وافق البرلمان المصري الإثنين 12 يوليو 2021م على مشروع قانون تقدمت به حكومة الجنرال عبدالفتاح السيسي الذي قاد انقلابا عسكريا في 3 يوليو 2013م ضد الرئيس المنتخب الشهيد الدكتور محمد مرسي، واغتصب السلطة بعدما أجهض المسار الديمقراطي الوليد بعد ثورة 25 يناير 2011م.
مشروع القانون الجديد الذي تقدم به النائب علي بدر و10 نواب آخرين، يأتي كتعديل على القانون رقم 10 لسنة 1973 بشأن فصل العاملين في جهاز الدولة بغير الطريق التأديبي؛ حيث يمنح للحكومة صلاحيات فصل الموظفين المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين من عملهم في الجهاز الإداري للدولة بناء على تحريات الأجهزة الأمنية.
مشروع القانون يتزامن مع أحكام الإعدام التي طالت 12 من قيادات ورموز الجماعة والثورة، ويأتي بعد تنفيذ حكم الإعدم الجائر بحق 17من المعتقلين على ذمة قضية “كرداسة”، كما يأتي متزامنا مع سلسلة الأحكام الباتة و القاطعة التي تصدرها محكمة النقض استنادا إلى التحريات الأمنية فقط. هذه الإجراءات المتزامنة تحمل رسالة واضحة بأن النظام ماض في بطشه بالإخوان إلى مداه البعيد دون النظر إلى عواقب هذه السياسات وانعكاساتها على نسيج المجتمع المصري ووحدته.
وتمثل برهانا ساطعا لكل المحللين والمراقبين بأن النظام لا يكترث لحقوق الإنسان أو العدالة بقدر ما يستهدف ترجمة توجيهات رعاته الدوليين والإقليميين إلى إجراءات انتقامية بحق الإسلاميين من جهة وإجهاض أي مؤشر يدفع بمصر نحو الديمقراطية والحكم الرشيد.
معنى ذلك أن السيسي في الوقت الذي تحتاج فيه مصر التعافي والتماسك ولم الشمل ورص الصفوف حتى تقف صفا واحدا ضد العدوان الإثيوبي على نهر النيل، يواصل بغبائه أو خيانته تمزيق النسيج الوطني المصري وتفتيت الجبهة الداخلية لإضعاف مصر؛ فلا تقوى على حماية أمنها القومي أو النهوض من كبوتها التي حفرها العسكر بظلمهم وطغيانهم وفشلهم في إدارة البلاد.
نصوص مشروع القانون
وتنص المادة الأولى من مشروع القانون بأنه مع عدم الإخلال بالضمانات الدستورية المقررة لبعض الفئات في مواجهة العزل من الوظيفة، تسري أحكام هذا القانون على العاملين بوحدات الجهاز الإداري بالدولة من وزارات ومصالح وأجهزة حكومية ووحدات الإدارة من غير المحلية والهيئات العامة، وغيرها من الأجهزة التي موازناتها خاصة، والعاملين الذين تنظم شئون توظفهم قوانين أو لوائح خاصة، والعاملين بشركات القطاع العام، وشركات قطاع الأعمال العام.
المادة الثانية بينت الحالات التي يجوز فيها فصل الموظف بغير الطريق التأديبي، ونصت على أنه لا يجوز فصل العاملين بالجهات المشار إليها بالمادة السابقة بغير الطريق التأديبي، إلا في الأحوال الآتية:
(أ) إذا أخل بواجباته الوظيفية بما من شأنه الإضرار الجسيم بمرفق عام بالدولة أو بمصالحها الاقتصادية.
(ب) إذا قامت بشأنه قرائن جدية على ما يمس الأمن القومي للبلاد وسلامتها، ويعد إدراج العامل على قائمة الإرهابيين وفقًا لأحكام القانون رقم 8 لسنة 2010 بشأن تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين قرينة جدية.
(ج) إذا فقد الثقة والاعتبار.
(د) إذا فقد سبب أو أكثر من أسباب صلاحية شغل الوظيفة التي يشغلها، عدا الأسباب الصحية.
