في 25 يوليو2020م اتخذت الحكومة الأردنية خطوة بالغة التصعيد ضد نقابة المعلمين؛ مثلت المحطة الثالثة من الصدام مع النقابة؛ حيث قرر النائب العام “حسن العبداللات” وقف عمل النقابة وإغلاق مقراتها لمدة عامين، وأفادت وكالة الأنباء الرسمية “بترا” بأن النائب العام بعمان قرر أيضا إصدار مذكرات إحضار بحق أعضاء مجلس النقابة، ومن ثم عرضهم على المدعي العام المختص، لاستجوابهم عن “جرائم” مسندة إليهم، وهو ما تم بالفعل، إذ تقرر توقيفهم.
ووفق بيان للنيابة العامة، فإن التحقيقات مع أعضاء مجلس النقابة تشمل اتهامات بـ”تجاوزات مالية” و”إجراءات تحريضية”، فيما ينفي قيادات النقابة المعتقلون صحة تلك التهم، وفي اليوم التالي 26 يوليو قرر النائب العام حظر النشر الإعلامي في تطورات قضية نقابة المعلمين في أعقاب اعتقال 10 من قادة النقابة بينهم الدكتور ناصر النواصرة نقيب المعلمين بالوكالة، الخطوة الحكومية استفزت المعلمين ودفعت الآلاف منهم إلى تنظيم وقفات احتجاجية في عدد من المحافظات الأردنية، شهدت مصادمات ردا على الأجهزة الأمنية التي واجهت الاحتحجاجات بعنف بالغ؛ حتى وصل عدد المعتقلين حاليا في صفوف المعلمين نحو 280 معلما.
وبدأت الأزمة بين نقابة المعلمين والحكومة الأردنية في 5 سبتمبر 2019م، في أعقاب استخدام قوات الأمن القوة المفرطة لفض وقفة احتجاجية نظمها معلمون بالعاصمة عَمَّان للمطالبة بعلاوة مالية لمواجهة أعباء المعيشة والغلاء الذي طال جميع أشكال السلع والخدمات، وجرى اعتقال عشرات المعلمين المحتجين، وسرعان ما تصاعدت الأزمة وقرر المعلمون الدخول في إضراب مفتوح عن العمل استمر أكثر من شهر؛ وهو ما مثَّل سابقة أولى في تاريخ المملكة الأردنية منذ إنشائها.
ولفك الإضراب، اشترط المعلمون أن تعتذر الحكومة عما تعرض له زملاؤهم من “انتهاكات”، وتنفذ اتفاق علاوة 50 بالمئة من الراتب الأساسي، قالوا إن نقابتهم توصلت إليه مع الحكومة عام 2014، وهو ما استجابت له الحكومة عبر توقيع اتفاقية مع نقابة المعلمين، في أكتوبر 2019، تضمنت 15 بندا بينها العلاوة المالية.
لكن الأزمة تجددت منتصف أبريل/ نيسان 2020م، في أعقاب إعلان الحكومة “تجميد” العمل بالزيادة المالية المقررة لموظفي الجهازين الحكومي والعسكري لعام 2020، بما يشمل وقف صرف علاوة المعلمين، اعتبارا من 1 مايو/ أيار الماضي، وحتى نهاية 2020، لمواجهة تداعيات أزمة كورونا، واجتمع مجلس نقابة المعلمين، في يونيو 2020م، وأعلن تمسكه بالعلاوة، استنادا إلى أن مرتبات المعلمين هي الأقل بين جميع أجهزة الدولة؛ وأن العودة إلى المرتبات القديمة يجعل من الصعوبة توفير أساسيات الحياة لأسرهم، ليعود المعلمون إلى المشهد مجددا.
يأتي هذا في ظل استمرار تفعيل “قانون الدفاع” وهو قانون طوارئ يتم بموجبه تسيير أعمال الحكومة منذ بدء جائحة “كورونا”، وهذا القانون ليس سوى صيغة مطورة أو مخففة من “الأحكام العرفية”، وليس بينهما خلاف سوى في في بعض الشكليات فقط.
