الصاعقة السابق هشام عشماوي المتورط في قضايا عنف وإرهاب بعد فصله من الخدمة العسكرية في عام 2011، والذي تم إعدامه في 4 مارس 2020، على ذمة قضايا عديدة أبرزها قضية “هجوم الفرافرة” الذي وقع في يوليو/تموز 2013، وراح ضحيته عشرات القتلى والمصابين من ضباط وجنود الجيش».([4])
رابعا، تجاهل الأسباب الحقيقية وراء تحول هشام عشماوي
من ضابط صاعقة إلى مسلح و”إرهابي” ضد الجيش، ويحاول المسلسل توظيف الدراما لما لها من تأثير واسع على الجماهير في تكريس تصورات السيسي القاصرة حينا والشاذة أحيانا حول اتهام الخطاب الديني بالمسئولية عن تشدد العشماوي وتحوله إلى إرهابي خطير كما يصوره المسلسل، لكن “الاختيار” يمر مرور عابرا على الأسباب الحقيقية والمتعددة التي دفعت ضابط الصاعقة هشام عشماوي إلى التطرف ثم الإرهاب؛ فالمسلسل يريد أن يكرس فكرة مسئولية الخطاب الديني فقط عن هذا التحول الكبير، مع غض الطرف مطلقا عن باقي العوامل والأسباب الأخرى وعلى رأسها الخطاب السياسي واستبداد السلطة والظلم الاجتماعي الذي يكرس الطبقية والتقسيم، حتى لو كانت هي الأسباب الأهم والأكثر تأثيرا في هذا التحول الكبير؛ ذلك أن هشام عشماوي كان معروفا بين أقرانه الضباط بالحرص على ممارسة الرياضة وكان يتريث في إبداء آرائه السياسية، ويشاهد التلفاز ولم يبد أي معارضة لنظام مبارك، يقول ضابط من معارفه ”كان ملتزما وليس متشددا، كان يتفرج معنا على التلفزيون ويشجع الكرة لأنه كان ماهرا في لعب كرة القدم “ بحسب وكالة رويترز، كان أيضا معروفا بالنبوغ والتفوق؛ وقد حاز دائما على المركز الأول في معظم فرق ودورات التدريب العسكري في مصر وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية، واختير في العام الذي تخرج فيه “2000” قائد مشاه، ولكفاءته اختير في قوات الصاعقة سنة 2002م والتي لا تختار إلا أكفاء من بين جميع أفرع الجيش المهم أن هناك محطتين فاصلتين لهما تأثير بالغ على تحولات عشماوي:
- الأولى، مقتل صديق له بالتعذيب في سجون مبارك، يقول أقاربه ــ بحسب رويترزــ إن نقطة التحول كانت عام 2006 حين اعتقل صديق له وتوفي في الحجز بعد تعرضه للتعذيب، بعدها لاحظوا فيه تحولا معنويا حادا يقول ابن خاله أسامة محمد ”قبل هذا الحادث كان ملتزما في التدين مثله مثل أي مصري ولكنه لم يكن متشددا في الدين أو كارها لأفراد الأمن أو الجيش وكان له أصدقاء كثيرون في الشرطة، ولكن بعد هذا الحادث قطع كل علاقته بهم عدا اثنين فقط “([5])
- المحطة الثانية، هي التنكيل به داخل الجيش لميوله الإسلامية، ففي 2007 قررت محكمة عسكرية طرد عشماوي من الجيش، بعدها اشتغل بالتجارة لفترة وعمل في التصدير والاستيراد بالقاهرة حيث كان يتاجر في الملابس وقطع غيار السيارات، وكان يجتمع مع ضباط سابقين بالجيش في مسجد في العقار الذي يقطنه والده، ثم عاد للجيش مرة أخرى سنة 2010 وتم تحويله إلى عمل إداري، لكن المؤسسة العسكرية واصلت التنكيل به لأنه كان يوزع كتب الأذكار على المجندين ويوقظهم لصلاة الفجر، وبضوء أخضر من قائد المخابرات الحربية وقتها اللواء عبدالفتاح السيسي تم تحويل هشام عشماوي إلى المعاش سنة 2011م، في ظلم مبين واضطهاد لا معنى له.
