الإسلاميون في المغرب والموقف من التطبيع.. السياق والمآلات

 

انضمام دولة المغرب لحظيرة التطبيع مع الاحتلال الصهيوني يمثل ورطة كبرى لحزب «العدالة والتنمية» المغربي كما يمثل صدمة للإسلاميين في العالم؛ ذلك أن رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني والذي يعتبر قامة فكرية  وسياسية كبرى في الحزب الإسلامي الحاكم، هو من وقع على الاتفاق ممثلا للجانب المغربي. وهو الذي كان حتى شهور قليلة يؤكد على المواقف الثابتة للمغرب ملكا وحكوما وشعبا على رفض التطبيع بكل أشكاله؛ باعتبار الملك هو “أمير المؤمنين” كما يطلق عليه في المغرب، ورئيس لجنة القدس في منظمة التعاون الإسلامي، إضافة إلى أن الملك يتباهى باستمرار أنه من سلالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مدعيا أن نسبه ينتهي إلى أبناء علي بن أبي طالب من السيدة فاطمة بنت الرسول عليه السلام، كوسيلة من وسائل اكتساب شرعية دينية للنظام الملكي الحاكم. هذا الموقف من جانب العثماني دفع قيادات ومفكرين إسلاميين إلى إعلان البراءة من العثماني، معتبرين ذلك شكلا من أشكال الخنوع والمذلة والحرص على منصب زائل في ظل حكومة بلا صلاحيات حقيقية أمام طغيان الملك وصلاحياته الواسعة.[[1]]

بهذا الاتفاق الذي جرى الإعلان عنه في 10 ديسمبر 2020م، والتوقيع عليه في 22 ديسمبر 2020م، تعتبر المغرب هي الدولة الرابعة التي تقيم علاقات طبيعية مع الاحتلال الصهيوني (التطبيع) خلال الشهور الأربعة الماضية بعد كل من الإمارات والبحرين والسودان؛ وذلك بضغوط  من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتي استعملت سياستي الترغيب والترهيب لإكراه هذه الحكومات العربية على التطبيع رغم جرائم الاحتلال التي لا تتوقف بحق الفلسطيين وإصرار حكومته على ضم المزيد من الأراضي العربية.

ليس هناك خلاف بين العقلاء والمنصفين والمخلصين للإسلام والعروبة وفلسطين على أن التطبيع مع الاحتلال في حد ذاته جريمة مهما كانت الذرائع والمبررات، ولكنه يبقى خطيئة وجريمة كبرى في ظل الوضع الراهن حيث يتم تصفية القضية الفلسطينية تحت مسمى “صفقة القرن”، والعدو في أعلى درجات علوه واستكباره وإجرامه وإنكاره لأبسط حقوق الشعب الفلسطيني، وهناك مخططات صهيونية ترمي إلى ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية حتى تحول قضم المزيد من أرض فلسطين إلى دعاية سياسية لأحزاب الكيان الصهيوني لكسب المزيد من أصوات الناخبين.

 

تطبيع بنكهة مختلفة

التطبيع المغربي يختلف كثيرا عن تطبيع الدول العربية الأخرى للاعتبارات الآتية:

أولا، قرار إطلاق التطبيع الرسمي في المغرب انفرد بوجود حزب إسلامي شريك في السلطة، وهي حالة فريدة مقارنة بموكب التطبيع العربي. فمصر والأردن والإمارات والبحرين تحكمها أنظمة علمانية ولديها مواقف سلبية أو معادية من الإسلاميين المعروفين بعدائهم الشرس للتطبيع مع الصهاينة. والنظام السوداني لم يدخل في “جوقة” التطبيع إلا بعد أن أطاح بحكم البشير الذي كان محسوبا على الإسلاميين.[[2]] فالحكومة المغربية يقود ائتلافها حزب إسلامي “العدالة والتنمية”، ورغم أن قرار التطبيع مسألة سيادية تتعلق بالملك إلا أن الحكومة أيدت القرار؛ فما كان لقادة الحكومة وهم إسلاميون أن يمارسوا السلطة والمعارضة معا؛ فوجودهم في السلطة ضيّق الخيارات أمامهم، ومن ثم فإن رؤيتهم وموازناتهم إنما صيغت بوصفهم جزءا من السلطة، ويسعون للحفاظ عليها. ويتعين هنا الإشارة إلى أن الإسلاميين عموما إنما يؤسسون شرعيتهم بناء على القيم الإسلامية التي يؤمنون بها ولا يطلبون السلطة إلا من أجل إعادة صياغتها بما يتوافق مع هذه القيم الإسلامية التي يفترض أن تفضي إلى دولة إسلامية؛ فإذا أجبرتهم سلطة الدولة على الذوبان فيها حتى تتلاشى الفوارق بين الإسلامي وغيره في التدبير السياسي؛ عندئذ يتلاشى أي مسوغ لطلب السلطة من جانب الإسلاميين بناء على الشرعية التي ألزموا بها أنفسهم لعدم قدرتهم على صياغة السلطة وفقا للقيم الإسلامية التي يطالبون بها ويدعون إليها. إضافة إلى أن خلاف الإسلاميين في الأساس مع أنظمة الحلم إنما يتعلق بالمضمون غير  الإسلامي الذي يهمين على توجهات أنظمة الحكم.

ثانيا، يتوجب الإقرار بأن قرار التطبيع أو تبنيه أو القبول به إنما يخالف القيم والمبادئ التي تحكم الأحزاب الإسلامية في شتى بقاع الأرض، ويمثل خيانة باعتباره سلوكا شاذا وصادما ويخالف قناعات الشعوب العربية والإسلامية على المستوى الديني وحتى السياسي والقانوني، سواء من أقدم على هذا التطبيع علماني أو إسلامي أو نظام ملكي أو عسكري. فليس مقبولا بأي حال أن نصف غير الإسلاميين عند التطبيع بالخيانة وخذلان الأمة وطعن الشعب الفلسطيني، بينما نتحدث عن “فقه” المصلحة والأولويات عندما يتعلق الأمر بالإسلاميين.. هذا انفصام أخلاقي وسياسي مقيت ومرفوض.

 

موقف متنافر

قرار العاهل المغربي بالتطبيع مع الاحتلال الصهيوني وضع حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي الذي يقود الائتلاف الحكومي والإسلاميين عموما في ورطة كبيرة واختبار مصداقية من عدة جوانب:

  • الأول أن أن الحكومة المغربية ورئيسها سعد الدين العثماني لم تتمكن من بلورة موقف حاسم تجاه قرار التطبيع الذي تبناه الملك، فحاولت مسك العصا من المنتصف عبر رفض التطبيع والثناء على جهود الملك في خدمة قضيتي فلسطين والصحراء المغربية في البيان نفسه. وهو موقف متنافر يفتقر إلى تماسك المضمون، ويعكس حالة من الاضطراب والورطة التي تواجه الحكومة والحزب. فإذا كان قرار التطبيع يخدم قضية الصحراء من جهة تحصيل اعتراف أميركي بمغربيتها، فمن غير الواضح كيف يمكن له أن يخدم القضية الفلسطينية نفسها!.[[3]]
  • الثاني، أن هذا التطبيع وضع الحزب أمام حالة جدل داخلي وسط اعتراضات من قواعد الحزب على موقف الحكومة، وجاءت تصريحات بعض قيادات الحزب ترفض هذا الإذعان للملك. حتى خرج رئيس الحكومة المغربية السابق عبدالإله بن كيران والقيادي بالحزب ليؤكد رفضه لأي دعوات تطالب باستقالة العثماني مؤكدا أنه ما كان للرجل الثاني في الدولة (العثماني رئيس الحكومة) أن يخالف الرجل الأول (الملك) وأن الحكومة والحزب مجندون وراء الملك من أجل صالح البلاد. ويبدو أن موقف رئيس الحكومة وقادة العدالة والتنمية أرادوا تفويت الفرصة على جهات إقليمية أرادت توريطهم في حالة صدام مع الملك ومؤسسات الدولة.
  • الثالث، أن ردود أفعال الإسلاميين تباينت تجاه قرار التطبيع المغربي، فكثير من الإسلاميين رفضوا التطبيع المغربي واعتبروا ما فعله رئيس الحكومة المغربية سقطة وبعضها وصفها بالخيانة، بينما كان رد فعل بعض الإسلاميين أقل صخبا وإدانة من ردود فعلهم تجاه قرار التطبيع الإماراتي، ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة من خلال رد فعل حركة النهضة التونسية التي تشارك في الحكومة ورئيسها هو رئيس البرلمان التونسي والتي كانت بالغة الإدانة للتطبيع الإماراتي وأصدرت بذلك بيانا فوريا اعتبرت فيه هذا التطبيع عدوانا صارخا على حقوق الشعب الفلسطيني، فيما صمتت عن التطبيع المغربي عدة أيام قبل أن يصدر الشيخ راشد الغنوشي تصريحات اعتبر فيها التطبيع المغربي خروجا على إجماع الأمة العربية.
  • الرابع، من المؤسف حقا والأكثر إثارة للنقد- هو محاولة بعض إسلاميي المغرب إيجاد مستند شرعي للتطبيع المغربي دون غيره؛ بحجة أنه ضرورة أُلجئ إليها المغرب من غير بغي ولا عدوان على القضية الفلسطينية، الأمر الذي يشبه محاولات مشايخ السلطة في دول تحالف الثورات المضادة(السعودية ـ مصر ـ الإمارات ـ البحرين) بحيث يتلاشى الفارق بين شيخ السلطة في الإمارات وشيخ السلطة في المغرب؛ لأن كليهما يجتهد في الترقيع لقرار سياسي اتُّخذ بمعزل عن أي اجتهاد في التأسيس له شرعيا قبل اتخاذه، ومحاولة إضفاء مسوغ ومسحة شرعية على قرار سياسي صدر من أعلى هرم السلطة وقهر الناس عليه قهرا بدعوى المصلحة.
  • الخامس، أن التطبيع المغربي فتح أبواب النقاش مجددا حول ثنائية (السلطة والمعارضة)، فالإسلاميون طالما تزعموا لعقود حركات الاحتجاج ضد العدوان الإسرائيلي وضد محاولات الأنظمة العربية التطبيع مع الاحتلال، لكن بعض إسلاميي السلطة طرأت عليهم تغيرات عدة، ذلك أن مفهوم الدولة (خصوصا في الدول الاستبدادية أو تلك التي تتمتع بهامش من الديمقراطية النسبية كالمغرب والأردن) تضخم وتغول بشكل كبير وباتت قادرة على ابتلاع واستيعاب جميع المنضوين ضمن جهازها وإخضاعهم لمنطقها؛ ذلك أن السلطة -في الواقع- لا تتم ممارستها بإرادة فردية حرة وبمعزل عن أجهزة الدولة ومؤسساتها، ولا بمعزل عن الدول الكبرى والجغرافيا السياسية؛ لذلك يصبح هامش الحركة والمناورة ضاغطا ويفرض تسويات وتنازلات ومواءمات قد تضحي بالأيديولوجيا السابقة لممارسة السلطة، ومن ثم تصبح عُرضة للتلون والتبدل والتناقضات أيضا، وهذا شأن العمل السياسي في الدول غير الديمقراطية التي لا تبالي بالرأي العام وقناعات شعوبها.  فالأيديولوجيا تتطلب التأسيس النظري والحِجَاج الفكري والاتساق النظري، أما السياسة فهي مفتوحة على توازنات وتسويات وفق موازين القوى من جهة، ووفق الظروف الضاغطة والممكن والمتاح من جهة أخرى، وبناء على كفاءة اللاعبين السياسيين من جهة ثالثة. وبالتالي فأي حركة أو حزب يمارس السلطة في دولة غير ديمقراطية سوف يصطدم بتعقيدات تحيط بواقع مشروعية السلطة في عالم اليوم. فالسلطة تتشكل وفق موازين القوى المتحكمة بالمشهد الدولي والإقليمي، بل والداخلي أيضا، وخاصة من خلال مؤسسات الجيش والمعارضة والمنظمات غير الحكومية وغيرها؛ أي إن الدولة ليست مسألة بسيطة تتمثل في صراع داخلي على كيفية الوصول إليها، ولا في التأسيس لخطاب معتدل يتلاءم مع قيم الغرب الليبرالي ويُرضي القوى الكبرى، كما أن الدولة لا يتحدد وزنها بالأيديولوجيا ومدى صلابة أو أحقية معتقداتها التي تتبناها، وإنما بمقاييس محددة تتوزع بين القوتين الناعمة والصلبة.

