نكاية بالتقارب الفلسطيني الصربي وتماهي مع الموقف الامريكي
في 4 سبتمبر الجاري، وبعد 20 يوماً فقط من إعلان الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي بشأن تطبيع العلاقات، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب معلناً اتفاق تطبيع جديد جرى التوصل إليه بين كوسوفو وإسرائيل، جاء الإعلان في ظل أحاديث ترامب وكبار مسؤولي إدارته عن أن دولاً عربية ومسلمة أخرى ستحذو حذو الإمارات، فيما يتعلق بتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، سواء اكانت البحرين ثم السودان وعمان وغيرها من الدول..
وخلال إعلانه الاتفاق الجديد الذي وصفه بأنه “اختراق كبير” بين إسرائيل، وكوسوفو، التي تعترف باستقلالها 97 دولة في العالم، قال ترامب إن الاتفاق المبرم يقضي بإقامة علاقات دبلوماسية بين الطرفين، واقتصادية وتعاون موسع، كما أكد أن صربيا، التي كانت كوسوفو تابعة لها، ملتزمة بنقل سفارتها إلى مدينة القدس، في يوليو 2021. وأعلن، قبل اجتماع برئيس صربيا ألكسندر فوتشيتش، ورئيس حكومة كوسوفو عبد الله هوتي، أن الطرفين توصلا إلى اتفاق على تطبيع العلاقات الاقتصادية، واصفاً ذلك بأنه “انفراجة كبرى” وبذل ترامب جهودا كبيرة مع صربيا، للسماح بالتحرك الكوسوفي تجاه إسرائيل، في ظل اصرار صربيا على فرض ولايتها السياسية والتاريخية على كوسوفو، ليصبح الاتفاق ثلاثيا.
وفيما يخص تفاصيل الاتفاق، على الصعيد الصربي الكوسوفي، فإن كلا البلدين اتفقتا، لمدة عام، على تجميد الحملات التي تؤيد وتعارض تطبيع العلاقات السياسية، فمن المقرر أن تعلق صربيا لمدة سنة واحدة جهودها الرامية إلى تشجيع الدول الأخرى إما على عدم الاعتراف بكوسوفو أو إلغاء الاعتراف بها؛ وفي المقابل لن تتقدم كوسوفو بطلب للحصول على عضوية جديدة في المنظمات الدولية لنفس الفترة الزمنية، وهناك أيضا التزامات بتحديد هوية الرفات من صراع كوسوفو في الفترة 1998-1999 وإعادة تأهيل اللاجئين من ذلك الصراع.
إسرائيليا، قال بنيامين نتنياهو، عبر حسابه الرسمي على “تويتر”، إن قرار إقامة العلاقات الدبلوماسية مع كوسوفو جاء بعد مشاورات جرت مع هيئة الأمن القومي والجهات المختصة، ولفت نتنياهو إلى أن كوسوفو ستكون أول دولة ذات أغلبية مسلمة تفتتح سفارة لها في القدس، وكان نتنياهو حريصًا في الإشارة إلى الدور الأمريكي لإلحاق كوسوفو بقطار التطبيع والمجهود الذي قدمه دونالد ترامب الذي سهل إقامة تفاهمات على أسس جديدة بين نتنياهو ورئيس الوزراء الكوسوفي عبد الله هوتي، التي أسفرت في النهاية عن الاتفاق على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين “إسرائيل” وكوسوفو، بما يجعل الأخيرة ملتزمة بنقل سفارتها للقدس.
وفي دراسة للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، بعنوان “دوافع ومآلات التطبيع الثلاثي بين كوسوفو وصربيا وإسرائيل” تقول الباحثة هبه شكري، “كعادته، لجأ دونالد ترامب إلى الاعتماد على صفقة تجارية في سبيل تحقيق مكاسب دبلوماسية، وجاء ذلك قبيل انطلاق الانتخابات الأمريكية في نوفمبر المقبل. وفي هذا الصدد أكد مستشار الأمن القومي الأمريكي “روبرت أوبراين” أن الاتفاق يرتكز في الوقت الراهن على تطبيع العلاقات الاقتصادية وليس السياسية، لكنه عبر عن أمله في أن تساعد الروابط التجارية في تحسين العلاقات عموما بين كوسوفو وصربيا”.
