برزت إفريقيا في أجندة الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020، بطريقة جعلت من الأهمية بمكان استبانة مُستقبل السياسة الأمريكية إزاء القارة، في ضوء المُتغيرات الأمريكية الحالية؛ وما إذا كان وصول الديمقراطي جو بايدن سيسهم في إعادة صياغة إستراتيجية متوازنة نسبيًّا، عن تلك التي انتهجها ترامب خلال فترته الرئاسية. حيث تراجعت أهمية إفريقيا في قائمة أولويات إدارة الرئيس دونالد ترامب على مدى السنوات الأربعة الماضية، والتي شهدت حالة من الجفاء السياسي والدبلوماسي بين أمريكا ترامب وإفريقيا؛ حيث لم يقم بزيارة واحدة للقارة، ولم يتوقف عن إصدار تصريحاته الساخرة عنها، والتي وصف فيها إفريقيا بأفظع التعبيرات، التي لا تليق باللغة الدبلوماسية. فكيف كانت ملامح السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إفريقيا في عهد ترامب؟ وكيف ستكون في عهد بايدن؟ وكيف سيكون مُستقبل العلاقات الأمريكية الإفريقية خلال الفترة القادمة؟ وكيف سيؤثر ذلك على قضية سد النهضة؟ كل تلك الأسئلة ستحاول تلك الورقة الإجابة عنها.
إفريقيا في سياسة ترامب:
أظهرت إدارة دونالد ترامب لا مبالاة واضحة حيال إفريقيا، واكتفت بالحفاظ على الوضع القائم في الأماكن التي توجد فيها الولايات المتحدة. وتُذكر له عبارة: “الأوكار القذرة”، التي وصف بها الدول الإفريقية التي يأتي منها أشخاص راغبون في الهجرة للولايات المتحدة، وركزت الولايات المتحدة خلال تلك الفترة على ما هو مهم بالنسبة لها، مثل مكافحة الإرهاب، وبرامج الدعم القائمة. لكنها لم توفر سوى اهتمام محدود بالدبلوماسية والسياسة والإستراتيجية الاقتصادية. ومن ثمَّ كانت حصيلة ترامب في القارة أدنى من سلفيه أوباما وبوش، وافتقد إلى إستراتيجية محددة، ولم تطأ قدماه القارة، حتى أنه أقال وزير خارجيته ريكس تيلرسون عندما كان في جولة إفريقية عام 2018[1]. وقد ركزت إدارة ترامب على إعادة صياغة دور القيادة الأمريكية حول العالم، ولعل أبرز ما عكس التصور الأمريكي إزاء إفريقيا كانت إستراتيجية إدارة ترامب لإفريقيا الجديدة، التي كشف عنها مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون في ديسمبر 2018، التي جاءت مدفوعة بمصالح الولايات المتحدة، وعليه ارتكزت السياسة الجديدة تجاه إفريقيا على تعزيز الأولويات والمصالح الأمريكية، التي عبرت عنها الوثيقة في ثلاثة محاور:
أولها: تعزيز العلاقات التجارية مع الدول الإفريقية لصالح كل من الطرفين؛ انطلاقًا من تعزيز مبدأ المعاملة بالمثل، والقضاء على مظاهر التبعية التي أوجدها المنافسون. ثانيها: مكافحة الإرهاب والتطرف الراديكالي العنيف؛ حيث ركزت الإستراتيجية على تنامي انتشار الإرهاب والتطرف، مع إعادة انتشار داعش في القارة، وانعكاس ذلك على المصالح الحيوية الأمريكية. ثالثها: إعادة صياغة المساعدات التنموية والإنسانية، وذلك بما يخدم الأهداف الإستراتيجية والمصالح الأمريكية، والتراجع عن دعم بعثات حفظ السلام غير الناجحة، ومساعدة الدول الإفريقية في الاعتماد على النفس[2].
