بنسبة مشاركة بلغت 23.03% من الناخبين الجزائريين، بحسب الأرقام الرسمية غير النهائية التي أعلنتها السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، الثلاثاء، جاءت نتائج الانتخابات التشريعية الأولى بعد الحراك السياسي في البلاد، والذي بدأت منذ نحو عامين، وشارك في العملية الانتخابية التي جرت السبت 12 يونيو الجاري، لاختيار 407 نواب في المجلس الشعبي الجزائري (الغرفة الأولى للبرلمان)، نحو 5,6 مليون مواطن، وتنافست أكثر من 1480 قائمة، بين حزبية ومستقلة..
وجاءت الانتخابات بعد حل الرئيس “عبدالمجيد تبون” (75 عاما)، البرلمان بداية العام الحالي، فيما ستعلن النتائج النهائية للمجلس الدستوري، في غضون 10 أيام بعد البت في الطعون كما ينص قانون الانتخابات.
وأخذت الانتخابات أهمية سياسية بالغة، لكونها أول انتخابات برلمانية تجري بعد الحراك الشعبي الذي أطاح بحكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وغيّر الكثير في المعادلة السياسية في الجزائر.
أول انتخابات تجرى تحت إشراف هيئة مستقلة للانتخابات، وتاسع انتخابات من نوعها منذ الاستقلال؛ ثلاثة منها جرت خلال حكم الحزب الواحد (جبهة التحرير الوطني)، وست استحقاقات نيابية جرت بعد دخول البلاد عهد التعددية السياسية عام 1989.
كما تنفرد هذه الانتخابات بكونها الأولى التي تشرف عليها هيئة مستقلة للانتخابات في تاريخ الاستحقاقات الانتخابية في الجزائر، إذ منح الدستور الجديد وبعده القانون الانتخابي الجديد، الهيئة كامل صلاحيات تنظيم الانتخابات وترتيباتها السياسية والقانونية والفنية، والتي تم سحبها من وزارة الداخلية، بدءاً من تسلّم قوائم المرشحين والبت فيها وقبول أو رفض المرشحين والقوائم، إلى تسجيل الناخبين في البلديات، وصولاً إلى الإشراف على الحملة الانتخابية وتسيير مكاتب الاقتراع حتى إعلان النتائج الكاملة.
وعلى الرغم من أن هذه التجربة الأولى من نوعها بالنسبة للهيئة المستقلة ليست مثالية على الصعيد التنظيمي، بحكم أنها شهدت بعض العوائق الفنية والارتباك في تطبيق القانون الانتخابي، وبعض المشاكل المرتبطة بغموض مواد قانونية، إلا أن الأمر يُعد تطوراً إيجابياً في مسار العملية الانتخابية في الجزائر، لجهة تحييد الإدارة وإحداث قطيعة مع الممارسات السابقة التي كانت تُفقد الانتخابات ونتائجها المصداقية السياسية.
ويُعدّ استحداث الهيئة المستقلة للانتخابات أحد أبرز المطالب التي نجحت قوى المعارضة السياسية في تحقيقها، إذ كانت قد طالبت باستحداثها للمرة الأولى في وثيقة مؤتمر المعارضة، الذي عقد في يونيو 2014.
كما شهدت الانتخابات أيضاً عودة بعض الأحزاب السياسية التي كانت قد قاطعت واعترضت على المسار الانتخابي الجديد منذ بدايته في ديسمبر 2019، أبرزها حركة “مجتمع السلم”، أكبر الأحزاب الإسلامية، التي كانت قد قاطعت الانتخابات الرئاسية التي جرت في نهاية عام 2019، كما اعترضت على دستور نوفمبر 2020، ودعت في تلك الفترة إلى إجراء حوار وطني للتفاهم بين السلطة والمعارضة على توافقات سياسية مستقبلية. كما عادت أحزاب أخرى إلى المسار الانتخابي، كـ”جبهة العدالة والتنمية” و”حركة النهضة” وغيرها.