هاتان المحطتان دفعتا عشماوي إلى الالتحاق بتنظيم “بيت المقدس” سنة 2012م وليس بعد الانقلاب لإيمانه بأن الجيش في مصر لا مكان فيه لمتدين ولا يرتقي في سلم مناصبه القيادية إلا من تخلى عن قيمه ودينه وأخلاقه.
خامسا، الغمز في الإمام ابن تيمية ومنهج المقاومة عموما
ومن الرسائل التي يعمل المسلسل على تسويقها الغمز في الإمام أحمد بن تيمية والحط من شأنه باعتباره مصدر الإلهام لفتاوى العنف والتنظيمات المسلحة؛ والزعم بأن أفكار الإمام هي التي شكلت شخصية “هشام عشماوي” وأقرانه؛ وهي تصورات شاذة ومتعسفة تكشف عن سطحية الذين كتبوا المسلسل؛ لأن الإمام “ابن تيمية” كان رمزا للمقاومة ضد المحتلين التتار كما كان رمزا للمقاومة ضد الحكام الطغاة والمستبدين؛ وبالتالي فإن رسالة المسلسل ومنتجيه هي استهداف معنى المقاومة سواء كان ضد المحتلين الصهاينة أو ضد الحكام المستبدين الذين يحكمون بلاد المسلمين بالحديد والنار.
سادسا، المتاجرة بدماء شهداء الجيش
وهي الرسالة الأكثر وضوحا في المسلسل، فالنظام يريد التغطية على فشله وهزائمه بإنتاج عمل درامي ضخم لسرد قصة أحد شهداء الجيش في المواجهات المسلحة بسيناء، وتوظيف دماء هؤلاء الضحايا يستهدف أيضا تحقيق حالة من ترميم الشعبية للنظام وتكوين التفاف جماهيري في وقت يتداعى فيه النظام على وقع تداعيات تفشي وباء كورونا وفرض كثير من رسوم الجباية وتوجهات النظام نحو تخفيض الدعم على الخبز وسلع التموين إذا استمر الوباء لما بعد يونيو المقبل بحسب تصريحات وزير المالية، كذلك إعلان أثيوبيا البدء في تخزين المياه في بحيرة السد في يوليو المقبل، وبذلك فإن الهدف هو تحقيق التفاف جماهيري حول النظام عبر توظيف دماء الضحايا والشهداء كوسيلة دعاية للسلطة وترميم شعبية النظام المتداعية.
خلاصة الأمر، أنفقت المؤسسة العسكرية وجهاز المخابرات العامة ــ خلال العقود الماضية ــ أمولا طائلة ولا تزال على إنتاج أعمال سينمائية ودرامية مثل ” الطريق إلى إيلات ــ الثعلب ــ رأفت الهجان ــ دموع في عيون وقحة ــ العميل 1001 ــ الحفار ــ الزيبق ــ وغيرها”، كان الهدف منها هو تمجيد العسكرية المصرية، وتمجيد دور المخابرات رغم الهزائم المدوية التي منيت بها بلادنا على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية منذ انقلاب 23 يوليو 1952م، لكن اللعب على عاطفة العداء الأصيل للكيان الصهيوني باعتباره غرسًا شيطانيًا زرعته القوى العالمية في النصف الأول من القرن العشرين، باحتلال فلسطين وذبح وإخراج شعبها كان كفيلا بنجاح هذه الأعمال التي توافقت مع الحق والحقيقة من جهة، والهوى الشعبي من جهة ثانية؛ لكن اليوم، جرت تحولات ضخمة في العقيدة القتالية للجيش المصري بعد اتفاقية كامب ديفيد 1979م، مع الكيان الصهيوني برعاية أمريكية، هذه التحولات لم تبرز بشكل سافر إلا في أعقاب انقلاب 3 يوليو 2013م، حيث بدأ النظام في تبني أطروحات العداء للإسلاميين تماهيا مع الرواية الصهيونية والأمريكية؛ وعلى هذا الأساس يتم توظيف السينما والدراما سياسيا من أجل تسويق هذه التحولات الكبرى وفرضها على الشعب المصري بالقهر تارة وبالدراما والسينما تراة أخرى، في ظل إصرار على الخلط عمدًا بين الحركات الإسلامية التي تؤمن بالديمقراطية والانتخاب طريقا للحكم مثل الإخوان المسلمين، مع قوى أخرى لها نهج آخر يقوم على استخدام السلاح؛ هذه التصورات تلقى للأسف رواجًا لدى حكومات غربية ترى في الإسلاميين “المعتدلين” خطورة؛ اتساقا مع ظاهرة “الإسلاموفوبيا” التي يتم الإنفاق عليها ببذخ شديد في الغرب.
