الأحد الماضي، بدأت الجلسات التمهيدية لطاولة الحوار السياسي الليبي بين ممثلي مجلسي النواب والدولة الليبيين”5 ممثلين عن كل طرف” في المملكة المغربية، في وقت بدأت بالتوازي جلسات أخرى بين شخصيات ليبية في العاصمة السويسرية جنيف، ضمن مسارات البحث عن حل سياسي للأزمة الليبية بإشراف الأمم المتحدة. وقد اقترب وفدا الحوار الليبي في مدينة بوزنيقة المغربية من التفاهم بشأن تطبيق المادة 15 من اتفاق الصخيرات التي تتعلق بالمؤسسات الرقابية، والاستفتاء على الدستور الليبي. وتضمنت المشاورات غير الرسمية، والتي جرى تمديدها إلى يوم الثلاثاء 8 سبتمبر، قواعد ترشيح شاغلي المناصب السيادية، وتحديداً محافظ البنك المركزي وديوان المحاسبة والمؤسسة الوطنية للنفط وهيئة مكافحة الفساد، قبل أن يرجع الوفدان إلى قواعدهما في طرابلس وطبرق لمناقشة الأسماء المقترحة، فيما سترجأ مناقشة الملفين الآخرين بشأن الأوضاع في مدينة سرت وإخلائها من السلاح إلى ما بعد انتهاء مشاورات اللجنة العسكرية الليبية المشتركة 5 + 5 والتي تجرى برعاية الأمم المتحدة”.
وفي مدينة جنيف بسويسرا تتفاعل أيضا التفاهمات، بين قادة سياسيين يمثلون مختلف الشرائح والأطياف الليبية، برعاية أممية، لمواصلة الجلسات التي بدأت وتوقفت في اليوم ذاته مطلع فبراير الماضي، بسبب عزوف بعض ممثلي الأطياف الليبية في تلك الآونة عن المشاركة. وبحسب دبلوماسيين غربيين، فإن “الهدف من هذا الحوار في جنيف هو تقريب وجهات النظر بين مختلف الأطياف الليبية بهدف وضع تصور للمجلس الرئاسي الجديد وحكومة وحدة وطنية”، دون أن “يكون لهؤلاء الممثلين صلاحية لاختيار أعضاء المجلس الجديد والحكومة بقدر ما هي جلسة تفاهمات لوضع تصورات بإشراف الأمم المتحدة التي ستنقلها إلى ممثلي مجلسي النواب والدولة خلال الجلسات الرسمية بينهما.
واتفقت معلومات مصادر ليبية من طبرق وطرابلس على أن المحادثات في بوزنيقة المغربية وتلك الجارية في جنيف السويسرية ستسيران بالتوازي لبحث ملف المناصب السيادية وإعادة تشكيل المجلس الرئاسي، وأن طاولة الحوار الرسمية بين مجلسي النواب والدولة ستُعقد في جنيف بدلاً من ضاحية بوزنيقة المغربية التي تستضيف حالياً جلسات تمهيدية لطاولة الحوار الأساسية، وبينما رجّحت المصادر أن تنتقل الجلسات من المغرب إلى العاصمة السويسرية نهاية الأسبوع الجاري أو مطلع الأسبوع المقبل، أكّدت أن اجتماع الفرقاء حول طاولة حوار سياسي جديدة متوقف على توصل اللجنة العسكرية المشتركة 5 + 5 لخطة واضحة لإخلاء سرت من السلاح والبدء في تطبيقها كبادرة حسن نية من طرفي الصراع (مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر وقوات الوفاق)، للقبول بنتائج طاولة الحوار.
ترحيب دولي
وأعلن الوفدان اللذان يمثلان المجلس الأعلى للدولة (الداعم لحكومة الوفاق التي تسيطر على غربي ليبيا)، ومجلس النواب بطبرق (الداعم لسلطة الجنرال “خليفة حفتر” شرقي البلاد)، في بيان مشترك، أنهما يرغبان في تحقيق توافق يقود ليبيا إلى بر الأمان. ومن جهته، رحب الاتحاد الأوروبي بأي حوار من شأنه الإسهام في استئناف الحوار السياسي بين فرقاء الأزمة في ليبيا، وأكد المتحدث باسمه “بيتر ستانو”، الترحيب بأي مبادرة تندرج ضمن مسار مؤتمر برلين ومظلة الأمم المتحدة. فيما دعا وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف”، الإثنين الماضي، إلى وقف فوري لإطلاق النار في ليبيا، وقال إن موسكو تريد تسوية الصراع عبر الحوار.
