استفتاء الجزائر.. وعزوف المواطنين عن المشاركة

 

 

منذ أدائه اليمين رئيسًا للبلاد في 19 ديسمبر 2019، بعد أسبوع من انتخابات شهدت نسبة امتناع قياسية عن التصويت، تعهَّد تبّون تعديل دستور 1996، لكن ناشطي الحركة الاحتجاجية رفضوا النص المُقترح شكلًا وموضوعًا؛ لأنه لا يُمثِّل سوى تغيير في الواجهة من وجهة نظرهم، في حين أن الشارع طالب بتغيير النظام؛ لذلك دعوا إلى مقاطعة الاستفتاء.

واختتم الجزائريون الأحد 1 نوفمبر التصويت في الاستفتاء على الدستور الجديد، لكن أرقام الإقبال الرسمية لم تظهر حماسًا يُذكر تجاه التغييرات التي تسعى من ورائها الحكومة إلى طي صفحة الحراك الشعبي، الذي عرفته البلاد العام الماضي. حيث قاطع الجزائريون -بشكل ملحوظ- عملية التصويت على تعديل دستوري، يُفترض أن يؤسس لـ “جزائر جديدة”، في ظل غياب صاحب المبادرة الرئيس عبد المجيد تبون؛ بسبب علاجه في الخارج. فماذا كانت معوقات الاستفتاء؟ وما هي نتائجه؟ وماذا كانت مواقف القوى السياسية منه؟ وماذا كانت الدوافع التي قادت لمقاطعة الجزائريين للاستفتاء؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى تلك الورقة للإجابة عنها.

 

نتائج الاستفتاء:

بلغت نسبة المشاركة الوطنية الخاصة بالاستفتاء على تعديل الدستور على المستوى الوطني 23.75%؛ ما يُعادل تصويت 5.5 ملايين ناخب من أصل 23.5 مليون مسجل بالجزائر، دون احتساب نحو 900 ألف ناخب في الخارج. ونسبة المشاركة هي أقل بكثير من النسبة المُسجلة في الانتخابات الرئاسية 39.93%، التي فاز بها تبون في 12 ديسمبر 2019، التي اعتُبرت هي الأدنى منذ عقود. وأفاد ناشطون -عبر مواقع التواصل الاجتماعي- وقوع أعمال شغب وتكسير لصناديق الاقتراع ليلة الاستفتاء، في منطقة القبائل المعروفة بعزوفها الانتخابي. وذكرت اللجنة الوطنية للإفراج عن المعتقلين، وجمعية داعمة للحراك، أن قوات الشرطة أوقفت عددًا من الأشخاص في العاصمة وولاية تيزي وزو[1]. وأعلنت السلطة المستقلة للانتخابات في الجزائر الاثنين، الثاني من نوفمبر 2020؛ إقرار الدستور  الجديد بموافقة 66.8% ممن شاركوا في الاستفتاء. وهكذا يُواجه تبون وضعًا معقَّدًا؛ بسبب نسبة المشاركة الضعيفة في الانتخابات الرئاسية التي جاءت به. فحتى لو حاول الحصول على الشرعية من خلال صندوق الاقتراع، فإن مساحة المناورة لديه محدودة؛ لأن الجيش تعلم الدروس من رئاسة عبد العزيز بوتفليقة (1999-2019)، الذي حرَّر نفسه من وصايته، وأصبح مرة أخرى الممسك الحقيقي بزمام السلطة. ويرى البعض أن الحكم على قوة الحراك يكون من خلال نسبة الامتناع عن التصويت، واستمرار طبيعته السلمية، والاستفتاء لا يمثل أي رهان من حيث التغيير السياسي، وتغيير أسلوب الحكم؛ لكنه يمثل رهانًا كبيرًا في ما يتعلق بتوطيد السلطة، بالاعتماد -في المقام الأول- على نسبة المشاركة. وجرى الاستفتاء في جو من القمع؛ إذ استنكر المعارضون -من الإسلاميين إلى أقصى اليسار، بمن فيهم المدافعون عن حقوق الإنسان- مشروعًا يهدف إلى دفن الحراك بالنسبة للبعض، وإلى دسترة العلمانية بالنسبة لآخرين[2].

 

معوقات الاستفتاء:

اعترضت الاستفتاء الشعبي على الدستور عدة معوقات، يأتي على رأسها تقليد المقاطعة، التي دأب الجزائريون على التمسك بها في الاستحقاقات الانتخابية، وحالة الاحتقان السياسي الداخلي؛ بسبب تضييق السلطة على الحريات السياسية، وتجاهل مطالب الحراك الشعبي، فضلًا عن توجه عدة قوى سياسية إلى مقاطعة الاستحقاق؛ كتكتل البديل الديمقراطي، وجبهة القوى الاشتراكية، ولم يبق أمام السلطة إلا أحزاب الموالاة المغضوب عليها، ونسيج المجتمع المدني، الذي تراهن عليه لإنجاح الموعد، رغم اهتزاز صدقيته وتمثيله للشارع الجزائري[3].