ولا يجوز الالتجاء إلى الفصل بغير الطريق التأديبي إذا كانت الدعوى بطلب الفصل قد رفعت أمام المحكمة التأديبية، ومع عدم الإخلال بأحكام قانون تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين المشار إليه، في حال توافر سبب أو أكثر من أسباب الفصل المشار إليها سابقًا يتم إيقاف العامل بقوة القانون عن العمل لمدة لا تزيد على 6 أشهر أو لحين صدور قرار الفصل أيهما أقرب، مع وقف صرف نصف أجره طوال فترة الوقف عن العمل، ويبلغ العامل بقرار الوقف المبرر تحقيقًا لتكامل النص مع قانون الكيانات الإرهابية بشأن الإدراج، ولتفادي حذف النص الوارد بقانون الكيانات الإرهابية.[[1]]
والقانون رقم 8 لسنة 2015 بشأن تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، يعطي للحكومة أحقية فصل الموظف المنتمي لكيان إرهابي، لكن يبدو أن التشريع الجديد أكثر مباشرة وحسما في تلك المسألة، حيث تنص المادة السابعة من قانون الكيانات الإرهابية على أن “الشخص المدرج في قوائم الإرهاب يعد فاقدا لشرط حسن السمعة والسيرة اللازم لتولي الوظائف والمناصب العامة أو النيابية”.[[2]]
ويستثني مشروع القانون بعض الفئات المجتمعية المحصنة بضمانات دستورية، أو التي تنظم جهات عملها قوانين خاصة مثل العاملين في وزارات الدفاع والداخلية والعدل، وذلك حتى لا تثور مشكلة عند تنفيذ القانون في بعض الوظائف التي تنظمها تشريعاتها الخاصة.[[3]] وربما خوفا من انقلاب العاملين في هذه الجهات ضد النظام باعتبارها جهات سيادية وفق ما تردده منظومة النظام السياسية والأمنية والإعلامية.
فلسفة مشروع القانون
خلال الجلسة العامة للبرلمان، اعتبر رئيس مجلس النواب، حنفي جبالي، القانون الجديد أداة هدفها إبعاد من وصفه بـ”الموظف الخطر” أو الذي يمثل خطورة على بيئة العمل، مدعيا عدم المساس بحقوقه القانونية من اللجوء إلى القضاء وحصوله على مستحقاته المالية سواء في المعاش أو مكافأة نهاية الخدمة. وتنص المادة 14 من الدستور المصري على أن الوظائف العامة حق للمواطنين على أساس الكفاءة، ومن دون محاباة أو وساطة، وتكليف للقائمين بها لخدمة الشعب، وتكفل الدولة حقوقهم وحمايتهم، وقيامهم بأداء واجباتهم في رعاية مصالح الشعب، ولا يجوز فصلهم بغير الطريق التأديبي، إلا في الأحوال التي يحددها القانون.
وتزعم لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب، في تقريرها بشأن مشروع القانون، أن التشريع جاء باعتباره استحقاقا دستوريا للحفاظ على الأمن القومي المصري ولمكافحة الفساد، على حد وصف اللجنة، إضافة إلى تعزيز قيم النزاهة والشفافية ضمانا لحسن أداء الوظيفة العامة والحفاظ على المال العام، ومتسقا مع المادة 237 من الدستور التي تنص على أن “تلتزم الدولة بمواجهة الإرهاب، بكل صوره وأشكاله، وتعقب مصادر تمويله، وفق برنامج زمني محدد، باعتباره تهديدا للوطن وللمواطنين، مع ضمان الحقوق والحريات العامة.[[4]]
يُعتبر مشروع القانون بصياغته الجديدة التي أقرها البرلمان، مقدمة لتطبيق خطة الحكومة للتنكيل بجماعة “الإخوان المسلمين” وامتداداتها في المجتمع المصري، على قطاع السكك الحديدية، كما حدث في قطاعات عدة منها التعليم والبنوك وشركات البترول ودواوين الوزارات والهيئات العامة والجامعات منذ عام 2019، بإصدار قرارات بفصل أكثر من أربعة آلاف موظف (منهم 1500 من وزارة التربية والتعليم وحدها) من الوزارات الخدمية وكذا في الجهات الحساسة في الدولة، ونقل العشرات الآخرين إلى وزارات وهيئات خدمية، بحجة انتمائهم أو انتماء أقاربهم من الدرجتين الثالثة والرابعة إلى جماعة “الإخوان”.
