اختتمت في العاصمة العراقية “بغداد”، في 28 أغسطس 2021، فعاليات قمة بغداد للشراكة والتعاون – والتي تسمى إعلاميًا “قمة دول جوار العراق” – التي شارك فيها كل من أمير قطر وملك الأردن ورئيس مصر والرئيس الفرنسي، ورئيس وزراء كل من الكويت والإمارات، ووزير خارجية كل من تركيا والسعودية وإيران بالإضافة إلى الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامي[1].
وجاءت فكرة عقد المؤتمر التي كانت مقتصرة في بدايتها على دعوة دول جوار العراق فقط لمناقشة قضايا تتعلق بالتدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية العراقية، وقضايا الأمن والاستقرار والاستثمار والتحديات الإقليمية المشتركة والعلاقات بين دول الجوار.
لكنها تحولت إلى مؤتمر دولي، بعد دعوة دول عربية وأجنبية من غير دول جوار العراق، بالإضافة إلى مؤسسات دولية، مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وقد وجهت الحكومة العراقية دعوات لدول جوار العراق، إيران والسعودية والأردن والكويت وتركيا، ودول أخرى، مثل مصر وقطر والإمارات، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا[2].
وقد أثارت هذه القمة العديد من التساؤلات حول توقيتها، وأهدافها، وتداعياتها، وهي التساؤلات التي سيتم الإجابة عليها خلال السطور القادمة..
أولًا: السياقات العامة لانعقاد القمة:
تنعقد قمة دول جوار العراق في ظل تطورين هامين على المستوى الإقليمي والدولي يتمثلان في:
– التحسن في العلاقات الدبلوماسية بين مختلف الدول المتصارعة في منطقة الشرق الأوسط
فبعد انتهاء الأزمة الخليجية، وإتمام المصالحة بين دول المقاطعة (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) وقطر. تشهد المنطقة والإقليم تحولات جديدة، بعضها مستمرة، كان آخرها إعلان وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، أن السعودية وإيران لديهما رغبة في التوصل إلى نتائج إيجابية، لإنهاء الخلافات بينهما. ونهاية أغسطس 2021، قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة، إن طهران عقدت 3 جولات حوار مع الرياض حتى الآن، وإن بلاده مستعدة- إذا لزم الأمر- لاستئناف تلك اللقاءات. وخلال الأسابيع الماضية، قالت طهران أكثر من مرة، إن المباحثات بين إيران والسعودية تجري في إطار وُدي وبحُسن نية، مشيرة إلى أنه تم إحراز بعض التقدم في هذه المفاوضات.
أما الخلافات بين تركيا والإمارات، فقد شهدت تطوراً جديداً بزيارة لتركيا أجراها مستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، التقى خلالها الرئيسَ رجب طيب أردوغان، وصولاً إلى اتصال هاتفي نادر بين الأخير وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد[3].
– الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط
والذي تحقق فعليًا وبصورة كبيرة مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أغسطس 2021، ومن المنتظر أن تنسحب واشنطن أيضًا من العراق خاصةً أن هناك قرار بإنهاء الدور القتالي للقوات الأمريكية في العراق في 31 ديسمبر 2021. وعليه، تأتي القمة في سياق رغبةٍ أمريكية في إعادة اندماج العراق مع محيطه العربي، مع اقتراب موعد الانسحاب الأمريكي. وهي محاولة لإيجاد نوعٍ من التوازن في نفوذ الأطراف المؤثرة فيه، وخصوصاً في ما يتعلق بنفوذ الجانب الإيراني، ومن المرجح أن تكون الرغبة الأمريكية منطلقةً في ذلك من تقديرها لوجود فرصةٍ سانحة في الوقت الحالي لإعادة رسم خريطة علاقات عراقيةٍ وإقليميةٍ جديدة، بالتزامن مع المتغيرات الجارية في المنطقة، وإمكانية لعبِ دورٍ ضاغطٍ على صانع القرار الإيراني من خلال المفاوضات الجارية بين الجانبين والمتعلقة بالملف النووي الإيراني.