الحكومة الأردنية تبرر هذه الحملة الأمنية غير المسبوقة ضد نقابة المعلمين بفرض هيبة الدولة حيث صرح رئيس الوزراء عمر الرزاز أن الدولة الأردنية لن تسمح لأي طرف أن يستقوي عليها أو أن تستقوي عليه في إشارة إلى الأزمة المتصاعدة بين الحكومة والمعلمين، وفرضت الحكومة تعميما على جميع وسائل الإعلام بحظر النشر في قضية النقابة بناء على قرار قضائي من محكمة صلح عمان؛ ما اعتبره ناشطون تجاوزا صارخا لحرية الصحافة والإعلام وخطوة غير مسبوقة “لتكميم الأفواه”.
كما رفضت الحكومة مبادرة تقدمت بها جماعة الإخوان المسلمين خلال اجتماع ضم وزير الداخلية سلامة حماد بالقيادي في الجماعة حمزة منصور، حيث هدد الوزير الجماعة بعدم المشاركة في فعاليات وأنشطة نقابة المعلمين، فيما أعاد منصور على وزير الداخلية مبادرة أمين الجماعة عبدالحميد الذنيبات للقيام بدور الوساطة بين الحكومة والنقابة؛ لكن الحكومة تجاهلت مبادرة الجماعة زاعمة أن مجلس النقابة رفض طلبا شبه رسمي، لتقديم استقالتهم، وإجراء انتخابات مبكرة، مقابل الإفراج عنهم.[[1]]
انتقادات أممية
وانتقدت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان التصعيد الحكومي الأردني ضد نقابة المعلمين، وقالت في بيان لها 7 أغسطس 2020م، إنّ الإجراءات التي أمر بها النائب العام الأردني، في 25 يوليو/ تموز الماضي، بإغلاق نقابة المعلمين المستقلة، “تشكّل قيداً شديداً على حق حرية تكوين الجمعيات، وتدخلاً غير قانوني في عمل نقابة المعلمين الأردنية كنقابة مستقلة”، وعبرت عن الشعور بالقلق البالغ بسبب قرار السلطات الأردنية إغلاق نقابة عمالية مستقلة، وتعليق مجلس إدارتها لمدة عامين، واستبدال قادتها بلجنة عيّنتها الحكومة لإدارة شؤون النقابة مؤقتاً”، وأضافت أن “اعتقال أعضاء مجلس إدارة النقابة الـ13 بتهم جنائية، بعد أن انتقدوا سياسات الحكومة ووضعوا خططاً لإضراب آخر محتمل بشأن الرواتب، أمر مقلق للغاية.
كما أنّ هناك تقارير مقلقة تشير إلى استخدام قوات الأمن قوة غير ضرورية أو مفرطة، ضدّ مئات المتظاهرين الذين تجمّعوا خارج مكتب رئيس الوزراء في 29 يوليو/تموز، للاحتجاج على اعتقال وإيقاف قادة النقابة”، ودعت المفوضيّة السلطات الأردنية إلى مراجعة قراراتها المتعلّقة بالنقابة في أقرب وقت ممكن، والمراجعة والبتّ على الفور في التطبيقات القانونية التي تطالب بالإفراج عن قادة النقابات الموقوفين وغيرهم من المعلّمين المحتجزين، وحثت الحكومة على الدخول في مفاوضات بحسن نية مع نقابة المعلمين حول مخاوفهم، بدلاً من فرض تدابير تقيّد بشكل غير قانوني الحق في حرية تكوين الجمعيات والتجمع السلمي والتعبير، كما نشجّع المتظاهرين على التظاهر بشكل سلمي والتأكّد من احترامهم للإجراءات الخاصة بمكافحة خطر الإصابة بفيروس كورونا”.[[2]]
أسباب ما جرى مع النقابة
إغلاق نقابة المعلمين في الأردن واقتحام مقراتها واعتقال القائمين عليها لم يكن مفاجئاً بالمطلق بل كان أمراً متوقعاً، وربما تأخر فقط بسبب أزمة “كورونا” التي عطَّلت العالم بأكمله، حيث كان مآلاً متوقعاً لأزمة لم يتمكن طرفاها (النقابة والحكومة) من التوصل الى حل وسط.
