آفاق وأبعاد الدور الإسرائيلي في إنجاح انقلاب 30 يونيو

حالة من الرعب الشامل عاشتها (إسرائيل) بعد نجاح ثورة 25 يناير في الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك ، وكانت دوائر صنع القرار ومحافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب، قد انطلقت من افتراض مفاده أن عجلة التحولات التي أطلقتها الثورة في تونس ومصر مرشحة للوصول إلى مناطق أخرى، بشكل يفضي إلى تحول في البيئة الإقليمية ويفاقم مستوى المخاطر الإستراتيجية. وقد تعاظمت الدعوات داخل تل أبيب مطالبة بالاستعداد للتقشف وتحمل تبعات زيادة النفقات الأمنية والتعود على تقليص الموازنات المخصصة للخدمات والبنى التحتية والتسليم بالمس بمخصصات الضمان الاجتماعي. وقد سادت مخاوف من أن تسهم ثورة 25 يناير في تقليص مظاهر استقلال القرار السياسي الإسرائيلي من خلال زيادة الارتباط بالدعم المالي والسياسي الذي تقدمه الولايات المتحدة والغرب لمواجهة تبعات الثورة.

هذه المخاوف دفعت حكومة الاحتلال وأجهزته الأمنية إلى التخطيط والعمل على نطاق واسع من أجل إجهاض المسار الديمقراطي في مصر ووأد الروح الثورية التي جددت الحياة في عروق المصريين بعد عقود من التهميش والقمع تحت حكم نظام 23 يوليو العسكري؛ واليوم بات الدور الإسرائيلي في إنجاح انقلاب 30 يونيو العسكري بمصر من المعلوم من تاريخ مصر بالضرورة؛ ولا مجال لإنكاره والتشكيك فيه من جانب أنصار النظام العسكري أو القوى العلمانية التي أيدته بشكل مطلق؛ خصوصا بعد الاعترافات الإسرائيلية التي وصلت حد التفاخر والتباهي بهذا الشأن. وعلى رأس قادة الاحتلال الذين اعترفوا بهذا الدور بنيامين نتنياهو رئيس وزراء حكومة الاحتلال؛ الذي أقر بالدور الكبير الذي لعبته حكومته وجهاز الموساد التابع لها في الانقلاب الذي نفذه السيسي في 30 يونيو 2013م، وكيف وضعت حكومة الاحتلال إسقاط حكم الرئيس محمد مرسي والمسار الديمقراطي كله ونسف جميع مكتسبات ثورة يناير كأولوية قصوى على رأس أجندة الحكومة الإسرائيلية، ويقول نتنياهو في مقطع فيديو متداول على مواقع التواصل الاجتماعي: «لقد حاولنا مرارا أن نتواصل مع السلطة الحاكمة في مصر عام 2012، ولكننا فوجئنا أن هذه السلطة ترانا كأعداء لها، وأن (إسرائيل) احتل بلد عربي شقيق؛ ولذلك كان لا بد لنا من التخلص من هذه السلطة التي لا تريد سلاما، خصوصا بعدما أعلنه الرئيس مرسي وأوضح لنا نيته في أنه يريد أن يتخلص من دولة (إسرائيل)».

وكانت مجلة «الدفاع الإسرائيلي» المتخصصة في شؤون الأمن،  قد كشفت عن استهداف حكومة الاحتلال لنظام الرئيس مرسي بمجرد انتخابه مباشرة؛ وأكدت تورط «الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية والأميركية في التجسس على مصر عام 2012 وجمع معلومات استخبارية عنها»، وأوضحت أن وحدة الاستخبارات الإلكترونية (الإسرائيلية) المعروفة بـ «وحدة 8200» ووكالة الأمن القومي الأميركية (NSA)، قد تعاونتا في التجسس على مصر، خلال عام 2012، بعد انتخاب «محمد مرسي». وأفادت المجلة بأن قيادة الاستخبارات الوطنية الأميركية (ODNI) أمرت، في يوليو 2012، وكالة الأمن القومي بتوسيع التعاون مع «وحدة 8200» في مجال جمع المعلومات الاستخبارية عن مصر، حيث تم التشاور بين الجانبين في اختيار أهداف استراتيجية، لجمع المعلومات عنها، بحسب تسريبات «ويكيليكس».([1])

