خصخصة مرفق السكة الحديد.. بين مآرب النظام والواقع المأزوم

 

أحد أهم  تداعيات حوادث تصادم القطارات الأخيرة كحادث تصادر قطاري سوهاج يوم الجمعة 26 مارس 2021م والذي أدى إلى مقتل 32 مصريا وإصابة نحو 165 آخرين، وقطار طوخ الذي أدلى إلى مقتل نحو 23 مصريا وإصابة نحو 139 آخرين، أن يسرع نظام الدكتاتور عبدالفتاح السيسي الخطا نحو خصخصة مرفق السكة الحديد ومترو الأنفاق؛ وذلك لتحقيق عدة أهداف، أهمها تخلي الحكومة عن دورها في تطوير وتحديث مرفق السكة الحديد بشكل حقيقي وجاد بعيدا عن عشرات المليارات التي تنفق حاليا بدعوى التطوير رغم  أنها ليست سوى شكل من أشكال الصيانة. والثاني تحرير سعر تذاكر القطارات لخدمة الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات، وحيتان رجال الأعمال؛ وقد يفضي ذلك إلى هيمنة شركات أجنبية قد تكون تابعة لدولة معادية على مرفق من أهم مرافق الخدمات في مصر.

ولم يكذب وزير النقل الجنرال كال الوزير الخبر، وأعلن يوم الأربعاء 21 أبريل 2021م، عن منح إدارة مشروعات السكة الحديد لشركات عالمية، والشراكة مع القطاع الخاص في قطاع نقل البضائع، في تمهيد لشروع الوزارة في عمليات خصخصة واسعة النطاق لهذا المرفق الحيوي والاستراتيجي، على خلفية حادث انقلاب “قطار طوخ” هذا الأسبوع، والذي أودى بحياة 23 شخصاً، فضلاً عن إصابة 139 آخرين.

وبحسب بيان الوزير فإنه منذ تكليف الدكتاتور عبدالفتاح السيسي له بتولي حقيبة وزارة النقل فإنه قد وضع في مقدمة أولويات الوزارة الاهتمام بإعادة تأهيل وتدريب العنصر البشري على النظم التكنولوجية، وإسناد عدد كبير من مشروعات الوزارة إلى شركات عالمية متخصصة في الإدارة والتشغيل لمدة محددة، بهدف تقديم مستوى أعلى من الخدمات، ونقل الخبرات الحديثة إلى الجانب المصري”. وأضاف: “تعاقدنا مع شركة RATP الفرنسية لإدارة وتشغيل الخط الثالث لمترو أنفاق القاهرة، والشركة نفسها لإدارة وتشغيل القطار الكهربائي LRT (السلام/ العاصمة الإدارية الجديدة/ العاشر من رمضان)، وجار التفاوض مع شركات عالمية لإدارة وتشغيل خطي مونوريل العاصمة الإدارية، والسادس من أكتوبر، وكذلك إدارة وتشغيل القطار الكهربائي السريع (العين السخنة/ مرسى مطروح)، وتنفيذ وإدارة وتشغيل الأتوبيس الترددي BRT على الطريق الدائري”.

ووفقا لمزاعم بيان الوزير فإن “الاتفاق مع الشركات العالمية يتضمن نقل الخبرات للجانب المصري، من خلال الاعتماد على العمالة المصرية بنسبة لا تقل عن 90% في جميع المستويات الفنية والإدارية والتشغيلية والإشرافية طوال مدة التعاقد، والتي تبلغ 15 عاماً. وإسناد أعمال التشغيل والإدارة لعدد من القطارات الجديدة إلى شركات عالمية متخصصة في الإدارة والتشغيل، لا سيما مع توريد 6 قطارات متكاملة من شركة تالغو الإسبانية”. وزاد قائلاً: “من المقرر إسناد تشغيل عربات النوم الجديدة بواقع 200 عربة نوم، والتي سيتم التعاقد عليها قريباً، لإحدى الشركات العالمية المتخصصة في إدارة وتشغيل قطارات النوم، وجار تحويل قطاع نقل البضائع بهيئة السكة الحديد إلى شركة مملوكة للدولة، بالشراكة مع القطاع الخاص كمرحلة تدريجية، وكذلك تحويل بعض الورش المتخصصة في إصلاح الجرارات والعربات إلى شركات خاصة، وذلك لزيادة الإنتاجية، ورفع مستويات الجودة”.

