أطلقت إسرائيل فجر الجمعة، 13 يونيو 2025، عملية عسكرية كبيرة ضد إيران تحت اسم “الأسد الناهض” شاركت فيها أكثر من 200 طائرة حربية، بما في ذلك مقاتلات “إف-35”. وقد أسفر الهجوم الذي برز فيه التفوق الاستخباري والتكنولوجي الإسرائيلي (والأميركي بطبيعة الحال) خلال اليوم الأول عن اغتيال نحو عشرين من كبار ضباط الحرس الثوري والقوات المسلحة الإيرانية، بمن فيهم قائد الحرس الثوري حسين سلامي، ورئيس هيئة أركان الجيش محمد باقري، وتسعة علماء نوويين. كما استهدف الهجوم مواقع البرنامج النووي الإيراني في نطنز (أصفهان) وفوردو (قم) وبارشين (شرق طهران) وآراك (غرب وسط البلاد)، فضلًا عن مراكز تصنيع الصواريخ البالستية وقواعد إطلاقها، ومنشآت إنتاج الطائرات المسيرة. وفي المقابل، ردت إيران بإطلاق عملية “الوعد الصادق 3″، حيث أطلقت أكثر من 150 صاروخًا بالستيًا وأكثر من 100 طائرة مسيرة في اتجاه إسرائيل تمكن العديد منها من تجاوز المنظومات الدفاعية الإسرائيلية والأميركية، التي شاركت في محاولات صد الهجوم الإيراني، وأصابت مناطق مختلفة من إسرائيل، بما فيها حيفا وتل أبيب. ورغم التعتيم والرقابة الأمنية المشددة من الجانب الإسرائيلي حول المواقع المستهدفة، تفيد بيانات الحرس الثوري ووسائل إعلام دولية، ومقاطع فيديو وشهادات نشطاء، بأن الضربات الإيرانية طالت مواقع حساسة وعميقة داخل إسرائيل مثل وزارة الدفاع الإسرائيلية، ومصافي النفط في حيفا، ومعهد وايزمان للعلوم. كما استهدف الهجوم الإيراني مدن وأحياء عدة مثل قيسارية ورمات غان وبيتاح تكفا وريشون لتسيون وبني براك وبيت يام، خلف أضرارًا جسيمة في المباني والمركبات.
أولًا: سياقات الحرب بين إسرائيل وإيران:
جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، منذ عودته إلى الحكم عام 2009، تدمير البرنامج النووي الإيراني هدفًا رئيسًا لكل الحكومات التي شكلها، سواء من خلال عمليات أمنية تخريبية، أو عبر استهداف العلماء النوويين الإيرانيين بالاغتيال. وفي هذا السياق، عارض أي تسوية سلمية لملف إيران النووي، ووقف بقوة ضد اتفاق عام 2015 الذي أبرمته إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، والذي عُرف رسميًا باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وسعى لإجهاضه، وهو ما حصل عندما قرر الرئيس ترمب الانسحاب منه في مايو 2018 وأعاد فرض العقوبات الاقتصادية على إيران في إطار سياسة عُرفت إعلاميًا بسياسة “الضغوط القصوى” التي استهدفت دفعها إلى القبول باتفاق جديد أكثر تشددًا في مراقبة نشاطاتها النووية. وفي العام نفسه، تمكنت إسرائيل من سرقة أرشيف البرنامج النووي الإيراني، وعرضت أجزاء منه للعلن. ونجحت في نوفمبر 2020 في اغتيال محسن فخري زاده، الذي تعده إيران بمنزلة “أب” لبرنامجها النووي.