ويمكن عزو ما يجري في الأردن حاليا مع نقابة المعلمين إلى أسباب مباشرة وأخرى غير مباشرة، أما الأسباب المباشرة فيمكن تفسيرها بسببين:
الأول، هو أنَّ النقابة نفذت أطول وأخطر إضراب عن العمل في تاريخ الأردن، وهو الإضراب الذي استمر نحو ستة أسابيع وعطل بدء العام الدراسي الماضي (2019 ــ2020م) بشكل غير مسبوق، واضطرت الحكومة من أجل إنهائه للاستجابة لمطالب المعلمين التي كان من بينها تقديم اعتذار علني لهم، ويعتبر النظام الأردني “الإضراب عن العمل” أو الاعتصام المفتوح من الخطوط الحمراء، لا يمكن أن تقبل بها الدولة ولا أجهزتها الأمنية، ومن يقرأ تاريخ الأردن يفهم هذه القاعدة جيداً، إذ لم تتردد الحكومة في استخدام القوة عندما نفذ حملة شهادات الدكتوراه “اعتصاماً مفتوحاً” رغم أن عددهم كان محدوداً وليس معطلاً، كما سبق أن استخدمت أجهزة الأمن القوة أكثر من مرة في احتجاجات نفذها طلبة جامعات بدعوى أنه يعطل العملية التعليمية أو المرور أو استمرار الاحتجاجات لفترة طويلة ترى فيها الحكومة تهديدا لاستقرارها.
ولم يحدث في تاريخ الأردن أن لجأت أية نقابة للإضراب عن العمل، كما لم يحدث منذ تأسيس الدولة أن قررت أية حركة سياسية أو حزبية الدعوة للإضراب عن العمل، ذلك أن هذا كان خطاً أحمر تجاوزته نقابة المعلمين، وكان واضحاً يوم السادس من أكتوبر 2019 عندما انتهى الإضراب بأنها -أي النقابة- ستدفع ثمن ذلك لاحقاً.[[3]]
أما السبب الثاني، فهو أنَّ مطلب رفع رواتب المعلمين وبالرغم من كونه مطلبا عادلا ومُحقا، إلا الحكومة ترى في الاستجابة له مضاعفة العجز المزمن في الموازنة العامة للدولة التي تراجعت مواردها بفعل تفشي جائحة كورونا من جهة وتوقف المساعدات الخليجية للحكومة الأردنية منذ 2014م.
تحريض إماراتي
أما الأسباب غير المباشرة والتي يمكن أن تكون السبب الأهم في هذه الأزمة هو التحريض الإماراتي المتواصل للنظام في الأردن ليحزو حزو باقي عواصم تحالف الثورات المضادة بشأن الإجهاض المبكر لأي تطلعات شعبية نحو الديقراطية واستهداف الحركات الإسلامية عبر شن حرب استئصال عليها وخاصة جماعة الإخوان المسلمين التي تؤمن بالديمقراطية كآلية لا تتناقض مع أحكام الشريعة الإسلامية لاختيار الحكام وحماية إرادة الشعوب من الاغتصاب من جانب الطغاة والمستبدين من الحكام.
فقبل التصعيد الحكومي الأخير ضد نقابة المعلمين، شهد يوليو 2020م، ثلاثة تطورات كان لها بالغ الأثر وإشعال الأزمة بين الحكومة والمعلمين، أولها الزيارة التي قام بها العاهل الأردني الملك عبدالله بن الحسين للإمارات، والتي أعقبها حكم قضائي أردني بحل جماعة الإخوان المسلمين في منتصف يوليو، والتطور الثالث هو التصعيد الإعلامي ضد نقابة المعلمين التي تضم نحو 140 ألف معلم، والزعم أنها تدار من جانب الإخوان رغم أن مجلس النقابة الذي يضم 13 شخصا من مختلف التوجهات ليس بينهم سوى ثلاثة فقط ينتمون إلى الجماعة.
التصعيد الأردني جاء بعد يومين فقط من زيارة العاهل الأردني لأبو ظبي، حيث تم إعلان حالة الطوارئ في الأجهزة الأمنية ووقف الإجازات، في اليوم التالي تم إغلاق كافة مقرات نقابة المعلمين في كل أنحاء الأردن، ووضع اليد على تلك المقرات واعتقال اللجنة المنتخبة كاملة بكل أعضائها، الأمر الذي لاقى غرابةً واستهجاناً، خصوصاً لعدم وجود تفسيرات قانونية وسياق طبيعي لاعتقال أعضاء مجلس منتخب لنقابة، لتكون سابقة لم تمر على تاريخ الأردن، باعتقال كافة أعضاء المجلس.