السيسي يقود الخصخصة

وخلال السنوات الماضية أبدى السيسي موافقته  على تصور لخصخصة قطاع السكة الحديد، في خطوة تأتي ضمن سعي الدولة لتحويل المرفق الذي يستخدمه أكثر من 250 مليون مواطن سنويا إلى مشروع ربحي بمشاركة القطاع الخاص. وكما درجت الدولة في هذه الحالات، بدأ سريعاً الترويج لخسائر هذا القطاع إعلامياً تمهيداً للخصخصة، إذ أعلن وزير النقل، كامل الوزير، في 2020م وجود خسائر بـ250 مليار جنيه للسكك بعدما كانت في 2019م 66 ملياراً فقط! علماً بأن الخسائر المحسوبة التي يتحدث عنها كامل ارتبطت بالتكلفة العالية لصفقات لجرارات وعربات قطار يجري استيرادها من الخارج على دفعات. إضافة إلى ذلك فإن جزءاً كبيراً من الخسائر المعلنة يعود أصلاً إلى غياب الاستغلال الجيد للإمكانات في هذا القطاع الحيوي، برغم مضاعفة عائدات التذاكر التي تم بيعها خلال مدة وجيزة مع تشديد الرقابة على الركاب ومضاعفة غرامات التخلف عن سداد التذاكر، فإن هناك رغبة في زيادة الأسعار للمرة الثانية حال دون إعلانها مؤخرا حادث تصادم قطاري سوهاج في 26 مارس 2021م، حتى مع انخفاض مصروفات التشغيل بعدما انخفضت أسعار المحروقات. وتعتمد الخطة، التي وافق السيسي على ملامحها مبدئياً، على تنفيذ شراكات مع القطاع الخاص وإمكانية السماح لشركات خاصة بتسيير رحلات تقدم خدمة أفضل بأسعار أعلى، مع الأخذ في الاعتبار التوسع في إسناد الخدمات إلى القطاع الخاص مقابل مبالغ كبيرة يمكن الحصول عليها منه، وكذلك الاتفاق مع وكالات إعلانية للاستفادة من المواقع المتميزة التي تمتلكها هيئة السكك.

في جزء آخر من الخطة، ستبيع وزارة النقل، بصفتها المالك لهيئة السكك، آلاف الأمتار من الأراضي المتميزة التي تمتلكها، وكذلك العقارات التي كانت مخصصة للموظفين وعائلاتهم، للجهات المدينة، في إطار سداد المديونيات، مع توجيه استثمارات إلى بعض المسارات التي يمكن أن يتولاها القطاع الخاص مباشرة. وكانت الحكومة قد أوقفت التعيينات في السكة الحديد بصورة شبه كاملة، مكتفية بعقود للموظفين منذ سنوات، في وقت توسع فيه وزير النقل الحالي في تنفيذ مشروعات خلال زمن قياسي للحدّ من حوادث القطارات، لكن لا يزال عدد من هذه المشروعات قيد التنفيذ، وهو السبب الرئيسي في زيادة الخسائر من جرّاء تنفيذ بعضها بأسعار أعلى من تكلفتها الحقيقية، خاصة مع إسناد غالبيتها مباشرة إلى القوات المسلحة.