وقد ساهمت مجموعة من العوامل في تهيئة الشروط الملائمة لاتخاذ إسرائيل قرار شن حرب علي إيران، والحصول على موافقة الإدارة الأميركية في هذا الشأن، وكان أهمها فقدان إيران العديد من عناصر القوة التي كانت لديها، وذلك من خلال حدوث تطورات متسارعة؛ بعضها نتيجة لعمل إسرائيلي أو استغلال لوضع ما بعد عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023، وأبرزها ما يلي:
- تحييد قوة حزب الله في لبنان على نحو واضح وحاسم؛ فقد كانت ترسانة الأسلحة التي يمتلكها تشكل احتياطًا استراتيجيًا لإيران لردع إسرائيل عن مهاجمة منشآت المشروع النووي الإيراني.
- فقدان إيران تمركزها العسكري في سورية، عقب سقوط النظام السوري في ديسمبر 2024.
- تحييد إسرائيل قوة حركة المقاومة الإسلامية “حماس” العسكرية في غزة.
- فشل المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، والتي بدأت في أبريل 2025 في سلطنة عمان، ثم تواصلت في روما، في خمس جولات، في التوصل إلي اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني؛ بسبب إصرار واشنطن على منع إيران من القيام بأي عمليات تخصيب على أراضيها. ويبدو أن اتفاقًا حصل بين ترمب ونتنياهو في هذا الإطار يقضي بأن يدعم الأول خطط الثاني لمهاجمة إيران في حال فشل التوصل إلى اتفاق معها خلال مهلة الستين يومًا. ومع انتهاء المهلة في يونيو 2025 من دون التوصل إلى اتفاق، شنت إسرائيل عمليتها العسكرية، التي أشاد بها ترمب ووصفها بأنها “ناجحة جدًا”، متباهيًا بالأسلحة الأميركية التي استخدمت فيها، محذرًا إيران من أن “ما هو قادم سيكون أكثر تدميرًا” إذا لم تعد إلى طاولة المفاوضات.
ثانيًا: آفاق الحرب بين إسرائيل وإيران:
القراءة الأولية لتطورات المشهد الملتهب منذ فجر الجمعة 13 يونيو 2025 تشير إلى أن ما يحدث بين إسرائيل وإيران حاليًا ليس مجرد جولة في صراع ثنائي مسلح، بل هو أقرب إلي الحرب الشاملة. وبطبيعة الحال فإن المواجهة الإيرانية الإسرائيلية الراهنة ليست حربًا مفتوحة بلا سقف زمني، إذ أنها محكومة بمحددات خمسة ترسم بشكل كبير ملامحها وإلى أي مدى يمكن الوصول إليه، ومن ثم استشراف مآلاتها المستقبلية.
1- القدرات العسكرية: تمثل القوة العسكرية العامل الأبرز الذي يحدد مصير أي معركة مسلحة، وفي الحالة الراهنة يتمتع طرفا المواجهة بإمكانيات وقدرات عسكرية كبيرة، إذ يصنف الجيش الإيراني في المرتبة الـ14 عالميًا بين أقوى الجيوش بينما يحتل الجيش الإسرائيلي المرتبة 17، وفقًا لعدد من المؤشرات التي تشمل عدد الأفراد والعتاد العسكري من آليات وطائرات وسفن حربية. وبعيدًا عن لغة الأرقام الخاصة بالإمكانيات العسكرية لكل طرف، فإن لكل منهما نقطة قوة يتميز بها، فعلى الجانب الإيراني مثلًا لديه تفوق كاسح في القوة الصاروخية، حيث تمتلك طهران صواريخ فرط صوتية تعرف باسم “فتاح-1” و”فتاح-2″، التي يصل مداها إلى 1500 كيلو متر، كما تمتلك صاروخ “قادر” وصاروخ “خيبر”. وتُقدر الترسانة الصاروخية الإيرانية بأكثر من 3000 صاروخ باليستي يصل مداها لنحو 2000 كيلو متر، أبرزها صواريخ “سجيل” و”خورمشهر”، هذا بخلاف صواريخ كروز التي يصل مداها إلى 1350 كيلو مترًا. كما تتفوق طهران في مجال الطائرات بدون طيار (المسيرات).