وينص المشروع على تعديل القانون 10 لسنة 1972 بما يسمح بالفصل المباشر بقرار إداري، من دون العرض على جهات التحقيق المختصة بالتعامل مع موظفي الخدمة المدنية وغيرهم من العاملين، ومن دون أن يكون القرار صادراً من النيابة الإدارية، وحتى من دون عرض الأمر على المحاكم التأديبية، وسُوّق مشروع القانون في البرلمان ووسائل الإعلام على أنه تنظيم جديد يهدف في الأساس للتخلص من العاملين المنتمين لجماعات إرهابية، وعلى رأسها جماعة “الإخوان المسلمين”.
وفي المادة الأولى من المشروع يبرز توجّه النظام إلى التعميم وتبسيط الاتهام وتسهيل اعتبار الموظف مخالفاً للبطش به وفصله مباشرة، فاعتبر الإخلال بمصالح “أي من الجهات المنصوص عليها”، وهي الجهات السابق ذكرها لتطبيق القانون عليها، سبباً كافياً للفصل. وحافظ المشروع على الأسباب السابق وضعها في قانون السادات مثل الإخلال بواجبات الوظيفة بما من شأنه الإضرار الجسيم بالإنتاج أو بمصلحة اقتصادية للدولة، وإذا قامت بشأن العامل دلائل جدية على من يمس أمن الدولة وسلامتها، وإذا فقد أسباب الصلاحية للوظيفة التي يشغلها لغير الأسباب الصحية.
ووفقاً للمصادر، فإن هذه العبارات تصلح بسهولة لتشمل العناصر التي كان يقصدها وزير النقل، بالنظر لتحريك اتهامات من النيابة العامة بالمساس بأمن الدولة ضد أشخاص لم يفعلوا ما هو أكثر من التعليق على مواقع التواصل، أو انتقاد أداء النظام، وأحدثهم السفير السابق يحيى نجم الذي اعتُقل في 29 مايو/أيار الماضي بسبب هجومه على الموقف الرسمي في قضية سد النهضة وغزة.
ويتضمّن المشروع تعديلاً لتسهيل الفصل، إذ يسمح لرئيس الوزراء باتخاذ هذه القرارات بموجب تفويض يصدره رئيس الجمهورية، بعدما كانت تلك القرارات سلطة حصرية لرئيس الجمهورية. أما التعديل الأخير فهو يغيّر طريقة التقاضي في هذا النوع من المنازعات، ففي السابق كان القضاء الإداري ملزماً بالفصل في الطعون التي يقيمها الموظفون أو العاملون ضد قرارات فصلهم بغير الطريق التأديبي خلال سنة من رفع الدعاوى، لكن المشروع الجديد يفتح المدة من دون قيود ليسمح بتأخير الفصل في الطعون إلى أجل غير مسمى.
كما أن القانون القديم كان يسمح للقضاء الإداري استثنائياً بالاكتفاء بالتعويض المالي للموظف المفصول بدلاً من إعادته للعمل في أوضاع معينة، هي أن يكون القرار قد مسّ أحد شاغلي الوظائف العليا أو أن يكون قد صدر في ظل حالة الطوارئ. لكن المشروع الجديد يتوسع في هذا الاستثناء، لدفع المحكمة لعدم إعادة الموظفين المفصولين والاكتفاء بتعويضهم مالياً، إذ يزيل حالتي الاستثناء المذكورتين، ليصبح من الجائز الاكتفاء بالتعويض بصفة عامة “للأسباب التي ترى المحكمة أن المصلحة العامة تقتضيها”.[[5]]
سياق تمرير مشروع القانون
وجرى التعجيل بمشروع القانون في أعقاب الاتهامات الجزافية التي وجهها وزير النقل اللواء كامل الوزير في أبريل 2021م لجماعة الإخوان المسلمين بالتسبب في حوادث القطارات التي أسفرت عن مصرع عشرات المواطنين وإصابة مئات آخرين، في تهرب من المسئولية وإلقائها على الجماعة التي تحولت إلى شماعة يعلق عليها النظام العسكري فشله في كافة قطاعات الدولة.
حيث قال الوزير أمام البرلمان: «إن وجود عناصر متطرفة لا تريد لمصر الأمن والأمان والسلام في الوزارة هي من تقف وراء هذه الحوادث». دون أن يلقي بالمسئولية على شخص معين في هذه الحوادث، وذكر الوزير أن هناك نحو “268 عنصرا” ينتمون إلى جماعة الاخوان في هيئة السكك الحديد، وطالب بإصدار قانون يسمح بفصلهم من “الوظائف الحساسة”. بعد نحو شهر من هذه التصريحات، تقدم النائب علي بدر وعشرة نواب آخرون بمشروع القانون الذي يمنح الحكومة صلاحيات فصل الموظفين دون الطريق التأديبي المعمول به حاليا.
