عقب الانقلاب على الرئيس المصري محمد مرسي، وصعود الجنرال عبد الفتاح السيسي إلى سُدة الحكم عام 2014، دأبت مصر على اعتبار حركة حماس جماعة إرهابية مسؤولة عن أغلب الأحداث في شبه جزيرة سيناء المصرية، بل واتهمها الإعلام المصري بتضييع الحق الفلسطيني وتعزيز الانقسام بين غزة والضفة.
لكن ما حدث من تطورات مؤخرًا في حي الشيخ جراح والتي بدأت بمواجهات مسلحة في الضفة، ووصلت إلى حرب صاروخية بين غزة والكيان؛ جعل الموقف الأمني المصري يتحول تمامًا تجاه التعاطي مع حماس. فما هي تطورات الموقف الأمني المصري في عهد السيسي؟ وكيف وصل به الحال من عداء المقاومة هناك إلى دعمها بشكلٍ كامل؟ وما هي الأهداف والمكاسب التي يسعى النظام لتحقيقها من هذا الدعم؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى تلك الورقة للإجابة عنها..
حماس في المنظومة الأمنية المصرية في فترة ما بعد الرئيس مرسي
لم يكن الانقلاب على رئيس محسوب على التيار الإسلامي وصعود آخر بخلفية عسكرية السبب الوحيد في تغير النظرة لحماس، فبعد يومين من الانقلاب مرسي أُقيل اللواء محمد رأفت شحاتة، مدير المخابرات العامة وأحد أهم كوادر الجهاز، والذي كان يمثِّل امتدادًا للسياسات التي أرساها اللواء عمر سليمان، مدير المخابرات في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، في التعامل مع قضايا الشأن الفلسطيني.
بعدئذ صعد “تيار الصقور” القادم من المخابرات الحربية وقلب كل أوراق المعادلة في الداخل والخارج، حيث كان ضباط الجيش على خلاف مع المخابرات لأنهم رأوا ضرورة قطع العلاقات مع حركة حماس. أفرزت معركة تطهير الجهاز السيادي من الولاءات القديمة تعيين اللواء محمد فريد التهامي، رئيس المخابرات الحربية الأسبق، خلفًا لشحاتة على رأس المخابرات العامة.
ويُشار للتهامي باعتباره مهندس قطع العلاقات مع حماس. وأقيل التهامي عام 2014 بعد أقل من عام على تولي السيسي منصب الرئاسة، وعُيِّن اللواء خالد فوزي خلفًا له، وهو أحد أبناء جهاز المخابرات القدامى، واعتُبِر صعوده آنذاك ضروريًا لإحداث التوزان وإعادة طرح ملف المصالحة مع حماس.
ثم جاء وصول إسماعيل هنية لرئاسة المكتب السياسي للحركة عام 2017، متزامنًا مع انفراجة نسبية في العلاقات مع المخابرات العامة المصرية. وحدث تحول كبير في علاقة السلطات المصرية مع حماس، لكن بقاء خالد فوزي لم يدم طويلًا رغم ما قطعه من أشواط لاستعادة نفوذ القاهرة في الملف الفلسطيني، إذ أُقيل من منصبه عام 2018، وعاد الصقور مُجددًا بوصول اللواء عباس كامل، مدير مكتب السيسي والمدير السابق للمخابرات الحربية إلى رئاسة الجهاز.
عُرف عن المخابرات العامة أثناء تولي عباس كامل؛ عدم إظهار التضامن مع القضية الفلسطينية. ورغم ذلك؛ فقد حافظت الحركة على قنوات الاتصال المفتوحة مع القاهرة، وساعدتها في ضبط الحدود المصرية، وأمدَّت المخابرات المصرية بمعلومات استخباراتية عن تموضع الجهاديين في سيناء. وهي سياسات تلقَّتها القاهرة بإيجابية، بالتزامن مع تحفُّظها على تهميشها -برفقة الأردن- إقليميًا في خضم موجة التطبيع الخليجي، ورغبتها في استعادة دور مؤثر في الملف الفلسطيني رغم التضييق الموسَّع من السعودية والولايات المتحدة معًا على حماس.[1]
محاولة استعادة الدور المصري والتقارب مع حماس
زار وفد أمني مصري غزة بشكل مفاجئ في إبريل الماضي، وتناول الوفد العديد من القضايا التي تخص الشأن الفلسطيني مع حركة حماس، التي تدير قطاع غزة. وفتحت الزيارة المفاجئة لوفد جهاز المخابرات المصرية الذي ضم المسؤول عن الملف الفلسطيني في المخابرات المصرية أحمد عبد الخالق، ورجل الاستخباراتسامح نبيل؛ الباب للعديد من التكهنات، خاصةً أنها جاءت بعيد مغادرة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لرام الله على عجل بواسطة مروحية أردنية إلى عمان ومنها إلى ألمانيا، في رحلة لم يكشف عن ماهيتها.
