يبدو أن سيناريو تدخل الجيش في الحياة السياسية بات مألوفًا في الواقع الإفريقي، حيث يستيقظ الناس ليجدوا أن رأس السلطة التنفيذية قد اعتقله الجيش وأن الدستور قد أُوقف العمل به، وعوضًا عن ذلك يتم الإعلان عن حالة الطوارئ في البلاد. وفي العقود المبكرة لمرحلة ما بعد الاستعمار عندما كانت هذه الظاهرة متفشية، قدَّم القادة العسكريون في إفريقيا عادةً الأسباب نفسها للإطاحة بالحكومات، وهي الفساد وسوء الإدارة والفقر وحماية البلاد من الفوضى. وشهدت السودان في الآونة الأخيرة حالة استقطاب حاد بين النخب المدنية والعسكرية؛ في ظل التصارع على السلطة دون النظر لمصالح الشعب السوداني الذي يعاني من أوضاع سياسية واقتصادية متدهورة. وانتهت تلك الحالة بقيام الجنرال عبد الفتاح البرهان يوم الاثنين 25 أكتوبر انقلابه الثاني في السودان، واعتقال رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك وزوجته، وجميع الوزراء وأعضاء مجلس السيادة من المدنيين، وإعلان حالة الطوارئ، وإعطاء الضوء الأخضر لقواته لإطلاق الرصاص على كل من يتظاهر أو يحتج على هذه الخطوة التي ستُدخل البلاد حتمًا في حالة من عدم الاستقرار، وربما حمامات دماء. فما هي خلفيات الأزمة؟ وكيف كانت ردود الفعل عليها؟ وما هي السيناريوهات المُحتملة؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى تلك الورقة للإجابة عنها..
تاريخ السودان مع الانقلابات:
من يقرأ في تاريخ السودان الحديث منذ فجر الاستقلال وحتى يومنا هذا، يدرك بأن مآلات الأوضاع الاقتصادية والأمنية وانسداد الأفق السياسي سيقود المشهد السياسي في السودان في الغالب إلى الانقلابات العسكرية، في ظل ضعف المؤسسات الديمقراطية المدنية وتورط بعض الأحزاب السياسية نفسها في تدبير تلك الانقلابات. وبالرجوع إلى الوراء نجد أن انقلاب الجنرال إبراهيم عبود قد حدث عندما انسد الأفق السياسي بين حزب الأمة والشعب الديمقراطي من جهة والوطني الاتحادي والنقابات واليسار من الجهة الأخرى، مما هيأ الظروف لإنجاز أول انقلاب عسكري مدعومًا من حزب الأمة في 1958. وتوالت الأحداث بعد ثورة أكتوبر بنفس الظروف والتعقيد عندما تآمرت القوى السياسية على الحزب الشيوعي في حادثة جامعة الخرطوم في 1965، مما أسفر عن حل ذلك الحزب وإبعاد نوابه من البرلمان، ثم كانت توجهات إجازة الدستور الإسلامي هي الظروف إلى أدت لتهيئة المشهد السياسي إلى انقلاب عسكري برعاية اليسار عام 1969. وبعد انتفاضة مارس- إبريل 1985 لم تتوقف مماحكات القوى السياسية وسلوك الأحزاب الإقصائي فيما بينها حتى تعقد المشهد في الديمقراطية الثالثة بخلافات في الائتلاف الحكومي لم تنجح الأحزاب في إدارة حوار شامل عقلاني بينها لاستكمال التجربة الديمقراطية الناشئة وتثبيت التداول السلمي للسلطة. وبناءً على مذكرة الجيش وتشكل حكومة جديدة استبعدت منها الجبهة الإسلامية، وكرد فعل ناجم عن ذلك قادت الجبهة الإسلامية انقلاب الإنقاذ 1989. ومرة أخرى بعد الإطاحة بالبشير ظهر المجلس العسكري الانتقالي الذي أعلن انحيازه مُكرهًا إلى خيارات الشعب السوداني المطالب بالحرية والديمقراطية والعدالة والسلام، لكنه منذ البدء لم يكن جادًا في تسليم السلطة الانتقالية للقوى السياسية المدنية، لذلك تقاعس عن استكمال هياكل الفترة الانتقالية ومطلوبات الانتقال الديمقراطي المنشود، بل سعى عن طريق الشراكة التي أُسست على دماء الأبرياء والشهداء في مجزرة القيادة العامة بالخرطوم في 3 يونيو 2019 لتوطيد مواقعه وامتيازاته.[1]
الأزمة بعد البشير والخلاف المدني- العسكري:
لم تتسق آمال وتطلعات الشعب بعد ثورته مع ما ذهبت إليه قوى الحرية والتغيير في التوقيع على الوثيقة الدستورية التي لعب بها العسكر، وتحصلوا بموجبها على صلاحيات مهمة في نصوص مبهمة لا تتحدث عن مواقيت لإعادة هيكلة الجيش بدمج المليشيات العسكرية وجيوش الحركات المسلحة. وقد سقطت أيضًا قوى الحرية والتغيير في فخ تقاسم السلطة واختيار حكومة من قيادات حزبية في تجاوز معلوم لإعلان الحرية والتغيير، وفشلها المستمر في عدم التوافق على هياكل الانتقال كالمجلس التشريعي والمحكمة الدستورية والمفوضيات ذات الصلة بالانتقال المدني الديمقراطي فضلًا عن إهمال استحقاقات السلام الحقيقية. ويعود الخلاف بين المكونين المدني والعسكري إلى ثلاثة أسباب رئيسية؛ أولها؛ يتعلق باللجنة الأمنية والمكون العسكري حيث أنه مسؤول عن إجهاض الثورة ويعمل على إعاقة استكمال متطلبات الثورة، فضلًا عن