ويتسق مشروع القانون مع توجهات السيسي والنظام عموما؛ حيث يسعى إلى تقليص عدد الموظفين في الجهاز الإداري للدولة استجابة لإملاءات صندوق النقد الدولي الذي منح السيسي أكثر من 17 مليار دولار خلال السنوات الخمس الماضية.
وكان السيسي قد صرَّح في مايو/أيار 2018، أن الجهاز الإداري للدولة لا يعمل بالشكل الذي يتمناه، مؤكدا حاجة الحكومة إلى نحو مليون موظف فقط. وفي 20 يونيو/حزيران الماضي، أصدرالسيسي قانوناً برقم 73 لسنة 2021 في شأن بعض شروط شغل الوظائف أو الاستمرار فيها، والمعروف إعلامياً بـ”فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات”، متضمناً إجراءات تشريعية عقابية تدخل للمرة الأولى في تنظيم الوظيفة العامة في مصر، بهدف أساسي هو تخفيض عدد العاملين في الدولة، والذي يعد أحد أهداف الخطة التي وضعها النظام الحاكم منذ عامين لتقليل الإنفاق على الجهاز الإداري.
ووفقاً لاستراتيجية التنمية المستدامة (رؤية مصر 2030)، تعول الحكومة على اتباع آليات مستحدثة لفصل العاملين المدنيين في الدولة بغير الطريق التأديبي، لأسباب مسلكية أو سياسية، مع حظر التعيينات الجديدة نهائياً، إلا في صورة تعاقدات مؤقتة، كالتي ترغب وزارة التعليم في تطبيقها، أو عقود استشارية مؤقتة، أو مع الجهات ذات الطابع الاستثنائي التابعة لرئاسة الجمهورية.
وتستهدف الحكومة التخلص من 50% على الأقل من الرقم المراد تخفيضه، وهو مليونا موظف، حتى يصل الجهاز الحكومي إلى حوالي 3 ملايين و900 ألف موظف فقط بعد عامين. علماً أن العدد الحالي للموظفين هو 5 ملايين و800 ألف موظف تقريباً، منهم 5 ملايين في الجهاز الإداري الأساسي، و800 ألف يتبعون لقطاع الأعمال العام المكون من الشركات القابضة والتابعة التي تديرها الحكومة، وتساهم فيها مع مستثمرين آخرين. وتصل قيمة رواتبهم أكثر من 300 مليار جنيه سنويا وفق تصريحات حكومية، علما بأن وزارة التخطيط أعلنت في سبتمبر/أيلول الماضي”2020″، عن وقف التعيينات في الجهاز الإداري للدولة، إلا باستثناء من رئيس الجمهورية.[[6]] لكن النائب محمد أبو العينين، وكيل البرلمان، كان قد صرح في مارس 2021م خلال جلسة المجلس العامة أن مصر بها 2443 جهة حكومية، يحكمها 6.4 ملايين موظف.[[7]]
شبهة عدم الدستورية
يرى المستشار عادل فرغلى، الرئيس الأسبق لمحاكم القضاء الإدارى وقسم التشريع بمجلس الدولة، أن «هناك قاعدة دستورية بأن كل مواطن لا يرتكب عنفا تكون له حقوقه المتساوية مع الجميع، فلا يمكن عزل فئة معينة أو نطلق وصفا معينا عليها مثل «خلايا نائمة» لأن كل ذلك مخالف لنص دستورى صريح يضمن المساواة بين جميع المصريين فى الحقوق والواجبات ومنها مباشرة الحق السياسى، وحق الوظيفة وحرية العمل». ويضيف: «مافيش حاجة اسمها خلايا نائمة فى الدستور.. لكن إذا ثبت ارتكاب الموظف عنفا أو خطأ فليحاسب على هذا الخطأ وفقا للقواعد القانونية» ضاربا بذلك مثالا بالقانون 10 سنة 1972 بتنظيم الفصل بغير الطريق التأديبى، والذى ينص على أفعال مادية محددة عندما يرتكبها الموظف يعاقب بالعزل من وظيفته.
