مقدمة
تواجه مصر أزمة حادة في قطاع الغاز الطبيعي، برغم من كونها أحد منتجي الغاز في المنطقة. هذه الأزمة المتفاقمة تتجاوز التحديات التقنية والاقتصادية، وتكشف عن أبعاد سياسية وإدارية مرتبطة بسياسات النظام الحالي. يعاني المواطن المصري من تبعات هذه الأزمة التي تتزايد حدتها يوماً بعد يوم، في وقت تستمر فيه الحكومة في تقديم تبريرات غير مقنعة حول أسباب التراجع في الإنتاج والاضطرار لاستيراد الغاز.
من خلال هذا التقرير، نستعرض الحقائق والأرقام المتعلقة بإنتاج الغاز واستهلاكه، ونناقش الأسباب الحقيقية وراء هذه الأزمة، بما في ذلك السياسات الحكومية الفاشلة، والفساد، والتعاون المشبوه مع إسرائيل.
تراجع الإنتاج والاستهلاك:
عام 2022 بلغ متوسط إنتاج الغاز الطبيعي في مصر نحو 64.10 مليار م³، في حين بلغ متوسط الاستهلاك المحلي 60.95 مليار م³، بتراجع عن العام السابق، 2021 الذي بلغ نحو 70.31 مليار م³، كما تراجع الاستهلاك المحلي البالغ 63.03 مليار م³.
أظهرت بيانات الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية “إيجاس”، أن متوسط إنتاج مصر من الغاز الطبيعي خلال العام المالي الماضي (2022-2023)، بلغ نحو 6.2 مليار قدم مكعب يوميا، في حين بلغ متوسط الاستهلاك المحلي 5.9 مليار قدم مكعب يوميا.
تشير هذه البيانات، التي جاءت في بيان لوزارة البترول المصرية، إلى تراجع إنتاج مصر من الغاز الطبيعي، حيث بلغ خلال العام المالي السابق (2021-2022) نحو 6.7 مليار قدم مكعب يوميا، كما أن الاستهلاك تراجع أيضا حيث بلغ في العام السابق 6.1 مليار قدم مكعب يوميا.
ويعتمد الإنتاج المصري على أربعة مناطق رئيسية لاستخراج الغاز حسب إحصائيات الحكومة 2019:
- 62% من البحر المتوسط
- 19% من دلتا النيل
- 18% من الصحراء الغربية
- 1% من خليج السويس
أسباب التراجع وتصريحات الحكومة المضللة:
أرجعت حكومة عبدالفتاح السيسي، انخفاض إنتاج الغاز إلى عوامل مثل ارتفاع درجات الحرارة وزيادة الاستهلاك المحلي. ومن خلال التحقق حول الأسباب الحقيقية فقد وجدنا أن النظام يسعى من خلال هذه تصريحاته، للتضليل والتكتم على الأسباب الحقيقية، المتمثلة في التالي:
أولا، أزمة حقل ظهر:
تكشف أزمة حقل ظهر عن أوجه القصور في إدارة النظام المصري لقطاع الطاقة، وفشله في تحقيق الاستفادة المستدامة من موارد البلاد الطبيعية، يعد حقل ظهر المصري أكبر حقل للغاز الطبيعي في البحر المتوسط، حيث تم اكتشافه في عام 2018 وبدأ إنتاجه في 2019. والجدير بالذكر أن هذا الحقل أكبر من حقلي ليفياثان وتمار الإسرائيليين، التي تستورد مصر منهما الغاز من دولة الإحتلال.
بحسب التصريحات والبيانات، يملك حقل “ظهر” احتياطيًا مؤكدًا يبلغ 30 تريليون قدم مكعب، وكان من المفترض أن يحل مشكلة مصر مع الغاز لعقود قادمة.
وقد ساهم “ظهر” في وصل إنتاج مصر من الغاز الطبيعي ذروته عند 7.2 مليار قدم مكعب يوميًا في سبتمبر 2021، ولكنه تراجع منذ ذلك الحين. حيث ذكر بعض خبراء الطاقة أن هذا التراجع يرجع إلى جشع النظام المصري ورغبته في زيادة الإنتاج من حقل ظهر بشكل سريع في فترة قصيرة لمحاولة السيطرة على الأزمة الاقتصادية.
