بعد مرور 8 سنوات من انقلاب العسكر على الرئيس المنتخب محمد مرسي، في العام 2013، يذهب النظام الحاكم للترويج بقوة لبناء ما أسماه الجمهورية الجديدة، والذي بات شعارا ثابتا على نوافذ إعلام النظام.
المصطلح الذي يجري نحته، يعتمد فقط على مجموعة من الإجراءات الشكلية، كإقامة عدد من الطرق والكباري وإنشاء بعض التجمعات السكنية الجديدة في قلب الصحراء، وإنشاء ما يطلق عليها “العاصمة الإدارية الجديدة” لاكمال الصورة الروج لها.
متناسين أن الجمهورية الجديدة لابد لها من عقد اجتماعي جديد ونظام سياسي تشاركي، يوسع فيه حجم الحريات والحقوق، ويهتم فيها بجميع فئات المجتمع، وليس حصرها على فئة المالتي أثرياء، أي ما بعد الأغنياء!! وهو ما يكاد يجمع بشأنه المراقبون، أن الجمهورية الجديدة بلا شعب، أو بدون الجماهير المصرية الحقيقية.
والأغرب من ذلك، أن المشروعات والخطط التي تمثل أساس “الجمهورية الجديدة” يدفع المواطن البسيط ثمنها على شكل ضرائب تطال فقراء البلد قبل أغنيائه، والتي أضرّت الشريحة الأكبر من المصريين، بدءاً من تحرير سعر الصرف، إلى الرفع الكامل للدعم عن غالبية المحروقات، إلى التحريك المستمرّ لأسعار الكهرباء والمياه، وغيرها من الخدمات الأساسية، وفق ما تذهب إليه افتتاحية صحيفة “الأخبار” اللبنانية، في 30 يونيو الماضي.
ولعل التوقف عند مغزى مصطلح الجمهورية الجديدة والهدف من اطلاقه، وافتقاد البناء الجديد لقواعد البناء والتنظيم، يجلي الأهداف الحقيقية للجمهورية الجديدة وآليات السيسي لبنائها، ومخاطرها المستقبلية، وهو ما تتناوله الورقة التحليلية :
أولا: سمات الجمهورية الجديدة
جمهورية بلا عقد اجتماعي
من أبرز السمات الكاشفة للجمهورية الجديدة، والتي تقدح في الوقت نفسه في المصطلح والمعنى والمنطلق بالأساس، انعدام شروط بناء الجمهورية، والمتعارف عليها في التاريخ الحديث، سواء في الغرب أو الشرق، فالشروط المنطقية والسياسية لـ”الجمهورية الجديدة” تتضمّن وضع عقد اجتماعي جديد وعادل للعلاقة بين الدولة والمواطنين تكفل حقوقهم وحرياتهم وتقدّم مقاربة مختلفة عما اعتاد عليه المصريون من القمع، ووضع قواعد واضحة لإنشاء نظام سياسي قائم على توزيع السلطات والصلاحيات يستطيع العمل تلقائياً على أسس دستورية وتشريعية وعرفية من دون الارتباط بأشخاص بعينهم، بالإضافة إلى استحداث محددات واضحة للعلاقات الاستراتيجية لهذه الجمهورية خارجياً بما يكفل استقلالها وقدرتها على الاستمرار.
كما يُلاحَظ أن “الجمهورية الجديدة” تفتقر لأبسط هذه المقومات، فبعيداً عن الأوضاع الحقوقية المتراجعة والحريات المكبّلة، فشل السيسي في إنشاء ما يمكن وصفه بنظام سياسي، على عكس ما تحقق في عهود سابقة من الجمهورية الأولى بين خمسينيات القرن الماضي واندلاع الثورة ضد نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك. فعملية تخليق القرار الرسمي للدولة المصرية على جميع الأصعدة، داخلياً وخارجياً، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واستخباراتياً وحتى تعليمياً وثقافياً، يبدأ وينتهي عند السيسي نفسه، وبدرجة تبدو الأكثر تركيزاً للسلطة في يد رجل واحد في تاريخ مصر منذ عهد محمد علي باشا بداية القرن التاسع عشر.