الدوافع الصهيو أمريكية
بحسب باحث الدكتوراة الصربي ، “فوك فوكسانوفيتش”، فإن الفائز الاكبر في الاتفاق، الذي شهده البيت الابيض بين صربيا وكوسوفو وإسرائيل، في 4 سبتمبر الجاري، هو إسرائيل، ثم ترامب نفسه، الذي حقق مكسب جديد في سياسته الخارجية، يمكن استخدامه في حملته الانتخابية، كان ترامب قد تدخل في النزاع المستمر منذ فترة طويلة بين صربيا وكوسوفو، وذلك من خلال مبعوثه ريتشارد غرينيل، ولكن مع تراجع فرصه في السباق الانتخابي بسبب سوء إدارته لأزمة كورونا، لم يعد حل النزاعات في منطقة البلقان مسألة مهمة للجمهور الأميركي، لذلك أقحم قضية من شأنها أن تجذب انتباه الرأي العام، وهي “إسرائيل”.
ولم يُخفِ ترامب أبدا حقيقة أن قراره سنة 2017 بنقل السفارة الأميركية إلى القدس كان وسيلة لكسب أصوات الإنجيليين المحافظين المقربين من “إسرائيل”، وأيضا ومن خلال الصفقة التي تشمل كوسوفو وصربيا، يستهدف ترامب كسب أصوات الجاليات اليهودية في فلوريدا وبنسلفانيا، والألبان في ميشيغان، وهي الولايات التي يركز عليها للفوز في الانتخابات، وسرعان ما ردت “إسرائيل” واعترفت بكوسوفو بعد دقائق فقط من اتفاق البيت الأبيض، وتحركت الدبلوماسية الإسرائيلية في البلقان بشكل ملفت، في السنوات الأخيرة، لمحاولة إضعاف موقف الاتحاد الأوروبي المساند لفلسطين وبناء شراكات مع دول خارج محيطها الشرق أوسطي والإسلامي.
وفيما يتعلق بإضعاف الموقف الأوروبي، يُعد قرار صربيا فتح سفارة في القدس مكسبا كبيرا، لأنه يأتي من دولة مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي، لطالما صوتت على عكس معظم دول البلقان، لصالح عضوية فلسطين في المنظمات الدولية، علاوة على ذلك، عززت اتفاقيات البيت الأبيض مكانة “إسرائيل” كلاعب جيوسياسي جديد في البلقان من خلال ربط “إسرائيل” بقوة بالعرقين الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية في المنطقة؛ الصرب والألبان.
مجابهة تركيا بالبلقان هدف إسرائيلي
ووفق التقديرات الإسرائيلية، حرصت تل أبيب على التمدد في البلقان، نكاية في تركيا، التي تعثر ، عقب أزمة سفينة مرمرة، فحسب المحلل الفلسطيني، صالح النعامي، بـ”العربي الجديد”، 16ديسمبر 2014، “تحتفظ إسرائيل بعلاقات قوية مع دول البلقان الأخرى شأن صربيا، مونتنيغرو، مقدونيا، وكرواتيا”، ويرصد المراقبون الاسرائيليون، نوعين من العوامل التي تحفز دول البلقان على تعزيز العلاقات مع تل أبيب.
فهذه الدول أولاً، معنية بالحصول على مساعدات إسرائيلية في مجال التقنيات المتقدمة بغرض دفع عجلة الاقتصاد، خصوصاً أنها تعاني من مشاكل اقتصادية كبيرة ومعقدة، وهذه الدول، ثانياً، تتنافس فيما بينها على الحصول على نسبة من عشرات الآلاف من السياح الإسرائيليين الذين كانوا يتوافدون إلى تركيا، وتوقفوا عن التوجه إليها في أعقاب تدهور العلاقات بين الجانبين.