أما على الجانب الإسرائيلي فهناك طفرة كبيرة في مجال الطائرات المقاتلة، والبون شاسع بين تل أبيب وطهران في امتلاك هذا السلاح سواء من حيث النوع أو القدرة القتالية، حيث تمتلك إسرائيل عددًا من الطائرات ذات الطرازات المتطورة والبعيدة تمامًا عن أيدي الإيرانيين أبرزها F 35I ، F 16I. علاوة على هذا هناك “Boeing 707 Re’em” وهي النسخة المعدلة من”Boeing 707″، والمخصصة للتزود الجوي بالوقود.
2- مستوى الإمداد والتموين: تتمتع إسرائيل بخطوط إمداد وتموين مفتوحة على مدار الساعة، حيث الدعم الأمريكي والغربي الذي لا يتوقف، وإن لم يعلن عنه بشكل صريح، لكن في الوقت ذاته لا يمكن تجاهله، وهو الدعم المنوع ما بين عسكري ولوجيستي واستخباراتي، فضلًا عن الغطاء السياسي والاقتصادي والإعلامي الذي يوفره المعسكر الغربي لحليفه الإسرائيلي. هذا الدعم يشكل حاضنة قوية من الأمان لدى جيش الاحتلال تمنحه الأريحية في تكثيف عملياته ضد الأهداف الإيرانية، وفي ذات الوقت يعفي حكومة نتنياهو من ورطة المقاربة الخاصة بالدخول في حرب على أكثر من جبهة في نفس الوقت، إيران واليمن وغزة، الأمر الذي يمكن النظر إليه كعامل قوة وربما حسم في مستقبل المواجهات الطويلة.
وفي المقابل تعاني طهران من فقدان أو ندرة هذا المقوم، فبعيدًا عن التصريحات الصادرة عن باكستان وأفغانستان بشأن تقديم أوجه عدة من الدعم السياسي والعسكري لإيران لكنه الدعم – إذا ما ثبت فعليًا- الذي لا يلبي احتياجات الجيش الإيراني الفعلية في مواجهة كيان مدعوم من أقوى امبراطوريات الأرض اقتصاديًا وعسكريًا.
3- مستوى وحجم الخسائر: بعيدًا عن المعايير التقليدية والحسابات العسكرية المتعارف عليها بشأن تقييم الخسائر في مثل تلك المواجهات، فإن للمواجهة الإيرانية الإسرائيلية طابع خاص، يعيد تشكيل أولويات الخسائر تبعًا لكل طرف ووفقًا لبعض الاعتبارات التي قد تزيد من وقع خسارة هنا وتقلل من ذات الخسارة على الجانب الأخر والعكس. على الجانب الإيراني فإن الخسارة الأكبر تتمثل في استهداف العلماء وضرب القواعد النووية وقصف المنصات وقواعد الارتكاز الصاروخي والدفاعات الجوية، هذا بخلاف وضع المصانع العسكرية في مرمى النيران الإسرائيلية، علاوة على تدمير البنية النفطية من خلال نسف محطات الوقود وغيرها، وما لكل ذلك من إرهاق للاقتصاد الإيراني المنهك بطبيعة الحال.
أما على المستوى الإسرائيلي فإن ضرب الجبهة الداخلية عبر زعزعة الأمن والاستقرار وتدمير نظرية الردع وتحويل تل أبيب وحيفا إلى مناطق أشباح، هي الخسارة الأكثر فداحة، فالمشاهد المتناقلة لحجم الخراب والدمار الذي حل بتلك المدن لم يعرفها الإسرائيليون منذ نشأة دولتهم السرطانية خمسينات القرن الماضي، وهي الهزيمة النفسية التي قد تجهض المشروع الذي قامت عليه دولة إسرائيل في الأساس، فيما يعرف بـ “الكيبوتس” وثنائية الأمن والرخاء الاقتصادي، وهي الثنائية التي ضربتها المقاومة في 7 أكتوبر 2023 وأكدت عليها إيران في يونيو 2025.