الجيش والمؤسسات السيادية أساس الحكم
وتعمّد السيسي لتكريس هذا التحكّم الفردي الذي يتناقض مع فكرة خلق “النظام” تعظيم الاعتماد على الجيش والجهات السيادية الأخرى مثل الداخلية والرقابة الإدارية للعب أدوار غير تقليدية، في المجالات الاقتصادية والخدمية والمرفقية وحتى التنموية الأهلية، لتكون مشاركة هؤلاء بديلاً عن الاعتماد المفترض في أي “نظام حاكم” على امتدادات مدنية داخل المجتمع تتمثل في رجال السياسة الشعبية والأعمال والغرف التجارية والجمعيات الأهلية والنقابات والاتحادات.
وقد وسع السيسي الاعتماد على الجيش والجهات السيادية الأخرى للعب أدوار غير تقليدية، في المجالات الاقتصادية والخدمية وحتى التنموية، فبعدما تم الانقلاب على مرسي بواسطة مشهد دعائي يوحي بتلاحم سلطات الدولة ومؤسساتها الرئيسية المختلفة ضد جماعة “الإخوان المسلمين”، ثم استعانة السيسي بشخصيات وتيارات سياسية مختلفة في مواقع المسؤولية بالحكومة ولجنة إعداد الدستور، توجّه إلى التخفف تدريجياً من التزاماته واتفاقاته مع تلك الجهات والتيارات، ليتسنّى له التحكّم الكامل وحده بالمشهد السياسي والاقتصادي، فدخل مع جميع أركان مشهد الانقلاب في صدام لتقليم أظافرها والعبث بقواعدها، وإما حاول محاصرتها حتى لا تتمكن من القيام بدورها المرسوم لها دستورياً وقانونياً أو المتوارث تاريخياً، ليحتكر اللعبة مع دائرته الصغيرة.
جمهورية الخوف
منذ لحظات الجمهورية الجديدة في 30 يونيو 2013،أغلق نظام ما بعد الانقلاب وسائل الإعلام المعارضة على الفور، واعتقل القادة السياسيين، وحظر الأحزاب السياسية القيادية، ونفذ عدة مذابح ضد المتظاهرين، على رأسها مذبحتا رابعة والنهضة اللتان تعدان معا أكبر واقعة قتل جماعي لمتظاهرين في يوم واحد في التاريخ الحديث.
كما نجح نظام “السيسي” في تعزيز رواية إعلامية منفردة ومؤيدة للنظام، وقد تحقق ذلك من خلال عمليات إغلاق وسائل الإعلام، تزامنا مع حملة موسعة من الترهيب المسلح، وعلى مدار هذه السنوات، لم يجد المعارضون، سوى مكان واحد، هي الزنازين، التي جمعت الإسلاميين مع الليبراليين واليساريين، بل أيضا مؤيدي السلطات التي تنقلب عليهم، وهي الخطوة التي تبررها السلطات بأنها محاولة لتثبيت الاستقرار السياسي والأمني، وفي هذا الاطار شهدت مصر بناء 35 سجنا جديدا..
واعتقل السيسي عشرات الآلاف من المصريين، ووسع دائرة الاشتباه وأجرى محاكمات جماعية، لم تشهدها لبلاد من قبل، وأصدار أحكاما بالإعدام على المئات، ونفذ العشرات منها، فضلا عن الإخفاء القسري للآلاف وإعدام خارج إطار القانون للمئات، حسب ما وثقته منظمات حقوقية دولية عدة، وتتوالى يوميا اجراءات القمع العلمي وملاحقة الباحثين والنشطاء والصحفيين والعمال والسياسيين وصولا إلى خرس مجتمعي كامل، يسمح للجمهورية الجديدة بالاستمرار والتقدم على أشلاء الجميع.
جمهورية بلا سيادة كاملة على أراضيها
ومن معالم الجمهورية الجديدة، تقزيم مساحة مصر الجغرافية، حيث تنازل “السيسي” في خطوة أثارت غضبا وانتقادا كبيرا، عن جزيرتي “تيران وصنافير” للسعودية، مقابل 2 مليار دولار، وسط اتهامات ببيع أراضي مصر.