وكان أحد قرارات ترامب الأولى عند توليه قيادة البلاد، هو تقييد تأشيرات الدخول الأمريكية لمواطني العديد من البلدان ذات الأغلبية السكانية المسلمة، فقد تم منع مواطني ليبيا والسودان من الدخول إلى الأراضي الأمريكية. وفي يناير 2020، قرَّر ترامب منع مواطني السودان وتنزانيا وإريتريا ونيجيريا من الإقامة في الولايات المتحدة؛ مما أغلق الباب أمام إمكانية لم شمل بعض الأُسر. وبحسب الرئيس دونالد ترامب، فقد عُوقِبت هذه الدول الإفريقية؛ لعدم امتثالها للقواعد الأمنية التي طالب بها.
وقد تراجعت العلاقات التجارية بين أمريكا وإفريقيا كذلك، ففي عام 2018، بلغ حجم التبادل الأمريكي مع إفريقيا حوالي 61.8 مليار دولار؛ لكنه تراجع في عام 2019، ليصل إلى 56.8 مليار دولار، بانخفاض قدره 8.07٪. أما في مجال الأمن ومحاربة الإرهاب؛ ففي نهاية عام 2019، أعلن دونالد ترامب عن تخفيض كبير في عدد القوات الأمريكية في إفريقيا، التي يبلغ عددُها حاليًّا نحو 7000 عسكري[3].
إفريقيا في سياسة بايدن:
يرمي الديمقراطيون إلى تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والأمن والنمو الاقتصادي، والطاقة النظيفة والزراعة المستدامة وحماية البيئة. هذا، بالإضافة إلى تعزيز التحولات السياسية الهشة في السودان وإثيوبيا والشركاء الرئيسين، ومساعدة البلدان في وسط إفريقيا والساحل والقرن الإفريقي؛ لمواجهة الإرهاب والتطرف، والأسباب الجذرية لانعدام الأمن. هذا بالإضافة إلى دعم اتفاقية التجارة الحرة القارية، وتعزيز الشراكة الاقتصادية متعددة الأوجه؛ الثنائية والإقليمية، فضلًا عن مشاركة القارة في التعافي من آثار جائحة كورونا، وتعزيز مرونة النظم الصحية. كما ركز برنامجهم على الأفرو – أمريكان، ووعدهم بمكافحة العنصرية ضدهم في الولايات المتحدة، والتعهد برفع الأصوات الإفريقية في المنتديات متعددة الأطراف[4].
أعضاء فريق بايدن الجدد وإفريقيا:
اعتمد جو بايدن -الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس باراك أوباما- على أعضاء فريق مستشاريه من الإدارات السابقة؛ لبناء فريق حملته الانتخابية، لا سيما في مجال الشؤون الخارجية، وعلى الأغلب سوف يقدمون له المشورة بشأن سياسته الإفريقية المحتملة في المستقبل. ومن أبرز هؤلاء: أنتوني بلينكين مستشار بايدن الرئيس للشؤون الدولية، الذي كان عضوًا سابقًا في إدارة كلينتون، وعرف بايدن لفترة طويلة. قام الرجل برحلات رسمية إلى المغرب وجيبوتي ونيجيريا وجنوب إفريقيا، ويُعبِّر دومًا عن دعمه لقيام شراكة أمريكية إفريقية قوية. الاسم الثاني الأبرز في فريق بايدن هو سوزان رايس التي شغلت منصب مستشار الأمن القومي من 2013 إلى 2017 في عهد الرئيس أوباما، كما عملت قبل ذلك مساعد وزير الخارجية للشؤون الإفريقية من 1997 إلى 2001. وتولَّت ملف الأزمات في دول إفريقية عدة، مثل الكونغو الديمقراطية وسيراليون وملف العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا، من بين أمور أخرى.
ومارست سوزان رايس دورًا رئيسًا في تمرير قرار التدخل الدولي في ليبيا في مجلس الأمن، بمساعدة مستشارة الأمن القومي سامانثا باور، التي خلفتها في الأمم المتحدة، وتحت قيادة هيلاري كلينتون. وعليه فمن المتوقع أن تعود إدارة بايدن لتبنِّي نهج السياسات النيوليبرالية، في تعاملها مع القارة الإفريقية. ويعتمد بايدن كذلك على ميشيل جافين، سفيرة الولايات المتحدة السابقة في بوتسوانا (2011-2014)، وممثلة الولايات المتحدة السابقة في مجموعة التنمية للجنوب الإفريقي (سادك)، وهي واحدة من أبرز المتخصصين الرئيسين في إفريقيا لدى بايدن[5].