محطات على طريق الخصخصة

وخلال سنوات ما بعد انقلاب 3 يوليو 2013م، مهد السيسي لخصخصة مرفق السكة الحديد بعدة أمور:

  • الأول، التصريحات التي كشفت عن هذا التوجه؛ ففي غرة مارس 2018م، وفي أعقاب حادث تصادم قطار في محافظة البحيرة أدى إلى مقتل 22 مواطنا، صرح السيسي بتوجهاته نحو خصخصة المرفق حيث قال: “إعادة تأهيل شبكة السكك الحديدية تحتاج الكثير من الأموال، ومش معانا فلوس للتطوير.. أنا مش هادفع حاجة من جيبي، واللي جاي يقعد (المواطن) من سيدفع ثمنها”. وقال السيسي وقتها، على هامش افتتاح بعض المشروعات بمنطقة العلمين، إن تكلفة تطوير السكك الحديدية تحتاج من 200 إلى 250 مليار جنيه، مضيفاً “فلوس إعادة التأهيل مش موجودة، ولا بد من مواجهة الواقع بتاعنا بشكل حقيقي.. والناس ممكن تقول أنتم سايبين السكة الحديد (خربانة)، وبتعملوا مدن جديدة ليه؟، لاء، اللي هايقعد في العلمين الجديدة هايدفع”. ورداً على احتياج نظام الإشارات الكهربية لمبلغ 10 مليارات جنيه لتطويره، قال السيسي في 14 مايو/ أيار 2017،: “العشرة مليارات دول لو حطيتهم في البنك هأخد عليهم فايدة 2 مليار جنيه في السنة، ولا بد من رفع سعر تذكرة القطارات، لتمويل هذا التطوير.. ولو المواطن يقولي أنا غلبان أديك منين، هاقوله ما أنا كمان غلبان!”.
  • الثاني، سن التشريعات والتعديلات التي تقنن خصخصة مرفق السكة الحديد؛ وجرى ذلك بعد تصريحات السيسي بثلاثة أيام فقط، حيث وافق البرلمان في 4 مارس 2018م على تعديل بعض أحكام القانون رقم 152 لسنة 1980، الخاص بإنشاء الهيئة القومية لسكك حديد مصر، والذي يقضي بإشراك القطاع الخاص في إدارة وتشغيل وصيانة مشروعات البنية الأساسية، وشبكات هيئة السكك الحديدية على مستوى الجمهورية، إيذاناً بتحرير أسعار تذاكر القطارات من جهة، والدخول في مرحلة خصخصة المرفق من جهة ثانية.  وركز التعديل على شقين، أولهما “الاستناد إلى قانون المزايدات والمناقصات، بالنسبة للمستثمرين الذين سيُعهد إليهم بعض الالتزامات، وفقاً لمواد القانون”، والثاني في أنه يجوز لهيئة السكك الحديدية “إنشاء شركات مساهمة بمفردها، أو مع شركاء آخرين، وجواز تداول أسهمها بمجرد تأسيسها في البورصة، وللعاملين في الهيئة أولوية شراء نسبة لا تتجاوز 10% من تلك الأسهم”. وعزت الحكومة تقدمها بالتعديل إلى “تبني الدولة خطة إستراتيجية شاملة تستهدف تحقيق المعادلة الصعبة، بإشراك القطاع الخاص في مشروعات البنية الأساسية والمرافق العامة، دون مساس بطبيعة هذه المشروعات، كونها مرافق عامة، وأملاكاً للدولة، “بدعوى أن الهدف من المشاركة هو “التوسع، وزيادة الاستثمارات، وتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية”. ومنح