مسؤولية الجيش عن مجزرة فض الاعتصام وعدم إنفاذ القوانين وعدم هيكلة القوات النظامية وتصفية النظام السابق حتى الآن. وثانيها؛ يخص تغوُّل المجلس العسكري على صلاحيات المكون المدني، وعلى السلطة المدنية ومحاولة إضعافها وإظهار أنه المسيطر، كما حدث في مهمة السلام مع الحركات المسلحة، من المفترض أنها من اختصاص الحكومة المدنية، لكن أعضاء المجلس العسكري هم الذين وقعوا الاتفاقية حتى أن وجود رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في الاحتفالات كان تشريفيًا. ومؤخرًا أعلن رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان إنشاء “مجلس شركاء الفترة الانتقالية”، وتم إعطائه صلاحيات موسعة وهذا غير موجود في الوثيقة الدستورية، كمحاولة لفرض مزيد من السلطات لصالح المكون العسكري. ورفضت الحكومة الانتقالية قرار البرهان مُعتبرةً أنه تخطى صلاحياته عبر إناطة صلاحيات موسعة بهيئة جديدة، بما يتناقض مع “الوثيقة الدستورية” الموقعة في أغسطس العام الماضي بين نشطاء مؤيدين للديمقراطية والقادة العسكريين. وثالثها؛ يتعلق بالشركات المملوكة للجيش الرافضة أن تؤول ملكيتها لوزارة المالية، حيث 80% من واردات الدولة تذهب لصالح الجيش والمؤسسات الأمنية، في حين لا تحصل وزارة المالية إلا على 20% فقط. وتفيد تقارير إعلامية محلية أن لدى الجيش والأجهزة الأمنية 250 شركة تعمل في قطاعات حيوية مثل تصدير الذهب واللحوم واستيراد دقيق القمح إضافة إلى الزراعة. وهذه الشركات معفاة من الضرائب ولا تخضع للمراجعة ما يجعلها تعمل في سرية تامة في ظل معاناة البلاد من أزمة اقتصادية.[2]
تفجُّر الأزمة:
تفجَّر الخلاف داخل قوى الحرية والتغيير، الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية الحالية برئاسة عبد الله حمدوك، بسبب مبادرة أطلقها حمدوك قبل شهرين للم شمل الفرقاء السياسيين وضم وتوحيد عمل القوى السياسية الحالية دون المواليين أو الحلفاء السابقين للمؤتمر الوطني الإسلامي. حيث كانت محاولة لتوحيد القوى المدنية ووقف الانقسامات ومعوقات الانتقال. إلا أن مبادرة حمدوك تسبَّبت في العديد من الانقسامات والخلافات بسبب تخوُّف بعض الأطراف السياسية؛ التي رأت في المبادرة إضعافًا أو تهميشًا وإقصاءً لها من المشهد السياسي. وهو ما يأتي مشابهًا إلى حدًّ كبير مع كافة مبادرات السلام في السودان من اعتراض بعض الأطراف. مثل اتفاق جوبا للسلام الذي لا يزال محل خلاف مع الحركة الشعبية شمال وجناح عبد الواحد في دارفور.وتتسبب هذه الانقسامات والمشاكل المتراكمة داخل المكون المدني. في تأخر الخطوات الحاسمة في ملف قاطرة التغيير السياسية واستكمال مفاصل الدولة بخاصة انتخاب المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية العليا. ما أعطى الفرصة للمكون العسكري لشن الهجوم والاعتراض على أداء المدنيين. متهمًا إياهم بتقويض التحول الديمقراطي لخدمة مصالح شخصية.فرغم أن الوثيقة الدستورية أعطت للحكومة بتشكيلها المدني برئاسة حمدوك السلطة في اتخاذ كافة القرارات والسياسات العامة والمصيرية، على أن يكون منصب البرهان في رئاسة المجلس السيادة مجرد منصب شرفي؛ إلا أن الفترة الماضية شهدت تدخل مجلس السيادة في التصديق على قرارات مصيرية سواء على المستوى الداخلي أو العلاقات الخارجية. وعزَّزت الاحتجاجات والتوتر الأمني في شرق السودان من إضعاف موقف الحكومة. حيث كانت مجموعات من قبيلة البجا بزعامة الأمين ترك، قد أغلقت الطرق الرئيسية التي تربط شرق السودان ببقية المدن حيث تم غلق الطريق الذي يربط بورتسودان ببقية أجزاء البلاد. وغلق ميناء بورتسودان وإغلاق السكك الحديدية بمحطة هيا وخطوط توريد البترول.وكانت من أبرز مطالب ثوار الشرق؛ إلغاء مسار شرق السودان المبرم في اتفاقية جوبا للسلام، وحل لجنة تفكيك الإخوان التي تحظى بسند شعبي ورسمي كبير، وحل الحكومة الحالية، وتشكيل مجلس عسكري يدير البلاد لفترة انتقالية محدودة تعقبها انتخابات حرة. فيما رفض ترك التفاوض مع أي ممثلين من الحكومة المدنية وهو ما أثار حفيظة الحكومة التي اتهمت بدورها ثوار الشرق بالعمل لمصلحة المكون العسكري.وتسبب التراشق والتوتر بين المكونين المدني والعسكري في رفع سقف مطالب الثوار في شرق السودان. خاصةً مع تمكنهم في السيطرة على شريان الحياة الاقتصادي من الشرق، الذي يمد الخرطوم والولايات السودانية بأكثر من 70% من احتياجاتها من الخارج.[3] الأمر الذي وصل في الأخير إلى محاولة انقلابية فاشلة.