وفي سياق متصل، استقبل رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية “فائز السراج” وزيرةَ الخارجية الإسبانية “أرانشا جونزاليس” في طرابلس. وأكدت الوزيرة الإسبانية دعم بلادها لبيان “السراج” بشأن وقف إطلاق نار، ونزع السلاح في مناطق سرت والجفرة والهلال النفطي، واستئناف إنتاج وتصدير النفط، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في مارس 2021 المقبل. فيما جدد الرئيس التركي رجب اردوغان، دعمه لإنجاح مسار التسوية السياسية ليصل الليبيون عبر التوافق إلى مسار دستوري وانتخابات تشريعية ورئاسية، بيننما غاب الموقف المصري، الذي جرى تغييبه وتهميشه بعد أن فقدت القاهرة حيادها بين الفرقاء الليبيين، وهددت بالاجتياح العسكري.
عراقيل السلام
ارتباك موقف حفتر
وبحسب مراقبين، فإن صمت حفتر على وجه الخصوص سيبقى يلقي بظلاله على قدرة الأطراف على فرض نتائج حوارها عليه وهو الطرف الذي لا يزال يمتلك سلاحاً وأطرافاً دولية داعمة له، ممثلة في روسيا والإمارات ومصر، بل بات عقيلة صالح واقع تحت ضغوط حفتر الذي لا يزال يتلكأ في القبول بحل نزوع السلاح في منطقتي سرت والجفرة، حيث يرى أنه حل سيفقده السيطرة على المنطقتين، ما يعمق هزيمته العسكرية، لكن الصحافية الليبية نجاح الترهوني، رأت أنّ الحراك الأوروبي، لا سيما من الجانب الإيطالي بخلفية ضوء أخضر أميركي، لن يستمر معه الموقف المتردد من جانب صالح، والمتصلب من جانب حفتر، لوقت طويل. واعتبرت الترهوني، أنّ شروط صالح المتعلقة بإيرادات النفط “مجرد شماعة للعرقلة، إلى حين وضوح المواقف الدولية، خصوصاً الموقفين الروسي والإماراتي، ويعتمد حفتر على دعم مسلحي شركة ” فاغنر” الروسية لمليشياته في منطقتي سرت والجفرة، كما أن مسلحي “فاغنر” يسيطرون على غالبية حقول وموانئ النفط القريبة من المنطقتين، بعد تراجع مواقف عدد من الدول التي كانت تقدم له دعماً سياسياً وعسكرياً في السنوات الماضية، وهو ما يمثل مصدر قوة لحفتر على الأرض .
وخاض حفتر على امتداد 14 شهرا حربا طاحنة خاسرة ضدّ حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، كلّفت الليبيين غاليا، وعانى ويلاتها آلاف المدنيين والعسكريين الذين توزّعوا بين قتيل وجريح. فيما فقد آخرون منازلهم وضيعاتهم ومصادر رزقهم، ونزحوا من مدينة إلى أخرى، أو غادروا البلد طلبا للسلامة. وتركت تلك الحرب العبثيّة الدّامية نُدوبا وجروحا قد لا تندمل إلا بعد إعمال العدالة الانتقالية في ليبيا. ووجد حفتر نفسه بعد معارك “الفتح المبين” خارج مفاوضات التسوية السياسية، واقترنت صورته في الوعي الجمعي عموما، وفي الغرب الليبي خصوصا، بصورة الشخص الانقلابي، الميّال إلى اعتماد القوّة بدل الحوار في حلّ الأزمات. وتزايدت عزلته في الداخل والخارج، بعد فشل مشروع تفويضه لقيادة ليبيا. وبدا واضحا بعد هزيمته عند أسوار طرابلس أنّ حلفاءه الدوليين راجعوا حساباتهم نسبيّا، وتخلّوا عنه، ولو إلى حين، واستبدلوه بعقيلة صالح حفاظا على مصالحهم، وبحثا عن مخرج سياسي للأزمة الليبية. ويبدو أنّ المبادرة الجديدة لوقف إطلاق النار وإقرار السلم لا تروقه، ومن غير البعيد أن يعمد وأتباعه إلى إفشالها. وذلك لأنّها استثنته من مشاورات التسوية السياسية، ولأنّها تنصّ على نزْع السلاح من منطقتي سِرت والجُفْرة الاستراتيجيتين، وتحرير الهلال النفطي من سطوة المليشيات الموالية له بهدف استئناف إنتاج النفط وتصديره. وتحقيق هذين المطلبين يعني عمليّا نهاية نفوذ خليفة حفتر، وبسْط الدولة الليبية سيطرتها على كامل التراب الليبي. لذلك سيقف الجنرال المتقاعد وفلوله حجر عثرة أمام تنفيذ اتفاق السرّاج/عقيلة.