كما فشل “السيسي” ودولته الجديدة، في التوصل لأي اتفاق يحمي حقوق مصر المائية في نهر النيل، واستطاعت إثيوبيا في ملء أول للسد، وثان جاري حاليا، مستندة لاتفاق المبادئ الذي وقعه “السيسي” خلال زيارته السودان في مارس 2015، وهو ما يضع مصر أمام خيارات صعبة، منها شرب مياة الصرف ومياة البحر، والبحث عن المياة الجوفية للري والشرب..
كما تنازل السيسي، نكاية في تركيا، عن حقلي غاز لاسرائيل بالبحر المتوسط، وتنازل عن42 ألف كلم من مياة مصر الاقتصادية لصالح قبرص، وه ما تككر بتنازله عن نحو 11 ألف كلم لليونان، في ترسيم للحدود البحرية المشتركة، على الرغم من تقديم تركيا لمصر وثائق تثبت ملكيتها تلك المساحات، كانت الادارات القانونية والهندسية والمساحية بالجيش تتمسك بها، ورغم ذلك تنازل عنها السيسي.
ثانيا: آليات عمل الجمهورية الجديدة
تحكم غير مسبوق بالجيش
ومن أجل الوصول إلى الجمهورية الجديدة، خرج السيسي بتشريعاته عن الصورة التي كانت متوقعة لحكم مصر بعد 2013 بأنها ستكون دولة محكومة من قبل الجيش، إلى خلق أسلوب جديد للحكم يجعل السيسي متحكماً وحيداً بالجيش وقيادته من ناحية، وممسكاً بتلابيب السلطة بواسطة الجيش نفسه من ناحية أخرى، وهو ما لم يحدث حتى في عهد جمال عبد الناصر الذي كان حريصاً طوال فترة حكمه على إبعاد الجيش عن السلطة السياسية في إطار علاقته الملتبسة بصديقه المشير عبد الحكيم عامر. وحتى بعد نكسة 5 يونيو 1967 وتصفيته لأتباع عامر، ظل عبد الناصر متمسكاً بالاعتماد على رجاله الذين انتقلوا من المؤسسة العسكرية إلى قصر الرئاسة والمخابرات والاتحاد الاشتراكي وغيرها من المؤسسات.
وفي المرحلة الثانية من الجمهورية الأولى، زاد حرص الرئيس الراحل أنور السادات على إبعاد الجيش عن السلطة السياسية، وإن استمر في استجلاب شخصيات منه للاعتماد عليها في شؤون الحكم، مثل خليفته حسني مبارك، جامعاً بينهم وبين شخصيات أخرى في هيئة سياسية جديدة هي الحزب الوطني الذي حكم لأكثر من 33 عاماً.
وفي عهد مبارك، زادت المسافة اتساعاً بين الجيش والحكم، خصوصاً في العقد الأخير قبل الثورة، إذ زاد اعتماد مبارك على نجله جمال ورجال الأعمال المقربين منه، وهو ما أقلق قيادة الجيش برئاسة وزير الدفاع الأسبق المشير حسين طنطاوي، وأدى دوراً رئيسياً في تحديد موقفها من مبارك خلال أحداث الثورة، فتم خلعه استجابة لمطالبات الشعب، وفي الوقت نفسه قفز المجلس العسكري على السلطة باذلاً جهده على مدار عام ونصف العام للالتفاف على باقي أهداف الثورة والتحكّم في السلطات والتدخّل في وضع الدستور.
ويمكن القول إن كلاً من المراحل الثلاث السابقة صنعت “نظاماً حاكماً” تتوزع فيه السلطات والصلاحيات، ويمكن تسييره لأجل غير مسمى من دون الحاكم الأعلى، الأمر الذي يختلف كثيراً عن الوضع الحالي.
