تتنازع أديس أبابا والخرطوم على أرض مساحتها نحو 250 كيلومترًا في منطقة الفشقة بولاية القضارف، ويسكنها مزارعون من البلدين، وتعرضت القوات السودانية لكمين من قوات وميليشيات إثيوبية، في 15 ديسمبر الجاري، ما أسفر عن خسائر في الأرواح والمعدات، ما أدى لاندلاع مواجهات بين الجيش السوداني وجماعات مسلحة إثيوبية. لتتقدم فيما بعد القوات المسلحة السودانية في الخطوط الأمامية داخل الفشقة، وأكدت الخرطوم أنها استعادت العديد من الأراضي التابعة لها. ودخل البلدان في مباحثات حول ترسيم الحدود المشتركة دون الإعلان عن أي قرار، وجاء في بيان مشترك صادر عن إعلام مجلس الوزراء السوداني أن الطرفين اتفقا على رفع التقارير إلى قيادة البلدين على أن يُعقد الاجتماع المقبل في موعد يُحدد لاحقًا عبر القنوات الدبلوماسية مع أديس أبابا. وهكذا تشهد العلاقات السودانية الإثيوبية حالة من الترقب الحذر، وسط تخوفات من أن يتحول النزاع الحدودي واستكمال عملية ترسيم الحدود؛ إلى وسيلة لإجبار الحكومة السودانية على أن تقف إلى جانب أديس أبابا ضد مصر في مفاوضات سد النهضة، أو لدفع تعويضات للمزارعين الإثيوبيين. فما هي خلفيات تلك الأزمة؟ وكيف تطورت؟ وما مدى تأثيرها على العلاقات المصرية السودانية، ومفاوضات سد النهضة؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى تلك الورقة للإجابة عليها خلال السطور القليلة القادمة..
خلفيات الأزمة وتصاعُدها: تتمسك السودان باتفاقات عام 1902 وبرتوكول لاحق عام 1903، يقضي بترسيم الحدود بين بريطانيا -نيابة عن السودان-، والإمبراطورية الإثيوبية، ومع استقلال السودان وانشغالها بصراعاتها في جنوب البلاد، انتهز المزارعين الإثيوبيين الفرصة في شن هجمات متكررة على الأراضي السودانية، حتى جاء عام 1972 ووقَّع البلدين على اتفاق ينص على إنهاء التمرد، ووقف التدخل العسكري، لكن المزارعون تمسكوا باتفاق وقع عام 1965، والذي يقضي بأن يظلوا داخل منطقة الفشقة المتنازع عليها حتى يتم ترسيم الحدود، لكن الميليشيات الإثيوبية لم تكف عن طرد المزارعين السودانيين وتمكين الإثيوبيين بدلاً منهم. في عام 1994، توصَّلت الخرطوم وأديس أبابا إلى اتفاق لتوزيع الأراضي في المنطقة بين المزارعين السودانيين والإثيوبيين، وتخصيص ثلثيها للسودانيين. وصعد النزاع على السطح العام الجاري، وفي مايو الماضي، اتهم الجيش السوداني نظيره الإثيوبي علنًا، بعد استيلاء 1800 مزارع إثيوبي على حوالي مليون فدان من الأراضي الزراعية الخصبة وطرد المزارعين السودانيين المحليين بمساعدة الميليشيات الإثيوبية، عقب ذلك اتفق الطرفان على أن تبدأ اللجنة المشتركة لترسيم الحدود عملها في أكتوبر وتنتهي مارس 2021.[1] وقد سهَّلت الحرب في إقليم تيجراي الإثيوبي مهمة الجيش السوداني هناك، إلا أن المعارك الصعبة ستكون جنوبًا في الفشقة الصغرى التي يفصلها عن الفشقة الكبرى نهر باسلام الذي يشق المنطقتين من الشرق إلى الغرب، والتي تستميت مليشيات الأمهرة الإثيوبية -وهي صاحبة المصلحة في الاستيلاء على الفشقة الصغرى- في الدفاع عنها لكثافة الوجود العسكري والاستيطان الإثيوبي، فضلاً عن سيطرة تلك المليشيات على تضاريس صعبة تكفل لها كشف سهول المنطقة. هذا في حين رفضت لجنة متضرري أراضي الفشقة التفاوض مع الوفد الإثيوبي، وطالبت القيادة السياسية بعدم الجلوس مع الوفد حتى يستقر الجيش السوداني في نقاط الحدود الدولية المعروفة بين البلدين.[2]
نتائج المفاوضات: وصلت المفاوضات الحدودية التي انطلقت الثلاثاء 22 ديسمبر، بين السودان وإثيوبيا في الخرطوم إلى طريق مسدود، حيث تجددت الاشتباكات في منطقة جبل أبو طيور التي أعلن الجيش قبل أيام تطهيرها من الميليشيات الإثيوبية والسيطرة عليها. وكانت جولة محادثات في الخرطوم حول ترسيم الحدود المشتركة، انتهت الأربعاء بدون الإعلان عن أي قرار بهذا الصدد. وجاء في بيان مشترك صادر عن إعلام مجلس الوزراء السوداني أن الطرفين اتفقا على رفع التقارير إلى قيادة البلدين على أن يعقد الاجتماع القادم في موعد يُحدد لاحقًا عبر القنوات الدبلوماسية بأديس أبابا. غير أن اجتماع اللجنة السياسية رفيعة المستوى حول قضايا الحدود بين السودان وإثيوبيا بدأ في جو غير مرضٍ، إذ إنه ومنذ بدء الاجتماع الثلاثاء، وصف وزير الخارجية الإثيوبي ديميكي ميكونين موقف السودان بأنه غير ودي. وقال في كلمته التي وزعتها السفارة الإثيوبية في الخرطوم، أن “إيجاد حل دائم على الحدود يتطلب تسوية ودية للقضايا المتعلقة بالموئل وزراعة الأراضي”.[3]