ملامح التغيير القادم:
جاء بايدن للأفارقة ليس فقط بأجندة تأخذ مصالح الأفرو – أمريكان، والعلاقات الأمريكية الإفريقية في الحسبان، وإنما أيضًا بتاريخ تمثَّل في كونه نائبًا للرئيس السابق أوباما، صاحب الأصول الإفريقية، وكذلك اختياره لنائبته في السباق الانتخابي الحالي كامالا هاريس، ذات الأصول الإفريقية، واستدعاء قضايا الأفارقة والعلاقة مع إفريقيا، كأحد موضوعات الانتقاد، التي ركَّز عليها في منافسته لخصمه الانتخابي ترامب. كل هذا في ظل دور أمريكي متراجع عالميًّا، وسياق إفريقي يشهد مزيدًا من التحول في علاقاته التقليدية الأمريكية، وتصاعد المنافسة الدولية والإقليمية في إفريقيا؛ الأمر الذي استدعى ضرورة محاولة استشراف مستقبل الدور الأمريكي في القارة الإفريقية. ففي حين كان تقديم الدعم الأمريكي هو المأمول لإفريقيا، فإن إدارة أوباما هي من تم اتهامها بعسكرة الساحل، والأمر نفسه فيما يتعلق باتهامات ترامب بالتراجع عن تقديم الدعم لقوات حفظ السلام وجهود مكافحة الإرهاب، الذي أوضحته إستراتيجيته تجاه القارة، بضرورة اعتماد الدول الإفريقية على نفسها في بناء قدراتها، وأنه لن يكون هناك دعم دون مقابل، فهذه التحفظات كانت هدفًا إفريقيًّا، بضرورة بناء القدرات الذاتية، وإرساء مبدأ الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية[6].
ورغم ذلك، يظل الملمح الأبرز في السياسة المُتوقعة لبايدن تجاه إفريقيا سيكون تغيير لغة الخطاب، وذلك بإظهار احترام أكبر للقارة، ومن المُتوقع القيام بجولة رئاسية إفريقية في العام المقبل، وأن يستضيف بايدن قمة أمريكية إفريقية في واشنطن، كما فعل باراك أوباما عام 2014.
وعلى عكس توجُّه ترامب -الذي ركَّز على آلية العلاقات الثنائية مع بعض حلفاء الولايات المتحدة في إفريقيا- فإن إدارة بايدن ستتبنَّى اقترابًا أكثر شمولية؛ بحيث يتم التعامل مع المؤسسات القارية والإقليمية الإفريقية. ومن المُرجَّح أن يكون تركيز الإدارة الأمريكية القادمة على التفاوض بشأن اتفاقيات التجارة الحرة المتبادلة مع إفريقيا، سواء على المستوى الثنائي أو الإقليمي. وربما يحل هذا التوجُّه في نهاية المطاف محل قانون النمو والفرص الإفريقي، الذي يسمح بالصادرات من البلدان الإفريقية المؤهلة إلى الولايات المتحدة، معفاةً من الرسوم الجمركية. أما فيما يتعلق بمواجهة الصين في إفريقيا، فقد يجمع بايدن بين سياسة الاحتواء والتعاون؛ أي عدم رؤية الصين كمنافس في إفريقيا فقط، ولكن أيضًا الاعتراف بدورها في إفريقيا، والعمل معها من أجل تحقيق مصالح مشتركة[7].