التعديل للهيئة الحكومية حق إبرام عقود التزام لأعمال إنشاء، وإدارة، وتشغيل، وصيانة كل مرافق السكك الحديدية، التي كانت حكراً على الهيئة، بما يخلق فرصاً لجذب استثمارات أجنبية ومحلية تسهم في تطوير خدمات السكك الحديدية، وإنفاذ حكم الفقرة الأخيرة من المادة (32) من الدستور، المتعلقة بمدة منح التزام المرافق العامة بناءً على قانون، لمدة لا تتجاوز خمسة عشر عاماً.
  • الثالث، وفي 2018م أقرت حكومة السيسي زيادات كبيرة في أسعار تذاكر القطارات، من دون أي تحرك في تطوير قطاع السكك الحديدية، وجرى تطبيق هذه الزيادات اعتباراً من أول يوليو/ تموز 2018م، بنسب بلغت 200% للقطارات العادية (يرتادها ملايين الموظفين ومتوسطي الدخل والفقراء يومياً)، و40% لقطارات الدرجة الأولى (مكيفة)، و60% للدرجة الثانية، و20% لقطارات (VIP). وبهذه القرارات يتحمل الشعب وحده تكاليف صيانة المرفق من جهة. وتحويل المرفق من خدمي إلى استثماري من جهة أخرى بما يحقق أرباح للحكومة وهو ما يتسق مع توجهات السيسي في ظل توقعات بزيادات كبيرة على أسعار تذاكر القطارات مستقبلا بما يغري القطاع الخاص والشركات الأجنبية بشراء المرفق. والمخصصات الضخمة التي يجري حاليا إنفاقها على المرفق تستهدف بالأساس تهيئته ليكون مغريا في سوق الخصخصة خلال الشهور والسنوات المقبلة.
  • الرابع، توفير مخصصات ضخمة بدعوى تطوير المرفق حتى يكون أكثر إغراء لإجراءات الخصخصة المرتقبة بما يضمن تنافس شركات القطاع الخاص والشركات الأجنبية للاستثمار فيه وصولا إلى امتلاكه؛ ومنذ سنة “2016” أعلن السيسي عن تدشين المشروع القومي لتطوير السكك الحديد، كما حصلت مصر على قرض بقيمة 575 مليون دولار من شركة جنرال إلكتريك العالمية لتطوير القطارات وتدريب المهندسين، ورغم ذلك استمرت حوادث القطارات ولم يلمس المواطنون تطويرا في منظومة السكة الحديد، وفقا لخبراء نقل. وبحسب تصريحات وزير النقل الفريق كامل الوزير فقد أنفقت الحكومة نحو 45 مليار جنيه منذ سنة 2016م حتى اليوم. وكان وزير النقل السابق هشام عرفات قد تعهد بأن يشهد مرفق السكة الحديد انفراجة حقيقية في منتصف العام 2019، من خلال إنشاء خطوط جديدة، واستخدام الإشارات الإلكترونية، وشراء “جرارات” جديدة، وتطوير ورش الصيانة، كاشفاً عن وجود مخطط لتحويل كل القطارات إلى (VIP) بدرجات مختلفة، وإلغاء الدرجات العادية والمميزة (تقل الملايين من محدودي الدخل يومياً). وهذا الإجراء  الأخير بإلغاء الدرجات العادية والمميزة هو أحد أهم محفزات الشركات الأجنبية والقطاع الخاصة لشراء المرفق. ولكي يبرر الخصخصة أفاد عرفات بأن المشكلات الرئيسية للقطاع تتضمن عدم إنشاء خطوط جديدة تستوعب زيادة