وقبل الحملة وأثناءها قام الإعلام الإماراتي بتحريض واسع بهذا الشأن وأبدي تجاوبا واسعا وترحيبا كبيرا بكل إجراء يستهدف تقليص هامش الحريات وتكميم الأفواه كما يستهدف الإسلاميين عموما والإخوان على وجه الخصوص، وتقف الإمارات على رأس العواصم العربية التي تقود تحالف الثورات المضادة لإجهاض أي توجه ديمقراطي في أي بلد عربي حتى تبقى المنطقة أسيرة التخلف والظلم والاستبداد، وهو ما يصب مباشرة في خدمة الأجندة الصهيونية والأمريكية ومصالح الغرب والقوى الدولية بشكل عام.
وأبدى الإعلام الإماراتي فرحة كبيرة بهذه الحملات الأمنية التي تقسم المجتمع الأردني وتشق صفه وتهدد وحدته الوطنية، بل إن صحيفة “إندبندنت عربية” التي تمثل ذراعا إعلاميا إماراتيا كانت أول من كشف توجهات الحكومة الأردنية نحو حل نقابة المعلمين قبل القرار القضائي بيوم ونسبت هذه الأنباء إلى مصادرها الخاصة، كما تلقفت الإمارات وآلتها الإعلامية القرار القضائي بحل جماعة الإخوان الأردنية واحتفت به وأخرجته من سياقه واعتبرته “حملة أردنية للتخلص من الجماعة”.
وروجت الآلة الإعلامية التابعة لأبو ظبي وعواصم تحالف الثورات المضادة أن “النقابة ترتبط بجماعة الإخوان المسلمين، لأن نقيبها بالوكالة ناصر النواصرة، ينتمي للجماعة”، واعتبرت أن الهدف من وراء ذلك هو “استكمال حملة بدأتها السلطات لتقليم أظافر جماعة الإخوان”.
قناة “سكاي نيوز عربية” (مقرها أبو ظبي)، هي الأخرى تصدرت الهجوم على النقابة، فمنذ اللحظة الأولى لقرار القضاء الأردني ألحقت جميع أخبارها المتعلقة بالنقابة بـ”الفساد والخطاب التحريضي الإخواني”، أما موقع “العين الإخبارية” الإماراتي، فلم يخف هو الآخر أجندة أبو ظبي تجاه الجماعة، وعكف على نشر متابعات وتحليلات ركزت على ربط نقابة المعلمين بجماعة الإخوان، وباتهامات الفساد، إلا أن تلك التقارير التي ربطت نقابة المعلمين بجماعة الإخوان المسلمين، وحاولت التروج لانتصار “زائف” ضد الجماعة، قوبلت بهجوم رواد مواقع التواصل بالأردن على الإمارات، وأكدوا “عدم وجود أي علاقة بين الجماعة والنقابة التي تمثل عشرات الآلاف من المعلمين”؛ حيث ينضوي تحت نقابة المعلمين بالأردن نحو 140 ألف معلم، اختاروا ممثلهم في انتخابات ديمقراطية عام 2019، فاز فيها النقيب أحمد الحجايا، وهو لا ينتمي لجماعة الإخوان، إلا أنه توفي بحادث سير في أغسطس/ آب من العام الماضي،وبعد وفاة الحجايا تولى منصب نقيب المعلمين بالوكالة نائبه ناصر النواصرة.وانتماء النواصرة لجماعة الإخوان لا يعني أن النقابة تعمل وفقا لأجندة حزبية كما روجت وسائل الإعلام الإماراتية، فالنقابة التي تأسست عام 2011، ينتسب إليها نحو 140 ألف معلم من انتماءات مختلفة، ويديرها 13 عضوا كل منهم لديه توجه مختلف، وفق مراقبين.[[4]]
حراك مهني قد يتحول لسياسي
حراك المعلمين في المحافظات الأردنية مهني بامتياز لكنه قد يتحول إلى حراك سياسي، ذلك أن الحكومة الأردنية تذرعت بتفشي جائحة كورونا كما ادعت أن النقابة تصر على صرف العلاوة التى جرى تأجيلها إلى بداية العام المقبل ولكن هذه الكلام غير صحيح فالنقابة أبدت استعدادها أن تقبل بما قبلت به كل كوادر الدولة الأردنية.