فبعد عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي، وفي مرحلة تهيئة الأوضاع التشريعية والسياسية لترشح السيسي للرئاسة، تقدّم الأخير بنفسه إبان كونه وزيراً للدفاع بعدد من القوانين التي أصدرها مباشرة الرئيس المؤقت عدلي منصور لضمان انتقال السلطة بصورة سلسة للسيسي بعد خلعه الرداء العسكري، وطمأنة قيادات الجيش في آن، فأصدر قانوناً بتنظيم تشكيل واختصاصات المجلس الأعلى للقوات المسلحة وفقاً لدستور 2014 وكذلك قانوناً آخر بإنشاء مجلس الأمن القومي، ورسخ القانونان وضعية استثنائية للمجلس العسكري برئاسة وزير الدفاع.
في المقابل، جعل موافقة المجلس العسكري شرطاً لتعيين وزير الدفاع الذي يختاره رئيس الجمهورية، وعلى الفور، وبمساعدة صهره مدير المخابرات الحربية آنذاك محمود حجازي، استطاع السيسي الإطاحة بعدد كبير من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة وعيّن مجموعة جديدة من الشخصيات مأمونة الجانب. ثم كان من الطبيعي استصدار موافقة المجلس بسهولة على استقالة السيسي وفقاً للقواعد العسكرية المعمول بها في قانون شروط الخدمة والترقية، والتي لم يتبعها فيما بعد منافسه الفريق سامي عنان رئيس الأركان الأسبق، عندما أراد منافسة السيسي عام 2018 ليعاجله الأخير بصفعة من خلال “سلاح” المجلس العسكري، باعتبار أن عنان ما زال “ضابطاً تحت الاستدعاء” شأنه شأن باقي أعضاء المجلس العسكري الحاكم بعد الثورة، وبالتالي لم يكن يجوز له الترشح من دون أن يستقيل أولاً.
ولتأمين حكمه ضد ظهور أخطار أخرى شبيهة بما فعله عنان، ولهدف ثانٍ أهم هو ترسيخ مكانة المجلس العسكري في ميدان السياسة المصرية كقائم على حماية النظام عند اللزوم، ودافع لمرشح رئاسي إذا اقتضت الحاجة، أصدر السيسي عدداً من التشريعات خلال العامين الماضيين، تحظر الترشح للضباط سواء من الموجودين في الخدمة أو من انتهت خدمتهم بالقوات المسلحة لانتخابات رئاسة الجمهورية أو المجالس النيابية أو المحلية، إلا بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وبالتالي أصبح هذا المجلس قيماً على الإرادة السياسية للضباط الحاليين والسابقين، يسهّل لمن شاء ويمنع من يخرجون عن المطلوب.
اضعاف مؤسسة القضاء
تُعتبر مؤسسة القضاء على رأس الكيانات التي شاركت السيسي انقلابه ثم عمل على إضعافها، إذ بارك رئيس مجلس القضاء الأعلى آنذاك، المستشار حامد عبدالله، بيان السيسي وألقى كلمة مؤيدة، كما قبل رئيس المحكمة الدستورية العليا آنذاك، المستشار عدلي منصور، مهمة الرئيس المؤقت للبلاد، وأضفى قضاة مجلس الدولة بأحكامهم المتعاقبة خلال النصف الثاني من 2013 شرعية على تلك الأحداث بوصفها بـ”الثورة الشعبية” وأيّدوا فرض حالة الطوارئ بعد فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.
وكان القضاة يتصورون أنهم سيحصلون على ما يفوق وضعهم المميز مالياً وسياسياً واجتماعياً في عهد حسني مبارك، خصوصاً بعدما شاركوا بنصيب الأسد في إعداد دستور 2014 وسيطروا على بعض الوزارات وانتدبوا بكثافة للعمل بمجلس الوزراء ومجلس النواب، إلا أن السيسي كانت له مخططات أخرى للسيطرة على القضاء وتحويله إلى مرفق تابع للسلطة التنفيذية عملياً. فبدأ بتحجيم القضاة مالياً بضمّهم إلى الفئات الخاضعة لقانون الحد الأقصى للأجور، ثم اعتمد سياسة المكافأة والتقريب لمجموعة محدودة من القضاة بتوليهم مناصب تنفيذية في وزارة العدل أو جهات حكومية أخرى، في الوقت الذي أغلق فيه باب زيادة الاعتمادات المالية للهيئات القضائية، ثم بسط عليهم سيطرته لاختيار رؤساء جميع الجهات القضائية ابتداء من منتصف عام 2017، ثم كرس ذلك بالتعديل الدستوري الأخير ليكون رئيساً لما يسمى بالمجلس الأعلى للهيئات القضائية، ويضع بنفسه قواعد التعيينات والأجور.