ردود الأفعال المحلية والإقليمية والدولية على الانقلاب:
تفاوتت ردود الأفعال المحلية والدولية على انقلاب البرهان، وجاءت كالتالي..
ردود الأفعال المحلية:
وتمثَّل أولها في؛ موقف مؤسسات الدولة: أشارت اللحظات الأولى التي تبعت بيان 25 أكتوبر إلى أن الجهات النظامية والأمنية السودانية متوحِّدة خلف البرهان، ولم تُسجِّل البلاد أي بوادر رفض من جانب قادة وعناصر هذه الجهات. وفي ظل غياب قائد قوات الدعم السريع عن المشهد؛ حرص رئيس مجلس السيادة السوداني على تأكيد أن تحرُّكاته تحظى بدعم قوات الجيش والدعم السريع والجهات الأمنية الأخرى، ويعود هذا الموقف الموحَّد إلى رفض المؤسسات العسكرية والأمنية لإشراف الجهات المدنية والخارجية على عملية إعادة هيكلتها، وفقًا لمقررات اتفاق جوبا للسلام، وطبقًا لتوجهات الولايات المتحدة الأمريكية. وفي مقابل دعم الجهات النظامية والقضائية للبرهان؛ ظهرت بعض المؤشرات على فقدان القيادة العسكرية السودانية للسيطرة الكاملة على وزاراتي الخارجية والإعلام على وجه التحديد. أما ثانيها فتمثَّل في؛ مواقف القوى السياسية السودانية: بسبب تخوُّف القوى السياسية السودانية من أن يقود بيان 25 أكتوبر إلى إعاقة العملية الديمقراطية، وإعادة إنتاج الحكم العسكري؛ لم تنجح المكونات العسكرية السودانية في الحصول على غطاء سياسي محلي واسع لتحركاتها، ولم يحظ بيان البرهان بتأييد رسمي من جانب أغلب القوى السياسية السودانية البارزة، خلال الـ24 ساعة التي تلت إلقاءه، وذلك باستثناء مجموعة ميثاق التوافق، والتي تضم حركتي العدل والمساواة (جبريل إبراهيم) وتحرير السودان (مناوي)، والتي قامت بتنظيم احتجاجات خلال أكتوبر 2021 للدعوة إلى تشكيل حكومة تكنوقراط، وتوسيع إطار المشاركة في العملية السياسية. وتتعاظم احتمالات اتساع الحراك المناوئ لبيان البرهان بعد نجاح دعوة قوى المجلس المركزي الحرية والتغيير وتجمع المهنيين في تنفيذ عصيان مدني بـ 14 مدينة سودانية بعد ساعات من بيان أكتوبر، ودعا المحتجون إلى التراجُع عن البيان، والإفراج عن قيادات المجلس المركزي للحرية والتغيير. كما سعت بعض القطاعات المهنية إلى تعطيل العمل ببعض مؤسسات الدولة، وكان من أبرزها قطاع الأطباء الذي جمعه مناوشات في وقت سابق بعدد من العناصر الأمنية، علاوة على قطاعات أخرى مثل المصرفيين والمحامين، وقد تتسع هذه التحركات بعد أن أعلن قائد الجيش السوداني في 26 أكتوبر عن حلِّ لجان تسيير النقابات المهنية. بينما فَضَّلت بعض الأحزاب الأخرى مثل الاتحادي الديمقراطي الأصل والمؤتمر الشعبي عدم التعليق على هذه التطورات، ما يُشير إلى وجود حالة من الارتباك لدى هذه الأحزاب، وعدم تشاور القيادات العسكرية معها قبيل الإعلان عن بيان 25 أكتوبر.[4]
ردود الأفعال الإقليمية:
أعرب الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط عن بالغ القلق إزاء تطورات الأوضاع في السودان وطالب جميع الأطراف السودانية بالتقيد بالوثيقة الدستورية التي تم توقيعها في 2019. وقالت وزارة الخارجية المصرية في بيان لها: “تدعو مصر كل الأطراف السودانية الشقيقة، في إطار المسؤولية وضبط النفس، لتغليب المصلحة العليا للوطن والتوافق الوطني”. كما أعلن الاتحاد الإفريقي، تعليق مشاركة السودان في جميع الأنشطة حتى استعادة القيادة المدنية السلطة. ودعا مجلس الأمن والسلم الإفريقي إلى الإفراج الفوري عن الوزراء والمدنيين المحتجزين. مؤكدًا تضامن الاتحاد الإفريقي مع شعب السودان في تطلعاته المشروعة لتعميق وترسيخ الديمقراطية، وللتغلب على التحديات التي تواجه بلاده، ومُجددًا التزام الاتحاد الإفريقي المستمر بدعم الحكومة الانتقالية في السودان.[5]