 

قراءة مختلفة

هناك قراءة مختلفة للتطبيع المغربي يتجاهلها معظم المحللين والمراقبين؛ فالذين هندسوا هذا الاتفاق إنما أرادوا به أن يكون فخا للإسلاميين الذين يشاركون في الحكومة المغربية، فالقرار هو قرار الملك الذي يمارس السلطات الكاملة ويتحكم في القرارات السيادية للدولة (الدفاع ـ الداخلية ــ الخارجية)؛ فجرى إقناع الملك بمنحه اعترافا أمريكيا بمغربية الصحراء الغربية، وهو ما تسعى إليه الحكومة المغربية منذ سنة 1975م، ويعزز موقفها في تأكيد سيطرتها على الصحراء الغربية في نزاعها مع جبهة البوليساريو التي تطالب باستقلالها وتعترف بها نحو 44 دولة على مستوى العالم.

أريد بهذا الاتفاق أن يكون مكسبا لإسرائيل باستئناف العلاقات مع المغرب، ومكسبا لتحالف الثورات المضادة عبر إزاحة الإسلاميين من المشهد السياسي في المغرب، وأريد بهذا التطبيع أن يكون تمهيدا لتطبيع سعودي مرتقب خلال الشهور المقبلة. فالذين صمموا وهندسوا هذا الاتفاق هم اليمين المتطرف في إدارة ترامب، بخلاف الدور السعودي الإماراتي النشط، علاوة على الدور الذي قام به قادة مغاربة يهود رفيعو المستوى تربطهم علاقات وثيقة بالعاهل المغربي. وبالتالي، أريد بهذا التطبيع أن يكون انقلابا على المشهد المغربي؛ ووضع الإسلاميين في العدالة والتنمية أمام خيارين أحلاهما مر؛ إما الإذعان وإما الاستقالة والصدام. فالذين هندسوا هذا الاتفاق رسموا مسارين للإسلامين:

  • الأول هو رفض القرار وبالتالي يتقدم رئيس الحكومة باستقالته، مع تحشيد الشارع ضد قرار الملك، وفي هذه الحالة لا يمكن التكهن بمآلات الصراع الداخلي في المغرب بين الملك من جهة وحزب الأكثرية من جهة ثانية، وسيكون العدالة والتنمية في هذا الصراع مع الملك ومؤسسات الدولة مدعوما بتيارات أخرى رافضة لقرار التطبيع؛ فاستطلاعات الرأي تؤكد أن نحو 88% من المغاربة يرفضون قرار التطبيع مع الاحتلال. وبالتالي توقع مهندسو هذه الصفقة أن يصلوا بنتائجها إلى ذات النتيجة التي جرت في مصر في أعقاب انقلاب 3 يوليو 2013م، صدام وصراع ينتهي بوضع قادة الحكومة من الإسلاميين في السجون والمعتقلات مع تشديد الملك للقبضة  الأمنية وإجهاض هامش الديمقراطية الذي تتمتع به المغرب حاليا. هو إذا انقلاب في جوهره وسياقه ومآلاته التي رسموها. و«كم تمنى مناصرو التطبيع في الداخل المغربي موقفا مغايرا، فقد شحذوا سكاكينهم ومعاولهم يمينا، وأخرجوا مطارقهم ومناجلهم يسارا. ولكن أسقط في أيديهم، فتهمة خيانة القضية الوطنية كانت جاهزة، والادعاء بالتشويش على مصلحة المغرب العليا كانت مهيأة»؛ بهدف إسقاط الحكومة والإطاحة بالإسلاميين من الحكومة.
  • أما المسار الثاني، هو إذعان الحكومة لقرار الملك وبالتالي تحقق إسرائيل وتحالف الثورات المضادة مكسبا مهما، فلأول مرة يجري تطبيع دولة عربية بها حكومة شعبية منتخبة مع الاحتلال رغم جرائمه التي لا تتوقف بحق الفلسطينيين. كما أن هذه ستكون سابقة لحزب إسلامي معروف برفضه المطلق للتطبيع بكل صوره وأشكاله؛ وبالتالي فإن ذلك قد يكون كفيلا بحدوث انشقاقات داخل الإسلاميين،  وقد أصدرت “شبيبة العدالة والتنمية” بيانا رفضت فيه استئناف التطبيع مع الاحتلال، كما دانت حركة “العدل والإحسان”، كبرى الحركات الإسلامية المعارضة للحكومة والتي تتمتع بشعبية واسعة قرار التطبيع واستنكرت موقف الملك والحكومة. ويستهدف مهندسو صفقة التطبيع أن تضع الإسلاميين المشاركين في الحكومة أمام اختبار مصداقية بالغ الصعوبة أمام قواعدهم والرأي العام، وسيجدون أنفسهم أمام مهمة شاقة لإقناع قواعدهم الحزبية فضلا عن قواعدهم الانتخابية والرأي العام، وبالتالي قد يكون هذا الاتفاق أيضا كفيلا بإسقاط “العدالة والتنمية” في أي انتخابات مقبلة. وهذا في حد ذاته يتسق تماما مع توجهات التحالف الإسرائيلي العربي. وقد يستغل أعداء “العدالة والتنمية” من مستشاري الملك الفرصة لتوجيه ضربة قاضية للحزب وإقناع الملك بحل الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة للتعجيل بالإطاحة بالإسلاميين من الحكومة.

ويبقى التساؤل: لماذا فضل الإسلاميون المشاركون في الحكومة المغربية دعم قرار الملك باستئناف التطبيع رغم أنهم يرفضون هذه الخطوة من الأساس التي تتصادم مع المبادئ التي يؤمنون بها؟