الوضع الحالي: جاءت الأزمة في إقليم التيجراي نوفمبر 2020 لتضع تحديات حقيقية أمام مسار العلاقات السودانية الإثيوبية، لاسيما أنها تلت توترات حدودية متكررة بينهما في منطقة القضارف بالسودان، وصلت إلى مرحلة انتهاك علني لسيادة السودان وقواته ومواطنيه في عمق أراضيه، بينما اقتصرت استجابته وقتها على مواقف كلامية متفاوتة القوة. ويمكن تلمس الوضع الحالي في مسارين: تقارب تقليدي شابه توتر مكتوم مؤخرًا بين رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك ونظيره الإثيوبي آبي أحمد، اتضح في تقليص جدول أعمال زيارة الأول لأديس أبابا منتصف ديسمبر فيما اعتبر رفضًا إثيوبيا لأداء حمدوك في أزمة التيجراي وما تلاها، تم تداركه جزئيًا في قمة الإيقاد بجيبوتي مؤخرًا. أما المسار الثاني فإنه يتمثَّل في حالة استقطاب واضحة في علاقة المكوِّن العسكري بأديس أبابا، وتمكُّنه من خلخلة الاصطفاف الشعبي واجتذاب قطاعات أكبر وراء مواقفه داخليًا وخارجيًا؛ مما مثَّل تهديدًا حقيقيًا لإثيوبيا كقوة مهيمنة في المرحلة الانتقالية، مع تبنِّي مواجهة العناصر الإثيوبية المعتدية على سيادة السودان عسكريًا. هذا فيما عمد آبي أحمد إلى امتصاص الغضب العسكري والشعبي السوداني ضد نظامه في قمة الإيقاد بجيبوتي برئاسة حمدوك، باتفاق البلدان على استئناف اجتماعات لجنة الحدود المشتركة 22 ديسمبر، وحشد المواقف وراء فكرة حل إفريقي للمشكلة، رغم التواضع سابقًا ومرارًا على فكرة ترسيم الحدود المعترف دون مخرجات جدية حتى الآن.[4]
تداعيات الأزمة السودانية الإثيوبية على مصر: يمكن رصد أهم تلك التداعيات في عدد من الملفات، أبرزها: سد النهضة؛ حيث يراوح السودان في مواقف متضاربة أحيانًا في هذا الملف، مما يعكس ربما غموض عملية صنع القرار السياسي في المرحلة الانتقالية. وتُعوِّل مصر بقوة، ضمن استراتيجية مصرية أشمل للتقارب مع دول حوض النيل، على الموقف السوداني وثباته في مواجهة المراوغات الإثيوبية. ويجسد حالة الاضطراب هذه إعلان الخرطوم مقاطعتها للمحادثات ذات الصلة، ثم إعلان رئيس الوزراء حمدوك خلال زيارته لأديس أبابا 13 ديسمبر التوصل لاتفاق مع إثيوبيا لاستئناف المفاوضات في ظل صمت مصري، واتفاق الجانبان على منح الاتحاد الإفريقي دور أكبر في المحادثات، الأمر الذي يعبر عن عدم تفهم للموقف المصري. أمن البحر الأحمر؛ كان ملف أمن البحر الأحمر من القضايا الشائكة بين القاهرة والخرطوم في السنوات الأخيرة من عهد عمر البشير، ويُرجح أن يقود أي تقارب إثيوبي سوداني في سياق سعي إثيوبيا لاستغلال موانئ سودانية إلى تجديد هذا التوتر، أخذًا في الحسبان التعاون العسكري التركي- الإثيوبي. موقف القوى السياسية السودانية من مصر؛ تحاول القاهرة مد جسور التواصل مع قوى ثورية سودانية طالما عُرفت بأنها راديكالية، الأمر الذي يُمكن أن يتأثر -من حيث القوة والانتشار- بنمو النفوذ الإثيوبي وسط قوى سياسية تنظر لمصر بشكوك ربما يرتبط أغلبها بصورة نمطية موروثة، الأمر الذي تمثَّل في إثارة بعض القوى والأصوات السودانية مسألة مثلث حلايب في خضم استعادة القوات السودانية لأراضي تقر إثيوبيا بأنها سودانية.[5]
العلاقة بين الأزمة الحدودية ومفاوضات سد النهضة: كشف وزير الخارجية السوداني المكلف عمر قمر الدين، موقف بلاده من قضية الحدود مع إثيوبيا وأزمة سد النهضة. وذكر أن العلاقات مع إثيوبيا راسخة ككل دول الجوار، وأن السودان تحاول العيش بسلام مع كل جيرانها، ولكن كان هناك اختلاف في وجهات النظر بشأن الحدود، وأن المناطق التي دخلها الجيش السوداني هي مناطق سودانية وتمارس السودان عليها حقها السيادي، وأن نزاعات الحدود يجب أن تُحل بالمفاوضات. ومن جهتها أعلنت الخارجية الإثيوبية، أن بلادها والسودان اتفقا على حل قضية الحدود بينهما بشكل نهائي بعد أيام من التوتر. وفيما يتعلق بأزمة سد النهضة، ذكر الوزير السوداني أن بلاده طالبت بضرورة التفكير بنهج مختلف في الطريقة التي تدير بها المفاوضات، وأكد أن السودان لم يترك التفاوض.[6] مما لا شك فيه أن تعثر مفاوضات سد النهضة خلق بيئة خصبة لتصعيد الخلافات بين البلدين، فما كان للأمر أن يصل لهذا الحد في حالة نجحت مفاوضات سد النهضة.