 

مواقف القوى السياسية:

انقسمت مواقف القوى السياسية ما بين مؤيد ومعارض:

1- مواقف مؤيدة: إلى جانب جبهة التحرير، أعلن عبد القادر بن قرينة، رئيس حركة البناء الوطني -في ندوة صحفية- عن موقف حزبه من الاستفتاء، دعا فيها للتصويت بـ “نعم” على الدستور. وأعلنت غالبية الأحزاب السياسية تأييدها لمشروع تعديل الدستور، وأبرزها حزب “الأفلان”، ودعت الأحزاب الهيئة الناخبة إلى التصويت بنعم؛ من أجل الانتقال إلى جزائر جديدة. وكذلك جبهة التحرير الوطني، والتجمع من أجل الثقافة الديمقراطية، وحزب تاج.

2- مواقف معارضة: كل أحزاب المعارضة، بما فيها حركة “الإخوان”، دعت للتصويت بـ “لا”، فيما دعا “الديمقراطيون” لمقاطعة الاستفتاء. والأحزاب المعارضة لمشروع الدستور، معظمها من الأحزاب الإسلامية؛ حيث ترى هذه الأحزاب أن هذا المشروع يفقد الهوية الجزائرية. إلا أنه في الأخير يُعد تأثير الأحزاب السياسية على الرأي العام غير وارد في الشارع الجزائري؛ حيث إن هناك قطيعة بين هذه الأحزاب والشارع الجزائري، خاصة أن تجمعات الأحزاب لا يحضرها إلا الأعداد القليلة جدًّا من أعضاء الأحزاب [4].

موقف الإسلاميين:

أجمعت أغلب الأحزاب الإسلامية الفاعلة في الجزائر على رفضها -جملة وتفصيلًا- لدستور الرئيس عبد المجيد تبون؛ لأسباب فكرية وسياسية. وأعلنت حركة مجتمع السلم، أكبر أحزاب المعارضة الجزائرية، التصويت بـ “لا”، مُبررة قرارها برفض محتوى الوثيقة الدستورية، والتيار العلماني الذي يضغط لتمريرها بقوة، وأكدت جبهة العدالة والتنمية، التي يترأسها الشيخ عبد الله جاب الله، عن رفضها رفضًا قاطعًا لمشروع تعديل الدستور، وهاجم جاب الله مسودة الدستور، معتبرًا أن التيار التغريبي العلماني سيطر على لجنة الخبراء لإعداد المشروع. كما قررت حركة النهضة -هي الأخرى- التصويت ضد المشروع، عقب اجتماع مجلسها الشوري في دورة استثنائية، معتبرةً إياه تكريسًا لخيار الأقلية، والتمييز بين الجزائريين، بالإضافة إلى النظام الرئاسي بصلاحيات واسعة، في غياب أي آلية قانونية للمساءلة، بينما تتبنى الأحزاب الإسلامية النظام البرلماني. أما جمعية العلماء المسلمين الجزائريين -وهي الهيئة المرجعية الرمزية في الجزائر؛ لمكانتها التاريخية منذ عهد الإمام عبد الحميد بن باديس- فقد أعلنت بأنها فُوجئت بنسخة الدستور المعدل في صيغته النهائية، فلم تجد أثرًا لأي مقترح من مقترحاتها كجمعية للعلماء، كما أعلنت عن توجسها من تحييد المدرسة كمدخل للعلمانية”، واعتراضها على الصلاحيات المطلقة للمحكمة الدستورية، مقابل التراجع الكبير في صلاحيات السلطة المستقلة للانتخابات[5].

 

أسباب الانقسام والمقاطعة:

جرى الاستفتاء وسط انقسام واسع بين الجزائريين حول مقترحات الدستور الجديد، سواء ما تعلق منها بتنظيم الحياة السياسية، أو ما يرتبط بالمبادئ الناظمة للمجتمع الجزائري، في سياق خاص تميز برفع سقف الطموحات والمطالب الإصلاحية بعد حراك 22 فبراير. وشكَّلت الصلاحيات الملكية لرئيس الجمهورية -وفق توصيف المنتقدين- أهم القضايا الخلافية في المشروع، فضلًا عن الوضع الدستوري للهيئة المكلفة بالانتخابات، من حيث الاستقلالية والتشكيل والصلاحيات. كما برز تغول السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية ضمن الانتقادات السياسية للمعارضة. أما قيميًّا فقد أثار وضع الإسلام، وحرية الرأي، وأماكن العبادة، والعربية والأمازيغية، والمدرسة -ضمن القواعد الدستورية- حفيظة التيار الديني في المجتمع.

