تشهد إثيوبيا احتقانًا سياسيًّا غير مسبوق بين الحكومة الفيدرالية وبين حكومة إقليم التيجراي. الخلاف بين الطرفين ليس جديدًا بالطبع، إلا أنه تفاقَم أكثر مؤخرًا، على خلفية الخلاف على إجراء الانتخابات العامة في البلاد. ففي حين رأت الحكومة الفيدرالية تأجيل الانتخابات، رأى إقليم التيجراي -الذي يتمتع بحكم شبه ذاتي، ضمن النظام الفيدرالي في البلاد- إجراء الانتخابات في موعدها. وبالفعل أجرى الإقليم انتخاباته في موعدها، متجاوزًا تحذيرات الحكومة المركزية؛ الشيء الذي اعتبرته الأخيرة تمرُّدًا من حكومة الإقليم، وأعلنت بأنه لن يكون لها أي علاقة إدارية مع حكومة الإقليم. وقرر البرلمان إيقاف الميزانية المخصصة له، وبدأ فعليًّا في إيقاف كافة الخدمات الفيدرالية التي يستحقها الإقليم؛ بصفته عضوًا في الاتحاد الفيدرالي؛ ليتفاقم الخلاف من جديد، وتصل حالة انسداد الأُفق السياسي إلى أقصى مدى. وفي مُستهل هذا الأسبوع، أرسل رئيس إقليم التيجراي، رسالة مفتوحة موجَّهة إلى نحو سبعين رئيس دولة، يُحذر فيها من مخاطر تدهور الأوضاع في البلاد، والذي جاء فيها أن آبي أحمد يريد بناء نظام يُتيح له تحقيق طموحاته الديكتاتورية.
فما هي جذور الأزمة؟ وكيف تطورت في الأيام الأخيرة؟ وما هي السيناريوهات المحتملة في المستقبل؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى تلك الورقة للإجابة عنها.
جذور الأزمة:
منذ العام الماضي، بدأت أعمالُ الرفض والاحتجاجات بالازدياد، وهو ما قابلتْهُ الحكومةُ بقطع متكرر لخدمات الإنترنت، تزامن ذلك مع حملات اعتقالات طالت الآلاف من المتظاهرين والمعارضين، وعلقت عليها كثير من المنظمات الحقوقية، كما حدث في أواخر مايو الماضي، عقب اغتيال مغني الأرومو هشالو هنديسا؛ حيث تم التعامل مع هذا الحدث كإهانة لمجمل القومية. التنافس الحالي بين العاصمة اليفيدرالية وإقليم التيجراي الشمالي، هو أحد مظاهر التنازع الذي تعيشه البلاد، فقد دخل الرئيس آبي أحمد والحزب الحاكم في إقليم تجراي (جبهة تحرير شعب التيجراي)، ما يشبه المواجهة، حين أصر سياسيو الإقليم على تنظيم انتخاباتهم البرلمانية، بمعزل عن رأي المركز، الذي كان يرى تأجيلها. منطق التيجراي -جنبًا إلى جنب مع مجموعات أخرى وناشطين سياسيين، أبرزهم جوهر محمد، الذي ينتمي للأرومو والمعتقل حاليًّا- هو أن الحكومة أكملت فترتها، وأنه كان يجب عليها تنظيمُ الانتخابات؛ تحقيقًا لوعود آبي أحمد. حسب هذا المنطق، فإن الخطأ ليس في انعقاد الانتخابات في موعدها في التيجراي، وإنما في تلكؤ رئيس الوزراء، ورفضه التنحي وإتاحة الفرصة للشعب. وجائحة كورونا التي كانت السبب خلف تأجيل العملية الانتخابية، يعتبرها كثيرون من أنصار ذلك التيار مجرد ذريعة، خاصة، وأنها لم تمنع قيام فعاليات وتظاهرات أخرى رعتها الدولة[1].
تطور الأزمة في الأيام الأخيرة:
في استمرار للتصعيد المتبادل بين الحكومة الفيدرالية -بزعامة رئيس الوزراء آبي أحمد- وحكومة إقليم التيجراي، اتخذ بُعدًا خطيرًا، يتمثل في محاولة كل طرف نزع الشرعية عن الآخر. فقد اتخذ مجلس الاتحاد (الذي يمثل الغرفة العليا في البرلمان الإثيوبي) عدة قرارات، باتجاه فك الارتباط مع الإقليم المتمرد على مؤسسات الحكم الفيدرالي في البلاد. فأولًا: أمر مجلس الاتحاد الحكومة الفيدرالية بوقف جميع التعاملات مع كل من المجلس التشريعي ومجلس الوزراء في إقليم التيجراي؛ بحجة أنهما نتاج “انتخابات إقليمية غير دستورية”. وثانيًا: علق التحويلات المالية الفيدرالية إلى المنطقة. وثالثًا: قام بإيقاف التعامل مباشرة مع المؤسسات المحلية على المستويات الأساسية؛ من أجل ضمان استمرار توفير الخدمات العامة الملحة لأبناء الإقليم. وقد اعتبرت النخبة الحاكمة في الإقليم هذه القرارات بأنها بمثابة إعلان حرب على التيجراي.[2] وفي تطور سريع يعكس تدهور العلاقة بين حكومة إقليم التيجراي والحكومة الفيدرالية في أديس أبابا، أمر رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الجيش بالرد الحاسم على ما سماه عدوان الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي. يقول البيان الصادر عنه: لقد تم تجاوز الخط الأحمر، وعلى الجيش إنقاذ البلاد؛ حيث تم اتهام الجبهة الحاكمة في التيجراي -التي ترفض شرعية الحكومة الاتحادية بعد 5 أكتوبر الماضي- أنها هاجمت معسكرًا للجيش الاتحادي؛ للاستيلاء على الأسلحة والمعدات؛ في محاولة وصفها البعض بالانقلاب على آبي أحمد. وهو ما يشير إلى تطور خطير، قد يهدد استقرار إثيوبيا والمنطقة بأسرها، وتحوّل حامل نوبل للسلام إلى مغامر يقود البلاد إلى حرب أهلية[3]، وهو ما يتضح في تطورات الوضع حتى الآن بعد الأمر الذي صدر من آبي أحمد لقوات الدفاع الوطني الإثيوبية ببدء هجوم عسكري ضد جبهة تحرير شعب التيجراي؛ الأمر الذي يفضي لإعلان الحرب، ليس فقط في إثيوبيا، وإنما ستمتد إلى الجارة إريتريا، وسينعكس صداها على المنطقة ككل، لاسيما إن أفضت إلى انفصال التيجراي.
