يشهد العراق مرحلة جديدة من التحولات السياسية والعسكرية، التي نتجت بفعل الزلزال الثوري الذي اندلع منذ شهور في بغداد، وعدد من المحافظات.
فقد جاء رئيس وزراء من خارج الحظيرة الإيرانية، في حدث غير مألوف لمتابعي ومحللي الوضع العراقي، ثم جاء تراجع قوة بعض الأطراف، لصالح تمدد أطراف أخرى؛ ليزيد من علامات التحول الذي تشهده الدولة العراقية.
يبحث هذا التقرير عددًا من القضايا التي تتمحور حول شخصية رئيس الوزراء الجديد الكاظمي، ومستقبله السياسي في ضوء التغييرات التي يشهدها النظام العراقي، وما سيقابله من تحديات منتظرة.
الكاظمي بين واشنطن وطهران:
جاء قرار تعيين الكاظمي في رئاسة الوزراء، بحالة من الجدل الشديد داخل الأوساط الشيعية، وبين القوى السياسية الموالية لإيران عامة؛ لأن الكاظمي هو جزء من النظام السياسي الذي أسسته الولايات المتحدة بعد غزو العراق عام 2003، حتى لو لم يكن طرفًا في أي كيان سياسي، إلا أن أصابع الاتهام الإيرانية والشيعية اتهمته بالوقوف وراء عملية اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني وقائد الحشد الشيعي أبو مهدي المهندس، والأهم أنه أول رئيس وزراء في العراق خلال هذه الفترة لا ينتمي للإسلام السياسي الشيعي، باستثناء فترة ولاية إياد علاوي، التي لم تستمر أكثر من ستة أشهر، وكانت مجرد مرحلة انتقالية بعد تسليم السلطة من الحاكم الأمريكي، بول برايمر، في صيف عام 2004[1].
ولذلك شعرت الأوساط السياسية الشيعية، بأن ثمة تهديدًا حقيقيًّا يواجهها، ويسحب البساط من تحت أقدامها، إلا أن رد الفعل الإيراني المفاجئ لديهم، قد أعاق التصريحات السياسية التي كانت تنوي رفض حكومة الكاظمي المقترحة، وذلك بعدما التقى الكاظمي مع أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، خلال زيارة الأخير لبغداد في مارس الماضي، واعتُبرت تلك المقابلة تمهيدًا مباشرًا لقبول طهران والقوى السياسية والمسلحة القريبة منها في بغداد بالكاظمي، وأعلنت طهران مباركتها لرجل أمريكا، كما تصفه الدوائر الشيعية. “هذا المتغير له دلالاته التي لا يمكن إغفالها في عملية تقييم المرحلة المقبلة في العراق، فوجوده إلى جانب رئيس جمهورية كردي ورئيس برلمان سُني -لا ينتميان بدروهما للإسلام السياسي، ولكل منهما جذور وخلفيات متباينة- قد يقدم تصورًا لطبيعة التفاهم المحتمل في التعاطي مع قضايا العراق الشائكة، وعلاقة هذه الرئاسات بالقوى الحزبية الضاغطة التي طالما شكَّلت أساس الدولة العميقة المهيمنة على القرار والنفوذ، وكذلك مع ظاهرة القوى المسلحة التي بدأت تعلن انتماءها لما يسمى (المقاومة الإسلامية) التي تمتد عبر الإقليم، وترتبط بشكل عضوي بهيمنة إيرانية علنية ومباشرة”[2].
لم يمر على طهران مشهد توديع الجنرال سليماني تحت طائرات واشنطن التي قتلته مرور الكرام، وشعرت بأن الغضب الأمريكي قد تجاوز حده المقبول، وأصبح ساخطًا على هيمنة طهران على بغداد، وشعرت بأن عليها العودة خطوة، وربما خطوتين للوراء؛ لتجاوز العقوبات الأمريكية، والتخفيف من سياسة الضغط القصوى التي تتبعها إدارة ترامب، فقبلت بوجود شخصية مخابراتية تتبع أمريكا، في منصب لطالما سيطرت عليه عناصر البيت الإيراني، وبذلك أصبحت واشنطن تسيطر على السلطات الثلاث، ولو بصورة رمزية، في حين ترتع مليشيات إيران وتسيطر على الدولة العميقة، والمؤسسات الأمنية والعسكرية، ومفاصل الدولة الاقتصادية، وهي المساحات المهمة التي تسعى إيران للحفاظ عليها، بالعودة للوراء خطوة، لتهدئة الغضب الأمريكي.