عدد الركاب منذ العام 1950، والاعتماد على “جرارات” قديمة تعود إلى العام 1980، مشيراً إلى أن التطوير اقتصر خلال الستين عاماً الماضية على ازدواج الخطوط من أسيوط إلى أسوان، وعدم بناء خطوط جديدة تستوعب زيادة الطلب، ما أدى إلى انهيار في مستوى الخدمة. وأضاف عرفات: “لم يتم تطوير ورش السكك الحديدية منذ العام 1965، و98% من حوادث القطارات على مدار الثلاثين عاماً الأخيرة تقع بسبب نظام الإشارات الكهربائية، التي يجب تحويلها إلى نظام إلكتروني للحيلولة دون وقوع الحوادث”، مشيراً إلى أن مشروع إصلاح البنية الأساسية للسكك الحديدية من المقرر أن ينتهي في العام 2022. كذلك، أشار الوزير إلى التعاقد على 100 جرار جديد، وإصلاح 81 جراراً، من خلال عقد صيانة لمدة 15 عاماً، وإنشاء 110 “مزلقانات” خلال عام واحد، مقابل 190 مزلقاناً تم إنشاؤها خلال 10 سنوات، مدعياً أن هناك إرادة من القيادة السياسية لإنشاء خطوط جديدة، تشمل إنشاء خط بطول 540 كيلومترا من “العين السخنة” إلى ميناء الإسكندرية، بتكلفة لا تقل عن 4 مليارات دولار. وفي 2018م كان رئيس الهيئة القومية لسكك حديد مصر قد تحدث عن خطة تطوير قصيرة المدى بتكلفة إجمالية 56 مليار جنيه حتى عام 2022، تشمل تطوير 139 محطة من أصل 702 محطة، والانتهاء من تنفيذ مشروع كهربة نظم الإشارات لنحو 950 كيلومترا فى 2020، والتعاقد لشراء 1300 عربة قطار جديدة بمبلغ مليار يورو.
  • الخامس هو البدء فعليا في دخول أطراف أجنبية للاستثمار في مرفق السكة الحديد؛ وقد شهدت السنوات الأخيرة زيادة كبيرة في الاستثمارات الروسية في مرفق السكة الحديد المصرية بدعوى التطوير، وقد نقل موقع المونيتور الأمريكي ــ في تقرير له في أكتوبر 2018م ــ عن سمير نوار الرئيس السابق لهيئة سكك حديد مصر قوله: “التعاون بين مصر وروسيا لا يمكن أن يوصف باعتباره خصخصة للهيئة”. وزاد قائلًا: “إنها مشاركة روسية في الاستثمار بقطاع السكك الحديدية لكن الهيئة سوف تظلّ مملوكة للدولة”. وأردف نوار: “خصخصة الهيئة حال حدوثها سوف تعني زيادة كبيرة في أسعار تذاكر السكة الحديدية التي تعتبر خدمة رئيسية لملايين المصريين”. ونفي الرئيس السابق لهيئة سكك حديد مصر من النوع الذي يثبت الخصخصة ولا ينفيها؛ والاستثمارات الروسية هي بلا شك خطوة من خطوات التوجه نحو الخصخصة بشكل كامل. وفي أكتوبر 2019، وقعت الدولتان بورتوكولا يتضمن إنشاء مسارات مزدوجة وتأسيس مركز تحكم رئيسي للسكك الحديدية في مصر على غرار ما يحدث في روسيا.  وفي ديسمبر 2019، أعلن مركز الصادرات الروسية أن البنوك الروسية سوف تقدم قروضًا إلى مصر لتمويل اتفاق بهدف تطوير السكة الحديد المصرية يتكلف نحو 1.16 مليار يورو.