بالإضافةِ إلى ذلك، فإن تراجع الوجود العسكري للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة قد ساهم في تنامي الرغبة لدى دول المنطقة في إيجاد نوع من الهدنة بينهم، وقد يكون العراق الطرف الأنسب في هذه المرحلة من أجل لعب هذا الدور، في محاولة لإيجاد مقاربةٍ جديدةٍ لعلاقاتٍ تنظم الخلافات وتبتعد بها عن مرحلة الصراع[4].ي
ثانيًا: أهداف ودوافع القمة:
تتعدد الأهداف وتختلف الدوافع التي تقف خلف مشاركة تلك الدول في قمة بغداد:
فبالنسبة للعراق؛ هناك من يربط انعقاد القمة بمستقبل رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي والحلم بالعودة إلى الحكم مرة أخرى عبر الفوز بالانتخابات المقررة في أكتوبر المقبل (2021). ومن ناحية أخرى، هناك من يرى أن بغداد تسعى من خلال هذا المؤتمر إلى تجسيد رؤيتها الاستراتيجية وحضورها الإقليمي كعامل تهدئة واستقرار ونقطة وصل بين المتصارعين في المنطقة (بين تركيا ومصر، وإيران والسعودية)، ويرتبط الموضوع أيضًا بموضوع سعي العراق إلى الانفتاح وتعميق الصلات مع الدول العربية وبشكل قريب مع المملكة السعودية ودول مجلس التعاون بعد قطيعة طويلة، ويأتي المؤتمر كمتمم طبيعي للقمة الثلاثية بين العراق ومصر والأردن التي عقدت ببغداد، في 27 يونيو 2021؛ وذلك لموازنة النفوذ الإيراني، عبر إقامة علاقات مع قوى إقليمية مهمة كمصر وتركيا والسعودية والإمارات[5].
وبالنسبة لإيران، فإنها تحرص على الحضور في أي ترتيبات متعلقة بمستقبل العراق، وتركز على وجود حكومة عراقية تتماشى سياسياً مع ما يُعرف باسم “محور المقاومة”، وتكون شريكاً تجارياً مرحَّباً به ومستعداً لقبول مزيد من الواردات الإيرانية الرخيصة.
وبالنسبة للمملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى، فإن استقرار العراق يعني بالأساس دولة مستقلة عن نفوذ طهران. وترى تركيا أن منح الثقة للعراق يعني أن يكون قادراً على مواجهة العدو الرئيسي لأنقرة، وهو حزب العمال الكردستاني وفروعه العراقية، التي يتحالف بعضها مع الجماعات المسلحة الموالية لإيران في العراق. ويعتبر كل من العراق وتركيا حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية، على الرغم من تمثيل المنظمات التابعة لحزب العمال الكردستاني في وحدات الحشد الشعبي العراقية.
في حين يتمثل الدافع الأساسي للمشاركين الآخرين، مثل فرنسا والأردن ومصر، في الاعتبارات الاقتصادية، وليس السياسية. وبتشجيع من صفقة الطاقة التي حصلت عليها شركة النفط العملاقة الفرنسية Total، واتفاقية تجديد مطار الموصل الدولي التي حصلت عليها شركة Aero ports de Paris Ingenierie (مما أثار انزعاج تركيا التي تنافست على العقد)، تتطلع فرنسا إلى مزيد من المشروعات المربحة بالعراق، خاصة في مجال الطاقة؛ أملاً في ملء الفراغ الذي خلّفه رحيل الشركات الأمريكية والبريطانية.
وتتطلع مصر والأردن إلى اتفاقيات التجارة والبنية التحتية. إذ سيدرُّ شراء العراق الكهرباء من الأردن إيرادات للمملكة الهاشمية التي تعاني من ضائقة مالية، ويقلل من اعتماد العراق على مشتريات الطاقة الإيرانية، ويخفف الضغط الأمريكي على بغداد.
إضافة إلى ذلك، ستعمل خطة العراق لتصدير النفط عبر ميناء العقبة الأردني، وربما عبر الموانئ المصرية المجاورة، على تنويع منافذ التصدير في البلاد وجعلها أقل عرضة للاضطرابات الأمنية والسياسية التي يمكن أن تهدد سلامة الطرق البحرية عبر الخليج العربي. وتشمل مشروعات البنية التحتية المخطط لها مع هذين البلدين بناء الطرق والجسور والمدارس التي تشتد الحاجة إليها في العراق[6].
ثالثًا: نجاحات القمة:
يمكن استعراض أبرز الرسائل والنتائج الإيجابية التي خرجت بها قمة بغداد، وذلك من خلال ما يلي:
1– دعم واسع لإجراء الانتخابات العراقية في موعدها: عبَّر المشاركون في قمة بغداد عن دعمهم الواسع للحكومة العراقية في جهودها لإجراء الانتخابات في موعدها المقرر في 10 أكتوبر المقبل. وظهر ذلك في كلمات جميع المشاركين في المؤتمر تقريباً. وعلى سبيل المثال، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كلمته أن بعثات من الاتحاد الأوربي والأمم المتحدة ستراقب الانتخابات العراقية.