وانعكاسا لحالة الرعب، التي أصابت الاحتلال بعد نجاح ثورة 25 يناير في الإطاحة بمبارك يمكن رصد الإجراءات التالية:

أولا، قامت على الفور بإجراء اتصالات مكثفة مع إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لتقديم دعم عسكري ضخم بهدف إعداد الجيش الإسرائيلي لمواجهة المخاطر المتوقعة من الجنوب. وقد طار إيهود باراك، الذي كان وزيراً للدفاع عند اندلاع الثورة، على عجل إلى واشنطن، وقدم طلباً للحصول على مساعدات إضافية بقيمة 20 مليار دولار.

ثانيا، وصل الأمر بأفيغدور ليبرمان، الذي كان وزيراً للخارجية في ذلك الوقت، إلى المطالبة بإعادة رسم خارطة المخاطر ة التي تهدد إسرائيل، إذ اعتبر أن “مصر الثورة أكثر خطورة من إيران النووية”. ليس هذا فحسب، بل إن ليبرمان أصر على أن يعقد المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن عدة جلسات لتدارس سبل مواجهة التهديدات التي تأتي من الجنوب. وأقر المجلس، في أعقاب تلك الجلسات، إدخال تحولات جذرية على منظومة بناء القوة العسكرية، وضِمن ذلك إعادة الاعتبار لقيادة المنطقة الجنوبية، بوصفها الجهة التي ستتحمل مسؤولية مواجهة المخاطر المحتملة، التي ستصدرها مصر الثورة.

ثالثا، كشف الموقف القوي للرئيس محمد مرسي في دعمه للمقاومة الفلسطينية خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في حرب 2012م عن تراجع في قدرة تل أبيب على مواجهة المقاومة واعترفت تقديرات الموقف الإسرائيلية أن الظروف التي شنت فيها “إسرائيل” حربها على غزة في 2012 أثناء حكم مرسي كانت أصعب بكثير من ظروف حربي 2008 في عهد مبارك و2014 في عهد السيسي. وأمام هذا الموقف القوي في دعم المقاومة الفلسطينية ألقت وزيرة الخارجية بحكومة الاحتلال وقتها تسيبي ليفني محاضرة في 17 نوفمبر، نظمها “معهد الأمن القومي الإسرائيلي، هددت فيه نظام الرئيس مرسي وكل نظام عربي أو إسلامي يقف إلى جانب المقاومة الفلسطينية” وقالت نصا:”كل قائد ودولة في المنطقة، يجب أن يقرروا أن يكونوا جزءا من معسكر الإرهاب والتطرف، أو معسكر البراغماتية والاعتدال، وإذا قرر قائد دولة ما مسارا آخر فسيكون هناك ثمن لهذا”.وبخصوص الرئيس مرسي تحديدا شددت ليفني: “لدينا متطرفون أكثر في المنطقة، وقادة يريدون أن يختاروا مسارهم وطريقهم، لدينا في مصر مرسي الذي يمثل جماعة الإخوان المسلمين، ويجب أن نتكاتف سويا، ونتحد ضد هؤلاء، الذين يعادوننا، وأن نفعل شيئا، فمسؤولية أي حكومة إسرائيلية هي العثور على طريقة علنية أو غير علنية، للسيطرة على التغيير الحادث في المنطقة، والتأثير في تشكيل مستقبلها”.([2])

 

الحفاوة بانقلاب السيسي

أملت هذه المخاوف على دوائر صنع القرار في تل أبيب الاستنفار لدعم الانقلاب الذي قاده السيسي، إذ لعب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دوراً رئيسياً في تأمين شرعية دولية لنظام انقلاب 30 يونيو، من خلال الضغط على إدارة أوباما لعدم التعاطي معه كانقلاب، وعدم المس بالمساعدات التي تقدمها واشنطن للجيش المصري في أعقاب ذلك. ويمكن الافتراض بأن استعداد نظام السيسي لتطوير الشراكات مع إسرائيل في تل أبيب قد فاجأ قادة حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل وتجاوز أكثر رهاناتهم المسبقة. فقد تعاون نظام السيسي مع إسرائيل في مواجهة المقاومة الفلسطينية، كما عكس ذلك السلوك المصري أثناء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 2014.