مخاطر الخصخصة

وبحسب خبراء واقتصاديين، فإن لجوء الحكومات إلى الخصخصة عائد إلى عجزها عن إدارة القطاع العام، وضعف استخدام الموارد المتاحة لتقديم أفضل خدمة ممكنة، إضافة إلى عدم وجود آليات رادعة لحساب المسئولين المقصرين، ما يشي بأن المرفق لا يحتاج للخصخصة، بقدر حاجته إلى إدارة ناجحة ذات كفاءة عالية، وقادرة على إصلاح المرفق من أجل تلافي وقوع الحوادث. وثمة مخاطر هائلة إذا نجح النظام في خصخصة القطاع حتى لو بشكل نسبي.

أولا، تحرير أسعار الخدمة: فتوجهات الحكومة نحو خصخصة مرفق السكة الحديد بعد إدخال تعديلات على قانون 152 لسنة 1980م أصاب ملايين المصريين المستفيدين من خدمات السكك الحديدية بحالة من الفزع؛ ذلك أن هذه التعديلات  تقضي بمنح القطاع الخاص الحق في المراقبة وتحديد أسعار الخدمة، ما يشي بإمكانية تضاعف أسعارها وإرهاق كاهل المواطن المصري في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم والغلاء الفاحش وتزايد معدلات الفقر. هذه التعديلات تسمح للقطاع الخاص بالتحكم في قطاع السكة الحديد وتحديد أسعار الخدمة دون رقابة؛  خاصة أن مبدأ الاستثمار لديه قائم على الربح بالدرجة الأولى.هذه التعديلات تطلق يد المستثمر في التحكم في تسعير خدمة السكة الحديد دون رقيب، وفقا لنص المادة الرابعة من قانون إنشاء الهيئة القومية لسكك حديد مصر، التي تنص على أنه «يجوز للهيئة في سبيل تحقيق أغراضها، وبعد موافقة وزير النقل، إنشاء شركات مساهمة بمفردها أو مع شركاء آخرين ويجوز تداول أسهم هذه الشركات بمجرد تأسيسها، وللعاملين في الهيئة شراء نسبة لا تتجاوز 10% من أسهم تلك الشركات. كما يجوز للهيئة منح التزامات المرافق العامة للمستثمرين أشخاصا طبيعيين أو اعتباريين لإنشاء وإدارة تشغيل وصيانة مرفق السكك الحديدية دون التقيد بأحكام قانون المرافق العامة، وقانون الامتيازات المتعلقة باستثمار موارد الثروة الطبيعية والمرافق العامة وتعديل شروط الامتياز، وذلك طبقا للقواعد والإجراءات الآتية: أن يتم اختيار الملتزم في إطار من المنافسة والعلانية. وألا تزيد مدة الالتزام على 15 سنة». فالتعديل لم يتضمن أي ضوابط تمنع المستثمرين من الاستئثار بالقرار. هذه التعديلات  أيضا تفتح الباب للمستثمرين لتحمل نفقات مد خطوط سكك حديد جديدة، سواء لتقديم خدمات نقل الركاب أو البضائع،  بشرط أن تسلمها للدولة بعد 15 عامًا من تشغيلها، وتلك النقطة هي بيت القصيد، لأن المستثمر وهو يفكر في تكاليف مشروعه، سيستهدف استعادة التكاليف والربح خلال مرور 15 عامًا على تشغيله، ورغم أن هذا الأمر قد يؤثر على سعر الخدمة، إلا أنه التزام دستوري لا يمكن الحيد عنه. حيث تنص المادة 32 من الدستور على أنه «لا يجوز التصرف في أملاك الدولة العامة، ويكون منح حق استغلال الموارد الطبيعية أو التزام المرافق العامة بقانون، ولمدة لا تتجاوز ثلاثين عامًا. ويكون منح التزام المرافق العامة لمدة لا تتجاوز خمسة عشر عامًا بناء على قانون».

ثانيا، ومن أهم مخاطر مشاركة القطاع الخاص في مشروعات السكة الحديد أن ارتفاع مديونية السكة الحديد مع العجز عن السداد بالإضافة إلى تزايد القروض خصوصا من الشركات العالمية التي ستقوم بإنشاء الخطوط الجديدة بحسب تعديلات القانون، والتي تصل إلى نسبة 100% من التمويل، وحث البنك الدولي على تعميق تلك الشراكات، يجعل الباب مفتوحا أمام امتلاك تلك الشركات حصصا كبيرة في منظومة السكة الحديد الجديدة، وأن يكون لها دور كبير في الإدارة. وبالتالي سيفضي ذلك إلى تراجع دور الهيئة القومية للسكة الحديد. والتي لن تعود الجهة المالكة الوحيدة للمرفق أو الجهة الوحيدة المكلفة بالإدارة وصنع السياسات الخاصة بتطوير المنظومة أو صياغة علاقتها بالمواطن. وبالتالي فنحن أمام نمط جديد من أنماط الخصخصة وهو عدم خصخصة المرفق بشكل كامل بل الدخول في شراكة مع القطاع الخاص والانسحاب التدريجي من تحمل الأعباء المالية والإدارية والتخلي عن الالتزامات التي تلتزم بها الدولة تجاه المواطن، ويتحول المرفق إلى مرفق خاص تمتلك الدولة حصة من الملكية قد تكون غير مؤثرة.