2– تعهدات بدعم استقرار المناطق المحررة في العراق: برزت تعهدات من قبل بعض القادة خلال القمة بدعم جهود العراق لإعادة الاستقرار إلى المناطق المحررة من داعش. وعلى سبيل المثال، قال الرئيس الفرنسي إن “فرنسا تشجع الحكومة العراقية على دعم النازحين”، مشيراً إلى أن “فرنسا خصصت ميزانية لدعم استقرار المناطق المحررة”.
3– الكشف عن فعاليات لدعم العراق اقتصادياً: يبرز هذا الأمر من خلال تأكيد الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي نايف الحجرف وجود استعدادات حالية للإعداد لعقد مؤتمر تحت عنوان “مؤتمر الإعمار والاستثمار الخليجي–العراقي” في الفترة المقبلة. وشدد الحجرف على “ضرورة متابعة مخرجات مؤتمر الكويت التي نصت على دعم العراق اقتصادياً”. يُضاف إلى ذلك تأكيدات الرئيس الفرنسي أن بلاده شريك اقتصادي ومساهم في عمليات إعادة الإعمار في العراق.
4– أجواء إيجابية خلال لقاءات ثنائية للزعماء: وفرت قمة بغداد فرصة جيدة للقادة المشاركين فيها لعقد لقاءات متعددة على هامش القمة. وكان من الملاحظ أن الأجواء الإيجابية حكمت تلك اللقاءات. وعلى سبيل المثال، بحث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع أمير قطر تميم بن حمد مساعي استئناف التعاون على النطاق الكامل بين البلدين[7]. وهذه هي المرة الأولى التي يلتقي فيها الجانبان، منذ 2015. وشهدت العلاقات بين القاهرة والدوحة مؤخراً تحسناً كبيراً بعد سنوات من القطيعة بينهما، وذلك في ظل المصالحة التي جرت بعد توقيع بيان العُلا بالسعودية في يناير 2021. وكان أبرز دلالات ذلك التحسن، تلقي الرئيس المصري وأمير قطر دعوتين متتاليتين لزيارة الدوحة والقاهرة، فضلاً عن اتصال هاتفي جرى بينهما في 12 أبريل 2021.
كما التقى أمير دولة قطر، نائبَ رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. وسبق أن التقى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في الـ26 من أغسطس 2021 في الدوحة، مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد آل نهيان، لتكون أول زيارة لقطر يجريها مسؤول إماراتي رفيع منذ اندلاع الأزمة الخليجية في يونيو 2017[8].
فضلًا عن أن الحضور السعودي والإيراني، عبر وزيري خارجيتهما فيصل بن فرحان وحسين أمير عبد اللهيان، إشارة أيضًا إلى رغبة متزايدة لدى الطرفين في إيجاد خطوط للقاء، وقد أشار وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين إلى أن «اللقاءات السعودية الإيرانية مستمرة» وأنها «بدأت من بغداد» كما حصل لقاء بين حاكم دبي ووزير الخارجية الإيراني[9]. وفى ذات السياق، فقد أكد سفير إيران لدى بغداد إيراج مسجدي، في 31 أغسطس 2021، إن إيران تخطط لإجراء جولة رابعة من المحادثات مع السعودية في العراق بعد تشكيل الحكومة الإيرانية الجديدة[10].
رابعًا: تحديات المستقبل:
لا تزال هناك مجموعة من التحديات والعقبات التي تقف أمام نجاح قمة بغداد في تحقيق أهدافها، ولعل أبرز تلك التحديات يتمثل في:
1- انخفاض مستوى مشاركة أهم الدول المنخرطة والمؤثرة في الداخل العراقي (إيران وتركيا والسعودية)، فقد شاركت هذه الدول بمستوى دبلوماسي من الدرجة الثالثة (وزير الخارجية) وليس بمستوى دبلوماسي من الدرجة الأولى أو حتى الثانية (الرئيس أو رئيس الوزراء).