وبالنسبة لموقف دولة الاحتلال من انقلاب السودان؛ لم يصدُر موقف رسمي، وغالبًا هي تنتظر ما ستؤول إليه الأوضاع، في السودان، وما ستستقرُّ عليه المواقفُ الدولية، وتحديدًا الموقف الأميركي، ولكن صحيفة يسرائيل هيوم ذكرت أنَّ مصدرًا صهيونيًا مطّلعًا على ما يحدث في السودان انتقد موقف الموفد الأميركي إلى منطقة القرن الإفريقي، جيفري فيلتمان، الذي لم يقبل الانقلاب في السودان. وقال المصدر: إنه في ظل الوضع السائد في السودان، يجدر بالولايات المتحدة دعم الجيش وقائده عبد الفتاح البرهان، وليس رئيس الحكومة المدنية، عبد الله حمدوك. هذا الموقف الصهيوني، وإنْ لم يكن رسميًّا، إلا أنه يعكس توجُّهًا مهمًا، وقد يكون الأقرب إلى الموقف الرسمي الحقيقي، فالدافع والمعيار لدى الكيان الصهيوني هو ضمان استمرار التطبيع معه، متوازيًا مع “استقرار” السودان، وفق مفهومه للاستقرار الذي ينطلق من أهمية موقع السودان الجغرافي والاستراتيجي، وتأثيره عليه، والذي يضمن بقاء الأحوال الداخلية ضمن السيطرة، ولو على فسادٍ، واضطراباتٍ عميقة، وإفقار متواصل للشعب.[6]
أما عن دول الخليج؛ فقد اعتادت على إظهار مواقفها من القضايا العربية بشكلٍ سريع، والتي برزت أخيرًا بدعوتها كافة الأطراف في السودان إلى ضبط النفس وعدم التصعيد، وحديثها عن أنها تتابع بقلق التطورات الجارية هناك. ويثير احتمال تجدُّد الصراع في السودان قلق دول مجلس التعاون الخليجي؛ حيث يقع السودان على ساحل البحر الأحمر، وهو ممر مائي ذو أهمية حاسمة يمر من خلاله ما يقرب من ثُمن التجارة العالمية. وعقب سيطرة الجيش على مقاليد الحكم في السودان، في الـ25 من أكتوبر 2021، خرجت دول الخليج باستثناء عُمان ببيانات قالت فيها إنها تتابع بقلق التطورات الجارية في الخرطوم، داعية كافة الأطراف إلى ضبط النفس وعدم التصعيد. وطالبت الخارجية القطرية، في بيان، بالعمل على نحو يخدم مصالح السودانيين نحو الاستقرار والعدالة والسلام، كما دعت إلى احتواء الموقف وتغليب صوت الحكمة. وأعربت عن تطلع الدوحة لإعادة العملية السياسية إلى المسار الصحيح تحقيقًا لتطلعات الشعب السوداني. أما الخارجية السعودية فقالت إن المملكة تتابع بقلق واهتمام بالغ الأحداث الجارية في السودان، وتدعو إلى أهمية ضبط النفس والتهدئة وعدم التصعيد. وشدَّدت على ضرورة حفاظ جميع الأطراف السياسية “على كل ما تحقق من مكتسبات سياسية واقتصادية، وكل ما يهدف إلى حماية وحدة الصف”. كما شدَّدت الخارجية الإماراتية على أهمية حماية سيادة ووحدة السودان، مؤكدةً “حرصها على استقراره بما يحقق مصلحة وطموحات شعبه في التنمية والازدهار”. وأكدت الوزارة الإماراتية في بيانها “ضرورة الحفاظ على ما تحقق من مكتسبات سياسية واقتصادية في السودان”. من جانبها أبدت البحرين إيمانها بـ”قدرة القوى السياسية السودانية على تجاوز هذه الأزمة بالحوار والتفاهم”، مشدِّدة على ضرورة الحفاظ على الأمن والاستقرار والسلم في السودان. أما الكويت فقد قالت: إنها “تتابع بقلق واهتمام بالغين تطورات الأحداث في السودان”، داعية في بيانٍ لخارجيتها كافة الأطراف إلى “تغليب الحكمة وضبط النفس والتهدئة، وتجنب التصعيد بما يصون المصالح العليا للسودان ويحفظ أمنه واستقراره ومكتسباته السياسية والاقتصادية، ويحقق آمال وتطلعات شعبه الشقيق ويصون وحدته”. وعلى عكس الدبلوماسية التي انتهجتها دول الخليج في بياناتها كانت مواقف الكتاب والشخصيات المعروفة في دول الخليج مختلفة عن الموقف الرسمي، فمعظمها تؤكد رفضها للانقلاب وتدعو للدولة المدنية.[7]
كل هذا لا يجب أن يُنسينا حفاظ دول الخليج كالسعودية والإمارات بجانب مصر على علاقاتهم الوثيقة مع زعماء المجلس العسكري السوداني برئيسه عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو، بينما لم تكن علاقاتهم وثيقة مع المدنيين في الحكم. ومن ثمَّ؛ فمن الطبيعي أن تخرج تلك الدول ببيانات كتلك التي صدرت منها، ليس لأن لدى بعضها يملك حكمًا مسبقًا ودعمًا للعسكر فقط، ولكن لأن جميع دول العالم التي خرجت بتصريحات عقب الانقلاب لم تقل شيئًا سوى المطالبة بتهدئة الأوضاع وعدم التصعيد. في الوقت الذي يبرز فيه دعم تلك الدول للانقلاب كما فعلت في دول أخرى مثل مصر وتونس، وهو ما يؤكده الخبر الذي تم تداوله قبل الانقلاب بيوم عن زيارة سرية للبرهان إلى الإمارات.