4- القدرة على امتصاص الضربة: في العلوم العسكرية هناك ما يعرف بـ “الدولة الإسفنجية” أي القادرة على امتصاص الصدمات، اقتصادية كانت أو سياسية أو عسكرية، وابتلاعها بأسرع وقت ممكن، وهي الميزة التي تتمتع بها في الغالب الدور المتجذرة في أعماق التاريخ ولها سجل حضاري وتتمتع بمقومات البقاء، ومن ثم يعتبرها محللون مقوم مهم من مقومات النصر. ويمكن التعامل مع إيران إلى حد كبير وفق هذا التصور، كدولة إسفنجية، وهو ما اتضح في سرعة التعافي من الضربة القاسية التي وجهتها لها إسرائيل حين أطاحت بهرمها السلطوي، السياسي والعسكري والعلمي، فسرعان ما وقفت على أقدامها مرة أخرى واستطاعت بعد ساعات قليلة، لملمة شتاتها وابتلاع الصدمة، ومن ثم توجيه هجوم صاروخي مكثف حول تل أبيب إلى ما يشبه الوضع في غزة وخان يونس. وهناك عوامل عدة تساعد إيران في تعزيز قدراتها على امتصاص الأزمات والضربات، منها اتساع رقعتها الجغرافية وخبرات واضحة في التعامل مع الأزمات، إذ ترزخ الدولة تحت وطأة العقوبات لأكثر من 50 عامًا ولا تزال واقفة على أقدامها.
أما على الجانب الإسرائيلي فالأمر مختلف تمامًا، فهشاشة الدولة ووهن كيانها وفقدانها لشرعية التواجد التاريخي والجغرافي فوق أرض محتلة في الأساس، فضلًا عن النشاذ الديموغرافي من خلال تجميع عرقيات من بلدان شتى لتكوين وطن بلا هوية، كل هذا جعلها دولة في مهب الريح، ولولا الدعم الغربي لما استمرت لأعوام تعد على أصابع اليد الواحدة. ومن هنا جاءت الضربات الإيرانية بمثابة الصدمة للإسرائيليين، رغم أنها لا تعد كونها تفجيرات غير مؤثرة في معظمها، ومرصود تحركاتها منذ انطلاقها، إلا أنها أحدثت هزيمة نفسية نكراء في نفوس المستوطنين، دفعت الملايين منهم للاختباء في الملاجئ، فيما لو أتيحت فرصة السفر لغادر الجميع الكيان حيث لا رجعة.
5- الإطار الزمني للمواجهة: تمثل تلك المواجهات، لاسيما بين الدول المتباعدة جغرافيًا، إرهاقًا كبيرًا لجميع الأطراف، فهي تحتاج لقدرات وإمكانيات عسكرية ولوجستية واقتصادية هائلة، وفوق كل هذا تحتاج إلى نفس طويل، وقدرة على إدارة المعركة وفق استراتيجيات تضع في الاعتبار الإطار الزمني وأمد الحرب والاستعداد الجيد لتوظيف عنصر الوقت ليكون مقوم نصر لا معول هزيمة.
ويلعب الوقت دورًا مهمًا في حسم تلك المواجهة، وهو ما بدأ الإيرانيون يفطنون إليه مبكرًا، حيث اضطروا لتقليل معدلات الصواريخ الموجهة نحو أهداف إسرائيلية تحسبًا لإطالة أمد الحرب، ففي اليوم الأول أطلقت إيران أكثر من 250 صاروخًا على 5 دفعات، ثم تراجعت لقرابة 100 صاروخ في اليوم التالي، ثم ما بين 50- 80 صاروخًا في اليوم الثالث. ويعكس هذا التراجع القراءة الإيرانية الميدانية العملية لقدراتها العسكرية وحجم ترسانتها الصاروخية التي بلا شك تأثرت بالضربات الإسرائيلية خاصة بعد استهداف العديد من المصانع وقواعد التصنيع الصاروخي ومنصات الإطلاق.