أولا: مؤشرات سياسية
تقدم غير مسبوقة للإسلاميين
يبدو أن تودُّد الرئيس عبدالمجيد تبون للإسلاميين خلال ظهوره الإعلامي الأخير لم يكن اعتباطياً، إذ حصلت أحزاب الإسلاميين بالجزائر على أكثر من 100 مقعد في الانتخابات البرلمانية حسب الأرقام الأولية الرسمية المعلنة.
وفازت حركة مجتمع السلم بـ 65 مقعداً نيابياً، وهو ضعف ما فازت به في الانتخابات السابقة.
بينما حصلت حركة البناء الوطني على 40 مقعداً، وهو ضعف ثماني مرات ما فازت به في تشريعيات 2017.
وتراجع حزب العدالة والتنمية تراجعاً طفيفاً، إذ فاز بمقعد واحد، وهو الذي كان قد حصل على 4 مقاعد في الانتخابات السابقة.
ووفق تقديرات المحلل السياسي فاتح بن حمو، لـ”عربي بوست”، “كان يمكن لتيار الإسلام السياسي أن يحقق أرقاماً أكبر لو كانت العملية الانتخابية نزيهة مئة بالمئة”.
ولكن الخلاف الاستراتيجي، قد يحول دون إمكانية تحالف حركة مجتمع السلم وحركة البناء باعتبارهما يمثلان تياراً واحداً، فالكل يعلم أن البناء حزب قريب من السلطة، بينما مجتمع السلم حزب معارض ويرفض السير مع السلطة في كل توجهاتها، لذلك لن يكون هناك تحالف بين الحزبين.
عوامل فوز الإسلاميين، يرجعها الكثير من الباحثين الجزائريين إلى تركيز برامجهم الانتخابية، على قضايا الاقتصاد وتحريك الاستثمارات والتطوير والتحديث، فمثلا، حزب البناء الوطني “إخوان مسلمين” منشق عن “حمس”، منذ 2014، ركز في برنامجه الانتخابي على إصلاحات السوق الحرة واستحداث التمويل الإسلامي لكنه ينأى بنفسه عن القضايا الاجتماعية رغم أن المدافعين عن حقوق المرأة يخشون أن يحاول عرقلة إصلاحات قانون الأسرة الذي يقيد حريات المرأة.
وكان رئيس الحزب بن قرينة حصل على 1.5 مليون صوت في انتخابات الرئاسة عام 2019 ويرجح المحللون أن يجيء حزب حركة البناء، الذي انشق عن حزب إسلامي آخر في 2014، في الصدارة في انتخابات يونيو حزيران.
كما استفاد الإسلاميون من تجربتهم السابقة، إذ عندما فاز الإسلاميون في عام 1992 ألغى الجيش الانتخابات الأمر الذي أطلق شرارة حركة عصيان مسلح وحرب أهلية سقط فيها 200 ألف جزائري قتلى قبل أن تضع أوزارها في 1999.
ومنذ ذلك الحين شاركت الأحزاب الإسلامية في الحياة السياسية لكنها كانت تتبنى مواقف معتدلة.
وهو ما يؤكده، محمد مولودي الناشر الجزائري والخبير في شؤون التيار الإسلامي في البلاد “الأحزاب الإسلامية اكتسبت خبرة سياسية هائلة منذ التسعينيات، وأصبحت المشاركة السياسية بدلا من المواجهة هي العلامة التجارية لأحزاب الجزائر الإسلامية اليوم”.
وأمام تقدم الإسلاميين، فمن المرجح، أن يعين الرئيس عبد المجيد تبون قرابة عشرة منهم في مناصب وزارية لكنهم لن يتولوا وزارات الداخلية والمالية والعدل الرئيسية.