وعلى الرغم من الرهانات على الشراكة مع دول البلقان، فإن المعلق الإسرائيلي “بن كاسبيت” ينقل عن دوائر عسكرية إسرائيلية قولها إن العلاقة مع هذه الدول لا يمكنها أن تعوض إسرائيل على العوائد التي فقدتها بعد تدهور العلاقات مع تركيا، على اعتبار أن هذه الدول فقيرة نسبياً، إلى جانب أن سماتها الجيوسياسية والجغرافية لا تشكل بديلاً لسمات تركيا، التي كانت تستغلها إسرائيل، فعلى مدى عقود مضت، سمحت العلاقات القوية بين إسرائيل وتركيا لسلاح الجو الإسرائيلي باستغلال الأجواء التركية الشاسعة في التدريب على تنفيذ مهام خاصة في بيئة مثالية، وهو ما لم يعد يتمتع به هذا السلاح، الذي يوصف بأنه “الذراع الطويل والقوي” لجيش الاحتلال.
ولا تنحصر الشراكة الإستراتيجية بين إسرائيل ودول البلقان في جانب التدريبات العسكرية، بل تتعدّاه إلى مجال تكثيف التعاون الاستخباري، وعلى الرغم من أن إسرائيل عادة ما تحيط تحركات قادة جهاز الاستخبارات “الموساد” بسرّية تامة، غير أن ديوان رئيس الوزراء البلغاري بويكو بورويسوف اختار أن يعرض صوراً في مارس 2011 يظهر فيها الأخير وهو يلتقي برئيس جهاز “الموساد” في ذلك الوقت مئير دجان، وقد أكدت وسائل الإعلام الإسرائيلية في حينه أن بورويسوف، هو الذي بادر مطالباً بتعزيز أواصر التعاون الأمني والاستخباري في الزيارة التي قام بها لإسرائيل في يناير 2011، إذ فاجأ نتنياهو عندما طلب الاجتماع بدغان للتوافق على أسس التعاون الاستخباري بين الجانبين.
الدوافع الكوسوفية الصربية
من جانب آخر، كانت هناك بعض الحسابات في بريشتينا وبلغراد، التي ساعدت “إسرائيل” أيضًا، في الواقع، تلقت مساعي صربيا لإقناع عدد من الدول بإلغاء اعترافها بكوسوفو ضربة قوية، بينما تجنبت كوسوفو إثارة غضب حليفتها الولايات المتحدة، بعد أن رفضت في وقت سابق إلغاء الرسوم والقيود المفروضة على صربيا، كانت هناك تقارير تفيد بأن صربيا لن تنقل سفارتها إلى القدس إذا اعترفت “إسرائيل” بكوسوفو، ولكن ذلك كان على الأرجح مجرد وسيلة للمماطلة والمساومة، إذ يعرف فوتشيتش ثمن إثارة غضب رئيس الولايات المتحدة.
وإجمالًا، فحال تنفيذ الاتفاق ستكون صربيا أول دولة أوروبية تفتح سفارة في القدس، وستكون كوسوفو الأولى بأغلبية مسلمة- دولتان فقط فعلتا ذلك حتى الآن هما الولايات المتحدة وغواتيمالا- وهو ما يصب في مصلحة نتنياهو الذي يطمح في توسيع دائرة علاقات إسرائيل، وهو ما يمكن ان يستخدمه ليعزز من موقفه في إسرائيل خاصة في ظل اتهامه في قضايا فساد وتزايد حدة المعارضة ضده.
تحديات وعقبات
ويتواجه اتفاق التطبيع الثلاثي، بالعديد من التحديات المفصلية، التي تهدد فعاليته، ومنها:
– تململ شعبي بكوسوفو:
وبحسب مراقبين، لا يبدو قرار الحكومة الكوسوفية سهلًا ، فهناك معارضة شعبية كبيرة لهذه الخطوة التي يبدو أنها جاءت أحادية من الحكومة دون الدخول في حوار مجتمعي، وتؤكد المعارضة أنه لا بديل عن التزام كوسوفو بموقفها التاريخي من قضية فلسطين التي كانت داعمة دائمًا لقرارات الأمم المتحدة التي لا تزال تؤكد أن الحل الوحيد لآخر أزمة احتلال في العالم، لن يكون إلا بدولة مستقلة ذات سيادة، عاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967 وليس أقل من ذلك!