هذا أدى إلى أخطاء تقنية، مثل تسرب المياه إلى آبار الغاز، مما تسبب في خروجها عن الخدمة وتراجع الإنتاج إلى 5.8 مليار قدم مكعب يوميًا في مايو 2023، حسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
ثانيا، تصدير الغاز من حصة الاستهلاك المحلي:
كانت لتلك الأزمة التي لحقت بحقل “ظهر” آثار أخرى كشفت نفسها على المواطن المصري، حيث كان النظام العسكري، قد أبرم عقودًا لتصدير الغاز إلى أوروبا نظرًا لوفرة إنتاج الحقل، إلا أن تراجع الإنتاج أجبر النظام على تصدير جزء من الإنتاج المحلي لتجنب العقوبات، مما أدى إلى نقص في إمداد الغاز المحلي واضطرار الحكومة إلى استيراد الغاز المسال لسد العجز ووقف الأزمة.
تداعيات والنتائج:
أولا، زيادة الطلب من دولة الاحتلال الإسرائيلي:
في ظل الأزمة التي تسبب فيها النظام المصري وأدت إلى نقص الإنتاج، بدأت إسرائيل تخطط لبناء خط أنابيب غاز طبيعي جديد إلى مصر، باستثمارات تقدر بحوالي 200 مليون دولار. يُتوقع أن يعزز هذا المشروع صادرات الغاز الإسرائيلية إلى مصر بما يتراوح بين ثلاثة وخمسة مليارات متر مكعب سنويًا، وفقًا لتقارير رويترز نقلاً عن وزارة الطاقة الإسرائيلية. وأعلنت وزارة الطاقة الإسرائيلية في بيان: “إسرائيل ومصر تجريان محادثات بشأن التعاون المحتمل في إمدادات الغاز الطبيعي، وأحد الخيارات قيد الدراسة، بناءً على طلب مصر لمزيد من إمدادات الغاز الطبيعي، هو خط أنابيب الغاز البري.”
حيث في 21 أكتوبر 2021، أعلنت وزارة الطاقة الإسرائيلية عن بحث إنشاء خط أنابيب بري جديد لتعزيز إمدادات الغاز الطبيعي لمصر. هذا الخط الجديد، الذي تقدر تكلفته بحوالي 200 مليون دولار ويحتاج عامين ليكون جاهزاً للعمل، يهدف إلى رفع صادرات إسرائيل من الغاز لمصر إلى ما بين 3 و5 مليارات متر مكعب. في يناير 2020، أعلن وزيرا الطاقة والبترول في البلدين بدء تدفق الغاز الإسرائيلي إلى مصر عبر خط أنابيب يمتد تحت البحر يربط بين إسرائيل وشبه جزيرة سيناء المصرية.
الاتفاقيات السابقة
في 18 فبراير 2018، أعلنت نوبل إنرجي الأمريكية ودلك الإسرائيلية عن توقيع اتفاقيتين مع شركة دولفين القابضة للطاقة بقيمة 15 مليار دولار، لتزويد مصر بسبعة ملايين متر مكعب من الغاز سنويًا، مقسمة بين حقل تمار وحقل لفياثان. في 27 يوليو 2019، سعت شركة دلك الإسرائيلية لتعديل عقدها مع دولفينوس المصرية بتخفيض الحد الأدنى للإنتاج الذي تلتزم به إسرائيل، ورفع الحد الأقصى للإنتاج الذي تلتزم مصر بشرائه في حال توفره، من 4.5 إلى 7 مليارات متر مكعب.
وفي يناير 2021، اتفقت شيفرون وشركاؤها في حقلي ليفياثان وتمار، مع شركة نقل الغاز الإسرائيلية الحكومية INGL على بناء خط أنابيب جانبي لتمكين كميات الغاز الإسرائيلية-المصرية من الوصول إلى 650 مليون قدم مكعب بحلول نهاية 2022. يمتد طول خط الأنابيب البحري إلى 46 كيلومترًا من إسدود إلى عسقلان بجنوب إسرائيل.
ثانيا، أزمة طاحنة وإغلاق لبعض المصانع في 2024:
أعلنت شركة سيدي كرير للبتروكيماويات (سيدبك) في مصر عن نيتها استيراد غاز الإيثان السائل (الغاز الصخري الأميركي) ضمن تحالف يضم عدة أطراف، وذلك لسد النقص في إمدادات الغاز الطبيعي الذي أجبر عدة مصانع للكيماويات على وقف الإنتاج مؤقتًا مرتين خلال الشهر الماضي.
وفي إفصاح للبورصة، أوضحت الشركة أنها ستمتلك حصة 25% في شركة جديدة بقيمة 663 مليون دولار، سيتم إنشاؤها هذا العام عبر تحالف لاستيراد الغاز الصخري الأميركي. سيدبك هي واحدة من عدة شركات كبرى في قطاع الأسمدة والكيماويات التي اضطرت إلى وقف الإنتاج بسبب نقص إمدادات الغاز، مما زاد من حدة أزمة انقطاع الكهرباء التي يعاني منها المصريون منذ العام الماضي بسبب زيادة استهلاك الطاقة في الصيف ونقص الغاز.