تراجع تمثيل المرأة
ودللت النتائج الأولية للتشريعيات بالجزائر عن تراجع كبير في عدد مقاعد النساء، بحيث لم تتجاوز حصتهن 20 مقعداً من أصل 407 مقاعد، أغلبها موزعة بين حزب جبهة التحرير الوطني وحركة مجتمع السلم، وذلك على الرغم، من ترشّح 5743 امرأة، للانتخابات البرلمانية، ضمن قوائم الأحزاب السياسية والقوائم المستقلة.
وبلغ التمثيل النسوي في الولاية التشريعية قبل الماضية 154 مقعداً، ثم تراجع في الانتخابات التشريعية الماضية، إلى 120 مقعداً.
تدني نسب المشاركة
ومن أصل 24 مليون شخص يحق لهم الاقتراع، أشارت السلطة إلى أن 5.6 ملايين شخص أدلوا بأصواتهم، علما بأن أكثر من مليون من هذه الأصوات اعتبرت لاغية، وخلال استفتاء نوفمبر بلغت نسبة الامتناع عن المشاركة 70%.
وعلى سبيل المقارنة، فقد بلغت نسبة المشاركة 35.70%، خلال الانتخابات التشريعيّة عام 2017، و 42.90% عام 2012، بحسب وكالة رويترز.
وكان هناك ترقّب لنسبة المشاركة، بعدما شهد الاستحقاقان الانتخابيّان السابقان (الاقتراع الرئاسي عام 2019 والاستفتاء الدستوري عام 2020)، نسبة امتناع غير مسبوقة عن التصويت بلغت 60% و76% على التوالي.
ووفق الأرقام الرسمية، فقد سجلت ولايات جنوب الجزائر أعلى نسب مشاركة على المدن الشمالية، فيما شهدت محافظات منطقة القبائل أدنى نسب مشاركة على المستوى الوطني.
بينما رفض الحراك المطالب بتغيير النظام ودولة القانون والانتقال الديمقراطي والقضاء المستقل، هذه الانتخابات التشريعية، فيما دعت المعارضة العلمانية واليسارية، التي تراجعت شعبيتها، إلى المقاطعة أو ترك الحرية لأفرادها بالاقتراع من عدمه.
وبحسب القوى السارية الجزائرية في بياناتهم وتعليقاتهم الإعلامية على النتائج، والتي نقلت بعضها “سويس انفوو”، فإن المقاطعة الشعبية تعود إلى غياب عامل الثقة في النظام الانتخابي الذي صيغ على عين السلطة وحدها دون إشراك الطبقة السياسية، ضمن جملة أسباب دفعت المواطنين لعدم الاقتناع بجدوى المشاركة في الانتخابات، وغياب كل أمل في تغيير أوضاعهم، وبالتالي عدنا إلى نفس النتائج السالفة””
وإضافة إلى اعتبار الانتخابات جزءاً من خريطة طريق فرضتها السلطة لصالح تقديراتها السياسية، فإن مكونات الحراك الشعبي تعتبر أن الظروف السياسية المتوترة والتضييق الحاصل على الحريات وحالة الإغلاق التي تفرضها السلطة، لا توفر أي ظروف طبيعية لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة.
ويستند الحراك في هذا الموقف إلى رفض السلطة السماح لمجموعة من الأحزاب السياسية الفتية التي أنشأتها مجموعات من شباب الحراك بالنشاط السياسي، وهو ما يعتبره الناشط في الحراك سمير العربي، في تصريح لـ”العربي الجديد”، أنه “تعبير واضح عن رغبة السلطة في استبعاد كل قوة سياسية غير مضمونة في مواقفها بالنسبة للسلطة، ومستقلة في توجهاتها وخياراتها”.
