أفضى الاتفاق المفاجئ الذي جرى الأحد 21 نوفمبر 2021م، بين الفريق أول عبدالفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة، من جهة وعبدالله حمدوك، رئيس الحكومة الذي تم عزله قبل شهر في الانقلاب الذي أعلن عنه البرهان يوم 25 أكتوبر 2021م، إلى انقسام كبير في الشارع السوداني بين مؤيدين للاتفاق باعتباره تصحيحا لمسار الثورة التي اختطفها أربعة أحزاب، ومخرجا ــ ولو بشكل مؤقت ــ للأزمة، وفريق آخر يرى أن ما جرى هو تكريس لحالة الانقلاب، وأن قبول حمدوك بهذه الصيغة للاتفاق هو بحد ذاته خذلان لقوى الثورة من جهة، وإنقاذا للبرهان وقادة المؤسسة العسكرية الذي قادوا الانقلاب وقتلوا عشرات السودانيين من جهة أخرى. أما على المستوى الدولي والإقليمي فقد حظى الاتفاق بترحيب واسع ودعم كبير من الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وقوى إقليمية مؤثرة مثل مصر والسعودية والإمارات، وهي الدول التي تتمتع بنفوذ واسع داخل السودان وتربط بعضها بالجيش السوداني علاقات وثيقة.
ويعيش السودان مرحلة انتقالية منذ 21 أغسطس/آب 2019، وتستمر 53 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024، ويتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وقوى مدنية وحركات مسلحة وقعت مع الحكومة اتفاق السلام في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020.
وبينما تذهب تقديرات المؤيدين للاتفاق إلى وصفه بالخطوة التي صححت مسار الثورة وحررتها من وصاية بعض الأحزاب والقوى السياسية اليسارية على وجه التحديد، وأنها أيضا حررت حمدوك نفسه من وصاية هذه الأحزاب التي أقصت الجميع، فإن الرافضين للاتفاق لهم جملة من التحفظات.
أبرز هذه التحفظات أن الاتفاق يتخذ من قرارات انقلاب 25 أكتوبر قاعدة له؛ بل يمثل تكريسا للانقلاب؛ لأن الاتفاق لم ينص على التراجع عن تلك الإجراءات؛ وبالتالي فإن عودة حمدوك إلى رئاسة مجلس الوزراء هي بمثابة قرار جديد من البرهان قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، وليس امتثالا للوثيقة الدستورية التي جرى التوقيع عليها في أغسطس 2019م بعد الإطاحة بالبشير بعدة شهور، والتي أسست للفترة الانتقالية بالتوافق بين الجيش والقوى المدنية. وبالتالي فمن المبكر القول إن الاتفاق بمثابة تصحيح لمسار الثورة لوجود بند ينص على إشراف مجلس السيادة على أداء الحكومة، وهذا يعني تدخلا مباشرا في العمل التنفيذي، لأن مراقبة أداء الحكومة من مهام المجلس التشريعي فقط. وترتب على ذلك أن قوى الحرية والتغيير التي كان ينتمي إليها حمدوك، وباقي قوى الثورة، تفسر موقف الأخير وقبوله بالاتفاق على أنه خذلان للثورة وخيانة لها إذا كان قد قبل بالاتفاق بمحض إرادته. إما إذا كان قد اتخذ موقفه تحت ضغوط، ففي هذه الحالة لا يجب الاعتداد بالاتفاق؛ لأنه تم بالإكراه. وينظرون إلى الاتفاق بوصفه خطوة نحو تكريس انقلاب البرهان وتصفية للثورة السودانية.[[1]] وترى صحيفة “لاكروا” الفرنسية أن حمدوك جرى تأهيله في الفترة التي قضاها رهن الإقامة الجبرية بعد انقلاب 25 أكتوبر حتى جاء ملبيا لرغبات المجتمع الدولي وقبل باتفاق تقاسم السلطة مع البرهان.[[2]] وقد برهنت تصريحات البرهان على ذلك في أعقاب توقيع الاتفاق؛ حث قال إن حمدوك محل ثقة، و”موقفنا اليوم للدفاع عن ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، وهذا الاتفاق هو التأسيس الحقيقي للمرحلة الانتقالية” في تأكيد على أن اتفاق أغسطس 2019 (الوثيقة الدستورية) قد ولى وانتهى إلى غير رجعة. على الرغم من أن الاتفاق الأخير ينص على أن الوثيقة الدستورية لعام 2019 هي المرجعية الرئيسية خلال المرحلة المقبلة، مع ضرورة تعديلها بالتوافق، بما يضمن ويحقق مشاركة سياسية شاملة لكافة مكونات المجتمع، عدا حزب المؤتمر الوطني (المنحل) الذي أسسه الرئيس السابق عمر البشير.