وهنا تساؤل يطل برأسه باحثًا عن إجابة: إلى متى تستطيع إيران تحمل تلك الحرب؟ وإلى أي مدى زمني يمكنها الصمود ومناطحة إسرائيل بكامل عتادها وترسانتها التي تتجدد على مدار الساعة؟ وهي ذات الأسئلة على الجانب الأخر، فإلى أي مرحلة يمكن للإسرائيليين امتصاص الضربات الإيرانية خاصة مع تأجج الجبهة الداخلية التي تشكل ضلعًا أساسيًا في حسم القرار الإسرائيلي؟.
وعلي ضوء هذه المحددات، يمكن الإشارة إلي ثلاثة سيناريوهات للمواجهة العسكرية المشتعلة بين إسرائيل وإيران:
السيناريو الأول: إنهاء المواجهات باتفاق حول البرنامج النووي الإيراني:
ينطلق هذا السيناريو من أن الولايات المتحدة سوف تطلب من إسرائيل وقف المواجهة وعملياتها العسكرية، وذلك من منطلق أن الولايات المتحدة حققت هدفها في إفهام النظام الإيراني أن التهديد الإسرائيلي موثوق، وأنه على إيران العوة إلى طاولة المفاوضات تحت وطأة هذا التهديد، والتوقيع على اتفاق نووي ينهي المواجهة. يشير هذا السيناريو إلى أن الهدف من المواجهة كان الإعلان عن جدية التهديد الذي يواجه إيران في حال رفضت التوقيع على اتفاق نووي بالشروط التي طرحتها الولايات المتحدة، وبدء جولة جديدة من المفاوضات تنطلق من جدية وموثوقية هذا التهديد في حال فشلت المفاوضات مرة أخرى.
ومما يعزز هذا السيناريو، هو إعطاء الولايات المتحدة الضوء الأخضر للعملية العسكرية الإسرائيلية من أجل الضغط علي إيران للعودة إلى طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة والتوقيع على اتفاق نووي بشروط أمريكية. وفي الوقت نفسه، تتحفظ الولايات المتحدة علي المشاركة المباشرة في الهجوم الإسرائيلي علي إيران، ولم تقدم علي منح إسرائيل الأسلحة الأمريكية المطلوبة للقضاء على المشروع النووي الإيراني بمختلف مكوناته؛ فقدرات إسرائيل العسكرية الذاتية لا تستطيع الوصول إلى بعض المواقع المحصنة تحصينًا كبيرًا في عمق الأرض، على غرار موقع “فوردو” على سبيل المثال.
يواجه هذا السيناريو مجموعة من التحديات، أهمها معارضة إيران العودة إلى طاولة المفاوضات من جديد بعد غياب الثقة في الجانب الأمريكي. كما أن إسرائيل تعتقد أن هذه المواجهة فرصة تاريخية لن تتكرر من أجل القضاء نهائيًا علي كلا البرنامجين النووي والصاروخي الإيراني.
السيناريو الثاني: إنهاء المواجهات بتدمير البرنامج النووي بشكل كلي:
ينطلق هذا السيناريو من أن الولايات المتحدة قد تنضم للعملية العسكرية الإسرائيلية في مهمة واحدة، وهي تدمير المشروع النووي الإيراني بشكل كامل. يعتمد هذا السيناريو على رفض إيران التفاوض مع الولايات المتحدة على رغم استمرار الهجمات الإسرائيلية، واستنفاد أفق العملية العسكرية الإسرائيلية دون تحقيق هذا الهدف من جهة، أو إلحاق أضرار جدية في المشروع النووي الإيراني.