في حقيقة الأمر، ليس ذلك هو السبب الوحيد، فقد أدركت طهران جيدًا، أن ملف إدارة العراق بمفردها وبالتعاون فقط مع القوى الشيعية سيؤول بالفشل، وهو الفشل الذي ظهر بجلاء في لحظة 2018، عندما عجزت القوى الشيعية عن اختيار رئيس الوزراء، وخرجت لتندد كل واحدة بالأخرى، وقبلوا في النهاية بترشيح عادل المهدي بأغلبية هشة، في مشهد أظهر عددًا لا بأس به من الخلافات، التي وصلت لمرحلة التصدع في طريقة تناولها للتعامل مع حادثة اغتيال سليماني، عندما عجزت عن الخروج بموقف موحد حقيقي.
وعليه فاستمرار القوى الشيعية التي قادت المشهد السياسي منذ غزو العراق، وتحولها لمليشيات عسكرية مؤخرًا، وشعور السنة بالظلم والاضطهاد، وظهور بوادر لعودة تنظيم داعش، ناهيك عن معاناة الاقتصاد الإيراني من العقوبات المفروضة، كل ذلك أدى للمحصلة النهائية، بقبول طهران بمرشح من خارج دوائرها التقليدية؛ ليظهرها في موقف الضعيف، بعدما خرجت تظاهرات شعبية من قلب الطائفة الشيعية، لتعارض وجود إيران، ولتنادي بالموت للمرشد الأعلى وليس أمريكا، وتندد بالنخب السياسية التابعة لطهران.
كانت بغداد في طريقها للتحول لدولة فاشلة، لو استمر التعنت الإيراني؛ بل دخل العراق مرحلة شك حقيقية مع خواء الميزانية، وظهور علامات على الاقتراب من عدم القدرة على تسديد رواتب الموظفين والمتقاعدين.
معادلات المشهد العراقي تتغير:
شهدت بغداد تحولا دراماتيكيًّا، بإصرار الرئيس العراقي من الأقلية الكردية برهم صالح على رفض عدد من مرشحي الأحزاب الشيعية، لمنصب رئيس الوزراء، رغم أن العراق السياسي من 2003، ينص على أن الطائفة الشيعية هي من تحدد رئيس الوزراء، وقد تحجج موقف برهم صالح بضغط الاحتجاجات عليه، ثم جاء موقف مرجعية النجف، الذي أيد موقف الرئيس برهم، في ضرورة وجود شخصية مستقلة تراعي الاحتجاجات القائمة، ليزيد من قوته[3]، علاوة على تبعية صالح لواشنطن ودعمها الكامل له، وهي الأدوات التي مكنته في النهاية من الوقوف في وجه المليشيات الشيعية، وقد أظهر هذا المشهد تحولا في طبيعة العلاقات بين مكونات المشهد السياسي، وأبرز هذه التحولات، هو تراجع مكانة القوى الشيعية التابعة لطهران، وزيادة نفوذ الجهات التابعة لواشنطن.