التحفظ الثاني، أن الاتفاق لم يراع الرأي العام الغاضب لا سيما في أعقاب القمع المفرط من جانب الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية والدعم السريع لمليونية يومي 13 و17 نوفمبر2021م؛ حيث سقط عشرات السودانيين قتلى برصاص الشرطة، فيما أصيب واعتقل المئات، وهو ما عزز حالة فقدان الثقة بين المواطنين في المؤسسة العسكرية الحاكمة. إضافة إلى ذلك فإن الاتفاق نص بشكل هامشي على إجراء تحقيقات في عمليات القتل التي وقعت في صفوف مدنيين وعسكريين، دون تحديد الإجراء الذي سيتم لتفعيل ذلك، وسط حملة إعلامية تتحدث عن “طرف ثالث” وهي مخططات محكمة يستهدف بها الجنرالات الإفلات من المساءلة عن الدماء التي أريقت والجرائم التي ارتكبت خلال الفترة الماضية.
التحفظ الثالث، هو تجاهل حمدوك للقوى السياسية والأحزاب التي دعمته سواء كانت داخل تحالف الحرية والتغيير أو خارجها، فقد أبرم الاتفاق بنفسه دون مشاورة من أحد؛ هذه النزعة الفردية من حمدوك تعكس نزعة استبداد لم يكن المقربون من حمدوك قبل الانقلاب يتوقعونها؛ وهو ما دفع هذه القوى والأحزاب إلى رفض الاتفاق علانية وتنظيم المظاهرات ضده بوصفه تكريسا لحالة الانقلاب وإذعانا للوصاية العسكرية على الأمة السودانية، وليس حلا للأزمة. وقد أعلنت قوى الحرية والتغيير بالفعل في بيان رسمي رفضها للاتفاق، وأصدرت بيانا شددت فيه على أنه «لا تفاوض ولا شراكة ولا شرعية للانقلابيين، وأن جريمة تقويض نظام الحكم الشرعي والانقلاب على الدستور وقتل الثائرات والثوار السلميين والاخفاء القسري والقمع المفرط وغيرها من الجرائم الموثقة، تقتضي تقديم قادة الإنقلاب والانتهازيين وفلول النظام البائد المشكلين لهذه السلطة الانقلابية إلى المحاكمات الفورية». وأعلن حزب الأمة القومي السوداني (هو من أكبر الأحزاب السودانية وكان زعيمه الصادق المهدي رئيس الحكومة المنتخبة التي انقلب عليه البشير سنة 1989م) في بيان له، رفضه «أي اتفاق سياسي لا يخاطب جذور الأزمة التي أنتجها الانقلاب العسكري وتداعياتها من قتل للثوار الذي يستوجب المحاسبة»، مؤكدًا أنه لن يكون طرفًا في أي اتفاق «لا يلبي تطلعات الثوار والشعب السوداني قاطبة». كما أعلن كل من تجمع المهنيين وحزبي المؤتمر والشيوعي وهيئة محامي دارفور وحركة جيش تحرير السودان، رفضها اتفاق البرهان ــ حمدوك، معتبرةً أنه “محاولة لشرعنة الانقلاب الأخير” و”الحيلولة دون قيام الدولة المدنية الديمقراطية”. كما أدى انفراد حمدوك بالقرار مع البرهان وتوقيع الاتفاق بشكل منفرد إلى تقديم 12 وزيرا بحكومة حمدوك استقالتهم مكتوبة قدمتها د. مريم الصادق المهدي وزيرة الخارجية إلى حمدوك يدا بيد، وهؤلاء يمثلون نصف أعضاء الحكومة على الأقل. بخلاف وزيرين لم يحضرا اجتماع تقديم الاستقالة، وهمها حمزة يلول وزير الإعلام، وم. هاشم حسب الرسول، وزير الاتصالات. أما الوزيران م.خالد عمر يوسف، وزير شئون مجلس الوزراء، وأ.إبراهيم الشيخ، وزير الصناعة فكانا لا يزالان رهن الاعتقال. أما وزير التجارة علي جدو، فقط تحفّظ على تقديم استقالته”، وفق البيان.