وترددت أنباء غير مؤكدة عن تدهور طرأ على صحة عباس البالغ من العمر 84 عامًا. وتزامن حضور الوفد الأمني للقطاع ومغادرته بعد ساعات قليلة عبر معبر بيت حانون (إيرز)، الذي تسيطر عليه قوات الاحتلال، مع التجهيز للانتخابات التشريعية الفلسطينية.
وأعلنت حركة حماس حينها أن أحاديث اللقاء قد تركزت على موضوع متابعة تطبيق اتفاق فبراير الماضي بين الفصائل الفلسطينية في ما يتعلق بالانتخابات العامة بكل مراحلها. بينما أفادت هيئة البث الصهيونية بأن وفد المخابرات المصرية الذي زار غزة وصل بهدف إجراء مشاورات مع حركة حماس حول الطرق لدفع صفقة تبادل، حيث تحاول مصر تقليص الفجوات بين الطرفين. وكانت تلك هي الجولة الثانية التي تقودها المخابرات المصرية، حيث اجتمع الوفد قبلها مع مسؤولين من حماس في القاهرة قبل أسبوع من الانتخابات الصهيونية، والتي جرت في 23 مارس الماضي.[2]
الدوافع المصرية لعودة التقارب مع حماس من جديد
هناك دافعان رئيسيان فرضا على المنظومة الانقلابية المصرية هذا التقارب، وهما: أولهما؛ عقب توقيع الإمارات ودولة الاحتلال اتفاقية سلام في سبتمبر 2020، كانت مصر فعليا أحد أبرز المتضررين منها. حيث تسبَّب التطبيع في فقدان مصر الورقة التي تمتعت بها لعقود في الوساطة العلنية بين الدول العربية والكيان الصهيوني. هذا بالإضافة إلى دخول دول إقليمية أخرى على خط القضية الفلسطينية خلال العقد الماضي، حيث اتجهت قيادات من حركتي فتح وحماس صوب تركيا التي استأثرت بملف المصالحة.
وخلال فترة قصيرة أدلت قطر بدلوها كذلك في الملف الأمني عبر مباحثات تهدئة مع الصهاينة، فيما احتفظ الإيرانيون برابطة تسليح المقاومة التي لا يملكها غيرها بطبيعة الحال. وقد عُدَّ كل ذلك نذيرًا بأن دور مصر في الشأن الفلسطيني قاب قوسين أو أدنى من الخفوت، بعد أن كان صوت القاهرة وحده هو المسموع في هذا الملف حتى وقت قريب. ثانيهما؛ تمخَّض عن اتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل أيضا مشروعا فاجأ القاهرة، إذ طلب الكيان الصهيوني في اجتماعات سرية مساعدة الإمارات لإحياء مشروع خط “إيلات-عسقلان” بغية نقل النفط العربي إلى أوروبا عبر الأراضي المحتلة، متجاوزة بذلك قناة السويس الاستراتيجية وبتكلفة أقل.
وتم توقيع شركة خطوط الأنابيب الإسرائيلية “EAPC” مذكرة تفاهم مع شركة طاقة إماراتية لبدء تدشين مشروع نقل النفط الخليجي بتكلفة بلغت تقديراتها نحو 700-800 مليون دولار؛ الأمر الذي سيؤدي إلى اقتطاع نحو 12-17% من الشحنات المتدفقة عبر قناة السويس، كما سيهدد أيضًا -وبشكل أساسي- خط “سوميد” المصري الناقل للنفط من خليج السويس إلى البحر المتوسط.[3]
التطورات الأخيرة وتعزيز التقارب
يثمن القول بأن النظام الانقلابي المصري قد وجدت في أحداث “حي الشيخ جراح” فرصة لإعادة إثبات وجودها السياسي بما تمتلكه من أوراق للتأثير على حركات المقاومة في غزة، والاستفادة من اشتعال القضية الفلسطينية لأول مرة منذ وقت طويل لعرقلة قطار التطبيع الأهوج بين الخليج والكيان الصهيوني، الذي يحمل في طياته تهديدات لدور مصر الاقتصادي، لا السياسي فحسب.