أولا، واقع الأمر أن العلاقات (الإسرائيلية ـ المغربية) كانت قائمة بالفعل بين المغرب وحكومة الاحتلال برعاية  الملك نفسه؛ وما دفع العاهل المغرب نحو الجهر بخطيئة التطبيع إلا أنه أدرك أن الصفقة التي يقدمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لن تكون متاحة بعد تولي جو بايدن إدارة البيت الأبيض في 20 يناير 2021م، خصوصا وأن الرباط تسعى منذ 45 سنة للحصول على اعتراف أمريكي بضم الصحراء الغربية لأراضيه، ولجأ المغرب إلى طلب المساعدة من حكومة الاحتلال الإسرائيلي واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة لضمان ذلك”.[[4]]  فالعلاقات بين الاحتلال الإسرائيلي والنظام المغربي تمتد لنحو 70 سنة،  فالمغرب هو من استقبل عشرات الألوف من اليهود الفارين من محاكم التفتيش التي أقامتها الكنيسة بعد سقوط الأندلس في العصور الوسطى، وكان المغرب أحد الأماكن التي درست الحركة الصهيونية سنة 1903م إقامة دولتها عليه لوجود كثافة يهودية، ومع إقامة الكيان الصهيوني منتصف القرن العشرين، سافر مئات الآلوف من اليهود المغاربة إلى الكيان الجديد اللقيط، واليوم هناك نحو 900 ألف إسرائيلي من أصول مغربية بعضهم يحظى بمناصب حساسة ونفوذ واسع في الحكومة ودوائر صنع القرار في “إسرائيل”. ولا يزال نحو 3 آلاف يهودي يقيمون في المغرب حتى اليوم،  ويحظون برعاية خاصة من جانب الملك. وفي يوليو 1986م استقبل الحسن الثاني رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها شمعون بيريز في العاصمة الرّباط، وبعد اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993 سارع المغرب إلى ترسيم العلاقة وتفعيل روابط التطبيع وفتح مكاتب الاتصال الثنائية مع الكيان الصهيوني سنة 1994، لتمكين يهود المغرب من عودتهم إلى وطنهم الأم، وهو ما يمثّل الاعتراف الضّمني الرّسمي بإسرائيل، وأصدرت إسرائيل طابعا بريديّا يحمل صورة الملك الحسن الثاني بعد وفاته سنة 1999 للمكانة التاريخية التي يحظى بها عند اليهود، إلاّ أنّ تلك الرّوابط تجمّدت سنة 2000 عقب اندلاع الانتفاضة الثانية. وفي 1 سبتمبر 2003 زار وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم المغرب، والتقى الملك محمد السادس، وفي 4 يونيو 2007 التقت وزيرة الخارجية الإسرائيلية حينها تسيبي ليفني نظيرها المغربي محمد بن عيسى في باريس، وفي 4 سبتمبر 2009 بحث الملك محمد السّادس عبر الهاتف مع رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها المجرم أرييل شارون خارطة الطريق لـ”السّلام” في الشرق الأوسط. وبالتالي فإن ما جرى مؤخرا ليس تأسيسا لاتفاق تطبيع رسمي لكنه استئناف لعلاقات رسمية كانت قائمة بالفعل. وبحسب ورقة بحثية لـ«معهد القدس للإستراتيجية والأمن الإسرائيلي» أعدها رئيس المعهد إفرايم عنبار، ونائبه الجنرال عيرمان ليرمان، فإن العلاقات الإسرائيلية المغربية تتسم بالعمق منذ عشرات السنين، وتعززت في عهد الملك السابق الحسن الثاني حيث شهد عهده كثافة في التعاون الأمني والاستخباراتي، والذي امتد إلى تقديم حكومة الاحتلال مساعدات للمغرب في إعادة هيكلة الجيش وتنظيمه وبناء الجدار الدفاعي في الصحراء الغربية والذي يمتد لنحو ألف كم.وبحسب الورقة البحثية فإن الملك محمد السادس حافظ، كوالده، على الروابط الخاصة مع إسرائيل، رغم تدهور علاقاتهما الرسمية عام 2000، بعد اندلاع انتفاضة الأقصى، لكن علاقاتهما استمرت في التجارة والاقتصاد، كما ساعدت (إسرائيل) المغرب في الكشف عن المخططات الإيرانية داخله، ما تسبب بقطع علاقاته الدبلوماسية معها في 2018، وشارك البلدان بمؤتمر وارسو في 2019، بمبادرة من الولايات المتحدة لتشكيل تحالف ضد إيران”. وتعبيرا عن عمق العلاقات مع الاحتلال، أوضح ليرمان، الذي خدم في الجيش الإسرائيلي 20 عاما، ويترأس دائرة الشرق الأوسط في اللجنة اليهودية الأمريكية، أنه “بداية عام 2020، أعلن المغرب أنه سيحصل على 3 طائرات دون طيار إسرائيلية كجزء من صفقة أسلحة بقيمة 48 مليون دولار”.[[5]]