مستدلا على ذلك بأن السلطة استبعدت شباباً وناشطين من الحراك قدّروا أن المشاركة في الانتخابات قد تكون آلية للتغيير، ورفضت ملفات ترشحهم للانتخابات، وهذا يعني أن السلطة تريد إجراء انتخابات فقط، ولا تستهدف منها تشكيل برلمان قوي بنواب مستقلين عن خيارات السلطة”.
شكاوى من التزوير
في غضون ذلك، قال رئيس حركة “مجتمع السلم” (حمس) الجزائرية، “عبدالرزاق مقري”، الأربعاء الماضي، إن تجاوزات أثرت في نتائج الانتخابات التشريعية، التي حصلت خلالها الحركة على 64 مقعدا، إلا أنه لم يتهم جهة ما بالمسئولية عن ذلك، وفق “روسيا اليوم”.
وأكد “مقري” أن الحركة ستدرس أي عرض يقدم لها لدخول الحكومة القادمة بشرط أن يكون جديا ويتوافق مع رؤيتها وبرنامجها.
يشار إلى ان حمس تنأى بنفسها عن المشاركة في الحكومة وتتخذ موقف معارضا، على عكس حركة البناء الوطني القريبة من الحكومة، وكلتا الحركتين يمثلان تيار الاسلام السياسي بجانب حرة العدالة والتنمية التي يرأسها الشيخ عبد الله جاب الله.
وكانت الهيئة المستقلة للانتخابات، رفضت تلك الدعاوى، معتبرة انها تستهدف اثارة الفوضى، إلا أن بعض القوى الاخرى اشتكت من تدخلات لصالح مرشحين مستقلين وبعض أطراف النظام المخلوع.
انتقادات مشروعة
وبعيدا عن المسار السياسي الذي تتبعه سلطة تبون، في الذهاب للامام والانتقال بالتعبير عن الرأي والقوى السياسية عبر مؤسسات الدولة، كمسار ححاكم او ممهد لاي تغيير، تثور العديد من الانتقادات ، من قبل الشباب المشاركين في الحراك الذي اطاح بنظام عبد العزيز بوتفليقة في فبراير 2019، بعد ثلاثين عاما من الحكم، اذ يتمسك العسكر بمفاصل الدولة، ويمارس نظام تبون اعتقالات في الاوساط الشبابية والصحفيين ، انتقدته مؤخرا منظمة العفو الدولية، مانعا التظاهرات الشبابية لتمرير العملية الانتخابية.
كما يتمسك سياسيون جزائريون بأن تدني نسبة المشاركة السياسية تطعن في شرعية البرلمان المقبل ، ومن ثم العملية السياسية، مطالبين بانتزاع كامل للشخصيات والمؤسسات الحاكمة..بل يذهب البعض في تشكيكهم بالانتخابات الاخيرة، واصفين اياها بأنها، على شاكلة انتخاب الرئيس الحالي عبد المجيد تبون أو الاستفتاء على الدستور، ليست سوى مناورات مكشوفة الأغراض لتثبيت مظهر زائف وكاذب يفيد بأن تركيب السلطة الحاكمة الراهن قد تبدّل، أو هو ليس إعادة إنتاج للكثير من ركائز النظام القديم، بحسب الكاتب السوري المقيم بباريس، بجريدة “القدس العربي”.
ولكن “تبون” لم يبد اهتماما بمستويات المشاركين، وأخبر الصحفيين، يوم الاقتراع ، قائلا: “معدل المشاركة ليس مهما لي، وما يهم هو حصول الذين سيتم انتخابهم على شرعية كافية”.
ومن ضمن الانتقادات، ما ذهبت اليه صحيفة الجزائر تايمز، بوصفها الانتخابات البرلمانية، قائلة إن النظام “يصرّ على المضي قدما في استراتيجيته بدون أي اعتبار لمطالب الشارع (دولة القانون والانتقال الديمقراطي والقضاء المستقل وحرية الصحافة، ودولة مدنية ماشي عسكرية..إلخ)”.