التحفظ الرابع، أن الاتفاق أهمل لب المشكلة وهي هيمنة المؤسسة العسكرية على صناعة القرار دون اعتبار للرأي العام، ودون مشاركة شعبية حقيقية في صناعة القرار، وفرضها شكلا من أشكال الوصاية على الأمة السودانية، إضافة إلى أن الاتفاق لم يضع ضوابط لتصحيح مسار العلاقات العسكرية المدنية بقدر ما جاء تكريسا لحالة الانقلاب وإذعانا لها وإقرارا بها، كما لم يشمل الاتفاق أي بند يتعلق بإصلاح الأجهزة الأمنية التي ينخر فيها الفساد، والتي تورطت أيضا في قتل مئات السودانيين خلال السنتين الماضيتين، أو التأكيد على حق وزارة المالية في الولاية على المال العام، والحد من هيمنة المؤسسة العسكرية على مفاصل الاقتصاد السوداني، أو الحد من نفوذها السياسي، كما لم يتضمن عودة المجلس السيادي القديم الذي جرى حله بالانقلاب، ولم يشر مطلقا إلى نقل رئاسة المجلس السيادي إلى شخصية مدنية كما نص عليه اتفاق أغسطس 2019م، حيث كان من المقرر أن يتولى حمدوك رئاسة المجلس السيادي في 17 نوفمبر 2021م؛ لأن الاتفاق القديم كان ينص على ذلك. كما لم ينص اتفاق البرهان ــ حمدوك على أي إجراء ضد الجنرالات الذين قادوا الانقلاب. ولكل ذلك يرى قطاع واسع من السودانيين أن الاتفاق كان طوق نجاة وإنقاذ للبرهان الذي كان يتعرض لضغود دولية كبيرة أجبرته على إعادة حمدوك، ولولا هذه الضغوط لكان رئيس الحكومة رهن الاعتقال وليس على مكتب رئيس مجلس الوزراء.
التحفظ الخامس، هو عدم وجود ضمانة بعدم تكرار الجيش انقلابه مرة أخرى، فمن يضمن وفاء الجنرالات للاتفاق الجديد وهو ينقضون عهدهم كل مرة؟ ومن يضمن التزامهم بالاتفاق الجديد عند حدوث أي خلاف في وجهات النظر بين البرهان وحمدوك؟ وهل هناك من يضمن عدم تكرار ما جرى في 25 أكتوبر 2021م؟ وإذا كان البرهان لم يحترم وثيقة تسليم السلطة في البداية، فكيف يفترض أن يحترم الاتفاق الجديد الذي يفتقد الزخم الشعبي للاتفاق الأول، والأهم أن اتفاق البرهان حمدوك الأخير يبدو مطاطًا يقوم على حسن نوايا لا يمكن ضمانه بأي حال من الأحوال بعد تجربة الانقلاب الأخير. علاوة على ذلك فإن الاتفاق الأخير يمثل انتحارا سياسيا لحمدوك لأنه بات متجردا من أي حاضنة سياسية وشعبية كما كان في السابق وفي ذلك خسارة كبيرة للمكون المدني لأن حمدوك بات واجهة دولية للمدنيين تحظى بتقدير واحترام دولي.