وعبرت الأوساط الإسرائيلية عن فرحتها العارمة بنجاح الانقلاب الذي قاده السيسي ضد الرئيس مرسي وعدته انقلابا على ثورة يناير والمسار الديمقرطي كله؛ وأبدت حفاوة منقطعة النظير بإجهاض المسار الديمقراطي وعودة مصر مجددا إلى الحكم العسكري الشمولي وبات الجنرال عبدالفتاح السيسي ينظر إليه في (إسرائيل) باعتباره بطلا قوميا وعبقريا وزعيما يتمتع برباطة جأش منقطعة النظير؛ بحسب وصف “عمير روبوبورت” المحلل العسكري الإسرائيلي والباحث في معهد “بيجن ــ السادات” للأبحاث الإستراتيجية. والمثير للدهشة في مقال “روبوبورت” في اليوم التالي للانقلاب مباشرة أنه أكد أن ثورة 25يناير مثلت مفاجأة مدوية للأوساط المخابراتية الإسرائيلية على عكس 30 يونيو.([3]) في إشارة واضحة إلى أن “تل أبيب” كانت على علم بكل خطوات الانقلاب قبل تنفيذه.

واعتبر معظم قادة الاحتلال أن انقلاب السيسي مثَّل معجزة لإسرائيل وعلى رأسهم عاموس جلعاد الذي ظل على مدى عشر سنوات مسؤولاً عن إدارة ملف العلاقات الإسرائيلية مع مصر، وقاد “لواء الأبحاث” في شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” ورأس الدائرة السياسية والأمنية في وزارة الأمن، حيث بالغ بشدة في الإشادة بانقلاب السيسي ووصفه بأكبر معجزة حدثت لإسرائيل في العقود الأخيرة. هذه الإشادة الواسعة من جلعاد انطلقت من تقدير موقف مفاده أن ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، كانت تحمل في طياتها مصادر تهديد وجودي واستراتيجي على إسرائيل. فقد أظهرت الأدبيات الإسرائيلية التي تناولت ثورة 25 يناير، والتي صدرت عن مراكز التفكير ودور النشر ووسائل الإعلام، بوضوح أن تل أبيب خشيت خصوصاً أن تفضي ثورة 25 يناير إلى تكريس واقع سياسي واجتماعي في مصر يصبح من المستحيل معه الحفاظ على اتفاقية “كامب ديفيد”، التي تعد أحد ركائز الأمن القومي الإسرائيلي.([4])

 

مكاسب هائلة للاحتلال

بانقلاب 30 يونيو حقق الاحتلال الإسرائيلي عدة مكاسب هائلة:

أولا، تخلصت (إسرائيل) من كابوس التهديدات التي صنعتها ثورة يناير، والتي كانت ستفضي إلى مشاركة الشعب في صنع القرار السياسي المصري؛ وهو ما يعني استقلال القرار الوطني الذي بات مرهونا بأمزجة ومصالح القوى الدولية والإقليمية وعلى رأسها ضمان أمن “إسرائيل” ومصالح الأمريكان والأوروبيين. فمصر الديمقراطية هي أكبر تهديد للوجود الإسرائيلي، وعندما تكون هذه الديمقراطية بنكهة إسلامية فإن ذلك أشد خطورة على الاحتلال؛ ولهذه الأسباب فإن إسرائيل تفضل أن يكون على رأس مصر والدول  العربية حكومة عسكرية أو ملكية مستبدة تكرس الطغيان وتهمش دور الشعوب في صناعة القرار.