يشار إلى أنه لا تزال حركة الاحتجاج العلمانية إلى حد كبير، والتي يطلق عليها “الحراك”، تنظم مظاهرات أسبوعية للمطالبة بتطهير كامل للنخبة الحاكمة وتقاطع الانتخابات إذ تعتبرها تمثيلية ما دامت السلطة النهائية في يد المؤسسة العسكرية والمتحالفين معها.
ثانيا: دلالات النتائج
وللنتائج المعلنة العديد من الدلالات، يمكن حصرها في التالي:
-نتائج محرجة لتبون
ووفق سلطة الانتخابات الجزائرية فقد فاز “جبهة التحرير الوطني” بـ105 مقاعد في البرلمان ، وفي المركز الثاني فازت القوائم المستقلة بـ78 مقعدا، فيما حل حزب “حركة مجتمع السلم” (حمس)، أكبر حزب إسلامي بالجزائر ثالثا بعد أن حصد 64 مقعدا، وجاء رابعا حزب “جبهة المستقبل” بعد فوزه بـ48 مقعدا، ثم “حركة البناء الوطني” بـ40 مقعدا.
النتائج تصب في صالح عودة رجال بوتفليقة والنظام البائد للمشهد السياسي مجددا، بجانب تصاعد قوة الاسلاميين، والذين سيشاركون بعدد معتبر من الوزراء تتماشى مع ما يمثلونه من كعكة البرلمان، مجتمعين، حيث حصدت كلا من “جمس” و”البناء الوطني” 106 مقعدا.
بينما كان يراهن “تبون” على قوى المستقلين الذين لم تتجاوز اعداد مقاعدهم البرلمانية 76، وهو ما يعيق سيطرة المقربين من تبون على الحكومة، وهو ما كان متوقعا وفق الاستطلاعات التي استبقت الانتخابات، والتي على اثرها بدأ تبون مبكرا التودد للاسلاميين، معلنا أنه لا يهم تدني نسبة المشاركة السياسية والشعبية، المهم النتائح النهائية التي تمثل الشرعية الدستورية.
كما أن حزبا السلطة “جبهة التحرير الوطني” و”التجمع الوطني الديمقراطي”، ونتائجهما الانتخابية فسيفرض على الرئيس “عبدالمجيد تبون” التعامل معهما كـ “شريكين” وليس تابعين للسلطة كما كان يتعامل معهما الرئيس السابق “عبدالعزيز بوتفليقة”؛ لأنهما نجحا من دون دعم مباشر أو رعاية من السلطة، كما كان في السابق.
-المقاطعة الشبابية أعادت رموز “بوتفليقة”
وقد أدت مقاطعة القوى الشبابية وقوى الحرك الشعبي، لعودة شعبية رموز نظام بوتفليقة، وكانت أغلب التوقعات تشير إلى أن هذه الانتخابات ستكون محطة لمحو حزب “جبهة التحرير الوطني” من الخريطة السياسية جراء غضب شعبي ضد قيادييه الذين سجن عدد كبير منهم في قضايا فساد، بجانب انشقاق عدد من كوادره لكن ذلك لم يحدث.
إذ فقد الحزب فقط 55 مقعدا في البرلمان مقارنة بالولاية السابقة (2017 ـ 2021) إذ كان يملك 160 مقعدا، بحسب تقديرات سياسية لموقع “الخليج الجديد”.
-فوز الإسلاميين وإعادة التوازن البرلماني
ويلعب الصعود البارز للإسلاميين في الانتخابات التشريعية دورا محوريا في الحياة السياسية الجزائرية خلال الفترة المقبلة، وهو ما يؤكده الكاتب المتخصص في الشؤون السياسية “أحسن خلاص”، في تصريحات لـ”العربي الجديد” بأن هناك متغيرات حملتها هذه الانتخابات لا يمكن الاستهانة بها، أهمها صعود موارد بشرية جديدة لدى جميع الأحزاب المتصدرة، بعد الانسحاب الاضطراري للوجوه البرلمانية القديمة، إضافة إلى الجمع بين كتلة “مجتمع السلم” و”حركة البناء” بين الأحزاب المتقدمة بالنتائج، ما سيحدث نوعاً من التوازن في المشهد والبرلمان، بخلاف ما كان في السابق.