التحفظ السادس، هو التبرير الذي قدمه حمدوك لقبوله بالاتفاق، فقد صرَّح أن الاتفاق يحصن عملية التحول الديمقراطي ويحقن دماء السودانيين، ويسمح بالإفراج عن المعتقلين السياسيين ويوسع دائرة الانتقال السياسي ويوجه الطاقات نحو البناء والتعمير، ويمنحه الحرية الكاملة في تشكيل حكومته وإجراء انتخابات قبل يوليو 2013م. وفي الشق الاقتصادي قال إن الاتفاق يستهدف الحفاظ على المكاسب الاقتصادية التي تحققت خلال العامين الماضيين، متوقعا أن يكون أداء حكومة التكنوقراط (كفاءات بلا انتماءات حزبية) له أثر إيجابي على الأداء الاقتصادي ومعيشة المواطنين”.[[3]] لكن الرافضين للاتفاق يرون أنه عقبة في طريق التحول الديمقراطي؛ ذلك أنه جعل من المؤسسة العسكرية مشرفا ووصيا على عملية التحول الديمقراطي المزعومة؛ وأن الجنرالات لن يسمحوا مطلقا بأي تحول ديمقراطي حقيقي وجاد يمكن أن يهدد نفوذهم السياسي وإمبراطوريتهم الاقتصادية التي تهميمن على مفاصل الاقتصاد السوداني، وأن ما جرى ما هو إلا خطوة تكتيكية من المؤسسة العسكرية لامتصاص الضغوط الدولية التي واجهتهم بشدة.
أما في الشق الاقتصادي، فقد نجح حمدوك في إقناع العديد من دول العالم بإسقاط جزء من ديونها المستحقة على السودان، كما أقنع دولاً أخرى بتقديم مساعدات نقدية وعينية للبلاد ورفع العقوبات عنها وإزالة اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب. لكن في المقابل ارتفع منسوب الفقر والبطالة والغلاء خلال فترة حكمه بمعدلات قياسية لم تصل إليها حتى في أسوأ فترات عمر البشير. علاوة على أن سياسات حمدوك تسببت في تجويع ملايين السودانيين، وكان قاسيا على الفقرء والعاطلين والأسواق، وأطاحت قراراته الطبقة الوسطى، للأسباب الآتية[[4]]:
- قفزت معدلات التضخم لتكون الأعلى في العالم وتتجاوز 400% شهرياً، وتختفي معها وعود بتحسين الدخول وخلق فرص عمل وتحسين مناخ الاستثمار.
- عوّم الجنيه السوداني مقابل الدولار من دون توفير أي نوع من الحماية للعملة المحلية، وهو ما ضيّع مدخرات المواطنين، وأحدث دوياً في الأسواق لم يستطع المواطن العادي تحمّل تبعاته حتى اللحظة.
- ألغى الدعم الحكومي عن سلع رئيسية منها الوقود، ورفع أسعار غاز الطهي والبنزين والسولار، وقود الفقراء والمزارعين، إلى معدلات قياسية.
- فشل في توفير الخبز والدقيق والقمح والدواء والمياه النظيفة للمواطن، واستمرت الطوابير أمام المخابز ومحطات الوقود وصرافات البنوك بعدما أخفق في احتواء أزمة السيولة النقدية.
- حمدوك نفذ كلّ مطالب وشروط وإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، وغيرهما من الدائنين. كان يخطط لخفض الرواتب والاستغناء عن جزء من موظفي الدولة تنفيذا لتعليمات الصندوق.
- فشل في إخضاع الشركات التابعة للجيش لرقابة الدولة وإضافة إيراداتها للخزانة العامة، فشل أيضا في مواجهة الفساد المالي وتهريب ثروات البلاد، ومنها الذهب والمعادن إلى الخارج.
- كما فشل في تحسين مستوى الخدمات الرئيسية المقدمة للمواطن وفي مقدمتها الصحة والتعليم ومياه الشرب والكهرباء والصرف الصحي والطرق والجسور وغيرها من مشروعات البنى التحتية.
- فشل في تحقيق مطالب ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 التي أطاحت عمر البشير في إبريل/نيسان 2019، وفي مقدمتها العدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثورة، وتحسين الوضع المعيشي للمواطن، وتنشيط الاقتصاد وإصلاح الوضع الاقتصادي وجذب الاستثمارات الخارجية.
- راهن على رضا إسرائيل بالتوقيع على اتفق التطبيع، وصندوق النقد الدولي وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية والدائنين أكثر من رهانه على المواطن، وكسب ثقته عبر تحسين مستوى معيشته ودخله والخدمات الأساسية المقدمة له.
