جو بايدن والسياسة الخارجية الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية

لم يخف الفلسطينيون ارتياحهم من خسارة الرئيس الحالي والمرشح الجمهوري دونالد ترامب في السباق الانتخابي نحو البيت الأبيض، الذي جرى في 3 نوفمبر 2020؛ نظرًا لسياسة ترامب التى استهدفت تصفية القضية الفلسطينية، من خلال مجموعة من القرارات، تمثلت في: إعلان ترامب رسميًّا، في 6 ديسمبر 2017، اعتراف إدارته بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، وفي مايو 2018، نقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى القدس، وفي المقابل، أعلنت السلطة الفلسطينية قطع اتصالاتها مع إدارة ترامب، واستمرت القطيعة حتى اليوم.

وعلى صعيد التضييق الاقتصادي، بدأت واشنطن في 16 يناير 2018، تقليص مساعداتها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، ثم في 3 أغسطس 2018، قررت قطع كافة مساعداتها، ومنذ ذلك الوقت، تعاني “أونروا” من أزمة مالية خانقة، أثرت على تقديم مساعداتها للفلسطينيين. وفي 2 أغسطس 2018، أعلنت السلطة الفلسطينية أن الإدارة الأمريكية أوقفت كل مساعداتها للفلسطينيين، بما يشمل المساعدات المباشرة للخزينة وغير المباشرة.

ولاحقًا في 10 سبتمبر 2018، أغلقت الإدارة الأمريكية مكتب منظمة التحرير بواشنطن، وحساباتها المصرفية، وبعد أيام طردت السفير الفلسطيني لديها حسام زملط وعائلته. وفي يناير 2020، أعلن ترامب خطة “صفقة القرن” لتصفية القضية الفلسطينية، التي تتضمن إجحافًا كبيرًا بالحقوق الوطنية الفلسطينية، وتدعو إلى إقامة حكم ذاتي، تحت مسمى “دولة”، على مناطق سكنية غير متصلة جغرافيًّا، وتقطع أوصالها المستوطنات الإسرائيلية. وفي 29 أكتوبر 2020، سمحت واشنطن لمواليد القدس من الأمريكيين، بتسجيل إسرائيل مكانًا للميلاد، وهي خطوة يراها الفلسطينيون تكريسًا لاعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة مزعومة لدولة الاحتلال.

وسبق للسفير الأمريكي بإسرائيل، ديفيد فريدمان، أن أعلن عن رغبة واشنطن في تغيير القيادة الفلسطينية الحالية، قبل أن يتراجع عن تصريحاته، كما دعم ترامب التطبيع العربي والإسلامي، مع إسرائيل، قبل حلّ القضية الفلسطينية، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. وندد الفلسطينيون باتفاقيات التطبيع الأخيرة، واعتبروها محاولة لتدمير الحاضنة العربية والإسلامية لهم، ومحاولة للضغط عليهم للقبول بالتفريط بحقوقهم الوطنية؛ ما دفع عددًا من القادة الفلسطينيين لإصدار تصريحات، أشادوا فيها بخسارة “ترامب” للانتخابات[1].

ويسعى هذا التقرير إلى محاولة التعرف إلى ملامح السياسة الخارجية الأمريكية تحت رئاسة بايدن تجاه القضية الفلسطينة، وهل ستختلف سياسة بايدن عن ترامب، أم أنها ستسير على نفس المنوال؟ وذلك عبر تقسيم الورقة إلى قسمين: الأول: ملامح سياسة بايدن تجاه الفلسطينيين، والثاني: ملامح سياسة بايدن تجاه الإسرائيليين.

أولًا: ملامح سياسة بايدن الخارجية تجاه الفلسطينيين:

يمكن القول إن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية -بناءً على تحليل الخطاب السياسي لجو بايدن، ونائبته السيناتور كامالا هاريس- تتمثل في: أولًا: التأكيد على أمن إسرائيل وتفوقها العسكري، كأولوية ثابتة مرتبطة بأمن الشرق الأوسط ككل. ثانيًا: العمل على تشجيع استئناف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين؛ من أجل التوصل إلى تسوية سياسية بينهما، على أساس حل يسمح بقيام دولة فلسطينية تعيش في سلام مع إسرائيل. ثالثًا: تشجيع الدول العربية كافة على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وإقامة سلام عربي – إسرائيلي غير مشروط بتسوية القضية الفلسطينية[2].