-تغيرات في خارطة المستقبل السياسي
وبحسب صجيفة “واشنطن بوست” التي وصفت نتائج الانتخابات، بأنها “حفل تنكري لم يغير الحرس القديم”، فقد أسفرت الانتخابات البرلمانية الجزائرية – عن تثبيت خارطة الصدارة التقليدية لأحزاب “مجتمع السلم” و”جبهة التحرير الوطني” و”التجمع الوطني الديمقراطي”، في مقابل صدمة كبيرة استيقظت عليها الأحزاب الناشئة التي كانت تتوقع أن تتيح لها هذه الانتخابات تمركزاً جيداً في توازنات البرلمان والمشهد الحزبي، إضافة إلى خيبة لافتة للمستقلين، بخلاف التوقعات التي كانت تعطيهم تقدماً قياسيا.
فحسب الولايات الـ58 والمناطق الأربع في الجالية الجزائرية بالخارج، أبقت النتائج الأولية أحزاب الصدارة الثلاثة كما هي بشكل متفاوت في العديد من الولايات، مع صعود لافت لـ”حركة البناء الوطني” (منشقة من مجتمع السلم) و”جبهة المستقبل” (حزب أسسته كتلة من القيادات الشابة انشقت عن جبهة التحرير)، وهي الأحزاب التي يتوقع أن تكون الأكثر تأثيراً في تشكيل الحكومة المقبلة، إضافة إلى كتلة المستقلين.
ويعود الحضور البارز لـ”حركة مجتمع السلم” في صدارة النتائج إلى حفاظها على ثقلها الشعبي وتنشيطها حملة انتخابية مميزة، ولذا فإن نتائجها كانت متوقعة، بخلاف حزبي السلطة “جبهة التحرير الوطني” و”التجمع الوطني الديمقراطي”.
ووفق التقديرات السياسية لعدد من المراقبين ، فإن نتائج الجبهة والتجمع جاءت بمثابة مفاجأة سياسية، بالنظر إلى أن كلا منهما يمثلان أكثر الأحزاب السياسية التي استهدفها الحراك الشعبي، وطالب في تظاهرات فبراير 2019 بحلهما، وحمّلهما الجزائريون جزءاً من المسؤولية عن النكبة السياسية والاقتصادية التي انتهت إليها البلاد، وتورطهما في دعم الخيارات والسياسات التي انتهجتها السلطة في العقود الماضية.
وعزز من هذه التوقعات تعرّض الجبهة والتجمع إلى هزات تنظيمية داخلية حادة، ما بعد الحراك الشعبي، واعتقال وسجن كبار قيادات الحزبين، في صورة الأمينين العامين السابقين لـ”جبهة التحرير”، “جمال ولد عباس” و”محمد جميعي”، وأمين عام “التجمع الديمقراطي”، “أحمد أويحيى”، وملاحقة عدد من نواب وقيادات الحزب.
ورغم ذلك نجح الحزبان، بحسب ما تظهره النتائج الأولية، ليس فقط في النجاة من هزيمة انتخابية، وإنما في الظفر بكتلة مهمة من المقاعد.
يأتي ذلك فيما لعبت كل من “جبهة المستقبل” ، و”حركة البناء الوطني” التي حصلت على 40 مقعداً، دور “الحصان الأسود” في هذه الانتخابات، حيث عززا من كتلتها النيابية، مقارنة مع النتائج التي حصلا عليها في انتخابات 2017.