واستغلت الحكومة الأردنية هذه الأزمة مع النقابة وظروف قانون الدفاع الجديد ووسعت دائرة الاعتقالات والمداهمات لتصل إلى عناصر وكوادر جبهة العمل الإسلامي وإلى رؤساء الفروع في الحزب ورؤساء اللجان المركزية وباتت المسألة سياسية بامتياز اتساقا مع توجهات الحكومة والنظام الأردني.
هذه الحملة التي بدأت مهنية يراد لها من جانب الحكومة أن تتحول إلى سياسية من أجل تبرير استهداف جماعة الإخوان المسلمين؛ حيث تتزامن مع إعلان العاهل الأردني إجراء الانتخابات البرلمانية في الــ10 من نوفمبر المقبل “2020م”؛ فكيف يمكن التوفيق بين إرادة ملكية بالتوجه نحو عملية ديمقراطية وانتخابات مباشرة وبين هجوم أمني كاسح على الحريات العامة واعتقال المواطنين واعتقال كوادر حزب جبهة العمل الإسلامي وكل الرموز المحركين للعملية الانتخابية”؟.
الأرجح أن الهدف هو خلق أجواء من الترهيب والخوف بما يعزز دوافع المعارضة نحو مقاطعة هذه الانتخابات المقبلة، وبما يضمن هيمنة النظام الأردني على كل مفاصل العمل السياسي وتكريس الصوت الواحد وإنهاء حقبة العقلانية الأردنية التي مثلت استثناء خلال العقد الماضي في ظل ذروة انتصارات تحالف الثورات المضادة واتسمت بالمرونة التي جنبت البلاد الانزلاق في كثير من الأزمات.
هل اقترب أفول مرحلة العقلانية الأردنية؟
صحيح أنّ الأردن ليس دولة ديمقراطية بالمعنى المعروف؛ تداول سلطة، وتعدّدية سياسية، وحكومات برلمانية منتخبة، وحريات سياسية وحقوق إنسان، لكنّه، في الوقت نفسه، لم يكن في أيّ وقت سلطوية دموية، يمكن أن ينطبق عليه وصف “شبه سلطوية” أو “شبه ديمقراطية”، وخلال العدوان الوحشي الذي شنه تحالف الثورات المضادة على الربيع العربي وقيم الحرية والديمقراطية واستهداف الحركات الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، لم تنزلق الأردن إلى مستويات الوحشية التي اتسمت بها عواصم أخرى مثل أبو ظبي والرياض والقاهرة ودمشق، ومثلت حالة استثنائية في تعاملها أطلق عليها الإعلام الغربي “الاستثنائية الأردنية” التي تقوم على طريقة مختلفة عن باقي الدول العربية في إدارة الأزمات، من خلال المرونة في الاستجابة للشارع، وتجنّب السياسات العنيفة ذات الطابع الأمني الخشن.
اليوم يخشى عقلاء الأردن ومفكروه المخلصون على هذا النموذج الاستثنائي الذي يواجه اختبارا حقيقيا في الأزمة المتدحرجة بين الحكومة والمعلمين؛ فحل النقابة ومواجهة احتجاجات المعلمين بعنف مفرط واعتقال المئات منهم، وفرض حراسة حكومية على النقابة لمدة عامين، ثم حظر النشر إعلاميا ومحاولة الزج بالإخوان المسلمين في الأزمة كمبرر لضربها سياسيا عبر الأدوات الأمنية قبل الانتخابات البرلمانية المقررة في نوفمبر المقبل، كلها خطوا تصعيدية تحمل مؤشرات لانتهاء مرحلة “الاستثنائية الأردنية” والتوجه نحو تبني خيارات أكثر سلطوية جرى تجريبها في عواصم تحالف الثورات المضادة وأنتجت نماذج بالغة القمع والبؤس والفشل وعصفت بوحدة مجتمعاعتها من أجل تكريس سلطويات قمعية شمولية.