 

 

وبشكل أكثر تفصيلًا، يمكن توضيح السياسة الخارجية الأمريكية تحت رئاسة بايدن تجاه الفلسطينيين كما يلي:

حل الدولتين:

فعلى عكس ترامب، يدعم بايدن إقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل. وقال بايدن لوكالة التلغراف اليهودية في مايو 2020: “يجب أن تكون الأولوية الآن لقضية السلام الإسرائيلي الفلسطيني، هي استئناف حوارنا مع الفلسطينيين، والضغط على إسرائيل؛ حتى لا تتخذ إجراءات تجعل حل الدولتين مستحيلًا”.

كما أخبر بايدن المانحين اليهود الأمريكيين، خلال مكالمة في الشهر ذاته، أنه سوف يعكس سياسات ترامب تجاه إسرائيل، التي قال إنها تضر بفرص التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين. حيث تعهد باستعادة العلاقات الدبلوماسية مع السلطة الفلسطينية، واستئناف المساعدات الأمريكية للسلطة ووكالة الأونروا، ودفع كلا الجانبين نحو حل الدولتين، مكررًا معارضته لضم الضفة الغربية الذي اقترحه رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

ويقول مستشارو بايدن إنه سيعيد فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وسيعيد فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن[3]. أما بالنسبة لنقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، فلا عودة عنه بالنسبة لبايدن؛ لأن الرجل نفسه، كان من بين الموقعين على ما يسمى “قانون السفارة الأمريكية لعام 1995”، الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأمر بنقل هذه السفارة من تل أبيب إليها. بل إن بايدن صرح بوضوح، بأن لا نية لديه للتراجع عن نقل السفارة؛ لذا أصبح سقف ما ينبغي العمل عليه فلسطينيًّا وعربيًّا ودوليًّا، هو الحصول على المحدد السياسي والجغرافي، الذي يفيد بأن نقل السفارة كان إلى القدس الغربية، وليس إلى الشرقية[4].

ومع ذلك، فإن الالتزام بحل الدولتين سوف يصطدم بعدد من العقبات، التي تمثل حقائق على الأرض، من أهمها المستوطنات في الضفة الغربية، ووضع القدس كعاصمة لإسرائيل، وطبيعة الحقوق السياسية التي يتمتع بها الفلسطينيون كشعب وكأفراد، وحقوق المستوطنين السياسية في الأماكن التي قد تؤول لسيادة السلطة الوطنية الفلسطينية[5].

ضم المستوطنات:

فوز بايدن يعني سحب رؤية ترامب وخطة الضم من الطاولة، إلا إذا أراد ترامب ونتنياهو تطبيقها كليًّا، أو جزئيًّا، خلال الفترة الانتقالية، التي تنتهي باستلام الرئيس الجديد مهامه في العشرين من يناير 2021.

فقد يلجأ ترامب إلى ترجمة صفقته لمذكرة تفاهم، أو تبادل رسائل بين واشنطن وتل أبيب؛ لتقييد إدارة بايدن، وجعل الصفقة سياسة أمريكية رسمية، ونهجًا متفقًا عليه بين “إسرائيل” والولايات المتحدة. مثلما حدث في أبريل 2004، عندما دعم الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن خطة فك الارتباط، في رسالة بعث بها لرئيس الوزراء أريئيل شارون، الذي قدمها للإسرائيليين على أنها اعتراف أمريكي بخطته، خاصة في ما يتعلق بالكتل الاستيطانية المقدمة، مقابل خطة فك الارتباط؛ تحضيرًا لوصول إدارة أوباما.