ردود الأفعال الدولية:
لأنَّ الصفة الانقلابية كانت أوضح في السودان، ولأسبابٍ أخرى محتملة، جاءت الإدانات الدولية، أوضح، بالمقارنة مع ما حدث في مصر، ثم في تونس؛ من الأمم المتحدة، إلى الولايات المتحدة، إلى الاتحاد الأوروبي، والإفريقي، وبريطانيا، حتى روسيا لم يعجبها هذا التغيير. هذه المواقف المعلنة، لفظيًّا، أما المواقف العملية، لكلٍّ من تلك الجهات، والدول، فتحتاج متابعة. وإن كانت الولايات المتحدة شرعت بموقف عملي، وهو تعليق مساعداتها المالية للسودان، المقدَّرة بـ700 مليون دولار، بعد سيطرة الجيش على الحكم، وصاحب ذلك تشديد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية على وجوب “إعادة السلطة، فورًا، إلى الحكومة الانتقالية، التي يقودها مدنيون، والتي تُمثِّل إرادة الشعب”.[8] هذا بينما تبنَّت روسيا منذ البداية موقفًا مغايرًا عن القوى الدولية بشأن الأحداث في السودان، لكن موقفها الأكثر وضوحًا وصراحةً برز على لسان نائب السفير الروسي لدى الأمم المتحدة، ديمتري بوليانسكي، الذي قال في حديث له قبل جلسة مغلقة لمجلس الأمن حول السودان أول من أمس، إنه “من الصعب وصف ما حدث في السودان بالانقلاب العسكري، فهناك تعريف معين للانقلاب العسكري، وهناك أوضاع مشابهة في الكثير من المناطق في العالم ولا تسمى انقلابًا عسكريًا… البعض يسميها تغيير حكم. علينا أن نرى، ولكن يجب أن يقرر الشعب السوداني بنفسه ما إذا كان هذا انقلابًا عسكريًا أم لا”. وتعليقًا على تصريحات للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، حول “وباء الانقلابات”، وصف بوليانسكي ما يجري بأنه عنف من أطراف مختلفة، وأضاف “هذه ليست مهمتنا (كمجلس الأمن) أن نطلق مسميات معينة على تلك الأحداث”، مشيرًا إلى أنه “يجب أن تناشد الأمم المتحدة (جميع الأطراف) بوقف العنف والعودة إلى الحوار”.[9]
وقاد الخلاف الغربي- الروسي حول قراءة تطورات المشهد السوداني إلى فشل جلسة عقدها مجلس الأمن الدولي في 26 أكتوبر، وعجز أعضاء المجلس عن إصدار بيان مشترك في ظل انحياز الجانب الروسي إلى مواقف الجهات العسكرية السودانية، ورفضه توصيف بيان 25 أكتوبر بـ”الانقلاب”، داعيًا إلى إطلاق حوار بين الفرقاء السودانيين لحلحلة الأزمة، في وقت تجنَّبت الصين إصدار أي تصريحات رسمية، بسبب رغبتها في إبعاد مصالحها الاقتصادية عن التجاذبات السياسية بالسودان، إذ عانت بكين من إغلاق ميناء بشائر السوداني المُخصص لتصدير النفط إليها، قبيل أن يقوم محتجو مجلس البجا بإعادة فتح الميناء استجابة لمبادرة من قيادات الجيش السوداني في مطلع أكتوبر الجاري. [10]
وجهات نظر في تحليل الموقف الأمريكي:
في الوقت الذي يرى فيه البعض أن السودان مُقدم على مخاضٍ عسير، ومرحلة غير مسبوقة من الفوضى وعدم الاستقرار، وأن شعبه يواجه مخطط صهيوني أمريكي لتفكيك بلاده إلى دول عديدة على أُسس عرقية، فعدد كبير من محافظاته تشهد حالة من الغليان والغضب، بعد تدهور أحوالها المعيشية، وليس من المُستبعد حدوث انقلاب حقيقي على انقلاب البرهان، وربما بقيادة سوار ذهب آخَر، ينحاز إلى الشعب وهويته العربية والإسلامية، ويُعيد للسودان مكانته كدولة وازنة في القارة الإفريقية والعالمين العربي والإسلامي.[11] ومبرر هؤلاء وقوع الانقلاب بعد ساعات من مغادرة المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي السودان بعد حديثه المطوَّل مع البرهان، والذي اعتبروه مُباركة للانقلاب.