الاستثنائية الأردنية جنبت البلاد عواصف عاتية خلال العقد الماضي رغم كل الظروف الاقتصادية والمالية والسياسية المتوترة وسمحت بعبور محطّات خطيرة أطاحت بأنظمةً عربية، بل والاستقرار السياسي والوحدة الجغرافية لدول أخرى، فلماذا العودة إلى سيناريو لا يتسق مع الحالة السياسية الأردنية التاريخية، ولا طبيعة المجتمع الأردني ولا حتى أسلوب نظام الحكم في إدارة الأزمات؟ الأمر على هذا النحو يثير كثيرا من التساؤلات حول الدوافع الحقيقية للنظام الأردني من هذه الحملة الأمنية ومداها وأهدافها وهل يمكن أن تصل إلى مستوى العصف بالنموذج الأردني الاستثنائي الذي اعتمد على الحوار والتواصل لحل المشكلات التي انفجرت خلال السنوات الماضية؟
المسألة على هذا النحو تتجاوز أزمة الحكومة مع المعلمين، لأن القصة في جوهرها تتعلق بإدارة الأزمة ذاتها، وهل ستخضع لمنطق “تكسير العظام” أم منطق التفاهمات والحوار والمفاوضات، النتيجة الواضحة للطريقة الحالية لإدارة الأزمة ستؤدي إلى إحدى نتيجتين[[5]]:
- الأولى، إخماد آني لاحتجاجات المعلمين، والنجاح في إلغاء النقابة، ولكن ما النتيجة؟ مراكمة الأزمات وتضخّم حجم الشعور بالإحباط والغضب لدى شرائح اجتماعية عريضة، من عشرات آلاف من المعلمين، وعشرات آلاف من الشباب العاطل عن العمل، والحراكيين والإخوان المسلمين، بالتزاوج مع تنامي الشعور بالتهميش لدى محافظات عديدة، وتجذّر الفجوة الطبقية. إنّها باختصار وصفة لسيناريو خطير قادم.
- الثانية، هي تدحرج الأزمة وتطوّرها، وإطاحة الحكومة الحالية على وقعها، وحلّ مجلس النواب، ولكن مع بقاء الجميع واقفاً على أطراف أصابعه، مترقباً تطور الأمور وتحميل الحكومة القادمة أعباء كبيرة قبل أن تبدأ، وإجراء الانتخابات النيابية في ظل حالة سياسية احتجاجية كبيرة.
الخلاصة ..
جوهر الأزمة في الأردن أن هناك شعورا بالمرارة في أوساط رسمية من نتيجة الأزمة السابقة مع المعلمين، ومن الاتفاقية التي توصلت إليها الحكومة مع النقابة، وخشية رسمية واضحة من أن يصبح ذلك عنواناً لتنمّر أو تمرّد فئات أخرى من القطاع العام على الدولة، وبالتالي الوقوع في فخّ خطير من الأزمات التي تحمّل الموازنة العامة ما لا تحتمل.
في المقابل فإن الوصفة الحالية والخطوات التصعيدية من جانب الحكومة ساهمت في مزيد من التأزيم ولم جعلت المشكلة مركبة وبالتالي خلقت قاعدة اجتماعية كبيرة وصلبة لحراك احتجاجي جديد، وبالتالي فمن الضروري على العاهل الأردني وحكومته وجميع الأطراف إعادة قراءة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بأفقٍ مختلف، والإقرار بأنّ هنالك تغييرات كثيرة تستدعي استجابةً سياسيةً تتطلب اتجاهاً معاكساً لما يحدث حالياً، والأفضل لمستقبل الأردن أن يتجه نحو انفتاحة سياسية وتجديد العملية السياسية بما بمنحها قدرة على امتصاص الأزمات، واستيعاباً للنخب الجديدة في المجتمع، وإدماجها في الدولة وليس العكس.