وما يدعم من إمكانية قيام ترامب بذلك، محاولة الانتقام لقرار مجلس الأمن 2334 ضد المستوطنات، بتشجيع من باراك أوباما، الذي امتنع عن نقضه بعد فوز ترامب، وقبل تنصيبه رئيسًا، وشكّل القرار صفعة بوجه نتنياهو. كما أنه من المتوقع أن يضغط اليمين الإسرائيلي والمستوطنون على ترامب لإثبات الحقائق على الأرض خلال هذه الفترة غير الملحوظة، فضلًا عن رغبة نتنياهو في صرف الانتباه عن استئناف محاكمته في أوائل يناير 2021، التي ستتزامن مع نهاية أيام إدارة ترامب[6].

وفي هذا السياق، ففور الإعلان عن فوز بايدن، وافقت الإدارة المدنية الإسرائيلية على بناء 5400 وحدة استيطانية في الضفة الغربية، ويتعلق الأمر بتوسيع مستوطنات الكتل الكبرى، وكذلك في أعماقها، خاصة مستوطنات: بيت إيل، كارني شومرون، كوخاف يعقوب، شيما، ميتساد، بيتزال، معاليه أفرايم، نوكديم، كفار أدوميم، تلمون، إفرات، وجبل غيلو. وبلغة إجمالية فإن المباني الجديدة والمضافة، ستضم ثلاثين ألف مستوطن جدد سيغمرون المنطقة[7].

لكن يبقى احتمال الضم الكلي أو الجزئي للمساحة المخصصة في هذه الفترة غير مرجح؛ لأنه من المفترض بإسرائيل ألا تكون من الحماقة لتبدأ عهد الرئيس الأمريكي الجديد بتحدٍّ كبير؛ ما يؤزم العلاقات معه ومع اليهود والصهاينة الذين ضد الضم، وكذلك مع الدول العربية التي طبعت، ويمكن أن تطبع علاقاتها مع إسرائيل. ولكن ذلك لا يعني أن إسرائيل ستتوقف عن التوسع الاستعماري الاستيطاني؛ فهذا التوسع سيستمر من دون تشجيع أمريكي، ولا ضغط حقيقي لمنعه[8].

المفاوضات مع إسرائيل:

من المتوقع أن تسعى الإدارة الأمريكية مرة أخرى إلى إحياء عملية المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فقد صرحت نائبة بايدن كامالا هاريس، أنه من الضروري تشجيع الفلسطينيين على استئناف المفاوضات مع الإسرائيليين، من خلال تقديم عدد من الحوافز، ذكرت منها: إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وإعادة فتح مقر البعثة الفلسطينية في واشنطن، واستئناف دور الولايات المتحدة في دعم وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين، والعمل على تخفيف الأزمة المالية التي تعاني منها السلطة الوطنية الفلسطينية[9]. وفي هذا السياق، يمكن أن نشهد لقاءات مباشرة أو غير مباشرة تقريبية، وزيارات فلسطينية وإسرائيلية لواشنطن، وزيارات مكوكية من وزير الخارجية الأمريكية وطاقم السلام الذي سيتم تعيينه.

ولكن عودة المفاوضات ستكون بهدف إدارة الصراع، وليس السعي لحله وفقًا للرؤية اليمينية الإسرائيلية، وما يعزز ذلك بقوة أن أولويات بايدن ستكون بعيدة -على الأقل في العام الأول- عن الانهماك في حل قضية لم تجد حلًّا منذ مائة عام، والدخول فيها في ظل وجود عائق ضخم، متمثل في حكومة متطرفة في إسرائيل، وتعيش وسط أزمات عدة، ستدفع إلى إجراء انتخابات إسرائيلية في العام المقبل، المرشح للفوز فيها أيضًا اليمين الإسرائيلي بزعامة نتنياهو نفسه، أو زعيم إسرائيلي آخر، لا يقل إن لم يزد تطرفًا عنه، مثل نفتالي بينيت، أو جدعون ساعر، أو غيرهما.