ثانيا، “العدالة والتنمية” ليس حزبا حاكما بالمعنى السياسي والقانوني في النظم الديمقراطية؛ ذلك أن الحزب جزء من ائتلاف حكومي ضمن تحالف حزبي، وهو لا يملك أكثر من 32% من مقاعد البرلمان(125عضوا من أصل 395مقعدا) بما لا يجعله يستند إلى قاعدة أغلبية صلبة، إضافة إلى ذلك وهو الأهم أن الحزب يحكم في ظل نظام ملكي يتحكم فعليا في الوزارات والقرارات السيادية وكل ما يتعلق بوزارات الدفاع والداخلية والخارجية بخلاف الإعلام والعدل. وقرار التطبيع هو قرار الملك وليس قرار الحكومة التي لم تكن تملك خيارا سوى الإذعان أو الاستقالة. وبالتالي فقرار التطبيع لا يمثل قناعة لدى الحكومة ورئيسها الذي أبدى مرارا وتكرارا رفضه للتطبيع. لكن الإسلاميين في الحكومة فضلوا التجاوب مع قرار الملك رغم مرارته على مرارة الصدام مع الملك ومؤسسات الدولة ومآلاته الكارثية على المغرب وتجربته الديمقراطية الهشة والهامشية، وحتى مستقبل الإسلاميين عموما في المغرب. وهو السيناريو الذي كان مرسوما بعناية حتى ينفرد الموالون لإسرائيل بالملك؛ وقد يفضي هذا السيناريو إلى انضمام المغرب إلى تحالف الثورات المضادة، بينما بقاء الإسلاميين في الحكومة قد يحقق شيئا من التوازن، ويدرأ عن البلاد كثيرا من المفاسد التي قد تحدث في غيابهم.

خلاصة الأمر، أن على حزب العدالة والتنمية الذي أذعن لقرار الملك تفويتا لسيناريو الصدام الذي كان مرسوما بعناية فائقة، أن يقف بكل قوة ضد كل محاولات التطبيع، فهدف الاحتلال ثلاثي الأبعاد: شق سياسي لا يملكه الحزب دستوريا، لكنه قادر على التأثير فيه إذا بقي في الحكومة. وشق اقتصادي يستطيع أن يواجهه من خلال تسييره عدة قطاعات حكومية، وترؤسه جهات وبلديات مدن مغربية كبرى. وشق اجتماعي يواجَه بعدة طرق، منها الممانعة الشعبية والتحصين ضد الاختراق الصهيوني. وللحزب باع طويل في ذلك، وليخش قادته وأعضاؤه من الفخاخ الأخرى المنصوبة على جانبي الطريق، وليبقوا متيقظين متوحدين حتى تنتهي الفتنة ولعله يكون قريبا.

 

 

 

 

———————–

[1] عزام التميمي/العثماني رئيس وزراء البلاط .. إننا منك براء/ “عربي 21” الأربعاء، 23 ديسمبر 2020

[2] محسن محمد صالح/المغرب والتطبيع وحزب العدالة والتنمية/ عربي “21” الأحد، 20 ديسمبر 2020

[3] معتز الخطيب/ الإسلاميون بين الأيديولوجيا والسلطة/ الجزيرة نت 16 ديسمبر 2020

[4] عدنان أبو عامر/خبراء إسرائيليون: التطبيع مع المغرب يركز على خطوتين/ “عربي 21” السبت، 12 ديسمبر 2020

[5] عدنان أبو عامر/تقرير إسرائيلي: التطبيع مع المغرب سبقه تعاون أمني طويل/ “عربي 21” الأحد، 27 ديسمبر 2020

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022