ثانيا، ضمان خنوع مصر أمام المشروع الصهيوني واستسلامها للسياسات والإملاءات الأمريكية بهذا الشأن، والتحكم في قرراتها العليا بشأن جميع القضايا المحلية والإقليمية حتى تبقى مصر بجيشها ومقدراتها أسيرة للموقف الأمريكي الغربي؛ وقد برهن السيسي على ذلك بمواقفه المنحازة لإسرائيل والمعادية للمقاومة الفلسطينية وكل من يعارض المشروع الصهيوني؛ ويمكن الاستدلال على ذلك بتصريحاته في 16 مايو/أيار 2018؛ تعليقاً على القرار الأميركي بنقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس المحتلة، وما تلاه من مذابح إسرائيلية للفلسطينيين على حدود قطاع غزة، قائلاً إن “مصر لا تستطيع أن تفعل شيئاً، لأنها صغيرة، وضعيفة، وبلا تأثير”، مضيفاً خلال فعاليات المؤتمر الخامس للشباب، أن “قرار نقل السفارة سيؤدي إلى شيء من عدم الرضا والاستقرار، وإحنا بنتحرك في حدود قدرتنا، وحطوا خط تحت حدود قدرتنا”. وتابع: “على الفلسطينيين أن يحتجوا بطرق لا تؤدي إلى سقوط ضحايا، وعلى الإسرائيليين أن يكونوا أكثر حرصاً في عدم إسقاط ضحايا. ولا يمكن لمصر أن تفعل شيئاً، وعلينا أن نعمل ونكبر لكي يكون لنا تأثير في المستقبل”.([5]) وتؤكد تقديرات موقف عبرية أن ردود فعل السيسي على خطوة ضم الضفة الغربية المحتلة التي تنوي حكومة الاحتلال الشروع في ضمها للسيادة الإسرائيلية بداية من يوليو المقبل ستكون مضبوطة على غرار موقفه من إعلان الإدارة الأمريكية القدس عاصمة لإسرائيل. ويدلل على ذلك أيضا موقف السيسي من “صفقة القرن” الأمريكية التي يعتبر السيسي إلى جانب محمد بن سلمان ولي العهد السعودي ومحمد بن زايد، نائب رئيس وزراء أبو ظبي أكبر عرابين لها وتسويقها رغم انحيازها الصارخ للاحتلال ومراميها غير الخافية بتصفية القضية الفلسطينية.

ثالثا، إضعاف شوكة المقاومة وفرض المزيد من الحصار عليها، عبر تطوير نظام السيسي علاقاته بالاحتلال والانتقال من دائرة التعاون الأمني والاستخباري إلى تطوير نسق من التكامل الميداني في مواجهة ما يوصف بأنه «تهديدات مشتركة»؛ وقد أقر كل من السيسي ونتنياهو بأن مصر سمحت لسلاح الجو الإسرائيلي بتنفيذ غارات في قلب سيناء بهدف المس بـ”الإرهابيين”. وعلى الرغم من أن الهدف المعلن من شن هذه الغارات هو المس بتنظيم “ولاية سيناء”، الموالي لتنظيم “داعش”، إلا أن موقع “والا” الإسرائيلي كشف أن إسرائيل لا تستهدف هذا التنظيم بشكل خاص، بل قوافل السلاح الذي يتم تهريبه إلى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. ([6]) ويمثل التعاون الأمني والتنسيق المخابراتي بين مصر والصهاينة أكثر صور التطبيع تأثيرا؛ وهو ما اعترف به السيسي في مقابلته مع برنامج “60 دقيقة” على قناة ” سي بي أس” الأمريكية.

رابعا، تعظيم الدور الوظيفي لنظام السيسي ليقوم بدور الشرطي في حماية أمن الاحتلال وضمان أمنه واستقراره، وعلى هذا الأساس فقد انخرط السيسي في تحالف آخر(تحالف الثورات المضادة) الذي يضم السعودية والإمارات وهو التحالف المدعوم من إسرائيل بهدف مواجهة التهديدات المشتركة وليس من قبيل الصدفة أن هذه التهديدات هي ذاتها التي تتخوف منها تل أبيب وهي مواجهة المشروع التركي/ القطري، والقضاء على الحركات الإسلامية السنية المعتدلة وخصوصا التي تعارض المشروع الصهيوني في المنطقة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين وحركات المقاومة الفلسطينية، إضافة إلى التصدي للمشروع الإيراني والحد من تمدده ونفوذه بالمنطقة.