يضاف إلى ذلك أن الرئيس الفلسطيني في نهاية عهده، والصراع على الخلافة -وإن كان بالكواليس- يحدّ من إمكانية الإقدام على خطوات ومبادرات كبيرة، خصوصًا تلك التي تتضمن تنازلات فلسطينية كبيرة، يتسلح فيها الرئيس بايدن لتشجعه على المجازفة، ومحاولة التوصل إلى حل.

كما أن الانقسام الفلسطيني مستمر، بعد أن أضاع طرفا الانقسام الفرصة السانحة للوحدة بوجود رئيس أمريكي (ترامب)، طرح رؤية، وقام بخطوات يرفضها كل الفلسطينيين. أما الآن فما يطرحه بايدن، يمكن أن يختلف عليه الفلسطينيون.

ويزيد الأمر تعقيدًا أن ما يطرحه الرئيس محمود عباس من الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي على أساس الشرعية الدولية، وكسر احتكار الرعاية الأمريكية للمفاوضات، وأن الفلسطينيين في حل من الاتفاقات الموقعة، بعيد عما يقبله بايدن، الذي يريد العودة إلى المفاوضات الثنائية، وبرعاية أمريكية[10].

 

استبدال السلطة:

يبدو أن محاولات استبدال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ستتوقف مع رئاسة بايدن؛ لأن محاولات الضغط على عباس لقبول رؤية ترامب وخطة الضم ستتوقف، وكذلك محاولات استبدال القيادة الفلسطينية بقيادة أخرى مستعدة لقبولها.

أكثر من ذلك، فإن بايدن سيعمل على بقاء السلطة (سواء عباس أو غيره)، عبر استئناف العلاقات الدبلوماسية معها، وإعادة المساعدات المالية. ويرجع ذلك إلى كون بايدن مناصرًا لإسرائيل من الطراز القديم؛ حيث يدرك أهمية السلطة الفلسطينية لإسرائيل؛ لكونها تعفي إسرائيل من العبء المباشر في إدارة شؤون الحياة اليومية لسكان الضفة الغربية وغزة[11].

ولكن ستتواصل الضغوط على السلطة؛ للاستمرار بالتزامات أوسلو، فهناك أنباء عن أن السلطة ستعيد التنسيق الأمني والمدني، وإحياء أوسلو من جانب واحد، وستأخذ أموال المقاصة. أكثر من ذلك، فهناك توقعات بأن تمضي السلطة بعيدًا في تقديم تنازلات جديدة، تسمح بحل يتضمن “دولة” على مساحة تقع ما بين خطة ومعايير كلينتون ورؤية ترامب[12].

المصالحة الفلسطينية:

دفعت سياسة ترامب المنحازة لإسرائيل، والهادفة لتصفية القضية الفلسطينية -بصورة غير مسبوقة- الرئيس محمود عباس إلى استئناف محادثات المصالحة مع حماس. وشجعت حماس مبادرة عباس، وعبّرت عن استعدادها لمناقشة قائمة مشتركة مع حركة فتح في الانتخابات البرلمانية. وكانت نتائج جولتي المحادثات بين حماس وفتح في أنقرة وبيروت إيجابية.

لكن (أبو مازن) علّق المحادثات قبل أسابيع من الانتخابات الأمريكية؛ نتيجة خلافات أساسية بين الطرفين. فحماس تريد انتخابات رئاسية وللمجلس التشريعي وللمجلس الوطني الفلسطيني بشكل متتال، لكنّ (أبو مازن) أصر على انتخابات واحدة وهي البرلمانية. بالإضافة إلى ذلك، رفض أبو مازن استئناف دفع رواتب موظفي السلطة في غزة؛ كإشارة على حسن النية وجديته، بالتشارك مع غزة الخاضعة لسيطرة حماس[13].