أما عن المقاطعة؛ فيرجع الجزائريون ذلك إلى عدة أسباب، أهمها: توسع دائرة العزوف لسوء التسويق لمشروع الدستور، وما لحقه من لغط؛ بسبب اللجنة المشرفة على إعداده، بعدما تشكلت صورة نمطية سلبية عن أفرادها، من خلال النقاش السياسي. والتصريحات غير الموفقة لأعضاء الطاقم الحكومي كانت مستفزة للناخب الجزائري؛ حيث بلغ بأحد الوزراء أن يقول للمواطنين: “من لم يعجبه الدستور فليرحل من البلاد”، في وقت تتفاعل وسائل التواصل الاجتماعي مع لحظة أي سلوك سياسي بصفة آنية. والأصوات الرافضة مُنعت من التعبير الإعلامي؛ مما أعطى الانطباع بحالة التماهي بين السلطة التنفيذية ومشروع الدستور.[6]

هذا بالإضافة إلى شعور المواطن بعدم مشاورته في الأمور المهمة المتعلقة بالوطن، وكأنه أصبح في نظر السلطة عبارة عن ورقة تصويت فقط. وعودة الأحزاب التقليدية بوجوهها القديمة، وتسويقها للاستفتاء؛ مما أشعر المواطن بأن حلم الجزائر الجديدة تبخر برجوع هؤلاء. وكذلك الإسراع في عملية الذهاب إلى الاستفتاء، رغم الظروف الصحية السيئة التي تمر بها البلاد[7].

 

الخُلاصة:

لم يكن إجماع الإسلاميين على التصويت بـ “لا” نتيجة تكتل ترتب عن تنسيق وتشاور، ولكنه جاء كرد فعل على تركيبة لجنة تعديل الدستور وعلى مخرجاتها. وقد احتجوا منذ البداية على عدم توازن تركيبة اللجنة، وعدم تمثيل الاتجاه الإسلامي، واستبعاده من عضويتها، في الوقت الذي شهدت سيطرة للاتجاه العلماني، فوردت مخرجاتها لتعكس تركيبتها، وجاءت التعديلات مطابقة لما تنص عليه برامج الأحزاب التغريبية، في اتجاه تشديد الرقابة على المسجد وعلى المدرسة، بدلًا من تبني مطالب الحراك.

وقد جاءت مقاطعة الاستفتاء بهذه النسبة الكبيرة ضربة قاسية ليس للنظام فقط؛ وإنما كذلك للأحزاب التي اتضح بأنها لا تمثل المواطن الجزائري. والآن أمام الرئيس تبون -لاستكمال المسارات وكسب ثقة الناخبين والقوى السياسية- خيار حل البرلمان والمجالس المحلية، والدعوة إلى انتخابات مبكرة، مع الشروع عاجلًا في تأسيس المؤسسات الدستورية الواردة في لب التعديل الجديد، مع العمل على تعديل المواد الخلافية، وضرورة إعادة تشكيل الحكومة، بإبعاد الوجوه المستفزة للمواطنين؛ لأجل الطمأنة الشعبية.

——————————

[1]               “الجزائر: ما هي نسبة المشاركة في الاستفتاء على تعديل الدستور حسب التقديرات الأولية؟”، France 24، 1/11/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/yxW8U
[2]               “مقاطعة واسعة للاستفتاء على دستور “الجزائر الجديدة”، D&W، 2/11/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/hkzuJ
[3]               صابر بليدي، “عقدة الزعامة تدفع لتشتت موقف الإسلاميين من الاستفتاء الدستوري”، العرب، 28/9/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/Hj8BQ
[4]               “قبل أيام من موعده .. خريطة مواقف الأحزاب الجزائرية من الاستفتاء على الدستور”، عربي Sputnik، 11/10/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/HytlS
[5]                عبد الحكيم حذاقة، “لماذا يرفض إسلاميو الجزائر الدستور المعدل وما تأثيرهم على الاستفتاء؟”، الجزيرة نت، 5/10/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/KZkxP
[6]               عبد الحكيم حذاقة، “الجزائر .. ما دلالات المقاطعة الواسعة لاستفتاء الدستور الجديد؟”، الجزيرة نت، 2/11/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/0PaXl
[7]                 أسامة بوشماخ، “المقاطعة”، فيس بوك، 2/11/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/ZNU6h

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022