2- الموقف الإيراني السلبي من القمة. فعلى الرغم من أن إيران أرسلت وزير خارجيتها لتمثيلها في هذه القمة، وليس رئيس الجمهوريّة إبراهيم رئيسي، تقليلًا لأهميّتها، ولكن وزير الخارجية الإيراني حرص على تأكيد النفوذ والسيطرة الإيرانية على العراق، وهو ما ظهر في خرقه للبروتوكول ووقوفه في الصّف الأمامي إلى جانب الرؤساء، واضِعًا نفسه بالقُوَّة في مُستواهم، وعندما انتَقد تغييب سورية وعدم دعوتها لحُضور القمّة، وهي جارٌ أصيلٌ للعِراق[11]، وكأنه وصى على السياسة الخارجية العراقية، ومحذرًا من فكرة إعادة العراق إلى عمقه العربي. وقد تعاطى العديد من المسؤولين والمواقع الإيرانية بسلبية وخشية كبيرة من مخرجات قمة بغداد، وتحديدًا مدى تعلُّقها بمستقبل الدور الإيراني في العراق[12]. ويمكن تفسير الموقف الذي تتبناه إيران من قمة بغداد في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
-استمرار الشكوك في نوايا الكاظمي: لا تبدي إيران ارتياحاً للسياسة التي يتبناها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الذي لا يزال يتبنى دعوة تجنيب العراق مضاعفات تصفية الحسابات بين إيران والولايات المتحدة، كما أنه لا يزال مصراً على الاحتفاظ بوجود عسكري أمريكي في العراق ولو في إطار تقديم دعم استشاري ولوجستي لقوات الأمن والجيش ضد التنظيمات الإرهابية.
كما يسعى الكاظمي جاهداً من أجل تكريس سيطرة الحكومة على إدارة الملفات المختلفة، مع احتواء تطلعات الميليشيات إلى تعزيز نفوذها داخل مؤسسات الدولة، لا سيما الموالية لإيران. وهنا، فإن إيران ترى أن دعم فرص إنجاح المؤتمر يمكن أن يمثل نتيجة إيجابية للكاظمي، وربما تدعم حظوظه في الاحتفاظ بمنصبه بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة (أكتوبر 2021)، وهو ما لا يتوافق مع حساباتها ومصالحها في الوقت الحالي.
– غموض مسارات مفاوضات فيينا: لا يزال الغموض يكتنف المسارات التي يمكن أن تتجه إليها مفاوضات فيينا؛ فرغم أن إيران كانت هي السبب في عرقلة استمرار المفاوضات بحجة إجراء الانتخابات الرئاسية ثم تشكيل الحكومة ووفد التفاوض النووي؛ فإن ذلك لا ينفي أن اهتمام القوى الدولية المشارِكة في المفاوضات –لا سيما الدول الغربية– تراجع إلى حد كبير، بعد أن كشفت الجولات السابقة حجم الخلافات العالقة بين إيران والولايات المتحدة، التي تُضعف احتمالات الوصول إلى صفقة جديدة وإن كانت لا تستبعدها نهائياً.
وهنا، فإن إيران لن تجري تغييراً في سياستها إزاء تطورات الإقليم، إلا بعد استشراف ما سوف تؤول إليه المفاوضات في فيينا، وتقييم مدى إمكانية الوصول إلى صفقة جديدة من عدمه؛ حيث يؤثر ذلك على المقاربة الإيرانية إزاء الملفات الإقليمية، لا سيما ما يتعلق باستهداف المصالح الأمريكية في العراق، وتقليص حدة التوتر في العلاقات مع السعودية، والمساعدة على الوصول إلى تسويات سياسية للأزمة في اليمن، والضغط على الحلفاء من أجل تعزيز فرص تشكيل حكومة جديدة في لبنان.
– الخلاف حول مشاركة سوريا: ربما اعتبرت إيران أن الجدل الذي تصاعد على الساحة الداخلية العراقية حول مشاركة النظام السوري في القمة؛ رسالة أولية تفيد بأن القمة لن تنتهي بنتائج يمكن أن تتوافق مع حساباتها ومصالحها. وقد تصاعد هذا الجدل بعد إعلان الخارجية العراقية أنها غير معنية بالدعوة التي وجهها رئيس الحشد الشعبي فالح الفياض، إلى دمشق خلال زيارته لها مؤخراً. وقد بدأت تقارير إيرانية عديدة تشير إلى أن “تغييب” الأسد عن الحضور يمثل أحد الشروط التي تطرحها بعض الدول من أجل المشاركة في القمة، على غرار فرنسا. وهنا، فإن تغييب الأسد يمثل –وفقاً للرؤية الإيرانية– خطوة غربية متعمدة لمنع عملية “تعويم” النظام السوري، لا سيما بعد تغير توازنات القوى على الأرض داخل سوريا لصالحه[13].