وفي هذا السياق، تأتي النخب الدينية، وعلى رأسهم “بحري سيديؤ” إمام وخطيب مسجد العاصمة الكبير والمفتى السابق للبلاد، الذي هاجم الاتفاق بشدة، مؤكدًا أن غالبية الكوسوفيين سيرفضون أي تحركات للتطبيع، فضلًا عن فتح سفارة بمدينة القدس المحتلة. وبحسب تقارير اعلامية بالبلقان، لم تقف كرة اللهب على رجال الدين وحدهم، بل تدحرجت إلى قوى المعارضة التي هاجمت الاتفاق ورفضت التطبيع مع دولة يعتبرونها تعيد إنتاج نفس المعاناة التي تعرضوا لها مع الشعب الفلسطيني، وبالتالي يجب أن يكون الهم الأكبر لحكومة بلادهم تدعيم استقلال كوسوفو والنأي بالنفس عن الانخراط في أي مشروعات دولية لا تناسبهم.
-تجاذبات إسرائيلية داخلية:
وإسرائيليا، وضع نتنياهو هيئات الأمن القومي والجهات السيادية معه في الكادر، تحسبًا لأي موقف يحدث لاحقًا، وربما لا ترتاح له الكثير من القوى الرافضة للاتفاق داخل “إسرائيل”، فالاعتراف بكوسوفو أو إقامة علاقات طبيعية معها يعني إغضاب صربيا التي ترفض أي اعتراف دولي بكوسوفو، وتزعم ولاياتها التاريخية عليها، فضلًا عما قد يسببه هذا التعاون من إثارة أزمة أخلاقية كبرى في المحافل الدولية، فالقضية بالنسبة لصربيا، هي نفسها بالنسبة لـ”إسرائيل” في موقفها من فلسطين.
-خسائر كوسوفية:
وقد يبدو للبعض أن غنائم التطبيع كبيرة وضخمة للغاية، لكن كما هو الحال في كل بلد مسلم، التطبيع بالنسبة للغالبية العظمى خط أحمر، ليس ما قبله كما بعده لأي حكومة أو حزب سياسي يقدم على مثل هذه الخطوة، وتعتبر المعارضة الكوسوفية أن الاتفاق مفرغ من مضمونه، فالفائدة لن تعود أصلًا إلا على “إسرائيل” التي ستربح سياسيًا من ضم بلد بأغلبية مسلمة إلى نادي الدول المسلمة المطبعة معها، ما ينعكس على ثقلها الدولي وتأكيد شرعيتها، وعلى المستوى الاقتصادي، ستذهب الفائدة مباشرة إلى صربيا التي تعتبر أكبر الدول الصناعية بالبلقان ولمثل هذه الاتفاقات فائدة كبرى لها.
وعلى المستوى الدبلوماسي ، يبدو أن المستفيد الأكبر بجانب “إسرائيل” من هذه العملية، إدارة ترامب وأجندته الخارجية في الشرق الأوسط، التي يستثمر فيها للانتخابات القادمة، حيث يروج لنفسه باعتباره الداهية التاريخي للسياسة الخارجية والاقتصاد الأمريكي، فترامب بهذه القفزات لم يعد مدافعًا عن بقاء “إسرائيل” فقط، بل أصبح بعبعًا للاستثمار الصيني، الذي سيمنعه من البقاء في أقوى دول البلقان، ليثبت أنه القيصر الوحيد القادر على تحجيم الصين، وبعد أن ساهم في تقزيمها بشدة داخل السوق الأمريكية، نقل حصاره لها إلى كل مكان يتنافس فيه اقتصاد البلدين بالعالم.