ثالثا، ومن مخاطر الخصخصة النسبية لمرفق السكة الحديد تخفيض العمالة؛ وكان هشام عرفات وزير النقل السابق قد صرح في 2017م أنه لا يمكن إدارة السكك الحديد بنفس أسلوب الإدارة منذ 50 عاما، مشيرا إلى أنه سيتم تخفيض الاعتماد على العامل البشري في إدارة السكك الحديدية خلال الفترة المقبلة. كما أعلنت الهيئة القومية لسكك حديد مصر في 29 يونيو 2018م على لسان الدكتور محمد حسين، مدير إدارة الموارد البشرية بالسكة الحديد، فتح باب الخروج للمعاش المبكر للعاملين بالسكة الحديد وفقًا للمادة 70 من قانون الخدمة المدنية، وأكد أنه جاري الحصول على موافقة مجلس إدارة الهيئة بعد الحصول على موافقة مجلس المديرين العموم بالهيئة، للبت في الطلبات المقدمة من العاملين.

رابعا، كذلك فإن من شأن إجراءات الخصخصة أن تفضي إلى تقليص تشغيل الشبكة الحالية؛ وكان هشام عرفات الوزير السابق قد كشف أنه سيتم تقليل جداول التشغيل من خلال دمج كل رحلتين في رحلة واحدة من أجل الإسراع في مشروع تطوير شبكة السكك الحديدية، لافتًا إلى أنه سيتم تقليل مدة التقاطر بين الرحلة والأخرى من 12 دقيقة إلى 20 دقيقة. وهناك مقترحات بمراجعة خطة التشغيل (1200 رحلة يومياً) وإلغاء بعضها بحجة عدم جدواه الاقتصادية والاجتماعية، وسيؤدي ذلك إلى تخفيض نفقات التشغيل والصيانة والإهلاكات وتوفير جرارات وعربات وعمالة فنية. وبالتالي سيتم التركيز على خطى القاهرة – الإسكندرية والقاهرة – أسوان وتدعيمهما وتقليل تشغيل الخطوط الأخرى أو توقيفها تماما. وقد قامت وزارة النقل بعملية ترشيد سابقة في أبريل 2018، لكنها كانت محدودة بلغت 4% فقط من عدد الرحلات.

خلاصة الأمر أن الشراكة بين القطاعين العام والخاص تعد أحد أشكال التعاون من أجل تنفيذ مشاريع الخدمة العامة، وقد تحقق نجاحات إذا تم تطبيقها بشكل صحيح. لكن في ظل الحالة المصرية وعند الحديث عن خصخصة السكة الحديد أو الدخول في شراكات دولية أو محلية يكون الأمر مختلفا؛ نظرا لأن الظروف المالية التي تمر بها الهيئة وتضخم حجم الدين يجعل موقفها ضعيفا في أي عملية تفاوض، وبالتالي تكون تلك الشراكة مرتبطة بتحقيق منافع القطاع الخاص الذي سيحافظ على استمرار الخدمة، لكنه سيقوم بتحرير الأسعار ورسم سياسات تنافسية ربحية وهو ما يتعارض مع دور الدولة المتمثل في دعم المواطن محدود الدخل وتوفير الخدمة بأسعار مناسبة.