وينطلق هذا السيناريو من أن الولايات المتحدة قد تدخل المعركة بعد أن تدمر إسرائيل الكثير من القدرات العسكرية الإيرانية، لاسيما الصاروخية، وذلك لتفادي ضرب إيران للقواعد الأمريكية في المنطقة في حال قررت الأخيرة دخول العملية العسكرية، ويساعد هذا التوقيت على تقليل النقد الداخلي لدخول الولايات المتحدة الحرب، خوفًا على المصالح الأمريكية في المنطقة، بحيث تكون العملية الأمريكية قصيرة تنهي بعدها المواجهة. وفعلًا، فقد نُشرت أنباء عن أن إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المشاركة في الهجمات على المواقع النووية الإيرانية، لاسيما موقع فوردو الذي يضم اليورانيوم المخصب بنسبة 60% والمحصن في عمق الجبال، حيث لا تملك إسرائيل القنابل الخاصة التي تخترق التحصينات العميقة، ولن تستطيع تدمير كامل المشروع النووي الإيراني بقواها الذاتية. وقد استعدت الولايات المتحدة مسبقًا بأسطولها من القاذفات الاستراتيجية من طراز B-52 وB2 المتمركز في المنطقة وفي جزيرة دييغو غارسيا.
ومما يعزز من هذا السيناريو، إمكانية وقوع أحداث غير متوقعة، على غرار مقتل أو إصابة أمريكيين في إسرائيل جراء الهجمات الصاروخية الإيرانية المتتالية. وقد أشار السفير الأمريكي في إسرائيل مايك هاكابي إلى وجود 700 ألف أمريكي يعيشون في إسرائيل، واصفًا الهجمات التي تشنها إيران داخل إسرائيل بأنها هجمات ضد هؤلاء المواطنين.
فضلًا عن إمكانية إقدام طهران على إغلاق مضيق هرمز أو التأثير على حركة الملاحة في باب المندب والبحر الأحمر. وقد أشار عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني إسماعيل كوثري، في 14 يونيو 2025، إلى أن إغلاق المضيق بات قيد الدراسة في الوقت الحالي. ومن دون شك، فإن هذا الخيار سوف ينتج بدوره انعكاسات مباشرة على صادرات الطاقة من المنطقة إلى العالم وسيحدث تأثيرًا مباشرًا على المستوى الدولي وهو ما قد يدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى التدخل من أجل منع إيران من الاستمرار في تهديد حركة التجارة والملاحة في الخليج العربي والبحر الأحمر.
ولكن يواجه هذا السيناريو العديد من التحديات، منها الضغط الداخلي الأميركي على ترمب بعدم الانخراط في الحروب، وبخاصة من التيار الانعزالي في الحزب الجمهوري والقواعد المؤيدة لترمب التي تطالبه بعدم الانخراط في المواجهة، فضلًا عن التخوف من اتخاذ النظام الإيراني قرارًا بإشعال المنطقة من طريق ضرب المصالح الأمريكية في دول مجاورة، فضلًا عن التبعات الاقتصادية الدولية، وبخاصة في مجال الطاقة والملاحة البحرية والجوية.
ناهيك عن إمكانية تدخل المليشيات الموالية لإيران بشكل مباشر، حتي وإن كان مستوى انخراط هذه المليشيات في الحرب الحالية – إن حدث – سوف يكون متباينًا إلى حد كبير في ظل الأوضاع الميدانية المختلفة لكل منها. فحزب الله يتعرض لضغوط قوية في الداخل حاليًا فضلًا عن أن انخراطه في الحرب بإطلاق صواريخ ضد إسرائيل سوف يدفع الأخيرة إلى التدخل بقوة ضده مجددًا. كما أن انخراط حماس في الحرب سوف يكون في حده الأدنى. وهنا، فإن التدخل الأكثر ترجيحًا سوف يكون من جانب المليشيات الشيعية في العراق ومليشيا الحوثيين في اليمن. وإذا كانت الأخيرة حريصة على مواصلة هجماتها الصاروخية ضد إسرائيل قبل اندلاع الحرب الحالية وخلالها (شنت هجومًا صاروخيًا في اليوم الثاني للحرب)، فإن الأولى ما زالت في وضع الاستعداد، وبانتظار ضوء أخضر من جانب طهران. لكنها في الوقت نفسه تضع في اعتبارها أن تدخلها في الحرب قد يعني تعرضها لضربات قوية من جانب إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تحسبت لهذا الاحتمال قبل اندلاع الحرب عبر الإيعاز إلى دبلوماسييها وموظفيها في سفارتها لدى بغداد بمغادرتها.