ومع فوز بايدن بالانتخابات الأمريكية، تصاعد الحديث عن وجود تخوفات حقيقية بأن قدوم بايدن قد يُغري السلطة الفلسطينية بالتخلي عن جهود المصالحة الوطنية، وإبقاء الانقسام؛ حيث إن هناك تصورًا فلسطينيًّا رسميًّا في حقبة ما بعد أوسلو، بأن أمريكا هي الدولة الوحيدة القادرة على الضغط على إسرائيل، ولعب دور الوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفي حين أن أمريكا تخلت عن هذا الدور في ظل إدارة ترامب، فمن المتوقع أن تعود واشنطن للعب هذا الدور مرة أخرى تحت حكم بايدن، ولكن بشرط عدم توجه السلطة نحو المصالحة الفلسطينية؛ بزعم أنها ستتضمن حماس مع سلاحها.

فضلًا عن أن المصالحة اتسمت بتوجه براغماتي ظرفي، أكثر من كونها تطورًا عميقًا في فكر وسياسة الطرفين؛ فقد تم اللجوء إلى المصالحة بعدما حُشر الطرفان الفلسطينيان الأقوى (فتح وحماس) في الزاوية؛ إثر صفقة القرن، ومخططات الضم، واندفاعة موجة التطبيع تحت رئاسة ترامب. ما يشير إلى أن المصالحة الداخلية ينشط التوجه نحوها كلما حصل انسداد خارجي، ثم يتم التخلي عنها كلما تحدث انفراجة خارجية. وبالتالي، ففوز بايدن يمثل انفراجة للسلطة الفلسطينية، تدفعها نحو وقف المصالحة مع حماس، خاصة إذا اشترط بايدن وقف المصالحة مقابل استئناف الدعم المالي، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وسوى ذلك مما ألغاه ترامب، بما يقدم شريان بقاء ضروري للسلطة، التي سوف تقوم بدورها باستئناف التنسيق الأمني مع إسرائيل، والعودة إلى سياسات ما قبل ترامب[14].

 

ثانيًا: ملامح سياسة بايدن الخارجية تجاه الإسرائيليين:

فى البداية، من المفيد أن نذكر أن ما يقرب من ثلاثة أرباع اليهود الأمريكيين صوتوا لصالح بايدن، في حين كان ثلثا الناخبين في إسرائيل يفضلون ترامب. هذا التناقض في التفضيلات يعكس حقيقة مهمة، وهي انعدام مصداقية ادعاء إسرائيل بأنها صاحبة الولاية السياسية على كل يهود العالم، وهو ما يسهل إخضاع سياستها لعملية إعادة تقييم في واشنطن بدون حساسية.

كما أن ذلك يشكك بصورة كبيرة في المقولة التي تشير إلى أن سياسة بايدن تجاه القضية الفلسطينية لن تختلف عن سياسة ترامب[15]. فهزيمة ترامب تمثل خسارة كبيرة بالنسبة لإسرائيل؛ نظرًا لما اتخذه من خطوات غير مسبوقة في دعم تل أبيب، وتبنِّيه الرؤية الإسرائيلية اليمينية الصهيونية للصراع وكيفية الحل، من خلال طرح رؤيته التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، وقطعه شوطًا كبيرًا على طريق تطبيقها[16].

وفي المقابل، يبدو أن السياسة الخارجية الأمريكية تحت حكم بايدن تجاه إسرائيل ستتغير في بعض الملفات، فقد أكد المحلل الإسرائيلي في صحيفة “هآرتس” العبرية، عاموس هرئيل، أن فوز جو بايدن بالرئاسة الأمريكية سينتج عنه تراجع مكانة بنيامين نتنياهو الدولية؛ حيث سيفقد نتنياهو موقع القناة الأولى للوصول إلى الرئيس الأمريكي ترامب في نظر زعماء دول كثيرة. كما أن البيت الأبيض لن يعود بمثابة البيت الثاني للسفير الإسرائيلي رون دريمر، ولن يكون السفير الأمريكي المقبل لدى إسرائيل مستوطنًا يمينيًّا على غرار السفير الحالي ديفيد فريدمان، كما سيفقد نتنياهو الهدايا السياسية التي منحه إياها ترامب خلال ثلاث معارك انتخابية في العامين الأخيرين.