تحجيم الأزهر
كما دخل السيسي في معركة طويلة لتحجيم الأزهر الذي كان شيخه أحمد الطيب حاضراً بقوة في مشهد عزل مرسي بكلمة مؤيدة للسيسي، وذلك منذ رفض الطيب تأييد فض اعتصامي رابعة والنهضة علناً وخرج بدلاً من ذلك ببيان “يأسف ويبرأ من إزهاق الأرواح”، ثم بدأ الصدام بعدما رفض الطيب تكفير تنظيم “داعش” وأتباعه في مصر، مروراً باعتراضه على مشروع السيسي لاشتراط توثيق الطلاق لإيقاعه، انتهاءً بمحاولات تعديل قانون الأزهر لتحويله من مؤسسة إسلامية إلى هيئة اجتماعية تعليمية يشارك فيها ممثلون لمجالس قومية وسلطات مختلفة، وهو ما دفع دوائر مختلفة إلى الدفاع عن الأزهر ودرجة استقلاله التي تحققت بعد ثورة 2011.
وعلى الرغم من تعطل مشروع السيطرة على الأزهر الذي أشرفت جهات سيادية وأمنية قريبة من السيسي على وضعه عام 2017 وعبّر عنها نواب مقربون منها، إلا أن المقربين من الطيب يؤكدون أن هذا المخطط تم إرجاؤه فقط ولم يلغ نهائياً، لكن بالتوازي مع ذلك تحاول دائرة السيسي سحب البساط من تحت أقدام الأزهر بتعظيم دعمها لوزارة الأوقاف وتكريس تحكّمها بالمساجد والخطاب الديني المساند للسلطة.
قتل السياسة
على الصعيد السياسي، استعان السيسي في أول أشهر حكمه بعدد من الشخصيات المعروفة بمعارضتها لكل من مبارك و”الإخوان”، وأسند لها مواقع قيادية كرئيس الوزراء الأسبق حازم الببلاوي، ونائبيه حسام عيسى وزياد بهاء الدين، ووزير الخارجية نبيل فهمي، ووزير العمل أحمد البرعي، وهم من شكّلوا ما عُرف بـ”الجناح الديمقراطي في الحكومة”. بعد ذلك تخلص منهم السيسي واحداً بعد الآخر، بعدما شهدت فترة مشاركتهم في الحكم أحداثاً دامية صعّبت عودتهم في ما بعد للمشهد السياسي، كفض اعتصامي رابعة والنهضة وأحداث الحرس الجمهوري واتخاذ قرار اعتبار “الإخوان” جماعة إرهابية، انتهاءً بإصدار قانون التظاهر المكبّل للحريات العامة، وحالياً لم يعد لأي منهم دور واضح في معسكر المعارضة بعدما تم “حرقهم” بلغة السياسة.
وفي مرحلة إعداد الدستور، أعطى السيسي الضوء الأخضر للاستعانة بشخصيات عرفت بمعارضتها لمبارك و”الإخوان” وكذلك المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أبرزهم عبد الجليل مصطفى وعمرو الشوبكي ومحمد أبوالغار وهدى الصدة. لكن السيسي اصطدم بهم بشكل مباشر عندما شعر برغبتهم في إعاقة بعض أفكاره في الدستور، خصوصاً المتعلقة بسلطات القضاء العسكري وإمكانية محاكمة المدنيين أمامه. وبعد وضع الدستور، الذي وصفه السيسي في ما بعد بدستور النوايا الحسنة، تم التضييق على جميع الأحزاب والمجموعات السياسية بما في ذلك التي شارك ممثلوها في لجنة الخمسين، إلى حد الإصرار على عدم تنفيذ الحكم النهائي بإلحاق الشوبكي بمجلس النواب في فصله التشريعي السابق.