ويرى آخرون أن بايدن قد وضع ثقله الشخصي وراء جهود ردع العسكريين عن الانقلاب على اتفاق نقل السلطة للمدنيين، فكان جاك سوليفان، مستشار الأمن القومي، وليس وزير الخارجية، هو أول من اتصل بأطراف الصراع في السودان، لينذر بعواقب وخيمة لأي انقلاب محتمل، ثم تتابعت اتصالات وزارة الخارجية، وزيارات المبعوثين الأمريكيين رفيعي المستوي للعاصمة السودانية. ومبرر هؤلاء أن الرئيس الأمريكي يدرك أيضًا أن الحالة السودانية تعد نموذجًا مصغرًا للحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي، حين صارت إسبانيا ميدان للصراع بين الفاشية والديمقراطية في عموم أوروبا، فليس سرًا أن كل قوى الفاشية المدنية والعسكرية في الإقليم حول السودان تحرض وتمول، بل وأحيانًا تسلح، الجناح الفاشي في التركيبة السودانية، والذي يقوده حميدتي، نائب رئيس مجلس السيادة وقائد ومؤسس قوات التدخل السريع شبه الميليشاوية، وشبه المستقلة عن القوات المسلحة السودانية، بالتحالف مع قوى مدنية من غرب السودان، وما يسمى بنظارات البجا في شرق السودان، والتي كان حصارها لميناء بورتسودان وقطعها الإمدادات عن الخرطوم هو شرارة انطلاق الأزمة، وذلك جنبًا إلى جنب مع فلول نظام عمر البشير المُطاح به. ولا شك هناك داعمين إقليميين لإفشال التحول الديمقراطي في السودان، وهم جميعًا من الحلفاء الشخصيين والسياسيين للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. ويزيد من تعقيد الموقف الإقليمي أمام بايدن، ومن حرج الاختبار الذي تتعرض له سياسته في السودان، ما حدث من ارتفاع مفاجئ لأسعار النفط في الأسواق الأمريكية وفي أسواق العالم مع دخول الشتاء، حيث تتزايد الحاجة للمحروقات من أجل التدفئة، ومع تعثُّر مشروع الرئيس لدفع النمو الداخلي في الكونجرس حتى بين أنصاره الديمقراطيين، وانخفاض معدلات تأييده في استطلاعات الرأي العام إلى ما متوسطه 37%. وقد ألمح هو نفسه، كما ألمحت المتحدثة باسمه، إلى أن حل أزمة أسعار البترول يوجد في السعودية، كما يعرف الجميع، في حين أن كلًا من ولي العهد السعودي والإماراتي لم يكونا يومًا من المفضلين لبايدن، ولم يكن هو أيضًا من المفضلين لديهما، على عكس سلفه ترامب، المفضل لدى كل فاشيّ العالم.[12]
ماذا بعد؟
الانقلاب حقَّق إلى الآن أهدافه التي تشمل السيطرة على السلطة التي كان يمثلها رئيس الوزراء وحكومته، والاستيلاء على مقرات قنوات التلفزيون والراديو، وقطع شبكة الإنترنت في جميع أنحاء البلاد لمنع توحد جهود المعارضة، والسيطرة على الموانئ والمطارات. وأكد الجنرال عبد الفتاح البرهان، أحد القادة الأكثر نفوذًا في الجيش السوداني، عند اجتماعه بالمبعوث الخاص للبيت الأبيض، أن الجيش يدعم المجلس الانتقالي. وتُظهر الأحداث أن الجيش ليس متورطًا بأكمله في الانقلاب، أو أنه ما زال يكذب على المجتمع الدولي حتى اليوم. وفي حال فشل قادة الانقلاب في تعزيز قوتهم، وإقناع بقية وحدات الجيش بالانضمام إليهم، سوف يبدأ الانقلاب بالتراجع.
مع تركُّز القوة الآن في يد الجنرال البرهان، فإن تهديدًا بالانفجار الداخلي آخذ في الظهور في السودان. حيث هناك مواجهة متوقعة بين طموحات الجنرالات المتحالفين مع عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي، قائد قوات الدعم السريع، على خلفية تباين المُقاربات، لاسيما بشأن مسألة إثيوبيا.[13] كما تبرز مخاوف حقيقية بخصوص إمكانية لجوء أطراف أخرى لخيار العصيان المسلح، خاصة الحركات المسلحة التي ناهضت الانقلاب مثل “الحركة الشعبية لتحرير السودان/ شمال” بقيادة مالك عقار عضو مجلس السيادة المنحل، و”حركة تحرير السودان” بقيادة عضو مجلس السيادة أيضًا الهادي إدريس، و”تجمع قوى التحرير” بقيادة عضو مجلس السيادة أيضًا، الطاهر حجر. وكانت الحركات الثلاث قد أعلنت في وقت مبكر رفضها انقلاب البرهان وحل الحكومة، وتم اعتقال كل من إدريس وحجر، قبل أن يقول البرهان في مؤتمره الصحفي أنهم باقون في مناصبهم كأعضاء في مجلس السيادة المُقرر تشكيله من جديد. ولم يتم اعتقال عقار الذي ذهب قبل الانقلاب إلى منطقة النيل الأزرق حيث تتمركز قواته هناك، وهو ما يزيد من المخاوف، ويُرجِّح البعض تنفيذ عقار عملية عسكرية ولو رمزية لإرسال رسالة لقادة الانقلاب، بأن المواجهة يُمكن أن تأخذ بُعدًا عسكريًا.[14]
ومن أهم التحديات أمام الانقلابيين، أن مكتب رئيس الوزراء حمدوك ما زال يبعث برسائل إلى الشارع. وقال مكتب حمدوك في بيان إنه من الأهون على رئيس الوزراء أن يضحي بحياته على أن يضحي بالثورة، وطالب الجماهير بالنزول إلى الشوارع. كما تواصل الحسابات الحكومية على فيسبوك بنشر المعلومات ومخاطبة الجماهير، وهو ما يُمثِّل مشكلة حقيقية لقادة الانقلاب. وانتصار الانقلاب في السودان سيُوجِّه ضربة قوية لعدد من دول المنطقة التي تتطلع للاستقرار والتحول نحو الديمقراطية، مثل مالي وغينيا وتشاد. وتنظر العديد من الحكومات الإفريقية إلى أن نجاح الانقلاب في الخرطوم قد يشجع مزيدًا من القادة العسكريين على القيام بخطوات مماثلة إذا لم تكون هناك ضغوط دولية كافية لمنعها. كما أن نجاح الانقلاب يعني هزيمة دبلوماسية جديدة لإدارة بايدن، التي اختارت المصالحة مع الخرطوم بعد عقود من قطع الولايات المتحدة علاقاتها مع السودان.[15]