حيث ستعمل إدارة بايدن بعكس ما تشتهيه رياح نتنياهو، كنوع من التوبيخ غير المباشر على سياسته السابقة، التي فضلت الحزب الجمهوري على الديمقراطي، والتي وصلت لدرجة قيام نتنياهو بإلقاء خطاب بالكونجرس، ينتقد سياسة الديمقراطيين تجاه إسرائيل. ما يجعل مساحة المناورة عند نتنياهو -فيما يتعلق بالشؤون الداخلية- أقل؛ حيث إن نتنياهو، الذي كان من المرجح بأنه سيُسارع إلى إجراء انتخابات جديدة بمجرد فوز ترامب، سيكون الآن أكثر تريثًا، وأكثر حرصًا على دراسة معمّقة للارتدادات.

كما أن تسلم بايدن لمقاليد الحكم في أمريكا دون فوضى أو معيقات، سيعطي انطباعًا لدى المتخوفين في إسرائيل بأنه بالإمكان الآن البدء فعليًّا بمحاكمة نتنياهو، والتخلص منه؛ حيث إن مؤشرات الخراب التي يُصدرها نتنياهو ضد من يحاول المساس به، ستكون مجرد فقاعات فارغة، ستشجع الكثيرين للعمل ضده، وربما ارتفاع وتيرة المظاهرات للخلاص منه[17].

بينما تتمثل أبرز الملفات التي لن تتغير تحت حكم بايدن في ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي، واستمرار المساعدات العسكرية الأمريكية لها. فقد كانت مواقف بايدن المؤيدة لزيادة المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل معروفة منذ أن كان نائبًا للرئيس الأسبق باراك أوباما. فقد ساعد بايدن في ضمان دعم لا يتزعزع لأمن إسرائيل، وكان مناصرًا رئيسًا في تأمين الدعم لتقنيات إنقاذ الأرواح، مثل القبة الحديدية، وأنظمة الدفاع الصاروخي ديفيدز وأرو 3. من ناحية أخرى، ساعد بايدن في صياغة مذكرة تفاهم (MOU) غير المسبوقة، البالغة 38 مليار دولار، ومدتها 10 سنوات، والموقعة في عام 2016، والتي كانت أكبر حزمة مساعدات عسكرية في تاريخ الولايات المتحدة[18].

وتستعد إسرائيل من الآن لتقديم حزمة من طلبات المساعدات العسكرية إلى الإدارة الجديدة، تتضمن شراء المزيد من طائرات (إف – 35) و(في – 22)، والنسخة الجديدة الأكثر تطورًا من المقاتلة (إف – 15)، وأسلحة أخرى، تم إدراجها على قائمة المفاوضات مع الإدارة الحالية، خلال الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس في نهاية أكتوبر 2020؛ تمهيدًا لتوقيع اتفاق تمويل طويل الأجل، يلبي احتياجات إسرائيل العسكرية.

وتعمل الولايات المتحدة دائمًا على أن يكون ضمانها لأمن إسرائيل وتفوقها النوعي العسكري سياسة واضحة، لا تشوبها شائبة. ومن المتوقع أن تزيد أهمية إسرائيل للولايات المتحدة تحت حكم بايدن خلال السنوات والعقود المقبلة، مع تخفيف الوجود العسكري الأمريكي في سوريا والعراق وأفغانستان، والإبقاء على الحد الأدنى الضروري من القوات في الخليج والبحر الأحمر؛ لحماية ممرات التجارة الدولية، مع الإبقاء على القوات المستأجرة في بلدان مثل السعودية والبحرين. هذا الوضع الجديد يحتاج إلى قوة حليفة، وليس مجرد قوة صديقة، تملأ الفراغ العسكري الذي ستتركه وراءها الولايات المتحدة، في مواجهة محاولات التمدد العسكري الروسي والإيراني في المنطقة. ولا يوجد في العالم من هو أفضل من إسرائيل للقيام بهذا الدور من وجهة النظر الأمريكية[19].