- كما فتحت حكومته الباب على مصراعيه للتطبيع مع دولة الاحتلال، وخلال فترة حكمه تدفق القمح الإسرائيلي، ومعه ضباط رفيعو المستوى من الموساد، إلى الخرطوم ليعقدوا لقاءات وصفقات مع العسكر.
أهداف الاتقاق
لاتفاق البرهان ـ حمدوك 4 أهداف رئيسة، ترتبط بشكل وثيق بالمصالح الإقليمية والدولية، بعد الضغوط الدولية المكثفة والمظاهرات الداخلية التي لم تتوقف عن المطالبة بعودة الحكم المدني: [[5]]
- استكمال التطبيع مع إسرائيل: ففي نوفمبر/شباط 2020، اجتمع البرهان، برئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، في مدينة عنتبي الأوغندية، لتدشين التطبيع بين البلدين، حيث أظهر البرهان حماساً منقطع النظير، ومازال، للخطوة التي أقدم عليها بعيداً عن حكومة حمدوك، وبعيداً عن تحالف “الحرية والتغيير”. وقد تسببت المعارضة للتطبيع في إبطائه، دون أن يمنع ذلك المكون العسكري من مواصلة الانفراد بالتواصل مع الجانب الإسرائيلي والسماح بزيارات سرية وعلنية لمسؤولين إسرائيليين.
- إقصاء “الحرية والتغيير”: يرتبط إقصاء تحالف “قوى الحرية والتغيير” بالتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي إلى حد كبير وواضح، فالتحالف المشكّل من أكثر من 40 حزباً وتياراً سياسياً يعتقد العسكر أنه جسم مترهل ومتباين في البرامج والأيدولوجيات والمواقف، وليس بإمكانه اتخاذ قرارات مفصلية وسريعة كقرار التطبيع الكامل. وبالتالي، فإن إبعاده من المشهد كلياً واستبداله بتحالف بديل يسهل تطويعه والسيطرة عليه، مع الإشارة إلى أن أحزابا كبرى مشاركة في تحالف “الحرية والتغيير” لديها مواقف مبدئية رافضة للتطبيع مثل حزب “الأمة القومي” و”البعث” بفصائله المختلفة و”الحزب الشيوعي” قبل انسحابه من التحالف.وبخلاف التطبيع، فإن إقصاء “الحرية والتغيير” سيحقق مكاسب أخرى لمعسكر الانقلاب، بما في ذلك فرملة المسار الديمقراطي، أو إنتاج وضع يُمكّن البرهان من الترشح في أقرب انتخابات.
- فرض هيمنة العسكر: بعد الوثيقة الدستورية الموقعة في عام 2019 وجد العسكر أنفسهم بمواقع تشريفية في مجلس السيادة، بلا أي صلاحيات حقيقية، وهذا ما دفعهم في أكثر من مرة للتغول على صلاحيات الحكومة التنفيذية.وحرصوا عبر الاتفاق مع حمدوك على إدخال نص يتحدث عن إشراف مجلس السيادة على الفترة الانتقالية، دون أن يتم تحديد طبيعة ذلك “الإشراف”، وما إذا كان استعمال عبارة فضفاضة سيتيح لهم التدخل في كل شيء. كذلك نص الاتفاق السياسي بين البرهان وحمدوك على تعديل الوثيقة الدستورية في بندها المتعلق بصلاحية مجلس السيادة، والهدف على ما يبدو هو إدخال نصوص جديدة تعطي المجلس صلاحيات تتعلق بعملية السلام والاقتصاد والعلاقات الخارجية، مع منحهم الصلاحيات المطلقة فيما يتعلق بالسيطرة على الشرطة وجهاز المخابرات التي توضح الوثيقة الحالية تبعيتها للحكومة المدنية.
- تنفيذ سياسة البنك الدولي بدون تحفظ: رابع الأهداف من تحالف البرهان حمدوك هو ضمان التنفيذ الكلي لوصفة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فتلك السياسة التي يتحمس لها حمدوك بخلفيته كموظف سابق في الأمم المتحدة وقريب من دوائر القرار الدولي، وجدت مناهضة من أحزاب سياسية شريكة في الحكم أبطأتها كثيراً لآثارها العميقة على حياة المواطنين. والاتفاق يعبد الطريق لتنفيذ وصفة البنك الدولي وصندوق النقد بحذافيرها.