خامسا، ومن أكثر النتائج المترتبة على انقلاب السيسي هو المزيد من توريط الجيش في مستنقع السياسة الآسن؛ وبالانقلاب على المسار الديمقراطي وثورة يناير تحول الجيش إلى حزب سياسي وليس جيشا وطنيا وفق المعايير المعترف بها دوليا للجيوش، وقد أشار الجنرال الصهيونى رؤفين بيدهتسور إلى ذلك في تصريحات له في في أعقاب الانقلاب قائلا: «إن تورط الجيش المصرى فى السياسة على هذا النحو سيضمن استمرار تفوقنا النوعى والكاسح على العرب لسنين طويلة»، «أما دان حالوتس رئيس أركان الجيش الإسرائيلى الأسبق فقال فى حوار لإذاعة الجيش الإسرائيلى «أهم نتيجة لخطوات السيسى الأخيرة(الانقلاب) هى إضعاف الجيش المصرى على المدى البعيد»، أما إفرايم هاليفى رئيس الموساد الأسبق فقال «نجاح الانقلاب على مرسى سيعزز مكانة أمريكا وهذا بدوره سيعزز مكانتنا الأقليمية».([7]) والأكثر خطورة أن جلعاد أثنى على السياسة التسليحية ونمط وأهداف بناء القوة العسكرية في مصر واعتبر ذلك برهانا على أن الجيش المصري لا يمكن أن يشكل تهديدا لإسرائيل، وبخاصة في ظل العلاقات الوثيقة التي تربط بين قادة الجيش الإسرائيلي وقادة الجيش المصري.([8])

سادسا، تغيير العقيدة القتالية للجيش: ومن أكثر المكاسب الإستراتيجية للكيان الصهيوني تغيير العقيدة القتالية للجيش المصري، والتي ظلت منذ إقامة دولة للاحتلال في 15 مايو 1948م ترى في (إسرائيل) العدو؛ وسعت الولايات المتحدة الأمريكية منذ اتفاقية كامب ديفيد 1979م إلى إجراء تحولات ضخمة على بنية المؤسسة العسكرية المصرية وعقيدتها القتالية؛ وفي ديسمبر/ كانون الأول 2010، نشر موقع ويكليكس وثائق دبلوماسية أميركية، أشارت إلى: “أن الولايات المتحدة منزعجة من استمرار الجيش المصري اعتباره إسرائيل (العدو الأساسي)، رغم توقيع اتفاقية سلام معها منذ أكثر من 3 عقود”. لكن هذه العقيدة تزعزت في أعقاب نجاح انقلاب 30 يونيو وتحولت إسرائيل إلى حليف وصديق حميم، وتحت لافتة الحرب على «الإرهاب»؛ بات الإسلاميون وحركات المقاومة الفلسطينية وكل من يرفض المشروع الصهيوني في المنطقة هم العدو لهذا النظام الانقلابي؛ وبدا هذا التحول الكبير في عقيدة الجيش القتالية في 20 يوليو/ تموز 2016، أثناء حفل تخرج دفعة جديدة من طلبة الكلية الجوية العسكرية، بحضور السيسي، ووزير الدفاع السابق صدقي صبحي، حيث نفذ الجنود تدريبا على اقتحام مجسم لمسجد وتدميره وإطلاق الرصاص عليه. في إشارة غير خافية على هذه التحولات الكبرى على عقيدة الجيش الذي ارتكب من قبل عشرات المذابح المروعة قتل فيها آلاف المصريين. وفي يوليو 2018 كلف زعيم الانقلاب القوات المسلحة بتنبي ما أسماه بمشروع “الهوية المصرية” وذلك لأن عقيدة الجيش المصري تغيرت بالفعل، فبات الإسلاميون والثوار هم “العدو” وأضحت “إسرائيل” هي الصديق الحميم الذي يجب حمايته وضمان أمنه واستقراره.