 

 

ختامًا:

يمكن القول إن السياسة الخارجية الأمريكية تحت حكم بايدن تجاه القضية الفلسطينية، ستقوم على إستراتيجية “إدارة الصراع”، وليس حله. وربما سيكون كل الأطراف مستفيدة من هذه المرحلة: الطرف الإسرائيلي سيواصل سياسة الاستيطان والتهويد، ولو بخطوات أبطأ؛ مما يصعب إمكانية تطبيق حل الدولتين أكثر مما هو صعب الآن.

الطرف الفلسطيني يستفيد بتخفيف الضغوط الناتجة عن سياسة ترامب؛ مما يخفف أعباء الحياة اليومية، ويقدم لأنصار حل الدولتين الأوكسجين؛ لتستمر الحياة في هذا الحل، مع أنه وصل إلى موت إكلينيكي، وتستمر القيادة الفلسطينية في بيع هذا الحل الوهم لشعبها لسنوات قادمة، وهذا يساعدها في تجنب الاعتراف بالفشل. حماس ستستفيد بترسيخ أوضاعها في غزة، مع تخفيف الضغوط عليها، على اعتبار أن سياسة بايدن ليست مع إنهاء حكمها هناك.

أما الإدارة الأمريكية فإنها بهذه السياسة تتفرغ لأولوياتها المتعددة والأكثر أهمية، مثل الصراع مع روسيا والصين، بدون التخلي عن ثوابتها في العلاقة مع إسرائيل[20].

 

 

————————————-

[1] “فلسطين .. هل يُصلح “بايدن” ما أفسده “ترامب”؟ (تحليل)”، الأناضول، 8/11/2020، الرابط:

[2] “فرصة جديدة لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين؟”، القدس العربي، 11/11/2020، الرابط:

[3] “سياسة الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن تجاه الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني”، المركز الديمقراطي العربي، 9/11/2020، الرابط:

[4] “بلغة التحليل السياسي .. معنى فوز بايدن فلسطينيًّا”، العرب، 10/11/2020، الرابط:

[5] “فرصة جديدة لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين؟”، مرجع سابق.

[6] “قراءة إسرائيلية في سياسة بايدن تجاه الفلسطينيين”، موقع عدنان عامر، 9/11/2020، الرابط:

[7] “تقدير إسرائيلي: فوز بايدن يضع تحديات أمام نتنياهو والاستيطان”، عربي 21، 9/11/2020، الرابط:

[8] “السيناريوهات الفلسطينية بعد فوز بايدن”، مسارات، 10/11/2020، الرابط:

[9] “فرصة جديدة لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين؟”، مرجع سابق.

[10] “السيناريوهات الفلسطينية بعد فوز بايدن”، مرجع سابق.

[11] “تحليل: هل يعيد بايدن المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية؟”، عكا للشؤون الإسرائيلية، 9/11/2020، الرابط:

[12] “السيناريوهات الفلسطينية بعد فوز بايدن”، مرجع سابق.

[13] “ميدل إيست آي: وصول بايدن “الليبرالي” إلى البيت الأبيض لن يغير واقع الفلسطينيين بل سيزيده سوءًا”، القدس العربي، 11/11/2020، الرابط: https://bit.ly/2IuSc9R

[14] “بايدن وتعزيز الانقسام الفلسطيني”، ملتقى فلسطين، 8/11/2020، الرابط: https://bit.ly/2GRoNWt

[15] “فرصة جديدة لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين؟”، مرجع سابق.

[16] “السيناريوهات الفلسطينية بعد فوز بايدن”، مرجع سابق.

[17] “تقرير: مآلات فوز بايدن على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية”، مرجع سابق.

[18] “سياسة الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن تجاه الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني”، مرجع سابق.

[19] “فرصة جديدة لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين؟”، مرجع سابق.

[20] “الفلسطينيون بين ما يجب وما يمكن في ظل حكم بايدن”، الملتقى الفلسطيني، 11/11/2020، الرابط: https://bit.ly/32Ru5t5

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022