أبرز التحديات التي تنتظر الكاظمي:
هناك عدد من الملفات الساخنة التي تنتظر الكاظمي، والتي تمثل عنق زجاجة للعراق كله، وليس للكاظمي وحده:
أولا: عودة الاحتجاجات الشعبية:
رغم القرارات التي اتخذها الكاظمي، بالإفراج عن جميع معتقلي الاحتجاجات، وفتح تحقيق قضائي لمحاسبة المسؤولين عن القتلى، وتعويضهم ماديًّا، في محاولة منه لتهدئة الشارع[4]، إلا أن مظاهرات شعبية حاشدة، خرجت في الأيام الماضية؛ لتضغط أكثر على الكاظمي لمحاسبة الفاسدين، فمنذ منح البرلمان العراقي الثقة للحكومة برئاسة مصطفى الكاظمي، لم تتوقف المطالبات الشعبية بمحاكمة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، على خلفية مقتل مئات المتظاهرين وإصابة الآلاف، إضافة إلى عمليات الإخفاء القسري والاغتيالات بحق عشرات الناشطين؛ إذ قتل نحو 700 متظاهر وأصيب 27 ألف آخرون، غالبيتهم سقطوا بالرصاص الحي وقنابل غاز خارقة للجماجم، فهل تُقدم الحكومة الجديدة على محاسبته؟ أم أن الإفلات من العقاب الذي أصبح عرفًا بعد عام 2003 في العراق سيحول دون ذلك؟، وهل تفرّط به القوى السياسية الحاكمة؟، أم أنها تخشى من أن مثل هذه الخطوة قد تكون بداية لمحاسبتها مستقبلا لمساهمتها بالانتهاكات؟ في الواقع، لن يتم محاكمة أحد؛ لأن ذلك سيكون بمثابة باب جهنم الذي سيفتح على مصراعيه ليقابله الجميع، كما أن الكاظمي نفسه جزء من النظام، وليس ثوريًّا عليه، ولذلك يمكن أن يؤدي البحث خلفه عن أشياء تدينه، كما أن الوضع الاقتصادي في العراق بحاجة للعودة للعمل والإنتاج سريعًا؛ لتعويض العجز في الموازنة، الذي يفقد الدولة الوفاء بواجباتها الاقتصادية والاجتماعية، خاصة أن العراق يواجه عجزًا اقتصاديًّا حادًّا، عقب انهيار أسعار النفط، وتفشي جائحة الكورونا .. فالكاظمي بحاجة لتوفير قدر من الثقة يسمح له بالعمل، وبسكوت الشارع.
ثانيًا: تنظيم داعش وتنظيمات طهران:
سيعاني الكاظمي من سيطرة المليشيات العسكرية الإيرانية على مختلف القطاعات في العراق، وسيجد صعوبة في تحقيق إصلاحات حقيقية، تؤدي إلى وصول أثر ملموس للمواطنين، وعليه فهو بحاجة لدور إيراني ضاغط على هذه المليشيات ليتمكن من العمل، إذا كانت لديه النية بحق.
على الجهة الأخرى، تأتي عودة العمليات العسكرية لتنظيم داعش، لتزيد من صعوبة الوضع العراقي، وحاجته لإصلاحات جوهرية على الشأن العسكري والأمني تحديدًا؛ كي يتمكن المشهد الاقتصادي من الانتعاش.
ولذلك قام الكاظمي -بمجرد اعتماده رئيسًا للوزراء، فيما يخص جهاز مكافحة الإرهاب، وهو صاحب الكعب العالي في جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية- بإعادة عبد الوهاب الساعدي للخدمة، وقام بترقيته ليصبح رئيسًا للجهاز، والجدير بالذكر هنا، أن الساعدي كان أحد أسباب تأجيج الحراك الشعبي ضد النظام؛ نتيجة شعبية الرجل الكبيرة، بعد محاربته بشجاعة ضد تنظيم داعش، فوجود الساعدي على رأس هذا الجهاز يمكن أن يمكنه من مواجهة التنظيمات العسكرية غير الشرعية في الاتجاهين التكفيري والإيراني الشيعي.
وظهرت بدايات هذا، بإعلان السلطات الأمنية لأول مرة منذ بدء الاحتجاجات عن اعتقال 5 عناصر على الأقل من مليشيات “ثار الله” العراقية؛ بتهمة قتل متظاهر في محافظة البصرة جنوب البلاد، وعلى إثر ذلك، غرد رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي على حسابه في “تويتر” قائلا: “وجهت، فجر اليوم 11 مايو 2020، بملاحقة المتورطين بمهاجمة المتظاهرين في البصرة، ونفذت القوات الأمنية عملية اعتقالهم بعد صدور مذكرات قضائية، شكرًا للقضاء العادل والأجهزة الأمنية البطلة”[5]، وزادت ثقة أنصاره به، عندما أصر على تعيين وزراء لحقيبتي الداخلية والدفاع تابعين له، ثم جاء موقف السيستاني بفصل آلاف المقاتلين التابعين للمرجعية عن هيئة الحشد الشعبي وإلحاقهم بوزارة الدفاع؛ ليعزز من مكانة وشخصية الكاظمي كرئيس وزراء، وقد شمل ذلك كتائب الإمام علي، وكتائب علي الأكبر، وفرقة العباس، ولواء أنصار المرجعية[6].