التداعيات المُحتملة لسيطرة الجيش على السياسة في السودان:
هناك تخوفات من مجموعة من التداعيات التي قد تنتج عن سيطرة الجيش على الحياة السياسية في السودان؛ أولها؛ احتمالية فرض عقوبات علي الدولة والعسكريين؛ ويعد ذلك من الأمور أكثر ترجيحًا، خاصةً في ظل الإدانات الدولية لتدخل الجيش، بالإضافة إلى أن علاقة السودان مع واشنطن والمؤسسات المالية أصبحت علي المحك، بعدما أعلنت الخارجية الأميركية، تجميد واشنطن لمساعدات بقيمة 700 مليون المقدمة للدعم الطارئ للاقتصاد السوداني، ولعل ذلك ربما يشجع الدول الغربية وبريطانيا علي اتخاذ إجراءات مماثلة، ولعل هذا الخيار قد يُفجِّر أزمة إنسانية طاحنة في السودان في ظل نقص المواد الأساسية من غذاء ودواء. وثانيها؛ إدخال البلاد في دائرة عدم الاستقرار؛ حيث تواجه البلاد حاليًا عدم الاستقرار في ظل التظاهرات والاحتجاجات، وتنقسم المظاهرات إلي فريق مؤيد للتدخلات العسكرية الأخيرة، وفريق أخر رافض لتلك التظاهرات مُطالبًا بعودة السلطة المدنية ممثلة في حكومة حمدوك، والالتزام بالوثيقة الدستورية، وفي حالة استمرار هذه الاحتجاجات مع فشل السيطرة عليها قد يدخل البلاد في أزمة عدم استقرار تزيد من معاناة الشعب، فضلاً عن ذلك قد يهدد عدم الاستقرار هذا من وحدة الأراضي السودانية في ظل الأزمة المُتصاعدة في شرق السودان، إذ قد يشجع ذلك علي انفصال الإقليم عن السودان علي غرار ما حدث مع جنوب السودان، أو تكون الحرب الأهلية هي الخيار البديل. وثالثها؛ إمكانية استغلال الأوضاع من جانب إثيوبيا وتجدُّد الصراع؛ ففي شهر مايو الماضي توترات أنباء عن وقع اشتباكات بالأسلحة الثقيلة بين قوات الجيش السوداني والإثيوبي في منطقة باسانده الحدودية. ويتنازع البلدان على منطقة الفشقة الزراعية التي تقع بين نهرين، حيث تلتقي منطقتا أمهرة وتيجراي في شمال إثيوبيا بولاية القضارف الواقعة في شرق السودان. وتصاعد التوتر بين الخرطوم وأديس أبابا بشأن هذه المنطقة منذ نوفمبر الماضي، حين أعاد الجيش السوداني نشر قواته في أراضي الفشقة، وضم أراض زراعية. وتطالب أديس أبابا بانسحاب الجيش السوداني من المنطقة، فيما تؤكد الخرطوم أن قواتها ستبقى موجودة لحماية سيادة البلاد. والأحداث التي تمر بها السودان الآن قد تشجع الأثيوبيين علي شن هجوم عسكري لاستعادة سيطرة أديس أبابا على الفشقة، مما قد يؤدي إلى تمدد الصراع في منطقة القرن الإفريقي، فضلاً عن احتمالية تسلل عناصر إرهابية إلى الداخل السوداني واستغلال الأوضاع هناك، مما قد يدفع إلى العنف وجر البلاد إلى مصير مجهول.[16]
سيناريوهات المستقبل:
يُمكن الحديث عن سيناريوهين للمستقبل السوداني القريب؛ أولهما؛ تمكُّن الجيش من تشكيل حكومة مدنية تكنوقراطية جديدة للإشراف على العملية الانتقالية، وفي هذه الحالة نكون أمام تحالف بيروقراطي عسكري. بمعنى أن يعمد الجيش إلى اختيار الحلفاء من المدنيين الذين يقبلون بمفهوم السيطرة العسكرية، حتى بعد إجراء الانتخابات. ولكن بالنظر إلى التاريخ السياسي للسودان، فمن شبه المؤكد أن الائتلافات المؤيدة للديمقراطية ستقاوم بشدة الحكم العسكري من خلال استمرار التظاهرات والاعتصامات والإضرابات. وفي هذه المرحلة، ليس من الواضح ما إذا كان تعيين حكومة مدنية جديدة وجدول زمني سريع كافيين لاسترضاء الجماعات السودانية المؤيدة للديمقراطية. واعتمادًا على مدى استعداد الجيش لفرض قبضته الحديدية، فإن المعارضة المستمرة للاستيلاء العسكري قد تعني فترة من التظاهرات العنيفة، تذكرنا باحتجاجات عامي 2018 و2019 ضد نظام البشير. ويدفع ذلك إلى إمكانية تبنِّي السيناريو الثاني، حيث يضطر الجيش السوداني إلى القبول بتسوية تفاوضية لإنهاء الاضطرابات، كما كان عليه الحال في عام 2019. بيد أنه من المُرجَّح أن يواجه تشكيل تحالف انتقالي مدني- عسكري جديد نفس مشاكل الفصائل المتشاكسة التي ابتُلي بها التحالف القديم. وعليه تصبح وعود انتخابات يوليو 2023 والتحول نحو الحكم المدني غير ذات جدوى. ولعل الملاحظة الجديرة بالاعتبار هنا وتحتاج إلى مزيد من التأمل هي أن كل انتقال سياسي في السودان يؤدي في نهاية المطاف إلى تدخل العسكريين واستيلائهم على السلطة. ومن جهة أخرى، فإن تسارع الأحداث منذ سقوط نظام البشير في عام 2019، وحدوث توافقات أولًا مع قوى الحرية والتغيير ثم مع بعض الفصائل المسلحة من خلال اتفاق جوبا، وأخيرًا إجراءات البرهان التصحيحية –على حد وصفه- جعلتنا أمام مراحل انتقال سياسي متشابكة ومعقدة يمر بها السودان.[17]