ملشيات المرتزقة
على صعيد آخر، يزيد الحضور المكثّف للمرتزقة في ليبيا، بحسب تقارير متواترة للأمم المتّحدة، من تعقيد المشهد الليبي ويُنذر بإرباك الهدنة الجديدة، فالثابت أنّ خليفة حفتر بعد أن تمّ استنزاف كتائبه في مغامرة اقتحام طرابلس الفاشلة، وبعد أن فقد مجنّدين كثيرين منحدرين من القبائل الشرقية، استمرّ في استقدام مرتزقةٍ من شركة فاغنر الأمنية الروسية الخاصّة، وفي انتداب مقاتلين من الجنجويد والتشاديين والسوريين. ويتمركز مرتزقة حفتر في منطقتي سرت والجفرة وفي الهلال النفطي، خصوصا في حقلي الشرارة وراس لانوف. ومن الصعب أن يتزحزح هؤلاء طوْعا من مناطق نفوذهم لأنّهم يتقاضون مبالغ كبيرة شهريا، ولأنّهم لا يأتمرون بأوامر حفتر حصْرا. بل يخدمون أجندات دول أجنبيّة وقوى إقليمية، توظّفهم لتحقيق مصالحها في ليبيا. ومعلومٌ أنّ التسابق على الاستيلاء على منابع النفط يندرج في سياق الصراع الدوْلي على ثروات ليبيا. لذلك يبدو تحييد المرتزقة وتجريدهم من السلاح وإجبارهم على العوْدة من حيث قدموا أمرا غاية في الصعوبة، لأنّ المرتزقة أنفسهم ومَن وظّفهم إنّما يرومون استدامة الصراع في ليبيا لا إنهاءه، تحقيقا لمصالحهم الضيّقة على حساب الشعب الليبي.
فوضى السلاح
كما أن الدولة في ليبيا لا تحتكر عمليّا استخدام السلاح. وتعجّ البلاد بحوالي 29 مليون قطعة سلاح، بين خفيفة ومتوسطة وثقيلة. بحسب تقديرات أممية ، وتلك الأسلحة في حوزة مليشيات مسلحة، بلغ عددها نحو 1600 مليشيا، منتشرة في غرب البلاد وشرقها وجنوبها. وهذه الفصائل المدجّجة بالسلاح ذات خلفيات أيديولوجية مختلفة، وولاءات مذهبية وجهوية وقبائلية متباينة، ولا تحكمها عقيدة عسكرية متماثلة. ويشكّل إمكان اندلاع صراع بينها على النفوذ أو الأرض أو الثروة تهديدا حقيقيا للعمليّة السياسية. ومن ثمّة، سطوة المليشيات، وعدم وجود جيش نظامي، احترافي، موحّد في ليبيا، واستمرار تدفّق السلاح على طرفي الصراع (قوّات حكومة الوفاق الوطني وكتائب حفتر) في البلاد، برّا وبحرا وجوّا، وسيزيد من احتمالات انتهاك وقف إطلاق النار، وسيجعل تحويل الهدنة إلى سلام مستدام مطلبا صعبا يقتضي من الأمم المتحدة والقوى الدولية الفاعلة والفرقاء الليبيين ضبْط خطّة لنزْع السلاح، ومراقبة حظْر نشره وتوريده وبذل جهود لحصْر السلاح في يد الدّولة، ومأسسة العمل العسكري في إطار جيش نظامي احترافي، يحمي السيادة الوطنية والعملية الديمقراطيّة، ولا ينقضّ على مدنية الدولة، بل يحرس التعدّدية، والتداول السلمي على السلطة.