الخُلاصة: النزاع الحدودي بين السودان وإثيوبيا تاريخي، يطفو ويتراجع وفق متغيرات الأحداث، فأزمة الفشقة تاريخية وليس لها حل جذري، كما أن المنظمات الدولية لا تعطيها أهمية كبيرة للضغط على الدول، مما يوحي بأنه لا توجد آفاق قريبة للحل، فالبيئة مواتية للمزيد من التصعيد. هذا ويجب أن تُشكل العلاقات السودانية الإثيوبية وتطوراتها الراهنة شاغلًا رئيسًا لمصر لتداعياتها المفهومة على عدة ملفات مصيرية، في مقدمتها سد النهضة وأمن البحر الأحمر. كما تمثل مساعي قيادة المرحلة الانتقالية حاليًا للخروج من دائرة النفوذ الإثيوبي؛ فرصة لاستعادة السودان لدوره الإقليمي المهم وتفادي مزيد من تعقيدات المرحلة الانتقالية، لاسيما بعد قيام إثيوبيا بدور رئيس في التأثير في السودان بوقوفها المبكر خلف قطاعات واسعة من القوى المدنية والمسلحة المعارضة للرئيس المعزول عمر البشير؛ الأمر الذي مكَّنها لاحقًا من استمرار تأثيرها في المرحلة الانتقالية، كما يتضح في التنسيق المستمر بين حمدوك وآبي أحمد في أكثر من ملف سوداني، والتحيز الإثيوبي الواضح لحمدوك. ولا يُتوقع تخلِّى إثيوبيا، التي خرجت من أزمة التيجراي أكثر جنوحًا لتعزيز هيمنتها الإقليمية، عن تأثيرها عبر قنوات الاتصال مع حمدوك وبعض المكونات المدنية، واحتواء المعارضة المسلحة. إلا أن هذا التأثير حاليًا يواجه مشكلات طارئة لعدة عوامل؛ أهمها تآكل صورة آبي أحمد كقائد إقليمي للسلام، والتقارب الواضح بين قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية السودانية مع المكون العسكري؛ مما يؤشر على اصطفاف شعبي متزايد وراء القيادة العسكرية السودانية، وتقارب القاهرة مع الخرطوم في ملفات عدة. هذا فيما تظل قدرة أديس أبابا على استمرار دورها كقوة إقليمية رئيسة في المنطقة؛ دافعًا لدورها في السودان ومساعي اندماجه في النظام الدولي سياسيًا واقتصاديًا، الأمر الذي قد يدفعها لاحتواء الأزمة، وربما تهدئتها لبعض الوقت على المستوى الديبلوماسي دون الوصول لحل على الأرض.
———————————————–
[1] عمر علاء، “«حصان طروادة».. هل يؤثر نزاع السودان وإثيوبيا الحدودي على مفاوضات سد النهضة؟”، المصري اليوم، 26/12/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/mDozi
[2] أحمد فضل، “عين على المفاوضات وأخرى على الجيش.. السودان عازم على استرداد أراضي الفشقة من المليشيات الإثيوبية”، الجزيرة نت، 24/12/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/ag3pF
[3] “مفاوضات الحدود تتعثر.. جيش السودان يصد هجمات إثيوبية”، العربية نت، 24/12/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/qi5qY
[4] محمد عبد الكريم، “دليل استرشادي: ماذا يحدث بين السودان وإثيوبيا؟”، مركز الإنذار المبكر، 2/12/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/KPDcP
[5] المرجع السابق نفسه.
[6] “السودان: هذا موقفنا من الحدود مع إثيوبيا وسد النهضة”، عربية Sky News، 24/12/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/4LlCs