في هذا الإطار يمكن فهم أبعاد وأهداف مسلسل “الاختيار” الذي تنفق عليه المخابرات العامة ببذخ شديد من أجل تكريس الاستبداد والسلطوية العسكرية من جهة، والتغطية على فشل النظام من جهة ثانية وتسويق التحولات الكبرى والشائهة التي جرت على عقيدة الجيش المصري من جهة ثالثة، وترميم شعبية الجيش من جهة رابعة وهي الشعبية التي تآكلت بشكل بالغ في أعقاب انقلاب منتصف 2013م، وارتكاب عشرات المذابح الوحشية واحتكار السياسة والاقتصاد وتأميم الإعلام والسيطرة المطلقة على مفاصل الدولة من الألف إلى الياء دون تحقيق أي إنجاز يذكر؛ فقد فرط الجيش في “تيران وصنافير” وقبلهما فرط في “أم الرشراش”، إيلات حاليا، الميناء الأهم والوحيد للكيان الصهيوني على البحر الأحمر، كما فرط في ثروات مصر من الغاز في شرق المتوسط للكيان الصهيوني واليونان وقبرص، وقبلها فرط في حصة مصر المائية لأثيوبيا عبر اتفاق المبادئ بالخرطوم في مارس 2015م. ومنذ فقد الجيش شرفه بتوجيه الرصاص إلى الشعب ومساجده بدلا من الأعداء، بدأ التوظيف السياسي للدراما من أجل ترميم هذه الشعبية المتآكلة وتسويق هذه التحولات الكبرى في عقيدة الجيش الذي تم اختطافه من حفنة جنرالات فسدة طامعين في السلطة والاستئثار بكل شيء. وما مسلسل “الاختيار” إلا حلقة جديدة من حلقات ترسيخ وتعميق الانقسام المجتمعي، الذي يبدو ضرورياً ومهماً لبقاء النظام على قيد الحياة.
[1] عُلم ويُنفذ: رمضان 2019 برعاية «إعلام المصريين»/ مدى مصر 21 نوفمبر 2018
[2] ثروت البطاوي/ صناعة العدو: خديعة الأنظمة العربية للبقاء والتمدد/ موقع رصيف الاثنين 19 ديسمبر 2016م
[3] عرض محمود المنير/قراءة في كتاب: صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح/ مجلة المجتمع 18 مارس 2017 (المؤلف بيار كونيسا ، ترجمة: نبيل عجان
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى: مايو 2015)
[4] خليل العناني/ بؤس “الاختيار” بين العسكر والإسلاميين في مصر/ الجزيرة نت الخميس 7 مايو 2020
[5] أحمد محمد حسن/ الانشقاق عن الصفوف.. أكثر ما يثير حفيظة الجيش المصري/ رويترز 16 أكتوبر 2015