ويتساءل فرغلى مستنكرا عن كيفية التعرف على معتقدات العاملين الحكوميين أو أفكارهم بدون ارتكاب أفعال مادية أو جرائم واضحة، مستطردا «لا يمكننا ولا يجوز أن نفتش فى نوايا الناس، وإلا سنفتح الباب للأخذ بالتحريات الأمنية والوشايات والمعلومات المغلوطة أو الانتقامية، وهى جميعا لا ترقى لدرجة القرائن أو الأدلة ليحكم بها القاضى، أو لتدعم قرارا إداريا بفصل الموظف».[[8]]
وتلاحق مشروع القانون قبل تصديق السيسي عليه شبهة عدم الدستورية للاعتبارات الآتية:
أولا، مشروع القانون يهدف إلى فصل أي موظف في الجهاز الإداري للدولة يثبت انتماؤه إلى جماعة “الإخوان”، في مخالفة لأحكام الدستور الذي نص على “عدم التمييز بين المواطنين أمام القانون بسبب الانتماء السياسي أو لأي سبب آخر”. ورغم موافقة مجلس الدولة على مشروع القانون قبل تمريره في البرلمان إلا أن شبهة عدم الدستورية تلاحقه من كل جانب بل يمثل ذلك برهانا على أن السيسي قد أحكم قبضته على الهيئات القضائية حتى باتت أداة من أدوات النظام يوظفها في الانتقام والتنكيل بخصومه ومعارضيه.
واعتبرت وكالة “رويترز” للأنباء في تغطيتها للخبر أن هذا التطور لا يبتعد عن حملة أمنية موسعة استهدفت المعارضين السياسيين سواء من الإسلاميين أو الليبراليين، أشرف عليها السيسي منذ قاد عملية إطاحة الجيش في يوليو/تموز 2013 بالرئيس محمد مرسي الذي كان ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين. ومنذ أواخر عام 2013، تصنف السلطة في مصر الإخوان المسلمين جماعةً إرهابيةً محظورةً، ويقبع أغلب كوادرها وقياداتها، في السجن على ذمة أحكام مرتبطة بالإرهاب والتحريض، وهي تهم عادة ما نفت صحتها الجماعة.[[9]]
ثانيا، يرى المحامي الحقوقي، جمال عيد، أن هذا القانون غير دستوري إذا كانت السلطات في مصر تطبق الدستور والقانون. موضحا أن الأصل هو معاقبة المواطن على جريمة ارتكبها، وليس بسبب شكوك حول فكر أو رأي يعتنقه، سواء تم الاختلاف أو الاتفاق مع هذا الفكر، ووصف هذا القانون بـ”محاكم تفتيش”.[[10]] علاوة على ذلك فإن مشروع القانون “يفتقد إلى مبدأ التدرج في العقاب قبل الفصل، ويعتمد في العقاب على أسباب خارج مهام وشروط الوظيفة ذاتها، بالإضافة إلى أن بعض الموظفين قد يُحذفون من قوائم الإرهابيين في وقت لاحق، لكنهم لن يتمكنوا من العودة إلى وظائفهم، إلا بعد إجراءات تُقاضي الجهة الإدارية”.[[11]]
ثالثا، مشروع القانون يفتئت على السلطة القضائية ويمنح الحكومة صلاحيات هي جزء من صلاحيات السلطة القضائية ويخول للحكومة إصدار قرارات بمرتبة الحكم القضائي، لأن الجهة الوحيدة المخولة بفصل الموظف هي السلطة القضائية بناء على تحقيقات وأدلة جادة لحماية الموظفين من تعسف السلطة، لكن مشروع القانون يكرس فوقية السلطة التنفيذية على ما عداها من السلطات. ومن دواعي الأسف أن السلطة التنفيذية تمكنت من ترويض القضاء على النحو الذي عصف بأي معنى لاستقلاله ونزاههته وبات القضاء غير قادر على حماية المواطنين من تعسف السلطة وتغولها.
رابعا، منح الحكومة صلاحية فصل الموظفين فورا بغير الطريق التأديبي يمثل بحد ذاته عقوبة سالبة لحقوق الموظف لأن نص مشروع القانون يجيز الفصل الفوري لأي موظف يظهر اسمه على قائمة الإرهاب بما في ذلك المتهمين الذين لا يزالون رهن التحقيق أو المحاكمة وكذلك من أدينوا في قضايا الإرهاب. ووفقا للمادة الثانية من القانون، يكون فصل العامل بقرار مسبب يصدر من رئيس الجمهورية أو من يفوضه بناءً على عرض الوزير المختص بعد سماع أقوال العامل، ويخطر العامل بقرار الفصل. وبالتالي فإن الغرض من القانون هو “التنكيل بالمعارضين من مختلف التيارات، وتخفيف عدد الموظفين في القطاع الحكومي لتخفيض رواتبهم”.