أسباب الدعم الأمريكي لحمدوك
يتعين التنوبه بأن تراجع قائد الجيش عن الإطاحة بحمدوك واستدعاؤه من جديد لتشكيل حكومة تكنوقراط لم يكن ليتم لولا الضغوط الأمريكية والغربية التي أجبرته على ذلك، فجيوش العرب لا تضع اعتبارا للرأي العام، وكان يمكن للبرهان أن ينفذ عشرات المذابح كما حدث في مصر من أجل إخضاع الشعب، لكن الموقف الأمريكي مغاير هنا في السودان عما حدث قبل 8 سنوات مع انقلاب السيسي في مصر.
ويمكن عزو السبب في هذا الموقف الأمريكي إلى عدة جوانب، أبرزها أن حكومة السودان علمانية بينما كانت حكومة مرسي في مصر إسلامية، ثانيها أن حكومة حمدوك أثبتت أنها ليست فقط علمانية بل تملك رصيدا من التطرف العلماني ضد التوجهات الإسلامية ذاتها. وثالثها والأهم أن حمدوك لم يبد اعتراضا ملموسا ضد تطبيع العلاقات مع إسرائيل؛ فقد تحفظ على الخطوة من حيث عامل التوقيت؛ حيث كان يرى ضرورة تأجيلها حتى تشكيل حكومة منتخبة. ورابع الأسباب أن حمدوك أبدى تجاوبا واسعا مع الشروط والإملاءات التي تضعها مؤسسات التمويل الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد وغيرها، كما يتبنى ذات التوجهات النيوليبرالية المتوحشة والتي تفضي في النهاية إلى مزيد من الفقر والفوضى وهيمنة الأجانب على اقتصاد البلاد.
سيناريوهات محتملة
السيناريو الأول، هو نجاح الشركة بين البرهان وحمدوك؛ فالاتفاق السياسي بينهما رغم الإقرار بأنه يمضي بالأمور نحو مزيد من التأزيم، لأن القوى السياسية في معظمها لا تريد غير الحكم المدني المتكامل، وهو ما لن يتم في ظل وجود المكون العسكري الذي سيمارس ذات السياسيات الحالية في قمع وكبت الحريات حتى في وجود حمدوك الذي سيجد نفسه في مأزق مع العسكر في السلطة”.[[6]] وبالتالي فإن حمدوك سيصبح رئيسا لحكومة بلا حاضنة شعبية أو سياسية؛ وبالتالي سيفقد الكثير من قوته ومكانته حتى أمام الجنرالات، ومع أقرب أزمة يمكن للبرهان الإطاحة بحمدوك ولن يجد في هذه الحالة معارضة تذكر في الداخل السوداني، لكنه على الأرجح لن يلجأ لذلك خوفا من ردود الفعل من القوى الأجنبية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنه قد يستخدم حمدوك كواجهة مقبولة دوليا من أجل الحصول على مزيد من الدعم الدولي خلال المرحلة المقبلة وحتى إجراء الانتخابات المرتقبة قبل يوليو 2013م. معنى ذلك أن حمدوك بات جزءا من نظام الحكم الذي تقوده وتهيمن عليه فعليا المؤسسة العسكرية وتفرض وصايتها ليس على الحكومة فقط بل على السودان كله.
السيناريو الثاني، هو سيناريو الفوضى، في هذا السيناريو سوف تتزايد معدلات القمع والبطش الأمني بصورة مخيفة ردا على الاحتجاجات التي قد تتواصل. فقد تنجح القوى الثورية والسياسية في عرقلة المشهد السوداني عبر المظاهرات والاحتجاجات بما يهدد المجتمع بالمزيد من الفوضى والفلتان الأمني، ومع تمسك كل طرف برؤاه قد يؤدي ذلك إلى انفلات الأوضاع نحو مواجهات مسلحة تخرج عن السيطرة ولا يمكن احتواؤها. وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب أهلية على غرار ما يحدث في الجارة إثيوبيا.