سابعا، التلاعب في هوية المجتمع: ولعل من أكثر مكاسب الاحتلال على الإطلاق هو تغيير هوية المجتمع ليكون متصالحا مع مفاهيم التطبيع والقبول بالتعايش مع الاحتلال تحت لافتة “السلام”؛ وذلك بعد أن تمكن جنرالات العسكر من تغيير العقيدة القتالية للجيش ليكون العدو هو من يرفض دمج “إسرائيل” في التركيبة الإقليمية برعاية أمريكية خالصة. خطورة الموضوع دفعت «مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي» إلى إصدار دراسة في 28 يناير 2019م، أعدها الباحثان عوفر فنتور وأساف شيلوح، بعنوان «هوية مصر في عهد السيسي: السمات المميزة للإنسان المصري الجديد»، يشيدان فيه بهذه الخطوات غير المسبوقة؛ حيث تناولت الدراسة مظاهر ومآلات الحملة الواسعة التي يشنها نظام السيسي من أجل إعادة صياغة الهوية الوطنية لمصر؛ من خلال السعي أولا لتقليص مركّبها الإسلامي والعربي، وثانيا احتواء سماتها الثورية، وثالثا العمل على بناء جيل مصري جديد يكون أكثر استعداداً للاصطفاف حول الأجندة التي يفرضها النظام، إلى جانب أنها ترمي رابعا إلى تحسين صورة النظام في الخارج.  وتقول الدراسة، إن الخطاب الحاكم لجدل الهوية الذي فجره نظام السيسي، يقوم على مبدأين أساسيين:  أولاً؛ الإنسان المصري يمثل النقيض للإسلامي.  ثانياً؛ الهوية المصرية تمثل فسيفساء من 8 مركّبات: الفرعونية، اليونانية، الرومانية، القبطية، الشرق أوسطية، والأفريقية، إلى جانب المركّبين الإسلامي والعربي. وتلفت الدراسة إلى حقيقة أن النظم الشمولية هي التي عادة ما تنشغل في شنّ حملات، تهدف إلى التأثير على مركّبات الهوية الوطنية أو تسعى إلى بناء توازنات جديدة فيها؛ من أجل إيجاد متطلبات تضمن بقاء نظامه وضمان استمراره واستقراره، من خلال إثارة جدل الهوية أملا في أن يسهم ذلك في صياغة بيئة داخلية وبناء نخبة شبابية، تكون أكثر استعداداً لاستخدام كل الأدوات والوسائل التي تخدم النظام وتعمل على تحقيق أهدافه.([9])

واتساقا مع عملية التلاعب في الهوية المصرية، فإن من أبرز وأخطر أشكال التطبيع هو ما يبدأ بإعادة تشكيل  الوعي على أسس خاطئة مشوشة ومشوهة؛ تتعلق بالصورة الذهنية التي ترسمها مناهج التعليم للعدو الصهيوني، فـ”المناهج الجديدة تؤكد شرعية إسرائيل كدولة ترتبط بعلاقات صداقة مع مصر، ولا تتطرق لحروب مصر ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولا للقضية الفلسطينية كما كانت عليه المناهج سابقا”. فكتاب دراسي في عام 2002 كان يضم 32 صفحة عن الحروب العربية الإسرائيلية وثلاث صفحات للسلام مع إسرائيل، أما كتاب عام 2015 فخصص فقط 12 صفحة للحروب العربية الإسرائيلية، و4 صفحات للسلام مع إسرائيل”.  هذه التحولات أصابت أولياء الأمور بصدمة؛ لأنه أصبح يتوجب عليهم زيادة وعي أبنائهم بالصراع العربي الإسلامي مع الصهاينة والتأكيد بأن “إسرائيل” عدو.. فالفضائية التي تدعو إلى التطبيع مع الصهاينة يمكن عدم مشاهدتها لكن ماذا نفعل بمناهج التعليم التي تعتبر العدو صديقا ويتوجب على التلاميذ الإجابة على ذلك في الامتحانات؟! فما قام به نظام انقلاب 30 يونيو لم  يجرؤ عليه أي نظام سابق، حتى نظام الرئيس الراحل أنور السادات أو الرئيس الأسبق حسني مبارك، لأن “السيسي يريد من مناهج التعليم أن تدشن لجيل جديد يعتبر إسرائيل هي الصديق، والإسلاميون هم الأعداء”. هذه التحولات احتفت بها دوائر وصحف إسرائيلية مشيدة بتعديلات المناهج المصرية، فصحيفة “تايمز أوف إسرائيل” ثمنّت تدريس اتفاق السلام للمرة الأولى بما وصفته بـ”شكل واقعي دون تحيز أو أي محاولة لإظهار إسرائيل بصورة سلبية”. بينما أكدت صحيفة “إسرائيل ناشيونال نيوز” أن أحدث خطوة في تعزيز العلاقات بين مصر وإسرائيل هي “تحديث نظام التعليم المصري ليتضمن معاهدة السلام بين البلدين”.([10])

ثامنا، من المكاسب الإستراتيجية الكبيرة تنازل السيسي عن جزيرتي “تيران وصنافير” للجانب السعودي، وهو ما يحول مضيق “تيران” من ممر مائي مصري خالص من حقها التحكم فيه إلى ممر مائي دولي وهو ما يتيح لأول مرة للكيان الصهيوني مرورا آمنا عبر البحر الأحمر ويحرم مصر من موقع عسكري شديد الأهمية من الناحيتين العسكرية والإستراتيجية.