خلفيات تاريخية للعلاقات الصهيونية الكوسوفية
وبالعودة لتاريخ العلاقات المشتركة، لا يبدو الاتفاق الأخير مستغرباً بالنظر إلى تأييد كوسوفو المتواصل لـ”إسرائيل”، مقابل تأييد السلطة الفلسطينية المتواصل أيضاً للموقف الصربي تجاه كوسوفو، فلأكثر من عقد من الزمان ظلت النخبة السياسية في كوسوفو تغازل إسرائيل؛ على أمل الحصول على دعمها السياسي، وعلى الرغم من رفض “إسرائيل” الاعتراف باستقلال كوسوفو فإن مسؤولي الأخيرة واصلوا التودد لـ”تل أبيب”؛ ففي أبريل 2019، استقبل رئيس وزراء كوسوفو راموش هاراديناي، 6 مستثمرين أمريكيين في مكتبه بمدينة بريشتينا، حيث زُين المكتب بأعلام كوسوفو والولايات المتحدة و”إسرائيل” وقال هاراديناي لضيوفه: “نحن فخورون للغاية بتعاوننا مع الولايات المتحدة والشعب اليهودي، وإسرائيل كدولة نموذج جيد ينبغي اتباعه”، وفي يوليو 2019، زارت سفيرة كوسوفو في الولايات المتحدة “فلورا سيتاكو” “إسرائيل”، برعاية اللجنة الأمريكية اليهودية، وخلال الزيارة قالت “سيتاكو” إنها مغرمة بـ”إسرائيل”، وإن شعب كوسوفو يتطلع إلى الأخيرة باعتبارها مثالاً على كيفية بناء دولة.
ومن النادر أن يتحدث السياسيون الكوسوفيون عن فلسطين، بينما يرفض الفلسطينيون الاعتراف باستقلال كوسوفو، أو إنشاء أي نوع من العلاقات الدبلوماسية معها، فخلال الدور القيادي الذي أدته يوغوسلافيا السابقة في حركة عدم الانحياز دعمت يوغوسلافيا منظمة التحرير الفلسطينية، وقطعت جميع العلاقات مع “إسرائيل” بعد حرب عام 1967م، ومع ذلك فإن الدول التي نشأت بعد تفكك يوغوسلافيا في تسعينيات القرن العشرين اعتمدت سياسات مؤيدة لـ”إسرائيل”؛ ضمن مساعيها للانضمام للاتحاد الأوروبي، ولهذا فإن كوسوفو ليست استثناء من هذا التوجه، وكانت صربيا أيضاً البلد الوحيد في المنطقة الذي صوت لصالح منح فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، في عام 2012. وكنوع من رد الجميل لصربيا لم تعرب السلطة الفلسطينية عن امتنانها لصربيا فحسب، بل أعلنت أيضاً معارضتها لنشأة دولة كوسوفو.
وفي يناير عام 2000، أي بعد أشهر قليلة من الحملة الوحشية التي قام بها النظام الصربي ضد ألبان كوسوفو، دعت السلطة الفلسطينية الجزار الصربي “ميلوسيفيتش” للانضمام إلى احتفالات عيد الميلاد للمسيحيين الأرثوذكس في بيت لحم. وفي يوليو 2019، وجه سفير فلسطين في صربيا محمد نبهان الشكر لصربيا على دعمها الطويل، وأكد مجدداً أن فلسطين ستعارض انضمام كوسوفو إلى الشرطة الدولية “الإنتربول”، وعندما أعلنت بريشتينا استقلالها قال المسؤول الفلسطيني البارز ياسر عبد ربه: “كوسوفو ليست أفضل منا، نحن نستحق الاستقلال حتى قبل كوسوفو، ونطلب دعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لاستقلالنا” ومن المؤكد أن موقف سلطات كوسوفو تجاه فلسطين يتأثر بنهج السلطة الفلسطينية الرافض لقضية دولة كوسوفو، وكذلك بسبب العلاقات القوية بين السلطة الفلسطينية وصربيا.