الخُلاصة؛ تمثَّل مفتاح نجاح الانقلاب العسكري في غياب رؤية حكومية موحدة تجاه أزمات السودان الاقتصادية والسياسية المختلفة، وآخرها أزمة شرق السودان التي أضعفت الحكومة وفاقمت الأوضاع الاقتصادية المتهالكة، بسبب غياب السيطرة الحكومية على موارد السودان الاستراتيجية لاسيما الذهب. فقد عمل المكون العسكري بشكل منظم ودقيق حتى وصلت الأوضاع إلى مُفترق طرق، وقد أسهمت قوى الحرية والتغيير بوعي أو بدون وعى في تلك الظروف، مما فتح الطريق أمام العسكر للانقلاب على شركائهم في الحكم، وتمزيق واضح للوثيقة الدستورية. ومهما كانت المبررات والظروف والعقبات والتحديات التي تواجه الشارع السوداني، لا ينبغي العودة إلى الوراء وتأييد الانقلاب الجديد وتقديم أي غطاء سياسي مدني له، فالتجارب السودانية تقول بأن من دعموا العسكر في خطواتهم الانقلابية هم أول من دفع الثمن باهظًا. ودلَّت ردود الأفعال الداخلية والخارجية الأولى على بيان 25 أكتوبر على عدم استعداد المؤسسات السودانية للاستجابة السريعة لدعاوي إعادة قوى المجلس المركزي للحرية والتغيير إلى هياكل الحكم الانتقالي، غير أن تحقيق هذا التوجُّه يصطدم بعدد من التحديات المحلية والخارجية، والتي تمثَّل أهمها في عدم تمكُّن القيادات العسكرية من عقد تحالفات داخلية قوية بسبب وجود تناقضات بين أقرب الفاعلين السياسيين إليها (المجلس الأعلى لنظارات البجا، ومجموعة ميثاق التوافُق)، إلى جانب ارتفاع حدة الحراك الاحتجاجي المناوئ لسيطرة المؤسسات العسكرية والأمنية على الحكم، في ظل أزمة اقتصادية مُرشَّحة للتفاقم، بعد اتجاه الإدارة الأمريكية إلى استخدام الورقة الاقتصادية في محاولة الضغط على المكون العسكري ودفعه إلى عدم الاستئثار بالسلطة، وإطلاق عملية توافقية مع المكونات السياسية بالسودان. ويحظى سيناريو التوفيق بين الفرقاء السودانيين بدعم أطراف دولية مختلفة، وتُفضِّله على خيار التصعيد.
[1] محمد تورشين، “الانقلاب العسكري بالسودان: تحليل واستقراء”، فيس بوك، 30/10/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/Sykp1
[2]مصطفى هاشم، “الخلاف بين العسكر والمدنيين ينفجر في السودان.. وتحذير من انقلاب”، الحرة، 16/12/2020. متاح على الرابط: https://cutt.us/a6FCa
[3]آية أمان، “خلافات العسكريين والمدنيين تضعف فرص التحول الديمقراطي في السودان”، مصر 360، 26/9/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/ce3aJ
[4] “ردود الأفعال المحلية والدولية على تطورات أزمة السودان ودلالاتها”، مركز الإمارات للسياسات، 27/10/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/W0iBq
[5] هيثم عمران، “أي مستقبل ينتظر السودان؟”، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، 30/10/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/GuWzE
[6] أسامة عثمان، “في موقف الاحتلال من انقلاب السودان”، مرجع سبق ذكره.
[7] يوسف حمود، “انقلاب السودان وتداعياته.. قراءة في مواقف دول الخليج”، الخليج أون لاين، 26/10/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/pOili
[8] أسامة عثمان، “في موقف الاحتلال من انقلاب السودان”، العربي الجديد، 28/10/2021, متاح على الرابط: https://cutt.us/zzwJr
[9] رامي القليوبي، سامر إلياس، ابتسام عازم، “روسيا وانقلاب السودان: انحياز واضح للعسكر”، العربي الجديد، 28/10/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/UN41b
[10] “ردود الأفعال المحلية والدولية على تطورات أزمة السودان ودلالاتها”، مركز الإمارات للسياسات، 27/10/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/W0iBq
[11] عبد الباري عطوان، “هل تقف أمريكا وإسرائيل خلف انقِلاب البرهان الثاني حتى لو تنصّلتا منه علنًا؟”، رأي اليوم، 26/10/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/Ftpmw
[12] عبد العظيم حماد، “الاختبار السوداني الحاسم لبايدن”، مدى، 25/10/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/rjTYx
[13] آدم جابر، “لوموند: انقلاب السودان يؤكد نفوذ مصر لدى جنرالاته ويمثل تنصلًا من واشنطن”، القدس العربي، 28/10/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/Yha35
[14] “ما خيارات مقاومة الانقلاب في السودان من قبل الأحزاب والشارع؟”، العربي الجديد، 27/10/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/oWIW5
[15] ندى دردور، “هل نجح انقلاب السلطة العسكرية في السودان؟”، عربي 21، 27/10/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/x5sqa
[16] هيثم عمران، “أي مستقبل ينتظر السودان؟”، مرجع سبق ذكره.
[17] د. حمدي عبد الرحمن، “سيطرة أم صفقة؟ مستقبل الانتقال السياسي في السودان بعد إجراءات “البرهان””، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 28/10/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/Pbksn