“جبهة المستقبل”، التي يقودها المرشح الرئاسي السابق “عبدالعزيز بلعيد”، كانت قد حصلت في 2017 على 11 مقعداً، بينما كانت “حركة البناء”، التي يقودها المرشح الرئاسي السابق “عبدالقادر بن قرينة”، قد حصلت على 14 مقعداً فقط ضمن تحالف كان ضمها مع “جبهة العدالة والتنمية” و”حركة الإصلاح الوطني” في 2017..
في المقابل، لم تنجح مجموعة أحزاب ناشئة، كان يتوقع أن تتيح لها الانتخابات ولادة سياسية، في تحقيق ذلك، إذ أظهرت النتائج الأولية للانتخابات التشريعية حصولها على عدد محدود من المقاعد، لا يؤهل بعضها لتشكيل كتلة برلمانية في البرلمان (أقل من 11 مقعداً)، على غرار “جيل جديد” و”الفجر الجديد” وحزب “صوت الشعب”.
وعلى عكس التوقعات أيضا، لم تنجح قوائم المستقلين في تحقيق الحضور المتوقع رغم الإعلانات المتكررة من قبل الرئيس “تبون” عن دعم ترشح الشباب وتوفير دعم مادي لمستقلين أقل من 40 سنة. فالنتائج أظهرت حصول المستقلين على عدد أقل من التوقعات، على الرغم من تقدمهم في بعض الولايات، كتيبازة وبومرداس قرب العاصمة الجزائرية، وهو ما يظهر بحسب بعض المراقبين تراجعاً لافتاً للسلطة عن خيار الاستناد إلى المجتمع المدني، بسبب ضعفه الهيكلي والتنظيمي، والرفض الكبير الذي واجهه هذا الخيار من قبل القوى السياسية، التي رأت فيه محاولة لتحييد الأحزاب عن دورها.
ثالثا: التحديات المستقبلية
وتلوح في الأفق العديد من التحديات السياسية على الاصعدة كافة، منها:
-تفغيل دور البرلمان واستقلاليته عن السلطة التنفيذية
وأمام هذا المشهد النيابي بتجلياته المغايرة، واشكالاته، في ظل مقاطعة سياسة وتأزيم من قبل السلطة السياسية مع الحراك الشعبي الممتد منذ فبراير 2019، تثور الكثير من التكهنات والتوجس حول المستقبل السياسي ، ودور البرلمان في الفترة القادمة..
فبحسب الباحث الجزائري عثمان لحياني، بـ”نون بوست”، على مدى العقود والتجارب النيابية التسع السابقة، لم يكن للبرلمان الجزائري أي دور في إقرار الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد، إذ لم يصدر أي من البرلمانات السابقة أية مبادرة تشريعية أو قانون من تلقاء نفسه، بينما كان ينتظر فقط ورود مشاريع القوانين من الحكومة لتسجيلها والمصادقة عليها، وهو ما جعله يوصف إعلاميا بأنه مجرد “غرفة تسجيل”.
ولم يُعرف للبرلمان في السابق دور رقابي أو إنشاء لجان نيابية للتحقيق في ملفات وقضايا، بسبب تغول السلطة التنفيذية وعدم استقلالية البرلمان وتحكم السلطة السياسية والأجهزة في الكتل النيابية للأغلبية الموالية للسلطة، إذ كان يتم إحباط أية محاولة من قوى المعارضة لتقديم مشاريع قوانين أو تعديلات أو إنشاء لجان تحقيق، بما فيها محاولة إصدار قانون لتجريم الاستعمار.
كما أن من ضمن التحديات التي سيواجهها البرلمان تعزيز استقلاليته عن السلطة التنفيذية والحكومة وخضوعها لرقابته بخلاف ما كان يحدث في السابق، خاصة في ظروف سياسية مغايرة وتوازنات جديدة أفرزتها هذه الانتخابات، سواء في المشهد الحزبي أو في خريطة الكتل والتحالفات داخل البرلمان، وتكريس قيمة مضافة وحقيقية للتعددية السياسية.