الجغرافيا الطبيعية والسياسية لكوسوفو
يشار إلى أن كوسوفو تقع في جنوب شرقي أوروبا بمنطقة البلقان؛ تحدها من الجنوب الشرقي مقدونيا، ومن الشمال الشرقي صربيا، ومن الشمال الغربي الجبل الأسود، ومن الجنوب ألبانيا، وبحسب تقارير الأمم المتحدة، تبلغ مساحة كوسوفو 10.887 كيلومتراً مربعاً، وهي من الدول الحبيسة التي لا تطل على أي ساحل، ويسكنها أكثر من مليونين غالبيتهم من المسلمين، ولا تعترف جمهورية صربيا -التي ارتكبت في تسعينيات القرن الماضي مجازر بشعة بحق سكان كوسوفو المسلمين- بالإقليم كدولة مستقلة، لكنها تتعامل معه وتطبع العلاقات معه.
والمعروف أن كوسوفو تبذل جهوداً مضنية للحصول على الاعتراف الدولي باستقلالها، فعلى الرغم من أن أكثر من 90٪ من سكان كوسوفو من الألبان لا تزال صربيا تنادي بحقها في السيادة على كوسوفو، بزعم أنها أراضٍ صربية تاريخية، وفي ظل الحكم اليوغوسلافي ثم الصربي عانى ألبان كوسوفو من أشكال مختلفة من الاضطهاد؛ بدءاً من ممارسات الاستعمار في أوائل القرن العشرين، وحتى التطهير العرقي في تسعينيات القرن الماضي، وخلال حرب عام 1999 تعرض نحو 90٪ من سكان كوسوفو للتشريد، بينما قتل الآلاف منهم، قبل أن تتدخل قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتجبر القوات الصربية على الانسحاب، وهو ما جعل سكان كوسوفو ونخبتهم موالين للولايات المتحدة بشدة، ويعتبر سكان كوسوفو من أكثر الشعوب المؤيدة للولايات المتحدة في العالم، حيث أعرب ما يقرب من 75٪ من مواطني كوسوفو عن تأييدهم لإدارة ترامب، وفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة “غالوب” الأمريكية عام 2018م، وبحسب الباحث أحمد فوزي سالم في مقاله بـ”نون بوست”، عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية فإن كوسوفو تتبع دائماً الموقف الأمريكي، وهو ما يعني أن حكومة كوسوفو موالية لـ”إسرائيل” بلا خلاف، كما قالت “سيتاكو” أثناء زيارتها.
مخاطر مستقبلية
وفي السياق، حذر تقرير لـ” ميدل إيست آي”، يبدو أن غموضا يغلف مستقبل تلك العلاقات المتشابكة بين واشنطن وصربيا وكوسوفو وإسرائيل، حيث حذر الاتحاد الأوروبي بالفعل كلاً من صربيا وكوسوفو من فتح سفارتيهما في القدس، ومن خلال الانجرار وراء سياسات ترامب، فعلت كوسوفو ما كانت تتجنبه لفترة طويلة، أي التورط في مستنقع الشرق الأوسط، كما تُعرّض صربيا شراكتها مع كثير من دول العالم الإسلامي للخطر، فقد أعرب سفير فلسطين في صربيا عن قلقه بشأن الصفقة، وكذلك فعل شريك رئيسي آخر لصربيا، وهو تركيا.
وتخلت صربيا عن موقفها الدبلوماسي التقليدي المتمثل في عدم التدخل في الصراعات الدولية الكبرى، وانحازت بشكل واضح إلى سياسات ترامب في الشرق الأوسط، حتى أنها صنفت حزب الله جماعة إرهابية، ما قد يعرض جنودها في قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في لبنان للخطر، كما أنه ليس مضمونا أن يبقى ترامب في البيت الأبيض سنة 2021، على الرغم من أنه يعقد الصفقات في البلقان والشرق الأوسط، وأقل من تزعجه الانتخابات القادمة، مهما كان اسم الفائز، هو نتنياهو وحكومته، وعلى الرغم من انه قد تكون التضحية بالاعتراف الإسرائيلي بكوسوفو ثمنا مقبولا لبناء شراكة أقوى مع الولايات المتحدة، وهو أمر فشلت بلغراد في القيام به لعقود. ..الا ان المخاطر ما زالت تهدد المستقبل في البلقان..