وحتى رئيس اللجنة، عمرو موسى، الذي كان يظهر كمستشار غير معلن للسيسي للشؤون الخارجية، زادت الفجوة بينهما، واكتفى موسى لفترات بأداء دور المعارض المتحفظ بتشكيله مجموعة للدفاع عن الدستور، لكنها لا تملك إلا إصدار البيانات الإعلامية، وظل بلا أي تواجد خارج النخبة.
وطاول المصير نفسه شخصيات مستقلة استعان بها السيسي لفترات محدودة لتجميل النظام بين عامي 2013 و2014 على غرار عصام حجي، الذي تولى منصب المستشار العلمي لرئيس الجمهورية المؤقت، ثم أُبعد تماماً عن الصورة لإصراره على وضع خطة جديدة للتعليم والبحث العلمي. ومصطفى حجازي، الذي كان مقرباً من السيسي شخصياً وقيادات الجيش، وتولى منصب المستشار الاستراتيجي للرئاسة، واستعان به السيسي لتبرير فض اعتصام رابعة أمام وسائل الإعلام العالمية، وبعدما حظي بإعجاب في أوساط الموالين للنظام تم تهميشه لمنعه من أداء أي دور سياسي مستقبلاً.
أما حمدين صباحي الذي كان خوضه انتخابات 2014 من عناصر شرعنة سلطة الحكم، فقد عانى تياره الناصري لاحقاً من حملات الاعتقالات والتضييق والتزوير الممنهج في الانتخابات التشريعية الأخيرة، والأمر ذاته ينطبق على باقي الأحزاب التي قبلت المشاركة في مجلسي النواب والشيوخ تعييناً أو انتخاباً، فهي جميعاً لا تشكّل معارضة فعلية ومحرومة من ممارسة السياسة في الشارع، فضلاً عن معاناتها من التعسف الأمني.
ويعكس إصرار السيسي على تركيز السلطات في يده أزمة مزمنة تتمثل في عدم تمكّنه من امتلاك ظهير سياسي قوي يلبي طموحاته في التحكّم الكامل بالشارع والسلطة التشريعية من جانب ولا يخرج عن الخط المرسوم له من جانب آخر، فهو الذي قال من قبل إنه “ليس سياسياً” ويمكن ترجمة كل توجهاته بأنها “قتل لما تبقى من سياسة في مصر”، لا يجد أمامه سبيلاً إلا الاعتماد على مجموعة صغيرة للغاية من العسكريين والحكوميين لاتخاذ مختلف القرارات.
لكن حتى هذه المجموعة الصغيرة من “أهل الثقة” لا تستطيع التحرك بصورة حرة من دون قرارات السيسي وتوجيهاته، بما في ذلك ما يخص أبسط الأمور وأكثرها فنية، مما تسبّب في تراجع أهمية ما يوصف بالتوصيات الفنية أو تقارير تقدير الموقف من الأجهزة المختلفة، كما تسبب في اقتران أي إجراء بصدور تعليمات السيسي المباشرة والمعلنة غالباً في بيانات رسمية، للتأكيد أنه المحور والعقل المدبر الوحيد للسلطة الحاكمة، بما في ذلك الذراع التشريعية والذراع القضائية.
تعظيم دور هيئة الرقابة الإدارية
وثمة أداة أخرى يستخدمها السيسي للتحكّم الكامل، بتسليط سيف الرقابة والمحاسبة على جميع المسؤولين باستخدام جهاز الرقابة الإدارية الذي حوّله إلى حكومة ظل لها أذرع في جميع السلطات وصلاحيات لمراقبتها وتوجيهها، بالإضافة إلى استحداث مجموعة من المحاذير التشريعية على المجلس العسكري ومجلس الأمن القومي، على مجموعة من الجرائم المطاطة التي قد تشمل أي أفعال غير مرغوبة.