الإدارة الجديدة وسد النهضة:
سيتوقف الدور الأمريكي في أزمة سد النهضة خلال المرحلة القادمة على علاقة النظام في مصر بالإدارة الأمريكية الجديدة[8]، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار اختيار بايدن ليوهانيس أبراهام لمتابعة الأعمال اليومية لفريقه الرئاسي الانتقالي، وهو أمر يحمل أهمية خاصة لمصر في تلك المرحلة. فويوهانيس أبراهام هو أمريكي إثيوبي من المهاجرين الإثيوبيين، الذي كان رئيس مكتب العمليات في مؤسسة أوباما في شيكاغو، فهو ديمقراطي مخلص لأوباما، وناشط مجتمعي، يطمح إلى منصب منتخب؛ باعتباره ينتمي للتيار التقدمي في الحزب الديمقراطي. ويعكس صعودُه في السياسة الأمريكية كيف أصبحت الجالية الإثيوبية في واشنطن العاصمة، وفي ولايات أخرى، قادرة على تفريخ قيادات سياسية، ربما تكون مؤثرة بشكلٍّ أو بآخر في قضية السد خلال الفترة القادمة[9].
الخُلاصة:
على الرغم من الاستناد إلى الخبرة التاريخية في كيفية تعامُل الرؤساء الديمقراطيين مع إفريقيا؛ للتنبؤ بسلوك الإدارة الأمريكية القادمة، فإن الرئيس بايدن لن يفعل أفضل من مجرد العودة لسياسة الولايات المتحدة تجاه إفريقيا خلال عهد كلٍّ من بيل كلينتون وباراك أوباما، والدليل على ذلك عودة بعض المستشارين القدامى، مثل سوزان رايس، التي كانت المُحرِّك الرئيس والمُشكِّل للسياسة الأمريكية تجاه إفريقيا، في كلٍّ من إدارتي كلينتون وأوباما.
وعلى أي حال، فإن هناك ثوابت في السياسة الخارجية الأمريكية، تجعل من قضايا التجارة، والوصول إلى الموارد الطبيعية في إفريقيا، ومواجهة النفوذ الصيني والروسي المتزايد، ومحاربة الإرهاب أهدافًا رئيسة للحركة والدبلوماسية الأمريكية تجاه القارة. لا تتبدَّل هذه الأهداف بتبدُّل الرؤساء، ولكن يتم تعديل الأولويات ومناهج الحركة. ولم تبالغ حملة بايدن في وعودها تجاه إفريقيا، ولا توجد إشارة إلى زيادة الإنفاق الفيدرالي الأمريكي على المساعدات والتنمية الإفريقية. كما لا توجد التزامات بمشاركة الولايات المتحدة بشكلٍ أعمق في التحديات الأمنية لإفريقيا. ومع ذلك، فإن الأهداف العريضة، الموضحة في وثيقة حملة بايدن الانتخابية، إلى جانب الاهتمام بالأدوات الدبلوماسية والمتخصصين في الشؤون الإفريقية، من شأنها أن تُحدث تحوُّلًا أفضل في علاقات واشنطن مع إفريقيا.
——————-
[1] “غابت إفريقيا عن سياسة ترمب، فهل تحضر في سياسة بايدن؟”، إيلاف، 11/11/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/Ns8Vw
[2] شيماء البكش، “ما بين واقعية “ترامب” ومثالية ” بايدن” .. إفريقيا في ميزان السياسة الخارجية الأمريكية”، المرصد المصري، 2/11/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/sqKY6
[3] د. حمدي عبد الرحمن، “إدارة جو بايدن وإفريقيا: ملامح التغيير القادم”، قراءات إفريقية، 10/11/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/QcJDd
[4] شيماء البكش، مرجع سبق ذكره.
[5] د. حمدي عبد الرحمن، مرجع سبق ذكره.
[6] شيماء البكش، مرجع سبق ذكره.
[7] د. حمدي عبد الرحمن، مرجع سبق ذكره.
[8] د. عباس شراقي، “ترامب وبايدن وقضية سد النهضة”، فيس بوك، 8/11/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/ibIUF
[9] عزت إبراهيم، “الأجندة الغائبة: من هو الإثيوبيّ صاحب الكلمة في تشكيل فريق “بايدن”؟”، المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية ECSS، 29/6/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/SH4Sf