خلافات بالغرب الليبي
ظهرت تصريحات عدّة من قادة ليبيين، مؤخرا، تعليقاً على المباحثات الجارية في المغرب بشأن ملف المناصب السيادية، ما يشير إلى أن اختيار الأسماء الشاغلة هذه المناصب، سيثير جدلاً وربما يلقى معارضة من بعض الأطراف، بحسب الباحث الليبي في العلاقات الدولية مصطفى البرق، وفي الوقت الذي شدّد فيه المتحدث الرسمي باسم مجلس نواب طبرق، عبد الله بليحق، في تصريحات صحفية، على أن مهام الوفد الممثل لطبرق “الوصول لتفاهمات حول توزيع المناصب السيادية فقط والرجوع بها إلى مجلس النواب والتمهيد لانطلاق الحوار السياسي برعاية بعثة الأمم المتحدة”، طالب عبد الرحمن السويحلي، الرئيس السابق للمجلس الأعلى للدولة ورئيس حزب الاتحاد من أجل الوطن، بـ”تكليف مؤسسة عالمية متخصصة باختيار الأفضل لتولى المناصب الفنية العليا من خلال منافسة شفافة بين أصحاب الكفاءة من الليبيين”، وذلك “لحماية الموارد وتعزيز الرقابة والتصدي للفساد بعيداً عن التسييس ومساومات تحت الطاولة”، بحسب ما جاء على صفحته الرسمية.وتزامناً مع ذلك لا تزال كتلة نيابية داخل المجلس الأعلى للدولة بطرابلس تعارض “تفرد” رئيس المجلس بقرار ترشيح الوفد الممثل للمجلس في جلسات المغرب، بل هدّد عضو المجلس الأعلى للدولة، بلقاسم قزيط، بالمطالبة بعقد جلسة لسحب الثقة من رئيس المجلس، خالد المشري، في حال تراجع عن قراره.
تطورات الميدان في سرت والجفرة
وفيما يسعى المسار الحواري بين المغرب وسويسرا، والذي يتضمن ضرورة توحيد المناصب السيادية بتعيين شاغلين جدد متفق عليهم، قبل الذهاب إلى الحديث عن تشكيل مجلس رئاسي جديد بثلاثة رؤوس وحكومة خدمية منفصلة، يتخوف مراقبون من مستجدات الميدان خصوصاً في سرت والجفرة واستمرار الغموض بشأنهما حتى الآن، وهو ما يمثل عائق أمام التوصل إلى تفاهمات لتسوية جديدة. من ضمن العراقيل، ايضا، أن مجلس نواب طبرق الذي لا يزال قريباً من حفتر يسعى لعدم تسليم سرت ومناطق النفط لخصومه في غرب البلاد بعدة وسائل، منها خلق مجلس رئاسي جديد وحكومة منفصلة، ومنها اقتراح سرت عاصمة جديدة للبلاد والتوقف عند هذه النقطة، وهو الأمر الذي رد عليه السراج وحلفاءه في طرابلس بالموافقة، على خيار مجلس رئاسي وحكومة جديدين لكنهما مؤقتين ومواصلة الحوار للتوافق حول قاعدة دستورية لبدء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة.
أيضا، وفي 2 سبتمبر الجاري، أطلقت قوات حفتر صواريخ على مواقع في تخوم مدينة سرت، في وقت لا تزال فيه الجهود الدولية تعمل على دفع الأطراف الليبية إلى التوصل إلى تثبيت نهائي لوقف إطلاق النار في ليبيا، وسط استمرار رفض حفتر مساعي الوقف النهائي للاقتتال.
الدور الروسي والفيتو الاماراتي من أجل حفتر والنفط
أيضا من ضمن العراقيل، فيعتبر خبراء ان تراجع الحديث عن الجفرة وأوضاعها العسكرية يعد مؤشراً واضحاً على استمرار وجود روسيا وداعمي حفتر عسكرياً في البلاد، ما يعني استمرار عوامل التشويش لعرقلة أي جهود لا تكون في صالح الأطراف الداعمة لحفتر. كما لا يزال حفتر يمتلك حلفاء من قبائل شرق ليبيا سيوفرون له الدعم إذا تعلق الأمر بالنفط، وداعمين قبليين في شرق البلاد، وعلى رأسهم أبوظبي لا تزال مصرة على الإبقاء على حفتر في المشهد، وقد تضغط باتجاه عرقلة وقف نهائي لإطلاق النار عبر ورقة النفط وإرجاء استئناف ضخه.