وأخيرا، حققت (إسرائيل) مكاسب اقتصادية هائلة من نجاح انقلاب السيسي، فقد أسهم صعود السيسي على سدة الحكم في مصر في تحسين بيئة إسرائيل الإقليمية؛ حيث انخرطت مصر في تحالف يضم إسرائيل واليونان وقبرص لمواجهة تركيا وهو منتدى غاز شرق المتوسط (‏EMGF‏)،  وفي فبراير 2018 وقَّع السيسي مع حكومة الاحتلال صفقة لاستيراد الغاز بقيمة 15 مليار دولار لمدة 10 سنوات؛ وهي الصفقة التي وصفتها نتنياهو بــ«يوم عيد لإسرائيل»؛ وفي أكتوبر 2019 جرى تعديل على الصفقة لتمتد إلى 15 سنة وترفع القيمة إلى 19.5 مليار دولار، رغم إعلان وزارة البترول التابعة للسيسي إعلان الاكتفاء الذاتي من الغاز بعد اكتشاف حقل ظهر الذي يوصف في إعلان النظم بأنه أكبر حقل غاز في البحر المتوسط والعالم.

خلاصة الأمر، يمكن وصف 30 يونيو بأنها «ثورة صهيونية» خططوا لها بعد أن جندوا وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي وكبار قادة المؤسسة العسكرية في مصر؛ بدعم إماراتي سعودي أمريكي،  وهندسوا الانقلاب ووظفوا نفوذهم الواسع من أجل تمكين السيسي ليكون على رأس السلطة في مصر؛ ليقدم لهم جميع أشكال الولاء؛ ويحقق لهم مكاسب هائلة، على حساب الأمن القومي المصري؛ ما كان لهم أن يحلموا بها؛ ولهذه الأسباب اعتبروه “معجزة” لإسرائيل. وإلى جانب هذا المكاسب المباشرة هناك مكاسب أخرى غير مباشرة أكثر خطورة وعلى رأسها إضعاف مصر وإغراقها في الديون والانقسام المجتمعي الحاد، وفشل ما تسمى بالمشروعات القومية بخلاف التفريط في حصة مصر المائية بالتوقيع  على اتفاق المبادئ بالخرطوم سنة 2015م، وكذلك التنازل عن ثروات مصر من الغاز في شرق المتوسط ؛ وكلها عوامل تسهم في تقزيم مصر وإضعافها وتعزيز التفوق الإسرائيلي على المستويين القريب البعيد.

 

[1] فيديو.. «نتنياهو»: شاركنا في الانقلاب على «مرسي»/ الخليج الجديد الاثنين 3 يوليو 2017

[2] وجدت حلمها في السيسي.. هذه مكاسب إسرائيل من الانقلاب على مرسي/ صحيفة الاستقلال 19 يونيو 2020

[3] معتز بالله محمد/ معاريف: الإسرائيليون يعتبرون السيسي بطلاً وزعيمًا عبقريًا/ مصر العربية  06 يوليو 2013

[4] صالح النعامي/8 سنوات على ثورة يناير: مخاوف إسرائيلية بددها السيسي/ العربي الجديد 4 فبراير 2019

[5] السيسي وإسرائيل: سجلّ اللقاءات السرية والتنسيق العسكري والانحياز للاحتلال/ العربي الجديد 6 يناير 2019

[6] تعديل “مستغرب” يُحمّل مصر 4.5 مليارات دولار إضافية للغاز الإسرائيلي/العربي الجديد 2 أكتوبر 2019

[7] أحمد منصور/ موقف إسرائيل من الانقلاب العسكرى/ بوابة الشروق الأربعاء 31 يوليه 2013

[8] صالح النعامي/ جنرال إسرائيلي: السيسي معجزة لإسرائيل/ “عربي 21” الثلاثاء، 09 يونيو 2015

 

[9] «هوية مصر في عهد السيسي: السمات المميزة للإنسان المصري الجديد».. قراءة في دراسة إسرائيليةالشارع السياسي 24 فبراير 2019

[10] عبد الله حامد /تطوير المناهج بمصر.. تعليم بنكهة التطبيع/ الجزيرة نت 10 أكتوبر 2016

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022