أعلنت الجزائر الأربعاء 22 سبتمبر غلق مجالها الجوي أمام الطائرات المغربية. وبهذا تكون العلاقات بين البلدين قد دخلت مرحلة جديدة من التأزم والتوتر، وذلك ناتج عن التغيرات الجيوستراتيجية بمنطقة الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة. وهكذا فإن العلاقة بين الجزائر والمغرب، أصبحت علاقة الجوار المستحيل؛ فالأول يلوم الثاني على كل شيء والعكس صحيح، لذلك فهما في حلقة مفرغة لا نهاية لها. نظامان متجاوران، متطابقان تقريبًا وراثيًا في تركيبتهما العرقية واللغوية، متنافران في السياسة والمصالح؛ إذ لا يزالان غير قادرين حتى على الجلوس على نفس الطاولة، لحلحلة الحدود البرية المغلقة منذ 1994، وهكذا يعيش البلدان منذ ما يقرب من ستين عامًا على المناكفات السياسة. فكيف تصاعدت الأزمة؟ وما هي دوافعها ومحركاتها؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها..
تصاعد حدة الأزمة:
تجددت الأزمة الدبلوماسية بين البلدين أثناء أعمال اجتماع حركة عدم الانحياز، الذي عُقد “عن بعد” في 13 و14 يوليو الماضي، إذ أثار لعمامرة قضية الصحراء الغربية، وهي المنطقة التي تطالب جبهة البوليساريو بانفصالها عن المغرب، وتدعمها الجزائر في ذلك، في حين يرى المغرب أنها جزء لا يتجزأ من أراضيه. ورد المغرب -على لسان سفيره في الأمم المتحدة عمر هلال- بمذكرة وزعها على أعضاء منظمة دول عدم الانحياز، باستنكار إثارة قضية الصحراء الغربية في الاجتماع، ثم تحدث عن حق تقرير المصير لشعب القبائل، وهو ما اعتبرته السلطات الجزائرية دعما لحركة تصفها بالإرهابية، والتي تتخذ من باريس مقرًا لها وتطالب بما تسميه حق تقرير المصير في منطقة القبائل الجزائرية. وأعلن بعدها وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة في 24 أغسطس الماضي قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، وقال -في مؤتمر صحفي- إن “المسؤولين في المغرب يتحملون مسؤولية تردي العلاقات بين البلدين”، متهمًا الرباط بدعم منظمتين وصفهما “بالإرهابيتين” والضالعتين بالحرائق الأخيرة التي اندلعت في الجزائر.[1] وتاريخيًا، هذه المرة الثانية التي يصدر فيها مثل هذا القرار، ففي 1976 اتخذت الرباط خطوة مماثلة تجاه جارتها الغربية، احتجاجًا على إعلانها الاعتراف بقرار أحادي الجانب من “جبهة البوليساريو” بإقامة ما تسمى “الجمهورية العربية الصحراوية”، التي نالت اعتراف دول أخرى، أغلبها إفريقية.[2] وبعد أقل من شهر، يوم الأربعاء 22 سبتمبر أعلنت الجزائر الإغلاق الفوري لمجالها الجوي في وجه الطائرات المدنية والعسكرية المغربية، وتلك التي تحمل رقم تسجيل مغربي، بالنظر إلى استمرار الاستفزازات والممارسات العدائية من الجانب المغربي”، وفق وصف المجلس الأعلى للأمن.
دوافع الأزمة:
النزاع بين البلدين نزاع معقد ومتجذر منذ زمن طويل على خلفية مسألة السيادة على الصحراء الغربية، ورغبة كل من البلدين بفرض نفسه كأكبر قوة إقليمية. لكن إذا بحثنا عن الأسباب الفورية التي أدت إلى نشوب الأزمة، نرى أن التوقيع على “اتفاقيات إبراهيم” في خريف 2020 بين المغرب والكيان الصهيوني، إضافةً إلى الولايات المتحدة وبعض دول الخليج (الإمارات العربية المتحدة والبحرين)، ساهم بدون شك في تذكية النار. وبموجب هذا الاتفاق تعترف واشنطن بمغربية الصحراء الغربية، ويمثل ذلك للجزائر داعيًا كافيًا للحرب. خاصةً وأن المغرب سجل في السنوات الأخيرة عدة نقاط على مستوى الدبلوماسية معززًا مكانته على الساحة الدولية في حين ظلت الجزائر على الهامش. كما زادت قضية “بيغاسوس” الطين بلة إذ قد تكون الرباط قد تجسست على هواتف العديد من المسؤولين الجزائريين عبر استخدام برنامج معلوماتي صهيوني، وهو كفيل بتأجيج الغضب إزاء تطبيع العلاقات الإسرائيلية المغربية. بالإضافة إلى ذلك؛ فقد لعب الوضع الداخلي للجزائر دورًا كبيرًا؛ فالجزائر تعيش حاليًا مرحلة انتقالية. الحكومة في حيرة أمام كيفية التعامل مع الحراك الشعبي الذي ظهر في شهر فبراير 2019 والذي بات من الصعب أن نتنبأ بتطوراته المستقبلية بعد السبات الذي نتج عن جائحة كوفيد-19. فبقطع علاقاتها مع المغرب، تلعب الجزائر على حبال قومية قديمة تتمثل غالبًا في إيجاد كبش فداء لصرف النظر عن المشاكل الداخلية وتوجيهه نحو عدو خارجي مشترك لكل الشعب. وفي نفس السياق اتهمت الجزائر المغرب بأنه على علاقة بالمسؤولين عن إشعال الحرائق في منطقة القبائل (شمال شرق الجزائر) في أغسطس الماضي وهو ما ساهم في تفاقم الأزمة بين البلدين.[3]