وفي مواجهة عراقيل حفتر وحلفائه، توجد العديد من المحفزات نحو السير بالمباحثات لبر التفاهمات، ومنها؛
الوجود الأميركي
الذي يعتبره خبراء وراء تسريع خطوات اللقاءات الليبية برعاية الأمم المتحدة، ونجح حتى الآن في إقناع الأطراف الليبية بشأن ملفي المناصب السيادية وملف المجلس الرئاسي والحكومة بعد إخلاء سرت من السلاح لكن الصعوبة تتمثل في قبول معسكر شرق ليبيا، بما فيه حفتر وصالح، بانتخابات رئاسية وبرلمانية سيكون من أهم نتائجها إنهاء شرعية حفتر وقواته، كما خسارة الأطراف الداعمة حفتر ورقة مجلس النواب كطرف سياسي يتحركون من خلاله في الملف الليبي.
الأزمة الاقتصادية
وتعد أكبر المحفزات للتفاهم وانهاء حالة الحرب التي تعيشها ليبيا، وذلك ما عبرت عنه تظاهرات الشرق والعرب الليبي المطالبة بحلحلة الأوضاع الاقتصادية، والمعبرة عن عدم قدرة الشعب على تحمل تبعات الاحتراب الاهلي.
التفاهمات التركية الروسية
كما تعتبر الاتصالات التركية الروسية الحالية من محفزات التوافق، إذ تأتي كجزء من التمهيد للتوقيع النهائي في ليبيا، حيث تعمل أنقرة وسيطاً مع موسكو من أجل تليين موقفها وإقناعها بضرورة إخلاء سرت ومواقع النفط من أي وجود مسلح، فيما ستشترك مختلف الأطراف الليبية في تشكيل قوة شرطية بإشراف أممي تتولى مهمة حماية المناطق منزوعة السلاح، وفي تطور جديد في هذا الاتجاه، أعلنت وزارة الخارجية التركية، اتفاق أنقرة وموسكو، على ضرورة إخلاء مدينتي سرت والجفرة من القوات العسكرية. وأكدت الوزارة، في بيان، الثلاثاء 1 سبتمبر، اتفاق البلدين على مواصلة اللقاءات من أجل إيجاد حل سياسي للأزمة الليبية، مشيرة إلى أن خارجيتي موسكو وأنقرة أعربتا خلال المباحثات عن دعمهما لمشاورات اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 برعاية الأمم المتحدة، وهو “تطور انعكس على تردد موقف صالح أثناء لقائه بالوزير الإيطالي، لكنه سيسرع بكل تأكيد من قبول حفتر بوقف نهائي لإطلاق النار، فلم يعد لديه سوى روسيا التي لا تزال تدعمه سياسياً وعسكرياً في الخفاء، وسيكون بمعزل ومعرض للعقوبات في حال استمر في رفض تثبيت وقف إطلاق النار.
اتفاق الصخيرات
ولعل من أبرز محفزات التفاهم، أن النقاشات والمباحثات، تجري وفق المادة 15 من اتفاق الصخيرات الذي يطالب ممثلي مجلسي الدولة والنواب بضرورة اللقاء بعد توقيع الاتفاق للنظر في تعيين شاغلين جدد للمناصب السيادية، ومن ثم فأن الرجوع إلى اتفاق الصخيرات لتعديله مؤشر على أنه لا يزال يمثل مرجعية يمكن البناء عليها لتطبيق باقي البنود، خصوصاً ما يتعلق بإطلاق انتخابات رئاسية وبرلمانية لإنهاء المراحل الانتقالية. وهو ما يتوافق ايضا مع مخرجات قمة برلين، التي انطلقت أساسا مع تطورات الملف الليبي بعد توقيع اتفاق الصخيرات، كما أنه يضمن توافقاً دولياً على ضرورة إخراج التأثيرات الأجنبية في الملف الليبي، يشار إلى أنه في 17 ديسمبر 2015، تم التوصل إلى حل للأزمة عبر بحث ممثلي برلمان طبرق مع نظرائهم في المجلس الأعلى للدولة الليبي، كيفية تقاسم السلطة؛ المحرك الرئيس للصراع، من خلال إعادة تشكيل المجلس الرئاسي وتوحيد الحكومة.