السيناريو الثالث، هو نجاح القوى الثورية بدعم قوى أخرى في إسقاط النظام وتشكيل نظام حكم آخر، لكن ذلك لن يحدث إلا إذا تلقى المدنيون دعما عسكريا من داخل المؤسسة العسكرية نفسها؛ كأن يقوم أجنحة داخل المؤسسة العسكرية بعمل انقلاب مفاجئ لإعادة رسم الخريطة من جديد وفق معادلة غير مأمونة العواقب والمآلات؛ قد تنتج شكلا من أشكال الديمقراطية، وقد تنتح نظاما أكثر عنفا ودموية.
المشهد في السودان مفتوح على كل الاحتمالات، لكن على المدنيين أن يدركوا أن اتفاق حمدوك قد يندرج تحت لافتة “رب ضارة نافعة”، ذلك أنه على الأقل حافظ على الوعود بالديمقراطية ودفعها في المسار المرسوم وإن كانت المخاوف بشأن الوصاية العسكرية مشروعة؛ والمطالب بمحاكمة الجنرالات على جرائمهم عادلة، لكن الميزان مختل، وأصحاب الحق لا يملكون الأدوات التي تمكنهم من إقرار العدل وإقامة الميزان بالحق. فالصدام مع الجيش ليس في صالح الثورة ولا الديمقراطية ولا حتى الدولة نفسها.
الهدف الرئيس هو إقامة نظام ديمقراطي تعددي حقيقي تكون فيه الإرادة الشعبية الحرة هي الأساس في تشكيل النظام الجديد وتحديد توجهاتها وسياساته. والعداء مع حمدوك وتخوينه ليس في مصلحة الديمقراطية السودانية، بل على المدنيين أن يدركوا أن حمدوك قد يمثل ضمانة ضد العسكريين لما يحظى به من دعم دولي كبير. وبالتالي عليهم ألا يبالغوا في العداء لحمدوك واتهامه بالخيانة؛ لأن البديل لحمدوك هو صدام مع الجيش وذلك لن يكون في مصلحة السودان ولا الديمقراطية مطلقا.
على المدنيين الضغط بكل الوسائل السلمية نحو الالتزام بالموعيد المقررة للانتخابات ونقل السلطة لحكومة مدنية منتخبة مع فتح الباب أمام المزيد من القوى السياسية للمشاركة في العملية السياسية وعدم إقصاء أحد باستثناء قيادات النظام السابق ومن أدين منهم في قضايا بحكم قضائي بات، وما سوى ذلك فهم مواطنون سودانيون لهم كامل الحرية والأهلية في المشاركة السياسية دون تمييز إو إقصاء. وعليهم ألا ينجروا إلى فخ العداء الأيدولوجي مع الإسلاميين؛ لأن الهدف هو نظام ديمقراطي تعددي، وتحرير الإرادة الشعبية من الأوصياء، وتحرير صناعة القرار السوداني من غاصبيه المحليين والأجانب.
[1] انظر تصريحات الأكاديمي السوداني، وأستاذ القانون العام معتصم عبد اللطيف ـــ الاتفاق السياسي في السودان.. حرر حمدوك أم عزز نفوذ البرهان؟/ الجزيرة نت ــ الثلاثاء 23 نوفمبر 2021م
[2] لاكروا: في السودان.. حمدوك يعود باتفاق جديد لكن ضمن معسكر الانقلابيين/ الجزيرة نت ــ الإثنين 22 نوفمبر 2021م
[3] رؤية حمدوك ورفض الشارع.. هل يؤدي ما وافق عليه رئيس الوزراء إلى العبور بالسودان إلى الحكم المدني؟/ عربي بوست ــ الثلاثاء 23 نوفمبر 2021مـ
[4] مصطفى عبد السلام/ عن أي مكاسب اقتصادية يتحدث حمدوك؟/ العربي الجديد ــ الثلاثاء 23 نوفمبر 2021
[5] عبد الحميد عوض/ ما بعد انقلاب السودان.. 4 أهداف رئيسية لتحالف البرهان وحمدوك/ العربي الجديد ــ الإثنين 22 نوفمبر 2021
[6] اتفاق السودان.. عودة للمسار الديمقراطي أم مزيد من التأزيم؟ (تحليل)/ الأناضول ــ الإثنين 22 نوفمبر 2021م