وتتجاهل حكومة السيسي تجارب الدولة الأخرى في هذا المجال؛ وأهمها تجربة بريطانيا صاحبة أعرق سكة حديد في العالم مع الخصخصة( سنة 1984)، والتي لم تجنِ من خصخصة السكة الحديد سوى تخفيض حجم العمالة بشكل كبير، وارتفاع أسعار الخدمة، كل ذلك يأتي في حين أن الدولة كانت تقدم دعما لمنظومة السكة الحديد بما يعادل 6 مليارات جنيه استرليني عام 2006 و2007 وفق تقرير مجلس العموم البريطاني، والذي أشار إلى أن هذا الدعم كان مليار جنيه استرليني فقط في عام 1980 قبل الخصخصة. وتأتي التجربة البريطانية في ظل وجود رقابة حكومية وبرلمانية وشعبية على أداء الخدمة، وفي ظل تراجع مؤشرات الفساد، ووجود دعم مالي من الحكومة ممول من ضرائب المواطنين، وكل تلك الأمور غير موجودة في الحالة المصرية.

وتشير المؤشرات إلى أنه سيكون هناك صعوبة بالنسبة للقطاع الخاص المصري تمنعه من الاستثمار حاليا في قطاع السكة الحديد نظرا للمشكلات الهيكلية التي تضرب جميع قطاعات المرفق والخسائر المرتفعة وسوء الإدارة وكثافة العمالة ومحدودية كفاءتها، وعدم قدرة المرفق حاليا على التنافسية، ولذا فإن الخطوة الأهم الخاصة بتعديل القانون حاليا هو السماح من الناحية القانونية لاستثمار القطاع الخاص في قطاع السكة الحديد، وقد يمكن ذلك الإجراء دخول القطاع الخاص بشكل جزئي في بعض القطاعات التي لا تتحمل خسارة، لكنه في التحليل الأخير سيظل تدخلا محدودا.

السيناريو الأكثر خطورة هو أن يكون المقصود بالقطاع الخاص هم كبار العاملين بوزارة النقل وهيئة السكة الحديد وكلهم لواءات وجنرالات كبار سابقين جاءوا من جهات وأجهزة “سيادية” لا علاقة لهم بإدارة مرافق السكة الحديد،  ولكنهم وجدوا مناصب مريحة لهم بعد تركهم للخدمة فى تلك الجهات، وهم الذين سيديرون الخطوط الجديدة بعد أن تنشئها هيئة السكك الحديدة بأموال المواطنين بعد تكوينهم لشركات خاصة أو يقومون بإدارة خطوط قائمة بدعوى أنهم أصبحوا فى القطاع الخاص. وهو ما يحدث حاليا في كافة قطاعات الدولة دون استثناء.

هناك أيضا التقديرات الجزافية التي تبخس الشعب حقه وتضع تقديرات قليلة لأصول ضخمة لصالح مافيا القطاع الخاص  أو شركات دولية في مقابل حصول القائمين على عمليات التسعير على عمولات ضخمة على حساب مصر وشعبها، وهو ما جرى بالفعل في جميع عمليات الخصخصة التي جرت في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك وأضاعت على مصر شركات ضخمة وأصول هائلة لا تقدر بثمن؛ وعلى خطاه يمضي السيسي إذعانا وانصياعا لصندق النقد والبنك الدولي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

  • سلمى حسين/ خصخصة السكة الحديد.. لمن تدق الأجراس؟/ بوابة الشروق الجمعة 29 سبتمبر 2017
  • وائل عبد الحميد/ تطوير أم خصخصة؟.. تفاصيل تعاون السكك الحديدية بين مصر وروسيا؟/ مصر العربية “18” أكتوبر 2020
  • السيسي يمهد للخصخصة: “مش معانا فلوس لتطوير السكة الحديد”/ العربي الجديد 01 مارس 2018
  • هل تبيع مصر خطوطها الحديدية؟/ الجزيرة نت 16 يناير 2019
  • رنا ممدوح/ البرلمان يُقر مشاركة القطاع الخاص في «السكك الحديد» وسط تخوفات من ارتفاع الأسعار/ مدى مصر 4 مارس 2018
  • كامل الوزير يعلن عن شركات عالمية لإدارة سكك حديد مصر: شروع في الخصخصة/ العربي الجديد ــ الأربعاء 21 أبريل 2021

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022