وهو ما تراهن على تكراره المغرب، حاليا، بتوفير كل الظروف من أجل إنجاح المشاورات بين الأطراف الليبية ومساعدتها على الدخول في نقاش لإيجاد حل ليبي للأزمة، كاتفاق الصخيرات، الذي أكد على وحدة الأراضي الليبية والصف الليبي، ووضع آليات من أجل بناء المؤسسات وتحقيق الاستقرار في البلاد، وذلك بالتوافق مع الجهود الأممية للوصول إلى الحل الذي يريده الليبيون أنفسهم، إذ أنّ “المغرب لن يقترح حلولاً لليبيين، وإنما يتعين أن يأتي ذلك منهم”، من أجل اختراق جدار الأزمة التي دخلت عامها التاسع، خاصة في ظل التوافق الدولي الحاصل حالياً بخصوص إنهاء الصراع، وكذا وجود إجماع ليبي على تعديل اتفاق الصخيرات.
مستقبل التقارب
ولعل ما يؤشر لاقتراب وزيادة فرص التوافق، أن جميع الأطراف الإقليمية والدولية، التي ظلت تلعب أدواراً سلبية في الكثير من المحطات، توصلت اليوم، إلى ضرورة إرساء السلم في المنطقة بالنظر إلى كلفة الصراع التي تتجاوز ليبيا لتشمل منطقة شمالي أفريقيا وجنوب البحر الأبيض المتوسط، كما أن المغرب يرى أن حل الأزمة “لا يمكن إلا أن يكون ليبياً، ولا يمكن أن يأتي من الخارج”، وفق تصريحات وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة.
كما أن الأمر لا يبتعد كثيراً عن باقي المتدخلين في الشأن الليبي، وخصوصا تركيا ومصر وفرنسا وإيطاليا وسواها، لكن ما يجعلها تنخرط في المبادرة الأميركية واتفاقات السلام الجارية، هو عدم قدرة أي منها على إدارة الصراع وحدها، إلى أمد طويل، وغير قادرة على تحمل مزيد من الأثمان بمغامرات خارجية. كما أن الحسابات الاقتصادية للدول المتدخلة في الشأن الليبي لا تمكنها من إضافة خسائر في جبهات خارجية في هذه الظروف التي تعاني اقتصادات معظم الدول من صعوبات وأزمات عديدة. إضافة إلى أن ذلك كله تزامن مع عودة الولايات المتحدة الأميركية إلى ليبيا، لمواجهة الحملة الروسية القوية، الهادفة إلى توسيع مناطق النفوذ في القارّة الأفريقية، والتي تجسّدت ليس فقط عبر الاهتمام المتجدّد بالملف الليبي، بل بممارسة ضغوط قوية على قادة وزعماء الأطراف المحلية المتصارعة، وعلى القوى الإقليمية والدولية، من أجل حثها على التخلي عن نياتها التوسعية في ليبيا. وبالتالي، فإن ممكنات وآفاق حل سياسي في ليبيا يجسّدها انحراط أطراف دولية، مثل تركيا وروسيا وألمانيا، إلى جانب الولايات المتحدة، ما يعني أن المبادرة الأميركية أخذت طابعاً دولياً، وتراعي توازن القوى الدولية في ليبيا، ومعها التوازنات في مناطق شمال أفريقيا وشرقي المتوسط، وتعقيدات الوضع في ليبيا. لذلك المأمول هو أن تقرّ فعلاً الدول المتدخلة في ليبيا بانتفاء الحلّ العسكري، وأن تفتح المبادرة الأميركية واتفاق “الصخيرات 2” باباً أمام إمكانية انخراط جميع الأطراف في حوار سياسي حقيقي، يأخذ في الحسبان مختلف المسارات الطبيعية للأزمة الليبية، وسبل الاتفاق بينها وممكناته، وبشكل يضمن تحويل الإعلان عن وقف إطلاق النار إلى تثبيته الدائم، والوصول إلى توافقات سياسية، سواء بسويسرا او المغرب تفضي إلى حلّ سياسي دائم، يلبي طموحات الشعب الليبي وينهي معاناته.