يضم التحالف أيضًا الشركة المصرية لإنتاج الإيثيلين ومشتقاته (إيثيدكو) وشركة جاما للإنشاءات، حيث يمتلك كل منهما حصة 25%، بالإضافة إلى الشركة المصرية القابضة للبتروكيماويات (إيكم) بحصة 15%، والشركة المصرية للغازات الطبيعية (جاسكو) بحصة 10% المتبقية.
من جهة أخرى، أعلنت شركة أبو قير المصرية للأسمدة بدء تشغيل مصانعها تدريجياً مع عودة إمدادات الغاز الطبيعي، بعد أن كانت قد أوقفت الإنتاج بسبب النقص في إمدادات الغاز. وأشارت الشركة في وقت سابق إلى أنها ستتحول جزئيًا إلى استخدام إمدادات الهيدروجين.
ثالثا، زيادة الاستيراد والضغط على الميزانية
أكد المتحدث باسم وزارة البترول المصرية أن إنتاج مصر من الغاز يبلغ حالياً 5.7 مليار قدم مكعب يوميًا. ونقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط الحكومية عنه تأكيده على أنه تم الاتفاق على شحن 21 شحنة من الغاز المسال التي ستصل مصر خلال فصل صيف 2024، بالإضافة إلى كميات أخرى من المازوت. أوضح المتحدث أن الشحنة الأولى من الغاز وصلت الاثنين الماضي وتم تفريغها لتوزيعها في الشبكة القومية للغازات.
وفي خطوة لتلبية الطلب المتزايد خلال فصل الصيف، أعلنت حكومة النظام عن استحداث مناقصات لشراء 20 شحنة إضافية من الغاز الطبيعي المسال، في أكبر عملية شراء لهذا الوقود المنقول بحراً، لتغطية الاحتياجات من يوليو الحالي حتى سبتمبر المقبل.
رابعا، زيادة تخفيف الأحمال وقطع الكهرباء على المواطن
وكنتيجة حتمية لسوء الإدارة، بدأ النظام العسكري في قطع الكهرباء لمدة ساعة يوميا الصيف الماضي، وزادت المدة إلى ساعتين وثلاث ساعات مع بداية هذا الصيف 2024، الذي شهد ارتفعت درجات الحرارة إلى ما يقرب من 40 درجة مئوية في القاهرة.
وأعلنت وزارتا البترول والكهرباء في مصر زيادة فترة انقطاع الكهرباء في أنحاء البلاد ساعة إضافية هذا الصيف، بزعم “إجراءات الصيانة الوقائية في جزء من شبكات تداول الغاز الإقليمية مع زيادة معدلات الاستهلاك المحلي من الكهرباء، نتيجة ارتفاع درجات الحرارة” وفق ما نقلت رويترز.
الخاتمة
تعتبر أزمة الغاز في مصر نتيجة لسياسات فاشلة وإدارة متهورة لموارد البلاد، بدلاً من توجيه الاستثمارات نحو تطوير البنية التحتية وزيادة الإنتاج الداخلي، يبدو أن النظام الحالي يفضل التعاقدات الخارجية والتصرفات القصيرة الأجل، مما أدى إلى تفاقم الأزمة.
أولاً، حقل ظهر كان يُنظر إليه على أنه الحل لمشاكل الغاز في مصر لعقود قادمة، ولكن سرعان ما تبين أن الإدارة السيئة والرغبة في الاستفادة السريعة ساهما في تدهور الإنتاج، مما تسبب في خسائر كبيرة للاقتصاد والمواطنين.
ثانياً، تصدير الغاز للخارج بينما يعاني المواطنون من نقص الإمدادات المحلية يظهر الاهتمام الأقل بحاجات السوق المحلية مقارنة بالمكاسب الخارجية، مما يفتح الباب أمام الاتهامات بالتفريط في مصالح البلاد لصالح مصالح دول أخرى.
ثالثاً، تزايد حدة أزمة انقطاع الكهرباء والتي تفاقمت بسبب نقص الغاز يعكس الفشل في التخطيط الطاقوي والاعتماد على حلول مؤقتة بدلاً من استراتيجيات طويلة الأمد لضمان استقرار الإمدادات.
بشكل عام، يمكن اعتبار أزمة الغاز في مصر نموذجاً لفشل السياسات الحكومية في إدارة الموارد الطبيعية وتحقيق التنمية المستدامة