– أن المؤتمر فكرة أمريكية: حيث تدرك إيران أن فكرة عقد مؤتمر إقليمي في بغداد لم تكن في الأساس مبادرة شخصية من رئيس الحكومة العراقية، مصطفى الكاظمي، كما قيل في البداية، إنما هي فكرة أميركية، أرادت واشنطن من خلالها تأهيل العراق للعب دور قيادي في المنطقة يخدم مصالحها. وقد يفضي، في قابل الأيام، وعبر مؤتمرات أخرى، الى إقامة “منظومة” إقليمية، تقف حاجزا في مواجهة مخطّطات التغلغل الإيراني في الإقليم.
ومع حرص بغداد على عدم الإشارة إلى الدور الأميركي في استيلاد المؤتمر، تجنبا لما قد يثيره الخصوم ضدها، لكن “التلميحات” التي تضمنها بيان البيت الأبيض فضحت، ربما على نحو غير مقصود، أن الأميركيين هم من كانوا وراء فكرة المؤتمر التي جرى بحثها مع الكاظمي في أثناء زيارته واشنطن. ونقل البيان مباركة الرئيس الأميركي جو بايدن المؤتمر، كونه “قمة ناجحة ورائدة”. كما أثنى على القيادة “التاريخية ” للعراق التي توافقت مع الرؤية الأميركية في اعتماد الدبلوماسية في العلاقات الدولية، وفي تبني الشراكة الاستراتيجية بين واشنطن وبغداد[14].
3- لاتزال هناك خلافات عميقة ومصالح متضاربة بين بعض الدول المشاركة في الملف العراقي. فبالنسبة لإيران، فإن استقرار العراق يعني حكومةً تتماشى مع مصالحها سياسياً، في حين أن استقرار العراق بالنسبة للسعودية والدول العربية الأخرى يعني بشكل أساسي دولة مستقلة عن نفوذ طهران، وهو ما يديم استمرار العراق كساحة للصراع بين الجانبين.
كذلك الحال بالنسبة للصراع ما بين الولايات المتحدة وإيران في العراق، حيث تسعى طهران إلى إنهاء الوجود الأمريكي فيه من خلال الضغط عليه بأي شكل من الأشكال، وعلى الرغم من إعلان واشنطن عن نيتها سحب قواتها المقاتلة في العراق بنهاية العام الجاري، فإن كيفية تنفيذ هذا القرار وتوقيتاته لم تتضح بعد، وهو ما قد يعني استمرار التوتر بين الجانبين في حال عدم التزام الولايات المتحدة به.
من جانبٍ آخر، فإن عدم قدرة الحكومة العراقية على القضاء على تنظيم PPK الإرهابي بشكل نهائي والذي يتخذ من منطقة كردستان شمال العراق منطلقاً لتنفيذ هجماته على تركيا، سيؤدي إلى استمرار حالة من عدم الاستقرار السياسي في العلاقة بين بغداد وأنقرة.
كما أن حضور “فرنسا” اللافت حديثاً كلاعب جديد في المشهد العراقي، وتأكيد الرئيس ماكرون على أن القوات الفرنسية ستظل باقية في العراق حتى ولو قرر الأمريكان سحب قواتهم منها، بجانب مطامع فرنسا في الحصول على مشاريع مربحة في العراق، خاصة في مجال الطاقة، أملاً في ملء الفراغ الذي خلفه رحيل الشركات الأمريكية والبريطانية، قد يكون سبباً آخر من أسباب إيجاد حالة توتر جديدة في العراق مع دول مجاورة خصوصاً في ظل العلاقة الباردة بين باريس وأنقرة، والحديث عن دعم قدمته باريس في فترة ماضية إلى تنظيم PKK الإرهابي[15].
4- أن جميع الدول العربية المشاركة في هذه القمة، وتحديدًا مِصر ودول الخليج، تنتمي إلى ما يُسمّى بمحور الاعتِدال العربي، والوقوف سياسيًّا في الخندق الأمريكي، والتطبيع مع إسرائيل، الأمر الذي يعني الوقوف في المُعَسكر المُقابل لمحور المقاومة[16]، والذى لا يزال يحظى بدعم من قبل بعض الدول العربية – حتى لو كان دعم ضعيف – مثل سوريا والجزائر وتونس.