خامسا، مشروع القانون يجيز فصل الموظف بناء على التحريات الآمنية دون الأحكام القضائية والتي استقرت أحكام محكمة النقض والإدارية العليا على عدم الاعتداد بها (التحريات الأمنية) كدليل إدانة وأنها لا تعدو أنها رأي لمن قام بها؛ كما أن مشروع القانون يكتفي بقرائن قد تثبت أنها غير صحيحة. كما أن مشروع القانون يتضمن عبارات عامة فضفاضة يمكن أن تتسع بحسب رغبة السلطة والقائمين على التحريات؛ وبالتالي فإن ذلك سوف يفضي إلى إفساد بيئة العمل وانتشار الشكاوى الكيدية وتعظيم دور الأجهزة الأمنية وتغول عناصرها وتوفير بيئة خصبة للفساد بينهم عبر ابتزاز الموظفين وتهديدهم بالفصل أو دفع إتاوات للقائمين على التحريات، إضافة إلى أن هذه البيئة الفاسدة سوف تسهم في ترقية أكثر الموظفين نفاقا وتزلفا للسلطة بعيدا عن الكفاءة والخبرة التي سيتم العصف بها بناء على تحريات الأمن؛ وبذلك تفقد مصر كوادر وخبرات عظيمة لأسباب سياسية بحتة تتعلق بتفشي أجواء الكراهية والعنصرية والتمييز بين المواطنين على أساس الانتماء الفكري والسياسي.
خلاصة الأمر
أن إقرار مشروع القانون الجديد يتيح للحكومة اصطياد عدة عصافير بحجر واحد:أولا، عبر هذا القانون سيتم تقليص عدد موظفي الجهاز الإداري للدولة، وهو أحد مطالب صندوق النقد الدولي. ثانيا، عبر القانون يتم تضييق الخناق أكثر على المنتمين لجماعة الإخوان، وتجفيف مصادرهم المالية وقطع أرزاقهم والتنكيل بأسرهم وحرمانهم من وظائفهم. ثالثا، من خلال القانون الجديد يتم تهديد أي موظف معارض لسياسات النظام الحاكم بالفصل من وظيفته.
لكن التصديق على هذا القانون سوف يسهم في إغواء الأجهزة الأمنية والقائمين على التحريات الأمنية، وسوف يهددون الموظفين ويبتزونهم للحصول على إتاوات باهظة لكي لا يتم فصلهم، بما يسهم في تعزيز الفساد والرشوة، كما يسهم في إغواء كثير من المدراء الفاسدين الذين سيستخدمون هذا القانون سيفا مسلطا على رقاب الموظفين لتحقيق أغراضهم الشخصية في الإطاحة بالموظفين الذين لا يروقون لهم”.
كما أن هذا القانون سوف يجعل من ملايين الموظفين عجينة لينة توظفها الحكومة سياسيا كما تشاء، الأمر الذي يمنح أجهزة السيسي الأمنية نفوذا واسعا على الموظفين واستخدامهم في حشود الانتخابات والاستفتاءات التي يجريها النظام للتغطية على العزوف الجماهيري وإسعاف النظام عبر نشر صور طوابير الموظفين وهم أمام اللجان مجبرين على انتخات السيسي أو حزب “مستقبل وطن” المدعوم من أجهزة السيسي الأمنية، خوفا من عزلهم بشكل فوري إذا رفضوا.
التصديق على مشروع القانون يتوافق مع توجهات النظام الأمنية في سياق الانتقام من الإخوان والمعارضة بشكل عام من جهة، كما يتوافق مع توجهات النظام بشأن تقليص عدد موظفي الدولة إذعانا لإملاءات صندوق النقد الدولي من جهة ثانية، لكن هذا القانون سوف يفضي إلى تكريس حالة الشك والتربص والمكايدة والفتن والهدف على الأرجح ليس الموظف الإخواني أو الإرهابي كما يزعمون لأن هؤلاء تتكفل بفصلهم قوانين الإرهاب، لكن هذا القانون سيوظفه النظام لفصل وتسريح ملايين الموظفين بدعوى الشك في انتمائهم للإخوان بناء على التحريات الأمنية.