ومن ثمَّ؛ بدأت تحركات النظام الانقلابي المصري، وبعد نجاح جهود الوساطة المصرية والدولية في وقف إطلاق النار، زار وفد أمني مصري يوم السبت 22 مايو الجاري، مقر الرئاسة في مدينة رام الله، حيث بحث مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس التهدئة وتنسيق جهود إعادة إعمار غزة. وقام مسؤولون مصريون بجولات مكوكية عقدوا خلالها لقاءات مع الطرفين الصهيوني والفلسطيني، وناقشوا خلالها احتواء التصعيد والاتفاق على هدنة ووقف النار، على أن تتم لاحقًا مناقشة الخلافات والملفات العالقة والتي تسبب التوتر والتصعيد.
وأرسل السيسي وفدين أمنيين إلى الكيان الصهيوني والأراضي الفلسطينية للعمل من أجل دعم وقف إطلاق النار ومتابعة إجراءات تنفيذ الهدنة والاتفاق على الإجراءات اللاحقة التي من شأنها الحفاظ على استقرار الأوضاع بصورة دائمة.[4]
والتقى الوفد قيادة حركة حماس، لاستكمال الحديث حول ملف التهدئة، وهنا يدور الحديث أن الوفد المصري الذي وصل غزة في المرة الأولى، بعد أقل من 12 ساعة علي دخول قرار وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، أبلغ قيادة حماس، أن القاهرة تلقَّت وعودًا أمريكية وأوروبية بإعادة إعمار غزة، وأن المرحلة القادمة ستشهد البحث بالشكل التفصيلي في عملية الإعمار، التي تحتاج إلى هدوء، لكي يقوم الممولون لهذه المشاريع بتنفيذها.
وقد تلقَّت الأطراف الفلسطينية المعنية إحاطة بأن المانحين يريدون أن ينتهي التوتر بشكل كبير، من أجل البدء بإعادة الإعمار، حيث يتوقع أن لا يطول أمد الفترة التي تنطلق فيها مشاريع الإعمار، خاصةً وأن الوفد المصري أشار إلى أن هناك ترتيبات قائمة لاحتمال عقد مؤتمر دولي للمانحين في القاهرة، على غرار المؤتمر الذي عقد بعد حرب 2014، لوضع آليات تنفيذ المشاريع وجمع الأموال اللازمة لذلك.
وضم الوفد المصري مسؤول الملف الفلسطيني في جهاز المخابرات المصرية اللواء أحمد عبد الخالق، كما ضم أيضًا ممثلًا عن الرئاسة، لأول مرة، حيث اقتصر التعامل مع حماس والفصائل الفلسطينية طوال السنوات الماضية على لقاءات مع المخابرات فقط، فيما كان يعقد مسؤولون من السلطة وحركة فتح لقاءات مع ساسة مصريين. ويعطي ذلك دلالة على أن هناك اهتمامًا من قِبل الرئاسة المصرية بملف غزة وإعادة الإعمار، خاصةً بعد مواقف القاهرة خلال العدوان، والتي نجحت تحركاتها إلى جانب كل من قطر والأردن والأمم المتحدة في التوصل إلى وقف إطلاق النار.[5]
مكاسب السيسي من دعم المقاومة: حقَّق نظام السيسي مجموعة من المكاسب، أهمها:
دوليًا؛ حقَّق نظام السيسي هدفه من استعادة الدور في الملف الفلسطيني؛ حيث أجرى الرئيس الأميركي، جو بايدن، اتصالًا هاتفيًا مع السيسي، لبحث الجهود الرامية للتوصل لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، وفق ما أفاد البيت الأبيض. وعبَّر السيسي عن سعادته بتلقي اتصال بايدن، وشكره على دوره في إنجاح مبادرة وقف إطلاق النار المصرية.