وهي: ارتكاب أعمال من شأنها إفساد الحكم أو الحياة السياسية أو النظام الجمهوري أو الإخلال بالديمقراطية أو الإضرار بمصلحة البلاد أو التهاون فيها، وإفشاء أسرار اجتماعات المجلس أو أي أسرار تتعلق بسلطات الدولة وأمنها القومي، والتدخل الضار بالمصلحة العامة في أعمال سلطة من سلطات الدولة. وإذا تم توجيه اتهام إلى أحد الأعضاء بذلك، يشكّل رئيس الجمهورية لجنة للمحاسبة والتحقيق، تفرض عقوبة أو أكثر تتدرج من الحرمان من حضور عدد معين من الجلسات، وحتى الحرمان من تولي الوظائف أو المناصب العامة القيادية لمدة 5 سنوات.
ثالثا: هدف الجمهورية الجديدة
ضمان استمرارالسيسي بالحكم وتوريثه لمن يريد من العسكر
ويستهدف مصطلح “الجمهورية الجديدة”، الاستمرار لأطول فترة في الحكم، بل وتوريثه لمن يرتضيه السيسي ونظامه من العسكريين، اذ يؤمن السيسي بضرورة هذا النموذج للحفاظ على الدولة المصرية من وجهة نظره، فبعدما كان يقول رداً على الاتهامات الدولية والمعارضة المحلية “لا والله ما حكم عسكر” محاولاً دفع الاتهامات الموجهة له بتهيئة المشهد السياسي والمجتمع المصري لحكم عسكري طويل الأمد، لم يجد غضاضة في تعديل الدستور عام 2019 ليضمن بقاءه في الحكم على الأقل حتى عام 2030، ثم مضى قدماً في تنفيذ خطته لحكم البلاد لأجل غير مسمى بل وتوريثها لمن يختاره، ممن ينتمون للجيش وحده، أو من ترضى عنه قياداته.
رابعا:مخاطر الجمهورية الجديدة
أزمات اقتصادية تضع المصريين خارج الجمهورية الجديدة
وأمام المشهد الحالي الأوضاع الاقتصادية التي تعانيها مصر، من أزمة ديون طاحنة وفوائد دين تبتلع نحو 87% من ايرادات الموازنة العامة، يقف غالبية المصريين الذي بات أكثر من 60% منهم في دائرة الفقر، وفق احصاءات البنك الدولي في 2020، وبات المصريون يواجهون سياسات اقتصادية متوحشة، من ضرائب غير مسبوقة ورسوم ورفع لأسعار كل شيء في مصر.
والأدهى أن من المصريين الذي خرجوا احتجاجا على بعض قرارات الرئيس محمد مرسي، فيما يتعلق برفع بسيط لبعض أسعار السلع أو التوجه نحو قتراض 6 مليارات دولار من صندوق النقد، هم أنفسهم مَن وافقوا وهلّلوا لإجراءات تفوق تلك الإجراءات بعشرات المرّات، بما فيها قروض بالمليارات ستُسدَّد على مدى عقود.
وفي «الجمهورية الجديدة» التي بناها السيسي بعد «30 يونيو»، لا وجود لشرائح متعدّدة من المصريين، أي شرائح ينظر إليها النظام على اعتبارها تستحقّ العطف، وليس لكونها تستحقّ حياة أفضل. وما ترغب فيه «الجمهورية الجديدة» هو القضاء على أيٍّ من وسائل الرفاهية وتحصيل رسوم على كل شيء بالمعني الحرفي للكلمة، أو حتى إزالة منازل ومصادرة أراضٍ تحت دعوى المنفعة العامة التي أضرّت الفقراء.
فالعدالة الاجتماعية التي يحاول النظام تطبيقها، ترتبط بالرغبة في إيجاد فرص عمل برواتب متدنيّة تمنح أصحابها القدرة على الاكتفاء بقوت يومهم فقط، من دون النظر إلى أيّ اعتبارات أخرى، مع وعود بعلاج مجّاني لا تتحقّق حتى في المنظومة الجديدة للتأمين الصحي، والتي لم تستطع الدولة تطبيقها لتوحيد أسعار الخدمات الطبية وإتاحة فرص العلاج بشكل متساوٍ للجميع، في وقت فُرضت فيه زيادات الأسعار على الجميع من دون استثناءات، وفق افتتاحية جريدة الأخبار اللبنانية ، 30 يونيو.