أزمة مغاربية بمحركات خارجية:
الصراع الذي بدأ ببذور إمبريالية، وتأجج بوقود صراع دولي، عرف فترات خفوت وتبريد خلال العقدين الأخيرين، لتتفجر كوامنه هذه المرة على صفيح التدافع الإقليمي الساخن، وبحضور واضح لبصمات الكيان الصهيوني، ومن ورائه محور المطبعين العرب. فالجزائر تُعد المنطلق الأول للربيع العربي باعتبارها، على الرغم من الانتكاس الأليم لوليدها، سبقت جميع دول المنطقة إلى مسار الديمقراطية والانتخابات الحرة في أوائل التسعينيات، فيما يبدو كمؤشر عن كوامن هذا التطلع في الضمير الجمعي للجزائريين، أو أنهم مجتمعًا وسلطة قد راكموا في الحد الأدنى من الخبرة في مجاراة مثل هذه المتغيرات، وهذا ما قد لا يملكه غيرها، بما أهَّل تفاعلهم مع زلزال ربيع 2011، وجعله في المحصلة إيجابيًا، وأقرب ما يكون في موجتيه الأولى وخاصة الثانية إلى محرك للإصلاح الوقائي أكثر من أي شيء آخر، فكانت انسحاباته على سياستها الخارجية على ذلك النحو واضحة وجلية. وقد مثلت إقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عام 2019، وانهيار التكتل الموالي له في النظام بقيادة أخيه سعيد بوتفليقة، ضربة موجعة لنفوذ أبو ظبي في الجزائر، تلتها وفاة قائد الأركان القائد صالح، الذي كانت تعول عليه الإمارات في التدارك بإعادة إنتاج نظام ذي عضلات على الشاكلة المصرية. لتكون بذلك خسارتها لآخر أصدقائها الأقوياء مؤذنة بفصل جديد من العلاقات الإماراتية– الجزائرية، تنتهي معه سنوات التغلغل والتمدد في أكثر قطاعات الدولة حيوية، كالموانئ الاستراتيجية والشركات العمومية الكبرى والعقارات حتى الصناعات الدفاعية، فإذا بالإمارات بين عشية وضحاها تجد ذراعها المالي في الجزائر أحمد حسين الشيباني طريدًا يعبر الحدود خلسة، بعد أن كان يصول في كواليس الحكم، ثم تلاحقه قضايا الفساد، ليتخفف القطاعان العام والخاص في الجزائر بأقدار من سطوته ونفوذه. ومع هذا المنعطف، قفز حكام أبو ظبي نحو ما سُمي بمحاولات التطويق والتهديد، بسعيهم لإقامة قاعدة عسكرية في شمال موريتانيا وعلى مرمى حجر من الحدود الجزائرية. ولم تكن تلك المحاولة إلا جزئية بسيطة من سياسة جديدة ومركبة تجاه الجزائر والمنطقة، كانت تعبيراته الأهم الاختراق الصهيوني للعلاقات الجزائرية– المغربية، الذي مهَّد له حصان طروادة الإماراتي، من خلال الوساطة المشتركة لدوائر الضغط الصهيو-إمارتية في الولايات المتحدة، فنجحت في خلط ملف التطبيع بملف الصحراء بداية، من خلال وضع اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء من جهة، وإقامة علاقات بين الرباط والكيان الصهيوني من جهة أخرى، في كفتي ميزان واحد. لم تكن الإمارات بذلك تنفخ السم في النار لإنعاش أزمة قديمة بغية زعزعة أمن المنطقة وتمزيقها كما تعودت أن تفعل في أكثر من بلد مشرقي فحسب، بل كانت على ذلك تزيد في تعميق الأزمة، إذ أضافت لعناصرها التاريخية أبعادًا جديدة لم يسبق لها أن عرفتها، من خلال خلط أوراقها مع ملف التطبيع أولًا، ثم إلقائها في أتون صراع المحاور الإقليمية، ليلتحق ملف العلاقات الجزائرية– المغربية بملفات كثيرة أخرى مبعثرة على طاولة الربيع العربي.[4]
فرنسا واسبانيا:
غالبًا ما تقع فرنسا وإسبانيا في مرمى النيران بين الجارين المغاربيين، وبالتالي تضطران إلى تحقيق التوازن حتى لا تضحي بواحد لصالح الآخر. بالنسبة لإسبانيا، التي هي أيضًا في أزمة ثنائية مع المغرب على خلفية الصحراء الغربية، فإن الحفاظ على العلاقة مع الرباط أمر ضروري بسبب مجموعة من القضايا التي تتجلى في مكافحة الهجرة غير النظامية والإرهاب، ومراقبة الحدود في سبتة ومليلية، تهريب المخدرات أو صيد الأسماك. وتعتبر إسبانيا هي الشريك التجاري الأول للمغرب بعد الإطاحة بفرنسا في عام 2012. ولكن العلاقة مع الجزائر لا تقل أهمية بالنسبة لإسبانيا، حيث تزودها بما بين 40 و50% من الغاز المستهلك في البلاد؛ وتصدر الجزائر العاصمة إلى إسبانيا نحو 13 ألف مليون متر مكعب سنويًا. ومن جانبها، تحافظ فرنسا على علاقات سياسية وتجارية ممتازة مع الرباط – وليست مستثناة بالمقابل من حلقات الأزمة مع القضية الصحراوية – وتحاول في الوقت نفسه الحفاظ على التعاون، على الرغم من رواسب حرب الاستقلال؛ مع مستعمرتها الجزائرية السابقة. أكد ناطق باسم الخارجية الفرنسية في 25 أغسطس أن الجزائر والمغرب بلدان صديقان وشريكان أساسيان لفرنسا.[5]
الخُلاصة؛ قد يكون رفع التصعيد الدبلوماسي بين الجزائر والمغرب مفيدًا وضروريًا في هذه المرحلة من أجل كسر قبة الانحباس الحراري، التي أضحت العلاقات حبيسة لجدرانها السميكة، فقد تفتح هذه القطيعة على فرص البحث عن معالجات جذرية ومقاربات شاملة تعيد إنتاج بناء تعاقدي جديد بين الجارين، يرتكز على أسس صلبة من المصالح الاستراتيجية لمجتمعات المنطقة الموصولة بروح التاريخ وحقائق الجغرافيا، والمترابطة بأواصر الذات الحضارية المشتركة. والتحاق الأزمة بالربيع العربي في هذه الفترة يشير إلى أن جغرافيا حرب المحاور الإقليمية، قد بدأت فعلًا في لفظ أنفاسها الأخيرة، ومؤشرات ذلك تظهر في توافقات صغيرة ومحدودة ومبعثرة (قمة العلا، التقارب التركي المصري، التوافق الليبي– الليبي، مبادرة السلام في اليمن، لقاء طحنون وأردوغان…)، وبقيت في انتظار تتويج استراتيجي يملأ الفراغات التي بينها، ويستصلح مساحات التوتر على تخوم تماسها، ويكمل المستعصي منها أو المنقوص فيها، ليحتوي جميعها ويكون وعاءها الجامع. ولانطلاق القطيعة الآن دلالات، مثلما سيكون لها كذلك انسحابات على ساحات الربيع العربي، فقد كان إعلان العمامرة قطع العلاقات مباشرة بعد عودته من تونس، وقبل أسبوع فقط من استضافة الجزائر لاجتماع دول الجوار الليبي، بما يجعل من الصعب أن نتصور أن الدبلوماسية الجزائرية المسكونة بهاجس الانكشاف الحدودي يمكن أن تقدم على مثل هكذا خطوة على الجبهة الغربية من دون أن تكون قد أمسكت بضمانات استقرار خاصرتها الشرقية. وهكذا فإن قرار التصعيد مدروس ونقي من شوائب الانفعالية، بل يندرج ضمن رؤية استراتيجية شاملة، وسياسة منسجمة ومتكاملة. وعلى الرغم من الأزمة والتصريحات الحادة، فإن المتخصصين يرون أن العواقب الاقتصادية للتدابير الأخيرة لن تكون كبيرة بالنظر إلى التكامل الضعيف لاقتصاديات الجارين، الغارقين بمشاكل داخلية لا يمكنهما تجاهلها.
[1] “بعد قطع العلاقات.. الجزائر تغلق مجالها الجوي مع المغرب”، الجزيرة نت، 22/9/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/PbHV4
[2] عبد الرزاق بن عبد الله، “الجزائر والمغرب.. 16 محطة تلخص علاقات التوتر (إطار)”، الأناضول، 26/8/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/1xwfW
[3] سيرييل كابو، طاهر هاني، “قطع العلاقات بين الجزائر والرباط قد “يكسر” المغرب العربي لزمن طويل”، France 24، 27/9/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/DLufG
[4] أيمن عبيد، “الجزائر الجديدة: ظلال الربيع العربي على علاقاتها مع المملكة المغربية”، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 27/9/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/kE1zp
[5] سعيد المرابط، “تحليل إخباري: الجزائر والمغرب.. تاريخ من الجوار المستحيل.. توقعات بقرارات جزائرية جديدة قريبا.. وبين اغلاق الحدود وازمة الغاز استبعاد أي انفراج في العلاقة بين البلدين قريبا”، رأي اليوم، 28/9/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/9BO1g