5- غياب سوريا عن المشاركة رغم كونها أهم جار للعراق يمثل أحد التحديات الجوهرية التي تعترض إمكانية تحويل الطموحات التي برزت خلال القمة إلى واقع ملموس. ويرتبط بذلك أن الأوضاع في كل من سوريا والعراق تعد نموذجاً للصراعات الاندماجية نتيجة التشابك الشديد بين أمن البلدين. ويظهر ذلك جلياً في التهديد الذي يمثله تنظيم داعش والميليشيات الجوَّالة المدعومة من إيران لأمن البلدين.
6- أن الخبرات التاريخية السلبية للمنتديات الشبيهة بمنتدى العراق الأخير، لم تنجح في تحقيق نتائج إيجابية بين الدول المشاركة فيها، وهو الأمر الذي لا يُشجع على توقع حدوث نتائج حقيقية من وراء قمة بغداد. وعلى سبيل المثال، تبرز النتائج المتواضعة التي حققتها آلية دول جوار ليبيا، كما أن المنتديات الخاصة بسوريا، على غرار مسار الأستانة أو مسار سوتشي، التي تجمع إيران وتركيا وروسيا؛ لم تفلح هي الأخرى في تحقيق تقدم حقيقي لإيجاد حل للأزمة السورية[17].
[1] “قمة بغداد.. السياقات والأهداف والمالات”، تي أر تي عربي، 30/8/2021، الرابط:
[2] “مسارات العودة: ملامح وأهداف مؤتمر دول جوار العراق”، المركز العربي للبحوث والدراسات، 30/8/2021، الرابط:
[3] “”حراك لا يتوقف”.. هل تشهد المنطقة تحسناً بالعلاقات الدبلوماسية؟”، الخليج أونلاين، 31/8/2021، الرابط:
[4] “قمة بغداد.. السياقات والأهداف والمالات”، مرجع سابق.
[5] “مسارات العودة: ملامح وأهداف مؤتمر دول جوار العراق”، مرجع سابق.
[6] “العراق يغري جيرانه بالاقتصاد.. فهل يحوّله مؤتمر بغداد إلى وسيط إقليمي بدلاً من كونه ساحة للصراعات؟”، عربي بوست (مترجم)، 30/8/2021، الرابط:
[7] ” ما بعد القمة: احتمالات تعزيز العلاقات بين القوى الإقليمية عقب “مؤتمر بغداد””، أنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، 31/8/2021، الرابط:
[8] “”حراك لا يتوقف”.. هل تشهد المنطقة تحسناً بالعلاقات الدبلوماسية؟”، مرجع سابق.
[9] “مؤتمر بغداد: هدوء إقليمي داخل حلبة الصراع!”، القدس العربي، 28/8/2021، الرابط:
[10] “إيران تعتزم إجراء جولة محادثات جديدة مع السعودية”، القدس العربي، 31/8/2021، الرابط:
[11] “سبعة أسباب تَكشِف النّوايا الحقيقيّة وراء انعِقاد قمّة بغداد؟ لماذا كان عبد اللهيان نجمها الأبرز وداعش هي الحاضِر الغائب؟ وهل كان الخوف من تِكرار السيناريو الافغاني في العِراق البند غير المُعلَن على جدول أعمالها؟ وما هي المُفاجأة المُتوقّعة للقمّة القادمة إذا انعقدت؟”، رأى اليوم، 30/8/2021، الرابط:
[12] ” كيف تعاطت إيران مع مخرجات قمة بغداد؟”، نون بوست، 31/8/2021، الرابط: https://bit.ly/3kLjtnl
[13] “اختبار النوايا: كيف تتعامل إيران مع قمة دول الجوار بالعراق؟”، أنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، 28/8/2021، الرابط: https://bit.ly/2Y5t1lx
[14] ” ما قبل مؤتمر بغداد وما بعده”، العربي الجديد، 1/9/2021، الرابط: https://bit.ly/3kMF6E3
[15] “قمة بغداد.. السياقات والأهداف والمالات”، تي أر تي عربي، 30/8/2021، الرابط:
[16] “سبعة أسباب تَكشِف النّوايا الحقيقيّة وراء انعِقاد قمّة بغداد؟ لماذا كان عبد اللهيان نجمها الأبرز وداعش هي الحاضِر الغائب؟ وهل كان الخوف من تِكرار السيناريو الافغاني في العِراق البند غير المُعلَن على جدول أعمالها؟ وما هي المُفاجأة المُتوقّعة للقمّة القادمة إذا انعقدت؟”، مرجع سابق.
[17] ” ما بعد القمة: احتمالات تعزيز العلاقات بين القوى الإقليمية عقب “مؤتمر بغداد””، مرجع سابق.