فبعد سنوات تباهت فيها الحكومة برفع أسعار الكهرباء بصورة أكبر على الشرائح الأكثر استخداماً لها، تُطبّق، مع بداية السنة المالية الجديدة، زيادات تصل إلى أكثر من 50% على الشرائح الاكثر فقراً، في حين لم توفّر الدولة مزيداً من المساعدات لهؤلاء.
جمهورية «30 يونيو» الجديدة التي تصدّت للعشوائيات وحوّلت عشرات المناطق الخطيرة إلى مناطق استثمارية ومأهولة بالسكّان، وفق آلية ضَمِنت للدولة تحقيق عوائد مالية طويلة الأجل، سواء عبر بيع جزء من الأراضي أو تنفيذ استثمارات عليها وعدم تمليك الشقق للمواطنين، هي نفسها التي قفزت بأسعار العقارات بصورة غير مسبوقة، إلى درجة جعلت تملُّك وحدة سكنية لمحدودي الدخل في مناطق متطرّفة في العاصمة، تصل إلى نحو 600 ألف جنية.
ولعل أخطر ما قام به “السيسي”، علي المستوى الاقتصادي، قراره بتعويم الجنية المصري في نوفمبر 2016، ليصعد الدولار من 6.75 جنيهات إلى 16 جنيها، ويفقد الجنيه أكثر من 60% من قيمته، ويفقد المصريون نفس النسبة في مدخراتهم.
كما قفزت الديون الخارجية، منذ وصول “السيسي” إلى الحكم منتصف عام 2014، حيث لم تكن آنذاك تتجاوز 46 مليار دولار، وذلك نتيجة توسعه في الاقتراض من الخارج لتمويل مشروعات غير ذات جدوى اقتصادية، لتصل حتى مارس 2021، أكثر من 134.8 مليار دولار.
ومن ضمن الازمات الاستراتيجية التي تطيح بغالبية المصريين من الجمهورية الجديدة، أن مصر لم تشهد خلال سنوات حكم “السيسي”، بناء مستشفيات أو مدارس، وإنما شبكة طرق وكباري، حتى أصبح المصريون يتندرون عليه في جلستهم الخاصة بأنه “مقاول وليس رئيسا لدولة”.
هذا الفشل الاقتصادي، تزامن مع تغول الجيش المصري في كل الأنشطة تقريبا، من مزارع تربية الأسماك، وزراعة الفواكه والخضراوات، والإنتاج الغذائي، وإنتاج اللحوم، وحتى الطباعة.
وتشير تقارير غربية إلى أن الجيش المصري يسيطر على قرابة 60% من حجم الاقتصاد المصري، خاصة مع إسناد مشروعات وصفقات حكومية إليه بالأمر المباشر، وتنفيذ مشروعات صناعية وسياحية من اختصاص وزارات أخرى.
خامسا: مآلات مستقبلية
وأمام الواقع المزري للجمهورية الجديدة، التي تقوم على القمع الأمني والسياسي والافقار لملايين المصريين، مقابل اثراء للعسكر، فإن الأوضاع لا محالة تسير نحو انفجار مجتمعي كبير.
وتبقى فرصة مصر الوحيدة للنجاة قد تكون في انتفاضة شعبية أخرى، على أمل أن أي تحرك شعبي مقبل يمكن أن يؤدي إلى المزيد من الديمقراطية، وليس إلى تكريس القمع والديكتاتورية.
ولعل ما يدفع نحو احتمالية الثورة، هو تفاقم أزمات الاقتصاد المصري، وفقدان مصر حصة كبيرة من مياة النيل، اثر الفشل في ملف سد النهضة، ستؤثر سلبا على ملايين المهمشين والفقراء الذين قد لا يطيقون الصمت المفروض على الجميع في جمهورية الخوف.