بجانب ذلك، فإن التركيز على تطبيع العلاقات الاقتصادية فقط بين صربيا وكوسوفو وتجاهل الجانب السياسي يجعله عُرضة لموجة انتقادات كبيرة، ودفع إلى التشكيك في مدى فاعليته أو قدرته على تحقيق أي تغيير يذكر، حيث إن الخلاف بين بلغراد وبريشتينا هو سياسي بالأساس، ومادامت القضايا السياسية معلقة فسيظل النزاع قائم لا محالة. علاوة على ذلك فقد لاقى الاتفاق انتقادات أخرى متعلقة بالغموض المحيط بتفاصيله وعدم تناوله لقضية اعتراف صربيا بكوسوفو، أو النظر إلى القضايا الخلافية الأخيرة التي تم تناولها أثناء المفاوضات خلال الأعوام الماضية، والتي لم تنجح في تحقيق إنجاز حقيقي بشأن جوهر النزاع بين البلدين. وكانت بلجراد وبريشتينا بدأتا في الثامن من مارس 2011 مفاوضات لتطبيع العلاقات الثنائية ولتفكيك واحدةٍ من أكثر النزاعات الأوروبية تداخلًا وتعقيدًا، والمرتبط بأبعاد تاريخية ودينية وثقافية وحضارية، وجاء إذعان صربيا للانخراط في تلك المفاوضات نتيجة ضغوط مارسها الاتحاد الأوروبي الذي طالب صربيا بالتعاون الإقليمي كشرط مسبق لانضمامها كعضو في الاتحاد الأوروبي.
وفي الوقت الذي ترى صربيا في هذه الاتفاقات فرصة اقتصادية على خلفية رغبتها في قبولها كعضو في الاتحاد الأوروبي. وقد وقعت على هذه الاتفاقات مع الولايات المتحدة وليس مع كوسوفو، ولم تبد معارضتها فيما يخص اعتراف إسرائيل بكوسوفو. لكن بعد الاتفاق، أثيرت الشكوك حول نقل السفارة الصربية بعد انتشار مقطع فيديو يظهر الرئيس الصربي فوتشيتش متفاجئًا بإعلان ترامب التزامه بنقل السفارة، لكن أكد الرئيس الصربي في وقت لاحق، على أنه فوجئ فقط بذكر الموعد النهائي لهذه الخطوة وهو يوليو 2021.
خاتمة:
يمكن اعتبار الاتفاق الرباعي لتطبيع العلاقات بين الأطراف الكوسوفية والصربية من جهة وبينهما مع اسرائيل، وبين صربيا وواشنطن، انجازا لترامب، وخلخلة إضافية لمسارات الخيانة للقضية الفلسطينية بعد سلسلة التطبيع العربية المخزية، يمثل خصما من رصيد القضية الفلسطينية على الصعيد الإسلامي، كما أن مواقف سلطة اوسلو الفلسطيتية تتحمل نصيبا كبيرا من مسئولية القطيعة مع دولة كوسوفو المسلمة عبر تاريخ طويل، كان بامكانها اتخاذ مواقف متوازنة تحفظ علاقتها السياسية معع صربيا دون أن تخسر مسلمي كوسوفو في صراعهم الدامي مع بلجراد.
ويبقى وجود ترامب في السلطة الامريكية بعد نوفمبر المقبل، رافعة استراتيجية للتطورات النوعية للكيان الإسرائيلي في مناطق العالم المختلفة، يستوجب البحث من قبل الفلسطينيين في حال جرى الاتفاق بين الفصائل الفلسطينية على صياغة نهج جديد للعلاقات الفلسطينية مع دول العالم المختلفة.