وسوف يفضي ذلك إلى تضخيم دور الأجهزة الأمنية التي تقوم بهذه التحريات وتفشي ممارسات التهديد والابتزاز بقطع الأرزاق وصولا إلى فرض إتاوات باهظة على الموظفين لحساب هذه الأجهزة حتى يضمنوا البقاء في وظائفهم بناء على مدى الولاء للنظام وليس الولاء للوطن أو مدى الخبرة والكفاءة في أداء المهام الوظيفية. هو إذا يمهد الطريق حتى يتبوأ الأكثر نفاقا والأكثر وضاعة وانحطاطا مناصب الدولة الحساسة وهي السياسات القائمة بالفعل منذ عقود طويلة لكنها ستزداد بشدة خلال المرحلة المقبلة.
ستنمو سياسات الشك والإبلاغ والاتهامات المرسلة والكيدية والانتقامية والتفتيش فى النوايا، بغية تصفية الحسابات، سواء بين الإدارة والموظفين (وهذا هو الشق الأقل أهمية)، لكن الأهم هو ما بين الناس أنفسهم، ما سيثير الفتن والضغائن والأحقاد بين الناس.[[12]]
كما أن هذا القانون يطلق العنان لظاهرة “الوشاية” مرة أخرى بين الموظفين، باسم الوطن والاستقرار، سيفتح الباب لدوائر الانتقام والتشفي، ويعيد الأجواء إلى عصر الستينيات، حين كانت الدولة الناصرية وقتها تستخدم نصف الشعب في التجسس والإبلاغ عن النصف الآخر (كما تقول الأمثال الشعبية نقلًا عن تلك المرحلة) في مضمار التسابق لكسب رضا النظام حينها.
هذا القانون ـ إذا ــ على هذا النحو ما هو إلا وصفة لتمزيق ما تبقى من أواصر المجتمع الذي مزقه الانقلاب والسياسات الأمنية والاقتصادية والإعلامية لنظام 3 يوليو العسكري. وفصل الموظفين تعسفيا يعزز الشعور بعدم الانتماء للوطن، وهو مؤشر خطير؛ يغذي نوازع الإرهاب والتطرف والانتقام ويجعل المجتمع ساحة احتراب وليس وطنا يضم الجميع بالعدل والمساواة.
[1] صفاء عصام الدين وأحمد عويس/ مجلس النواب يبدأ مناقشة مشروع قانون الفصل بغير الطريق التأديبي/ بوابة الشروق ــ الإثنين 28 يونيو 2021
[2] دعاء عبد اللطيف/ البرلمان المصري يقرّ قانونا لفصل “الموظف الإرهابي”/ الجزيرة نت ــ 12 يوليو 2021م
[3] مجلس النواب المصري يستثني الدفاع والداخلية والعدل من قانون “فصل الإخوان”/ العربي الجديد ــ 28 يونيو 2021
[4] الإخوان: إقرار قانون يسمح للحكومة المصرية بفصل أعضاء الجماعة من العمل/ بي بي سي عربي ــ 12 يوليو/ تموز 2021
[5] عودة قانون فصل الموظفين في مصر: موجة وشيكة من التنكيل/ العربي الجديد ــ 08 يونيو 2021
[6] النواب المصري يصوت نهائياً على فصل الموظفين “الإخوان” من الوظائف الحكومية/ العربي الجديد ــ 10 يوليو 2021
[7] شبهة التمييز وعدم الدستورية تطال قانون فصل الإخوان بمصر/ “عربي 21” ــ الثلاثاء، 08 يونيو 2021
[8] حسام شورى/ خلاف بين فقهاء القانون حول مشروع قانون «عزل الإخوان»/ بوابة الشروق ــ السبت 5 أغسطس 2017
[9] دعاء عبد اللطيف/ البرلمان المصري يقرّ قانونا لفصل “الموظف الإرهابي”/ الجزيرة نت ــ 12 يوليو 2021م
[10] البرلمان المصري يحتفي بقانون” فصل الموظفين الإخوان”.. وحقوقيون: محاكم تفتيش/ الحرة ــ 13 يوليو 2021
[11] فصل الإخوان وظيفيًا.. شماعة السيسي المستساغة لتبرير الفشل/ نون بوست ــ 10 مايو 2021م
[12] عمرو هاشم ربيع/ التفتيش فى النوايا/ بوابة الشروق ــ الخميس 6 مايو 2021