-تشكيل الحكومة القادمة
ولكي يستطيع تبون تشكيل حكومة خاضعة له ويعيّن وزيراً أول لقيادتها، عليه أن يضمن ولاء 204 نواب على الأقل في البرلمان الجديد، وهو ما سيضعه أمام خيارين:
الخيار الأول أمام تبون : سيكون مرتبطاً بالتحالف مع أحد حزبي بوتفليقة، وهو ما لا يحبّذه تبون؛ لِمَا للحزبين من سمعة سيئة في الشارع الجزائري، الذي كان يطالب قبل أشهر بحلّهما، بسبب دعمهما المطلق لبوتفليقة.
أما الثاني: فيتعلق بالتحالف مع حزب حركة مجتمع السلم الإسلامي الذي يرفض أن يكون واجهةً للحكم، ويطمح على الأقل إلى أن يتقلد أحد قياداته منصب الوزير الأول للقبول بالتحالف مع الرئيس.
ويُتوَقّع أن يضمن الرئيس الجزائري ولاء كل من كتلة المستقلين التي حصلت على 78 مقعداً، وجبهة المستقبل صاحبة الـ48 مقعداً، وحركة البناء التي ظفرت بـ40 مقعداً، وهو ما يشكل مجموعه 166 مقعداً، ما يعني أنه سيكون بحاجة إلى إحدى القوى الكبرى بالبرلمان المتمثلة في حزبي النظام السابق أو الحزب الإسلامي، لتشكيل حكومة من أغلبية رئاسية.
أما التحالف الذي يخشاه تبون، فيتمثل في تشكل ثلاثة أحزابٍ الحكومة بعيداً عن اختيارات الرئيس ، وهي: جبهة التحرير الوطني صاحبة المرتبة الأولى في الانتخابات بـ105 مقاعد، وحركة مجتمع السلم التي فازت بـ64 مقعداً، والتجمع الوطني الديمقراطي الحائز 58 مقعداً.
مجموع المقاعد التي حصلت عليها هذه الأحزاب الكبرى يساوي 227 مقعداً، وهو ما يؤهلها لتشكيل الحكومة بكل أريحية دون الحاجة إلى أحزاب أخرى.
وفي حال اتفقت هذه الأحزاب على الخطوط العريضة، وأهمها رئاسة الحكومة وحصة كل حزب من الوزراء، فسيشكل ذلك ضربة قوية لطموحات تبون.
ويُذكر أن للأحزاب الثلاثة تجربة دامت عشر سنوات كاملة تحالفوا فيها أثناء حكم الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة (2002-2012)، انتهت بوصول رئيس حركة مجتمع السلم، عبدالرزاق مقري، لرئاسة الحزب.
سيناريوهات تشكيل الحكومة الجزائرية
وفقاً للتعديلات التي مست الدستور الجزائري سنة 2020، فإن الحكومة الجزائرية يجب أن تنبثق عن أغلبية برلمانية، إما متحالفة مع الرئيس وإما معارضة له.
وتُحدد المادة 103 من الدستور الحد الفاصل بين تعيين الوزير الأول في حال استطاع الرئيس ضمان أغلبية موالية له ولبرنامجه، ورئيس الحكومة في حال استطاعت المعارضة التحالف والظفر بالأغلبية في المجلس الشعبي الوطني (البرلمان).
ويتيح الدستور الجزائري للمعارضة وضع برنامجها الحكومي المستقل عن رئيس الجمهورية وفقاً لتوجهات تكتلها السياسي، واختيار الوزراء الذين تريدهم ثم تعرضهم على الرئيس.
وفي المقابل لا يسمح الدستور الجديد للوزير الأول بأكثر من اقتراح تشكيل الحكومة، فيما الكلمة الأخيرة للرئيس بالرفض والقبول أو التعديل.