وبالتالي، فإن التصعيد الأردني يمكن أن يفضي إلى محاكمة قادة نقابة المعلمين وإصدار أحكام قضائية بشأنهم لجعل النقابة الأكبر في البلاد عبرة لغيرها وتخويف باقي النقابات من التنمر أو التمرد على الحكومة لكن ذلك كفيل بتفخيخ المجتمع وتوفير البيئة الملائمة للانفجار المجتمعي الذي تجنبه عمَّان خلال العقد الماضي. وهذا ما يتفق مع تقدير الموقف الذي نشره مركز “ستراتفور” الأمريكي في تحليل المشهد الأردني والذي يحذر من أن المعالجة الخاطئة للأزمة من جانب الحكومة الأردنية إضافة إلى الوضع الاقتصادي السيئ لن يؤدي فقط إلى المزيد من مظاهرات المعلمين بل ربما يفضي إلى مزيد من الاحتجاجات الواسعة التي يمكن أن تتحدى قدرة الحكومة على قمعها.[[6]]
المؤشرات تؤكد توسع الحكومة والعمل على تحويل التصعيد من أزمة فئوية نقابية إلى أزمة سياسية بهدف تبرير استهداف جماعة الإخوان المسلمين؛ لأجبارها على مقاطعة الانتخابات البرلمانية المرتقبة في نوفمبر المقبل.
حتى حين إجراء هذه الانتخابات فإن التصعيد الأردني سوف يتواصل ضد الحريات والإسلاميين، وربما يهدأ بعد ذلك، لكن من المستبعد وفقا لملامح التجربة الأردنية خلال السنوات الماضية ألا يصل الصدام الحكومي مع الإسلاميين والإخوان إلى مستويات القمع الوحشي كالذي شهدته مصر.
لكن إذا انهارت الأوضاع الاقتصادية بشدة في الأردن مع تداعيات تفشي جائحة كورونا والشلل التام الذي ضرب قطاع السياحة، فربما تعقد أبو ظبي مع العاهل الأردني صفقة تقتضي سحق الإسلاميين مقابل إنقاذ اقتصاده المتدهور، وفي هذه الحالة فليس من المستبعد أن يحزو العاهل الأردني حزو السيسي وإن بدرجة أقل في مستوياع القمع والوحشية.
الأردن اليوم يحتاج أكثر ما يحتاج إلى حماية دولته قوية متماسكة؛ وقوة الدول هي انعكاس لقوة مجتمعاتها وصلابة العلاقة بين النخبة الحاكمة وفئات الشعب المختلفة دون إقصاء أو تهميش أو تمييز لاعتبارات دينية أو طائفية أو سياسية، الأمر الذي يستلزم تجديد المشروع الوطني السياسي للدولة ورسالتها السياسية، وخطواتٍ نحو تمكين جيل الشباب سياسياً، ليكونوا في مواقع القيادة، وتطوير الرواية الإعلامية وتجويدها، فمثل هذه الخطوات هي التي يمكن أن تشكّل قفزة نوعية إلى الأمام، فهل يعلو صوت العقل والحكمة، على نزعات الشيطنة والكراهية؟ وهل يعصم أولو الرشد والخبرة الأردن من الانزلاق وراء وساوس شيطان العرب وشلة تحالف الثورات المضادة؟
[1] محمود الشرعان/ تصعيد متبادل واعتقالات بالمئات.. إلى أين تتجه أزمة المعلمين بالأردن؟/ الجزيرة نت 10 أغسطس 2020
[2] الأمم المتحدة: إغلاق نقابة المعلمين الأردنيين “غير قانوني”/العربي الجديد 07 اغسطس 2020
[3] محمد عايش/ هذه هي أزمة نقابة المعلمين في الأردن/ “عربي 21” السبت، 25 يوليو 2020
[4] نقابة معلمي الأردن.. الأزمة في عمان والاحتفال في أبو ظبي (تقرير)/ وكالة الأناضول 27 يوليو 2020// المعلمون والإخوان والملك.. أصابع الإمارات تغذي الأزمة في الأردن/ الخليج الجديد الثلاثاء 4 أغسطس 2020
[5] محمد أبو رمان/ في حماية “الاستثنائية الأردنية”/ العربي الجديد 04 اغسطس 2020
[6] ستراتفور: اضطرابات واسعة بانتظار الأردن بعد قمع الحكومة لنقابة المعلمين/ الخليج الجديد الأربعاء 5 أغسطس 2020