والسؤال هنا، هل ما يحدث مجرد تهدئة للشارع، أم نوايا جادة لحصار المليشيات العسكرية، وقص أجنحتها؛ كي تعمل تحت مظلة الدولة، خاصة بعد أن قام الكاظمي نفسه بترقية الضباط الذين فصلوا بتهمة عدم مواجهة المليشيات[7]، في محاولة منه لإثبات أن مؤسسات الدولة لها الكلمة الأولى والأخيرة. مازالت الأيام المقبلة، تعج بالسيناريوهات.
ثالثًا: العلاقات الإيرانية الأمريكية:
مازالت العلاقات بين طهران وواشنطن مأزومة، رغم بوادر التهدئة الحاصلة هذه الأيام، والتي بحاجة للمزيد، ولكن الكاظمي مازال يواجه وضعًا لا يحسد عليه، في موازنة علاقته ومواقفه بين طهران وواشنطن، وضغطه لعدم تحول بغداد لساحة حرب بينهما.
رابعًا: الانتخابات المبكرة العادلة أبرز مطالب المحتجين:
وفيما يخص الانتخابات، قال الكاظمي إنه أصدر قرارًا بتشكيل لجنة من الخبراء؛ للتنسيق مع الجهات المعنية لتذليل العقبات أمام إجراء “انتخابات مبكرة نزيهة وعادلة، وعليه كيف ستتعامل القوى الحزبية الشيعية، مع مشهد الانتخابات المقبل، إذا جاء بنتائج معاكسة لرغباتهم، لاسيما أن الرجل هدد بأنه لن يجعل سيادة العراق تحت رحمة مليشيات عسكرية غير نظامية، متعهدًا بإعادة الدولة لمسارها الصحيح.
وعليه فعراق الكاظمي سيواجه تحديات كبيرة، إلا أن قوته تتمثل في الدعم الأمريكي اللامحدود من ناحية، والظروف الكارثية التي تعيشها طهران من ناحية أخرى، ولذلك فرغم فداحة التحديات، إلا أن فرص نجاحه كبيرة لو توافرت لديه الإرادة الحقيقية؛ حيث يعاني الصف الشيعي من تصدعات كبيرة، يمكنه اللعب عليها لكسب مساحات أعلى من التأثير، ناهيك عن غضب الشارع من النخبة السياسية الشيعية بالأساس.
ولكن ما الوضع إذا قررت طهران عدم تقديم المزيد من التنازلات، وأصرت على دعم مليشياتها؟، في هذا الوقت، قد ينفجر الوضع في العراق بحق، وتتحول بغداد وشوارعها إلى ساحات حرب أهلية بالوكالة، وهو أمر لا يريده الجميع؛ لذا من الصعب حدوثه، ناهيك عن حجم التفاهمات الإيرانية الأمريكية الكبيرة، التي تحدث في هذه الأيام في عدد من الملفات، كسوريا ومنطقة الخليج.
[1] لقاء مكي، “الكاظمي يرأس حكومة العراق: تحديات عميقة ومعقدة”، مركز الجزيرة للدراسات، 11/5/2020
https://studies.aljazeera.net/ar/article/4673
[2] المرجع السابق.
[3] المركز العربي للأبحاث، “تشكيل حكومة الكاظمي في العراق: تحول فعلي أم تسوية عابرة؟”، المدن، 13/5/2020
[4] الكاظمي يعلن الإفراج عن جميع المتظاهرين الموقوفين في السجون العراقية، الحرة، 9/5/2020
[5] يوسف العلي، “بتهمة قتل متظاهري العراق .. هل يتمكن الكاظمي من محاكمة عبد المهدي؟”، صحيفة الاستقلال، 15/5/2020
https://www.alestiklal.net/ar/view/4753/dep-news-1589302375
[6] المركز العربي للأبحاث، مرجع سابق.
[7] المرجع السابق.