وأكد السيسي على عمق وقوة العلاقات الاستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة، معتبرًا أنه يأمل في مزيد من التعاون. كما عبر زعماء أوروبيون وإقليميون آخرون عن تقديرهم للسيسي، في إشارة إلى مكانة مصر منذ عقود كقوة استقرار في الشرق الأوسط، حتى مع اعتبار نظام السيسي الأكثر قمعية في تاريخ مصر الحديث.
وإقليميًا: عزَّزت الوساطة الناجحة مكانة مصر بعد أن حاولت بعض الدول القيام بهذا الدور مثل السعودية والإمارات وتركيا وحتى روسيا.
ومحليًا: استخدم الموالون للسيسي وسائل التواصل الاجتماعي للإشادة به لقيادته ودفاعه عن قضية الشعب الفلسطيني. كما أنها منحت السيسي انتصار على معارضيه في وقت يتعرض فيه لانتقادات كبيرة لهدم الأحياء الأثرية لبناء العاصمة الجديدة، وعدم القيام بالقليل للتخفيف من الفقر المدقع في البلاد. لكن برغم ما أظهره السيسي من دعم وتأييد للفلسطينيين، لا تزال المسيرات المؤيدة للفلسطينيين محظورة في مصر.[6]
الخُلاصة؛
لا شك أن عودة العلاقات المصرية مع حماس تنطلق بالأساس من سعي المؤسسة الأمنية المصرية في دعم نظام الانقلابي داخليًا وخارجيًا. ومن ثمَّ فهي تفيد الطرفين؛ فمن جهة تساعد النظامعلى تحقيق أهداف واستعادة دوره الإقليمي، ومن ناحية ثانية تخفف الضغط على المقاومة والحصار المفروض عليها من الجانب المصري ولو لفترة. ولكن؛ يصعد الآن للسطح تساؤل هام؛ ما هو تأثير ذلك على المعارضة المصرية في الداخل –لاسيما الإسلامية منها-؟ والتي كانت أحد الاتهامات المُوجهة إليها التخابر مع حماس بصفتها عدو للنظام المصري، وكذلك الأمر مع قطر وتركيا.
فبعد تفكيك العداوات مع تلك القوى الثلاث؛ هل يتغير سلوك النظام المصري مع تلك الفئة من المعارضين –وهي الأوسع بينهم-؟ لعل هذا يكون هو السلوك الأكثر منطقية في ظل الأحداث الجارية على المستويين الإقليمي وما يجري فيه من مصالحات، والدولي في ظل ضغط حكومة بايدن التي لاتزال تضغط على النظام لحلحلة ملف حقوق الإنسان في مصر. لكن لا يزال الوضع الداخلي يُشكِّل قلقًا بالنسبة للنظام المصري، فحدوث انفراجة في لف المُعتقلين من الإسلاميين؛ من شأنها أن تثير قلق النظام بشأن تأجُّج الوضع الداخلي، والذي يعاني بالفعل من أزمات تنتظر من يفجرها.
الأمر الذي يجعل من تلك الخطوة محل نظر من قِبل النظام المصري، ربما تحسمها الأحداث في الأيام القليلة القادمة.
——————————–
[1] محمد العربي، “من العداء إلى التقارب.. لماذا دعمت مصر حماس في مواجهتها الأخيرة مع إسرائيل؟”، الجزيرة نت، 21/5/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/8vV6I
[2] أحمد صقر، “ماذا حملت زيارة الوفد الأمني المصري المفاجئة لغزة؟”، عربي 21، 7/4/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/fj5Pg
[3] محمد العربي، مرجع سبق ذكره.
[4] “عباس يلتقي الوفد الأمني المصري.. تنسيق للتهدئة وإعادة إعمار غزة”، العربية نت، 22/5/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/RDQqX
[5] “وفد أمني مصري في غزة لاستكمال مباحثات وقف إطلاق النار وإعادة الإعمار”، القدس العربي، 23/5/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/EYVIv
[6] “محللون: السيسي خرج “رابحا” من صراع حماس وإسرائيل”، الحرة، 22/5/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/Ho6E1