سيناريوهات ومسارات محتملة:
في ظل هذا الوضع المُتأزم؛ صعدت للأُفق ثلاثة سيناريوهات مُستقبلية:
أولها: سيناريو المواجهة: وهو ما تم بالفعل، بالانتقال من المواجهة الإعلامية إلى مواجهة مسلحة في الأخير، وهو ما دعمته مقاربات آبي أحمد، التي نزعت إلى إظهار قوة الحكومة المركزية، وسياساته الرامية إلى تضييق الخناق على حكومة التيجراي -عبر عزلها وتطويقها من جهة الجارة إريتريا-؛ الأمر الذي انعكس بدوره على حتمية المواجهة المباشرة. وثانيها: سيناريو إضعاف سلطة الحكومة المركزية: وتُعتبر هذه المقاربة هدفًا أساسيًّا لعدد معتبر من التنظيمات، التي تميل إلى تقوية سردية الفيدرالية العرقية. فمنذ خروج الإيطاليين وعودة الحكم الوطني -ممثلًا في حكومة الإمبراطور هيلا سلاسي- بُذلت جهود جبارة من أجل حكومة مركزية، تبسط هيمنتها على الأقاليم كافة. وفي ضوء الأزمة الحالية تتزايد المخاوف بشدة، ويطل شبح عودة قبضة الدولة المركزية، وهو ما دعمه توجه آبي أحمد لعزل إقليم التيجراي، وقراره بالمواجهة العسكرية؛ خشية إضعاف قبضته على الدولة الإثيوبية؛ حيث إن إشكالية المواجهة التي بين حكومة إقليم التيجراي والحكومة المركزية تزيد من احتمالية إضعاف سلطات الأخيرة (مستقبلًا) كمقاربة جديدة؛ تفاديًا لسيناريوهات أسوأ على شاكلة الانفصال كليًّا، عبر ممارسة حق تقرير المصير الذي يكفله الدستور الإثيوبي. وثالثها: تصاعد النزعة الانفصالية: حيث يكفُل الدستور الإثيوبي، الذي وُضع في أعقاب إسقاط نظام منجستو هيلا مريام حق تقرير المصير لكل الشعوب الإثيوبية، الذي ربما يشجع حكومة إقليم التيجراي بعد التطورات الأخيرة إلى إعلان الإقليم كيانًا مستقلًّا ذا سيادة[4]. وربما كان مزيج من تلك السيناريوهات مجتمعة هو نتاج حتمي للوضع الراهن.
الخُلاصة:
لا يمكن التقليل من تأثير جبهة تحرير التيجراي، فمن ناحية الدور التاريخي استطاعت الجبهة العمل على إسقاط النظام الماركسي المتسلط، كما ساهمت في كتابة الدستور الحالي؛ الذي يمنح الإثنيات الحكم الذاتي على الطريقة الفيدرالية؛ بل حق تقرير المصير أيضًا. كما أن للموقع الجغرافي للتيجراي أهمية كبيرة؛ لأنه سيصعب عقد صلح حقيقي مع الصديقة الجديدة إريتريا، دون ثبات الوضع الأمني في عموم المنطقة. كما أنه من المهم هنا بحث ما إذا كانت للقوى الغربية مصلحة في تفكيك الدولة الإثيوبية، أو خلق بؤرة فوضى إقليمية جديدة، وذلك بالنظر لعدد من العوامل الطارئة، التي من أهمها -بعد أزمة التيجراي- التوترات العرقية المتزايدة في أكثر من مكان بالبلاد، كان من آخرها تجدد القتال بين العفر والصوماليين في شرق البلاد. هذا بالإضافة إلى التصريحات التهديدية التي أدلى بها الرئيس الأمريكي، والتي لام فيها الجانب الإثيوبي حول أي تدهور يمكن أن يحدث بسبب تعثر مفاوضات سد النهضة. وربما لا تقف السيناريوهات والمسارات المحتملة للأزمة بين الحكومة الفيدرالية وحكومة إقليم التيجراي عند الاحتمالات التي سبق ذكرها فقط؛ إذ إن هنالك سيناريو الحرب الأهلية أيضًا، والذي يُعد ممكنًا في ظل تاريخ طويل من الشك المتبادل بين شعوب الدولة الإثيوبية، وذلك إذا ما استمر الحال على ما هو عليه؛ أي دون تبنِّي مقاربات وآليات تُجنِّب الأطراف السياسية حتميةَ استمرار الصدام العنيف، الذي سينتهي بانفصال التيجراي، وتهديد النظام الإريتري، وتعرض منطقة القرن الإفريقي ككل لموجة جديدة من التوترات، التي ستنعكس -بالضرورة- على ملف المياه في تلك المنطقة، الذي سيمتد أثره للدولة المصرية.