السيناريو الثالث: انخفاض وتيرة المواجهة دون توقفها:
يفترض هذا السيناريو ألا تؤدي المحاولات الدولية والإقليمية إلى وضع حد للمواجهة الجارية، أو لا ترتقي إلى مستوى ذلك. ومقابل ذلك، ستنخفض وتيرة المواجهة بين البلدين بمرور الزمن، تحت وطأة الكلفة الاقتصادية التي تضعها على عاتق كل من الاقتصاد الإيراني والاقتصاد الإسرائيلي، وتحت وطأة الخشية من ردة فعل الجانب الآخر. خصوصًا وأن إيران أظهرت أنها تحتفظ بقوة الرد على الهجمات على رغم كل المحاولات الإسرائيلية للقضاء على منصاتها لإطلاق الصواريخ. كما أظهرت أنها تمتلك عتادًا صاروخيًا يكفل لها بلوغ أهداف مهمة في إسرائيل، ورفع نسبة النجاح في تجاوز الدفاعات الجوية الإسرائيلية. وفي هذه الحالة، ستكون المواجهة بين البلدين مستمرة، ولكن بوتيرة أقل بكثير من الوتيرة الراهنة في حالة يمكن أن توصف بالحالة “لا حرب، ولا سلام” بانتظار حدوث تغيير سياسي في أحد البلدين، أو كليهما.
ومما يعزز هذا السيناريو استثمار الطرفان هذا التصعيد واستمراره لترسيخ قبضتهما الداخلية؛ إيران ستوظف الخطاب المقاوم كوسيلة لاحتواء التململ الشعبي وتبرير فشلها الاقتصادي، مستفيدة من الخطر الإسرائيلي كأداة تعبئة، ومراقبة داخلية. أما في إسرائيل، فإن التصعيد مع إيران يأتي في لحظة انقسام داخلي حاد حول قضايا الحكم والهوية ودور القضاء والفشل في غزة، ويستخدم من قبل القيادة السياسية كمحرك لتوحيد الصفوف الصهيونية، واستعادة تماسك الجبهة الداخلية تحت هاجس “الأمن القومي”.
يواجه هذا السيناريو تحديات عديدة، أهمها أنه قد يدفع طهران إلى تسريع عملية تخصيب اليورانيوم إلى مرحلة 90% وإنتاج سلاح نووي بسبب الخطر الذي واجهه النظام جراء المواجهة مع إسرائيل. كما أن استمرار القصف الإيراني يمكن أن يؤدي إلى استنزاف إسرائيل وحصول تعب في المجتمع الإسرائيلي، إلى جانب تداعيات تعطيل الحياة الاقتصادية والتجارية والمدنية في إسرائيل، المرهقة أصلًا من حالة الحرب منذ أكتوبر 2023.
ختامًا؛ شكل الهجوم الإسرائيلي على إيران الحلقة الأخيرة في سلسلة مواجهات عسكرية بدأتها إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى بهدف تفكيك “محور المقاومة”. وكان واضحًا أن إيران باتت مكشوفة تمامًا بعد تدمير القدرات العسكرية لحزب الله وإسقاط النظام السوري وتصفية وجود الفصائل الموالية لها في سورية على الحدود، ومن ثم صار هجوم إسرائيل عليها هجومًا مباشرًا مسألة وقت، وزاد احتماله مع عودة ترمب إلى الحكم. ومن غير الواضح ما ستسفر عنه المواجهة بين إيران وإسرائيل، ويتوقف الكثير فيها على الموقف الأميركي، ومدى استعداد ترمب للتورط فيها، خاصة إذا فشلت إسرائيل في تدمير البرنامج النووي الإيراني.