سياسات الإفقار والانقسام الطبقي بين مصر و “إيجيبت”

السياسات العامة تتعلق بما تلزم به الحكومة نفسها تجاه المجتمع الذي تحكمه من سياسات، في مجالات الصحة والتعليم والإسكان، وفي سائر الخَدمات التي من المفترض أن توفرها الحكومات لشعوبها. تبني الحكومة لسياسات أقل اهتمامًا بجمهور المواطنين يقود بالضرورة إلى حدوث تململ شعبي يظل يتصاعد وصولا إلى احتجاجات واسعة، أو تفكك اجتماعي واسع تحت ضغط الحاجة وقسوة الأوضاع، هذا المسار يتأكد حدوثه في ظل سيطرة الدولة على كل الموارد واحتكارها كل مصادر السلطة والثروة، بشكل لا يسمح للمجتمع بالبحث عن إشباع احتياجاته خارج المسار الذي تقدمه الدولة. 

وهو ما ينطبق على الأوضاع في مصر، إذ أن الدولة هي مصدر كل قيمة -دون مبالغة- سواء كانت معنوية أو مادية، وفي الوقت نفسه تتخلى تدريجيا عن التزاماتها تجاه غالبية مواطنيها، مقابل اهتمام واضح بأقلية محظوظة، ففي السنوات الـ 15 الأخيرة تنكص عن كل التزاماتها، في الوقت ذاته تبدي نهم غير مسبوق للسيطرة على كل الموارد وامتصاص كل الثروات التي راكمها المجتمع في العقود السابقة على يناير 2011.

سياسة ينجم عنها بالضرورة إعادة توزيع الثروة، وإعادة رسم خريطة الغنى والفقر في المجتمع. فالنظام المصري بحَسَب مراقبين يعيد إنتاج أشكال التفاوت الطبقي، ويعيد توزيع الثروة والملكيات، بصورة غير مسبوقة؛ بشكل تختفي فيه التدرجات والألوان ويصبح لدينا لونين فقط؛ الأبيض سكان إيجيبت، والأسود وهم غالبية سكان مصر ممن يعانون الفقر أو يحاولون بيأس الهروب منه.

مع سياسات إعادة توزيع الثروة انطلقت عمليات الفرز الدائرة بين سكان مصر وأهل إيجيبت ليس فقط فرزا وفق مستوى الدخل، إنما وفق معايير ثقافية؛ ويكفي أن تتابع الجدالات المتجددة عن منع المحجبات من ارتياد بعض الأماكن الترفيهية، أو التعليقات الطبقية لسكان الكومباوندات عن مشكلات تحدث لمجتمعاتهم المسورة بسبب الزوار من عمال وغرباء، أو مشاجرات طلبة المدارس الدولية وسلوكيات بعضهم المثيرة للجدل. هذه النقاشات تكشف وعي الشارع بما يحدث، وإدراكه التحيزات الطبقية للنظام القائم. 

وفي الحقيقة فإن المراقب للأوضاع في مصر يدرك ببساطة تحيز النظام المصري لأهل إيجيبت على حساب الغالبية من سكان مصر؛ وهو تحيز لا يبدو مفهومًا، إذا قرأناه من زاوية أن أصحاب رؤوس الأموال في مصر راكمو ثرواتهم بالاعتماد على المحسوبية والمشروعات الخدمية غير المنتجة، بالتالي هم أبناء السلطة ونتاج سياساتها، ويحتاجونها لمواصلة مراكمة الثروة، في حين لا تحتاجهم السلطة. لكن هذا التحيز يبدو مفهومًا، إذا أخذنا في الاعتبار أن سكان مصر وهم الغالبية، هم من يفجرون الثورات ويقودون الاحتجاجات ويحلمون بالتغيير، ويمثلون ضغطًا على النظام القائم.

إيجيبت حين تختفي المواطنة ويحضر السوق:

ليست الجنسية هي معيار الانتماء إلى ايجيبت إنما حجم الثروة ومستوى الدخل، فالجنسية والولادة في مصر، والتمتع بالانتماء لها، لا يجعل صاحبه من سكان ايجيبت؛ وهذا يحقق أمرين؛ الأول: الشعور بالتميز والاختلاف لمن يملك البقاء في هذه الأماكن، الثاني: يستهدف تحقيق رغبة الدولة في خلق إيرادات أجنبية. 

نشير هنا إلى إعلان سلفستر ستالون عن مشروع ساوث ميد في الساحل الشمالي، وقد كان الحوار في الإعلان “باللغة الإنجليزية و بلكنة أمريكية خالصة، وتُرجمَ للعربية كأنه إعلان غربية. كما نشير إلى إعلانات “طلعت مصطفى” المتحدثة بالعربية، لكن الخطاب السائد فيها أيضًا هو “العالمية”. مظهر آخر من مظاهر اعتماد معيار الثروة كمعيار وحيد للانتماء لـ “إيجيبت” نقرأه في الإعلان الترويجي لمشروع رأس الحكمة الذي اشتمل على عبارة “فقط للأجانب وأصحاب الجنسية المزدوجة أو الجنسية الثانية أو جواز السفر الثاني أو الجنسيات المتعددة”، مصحوبة بصورة جوية للمشروع.

ومن أبرز ملامح سكان إيجيبت، الهروب إلى المجتمعات المسورة، نهم الاستحواذ والتملك والاستهلاك،  الحرص على الاستعراض، خاصة لدى الصاعدين الجدد إلى الطبقة، الحديث بغير العربية، الانفصال عن المجتمع من حيث عاداته وتقاليده وربما همومه، “أنماط علاقات غير مألوفة بين من ينتمون ” لـ Egypt ” وبينهم والمجتمع، فهم فيما بينهم يرون أن كل شيء مباح وأن علاقاتهم مبنية على المساواة والندية، ويرون أنهم أفضل حالا من المجتمع الذي يعيشون فيه، فهم صفوة المجتمع، ولا ينبغي عليهم أن يكونوا صداقات مع أي أحد ممن “ينتمون لمصر” بسبب الاختلافات الكبيرة بينهم”.

لكن أبرز ملامح أهل إيجيبت، أن ليس لهم حقوقًا سياسية، بمعنى أن ما اكتسبوه من امتيازات ليس بوصفهم مواطنين، إنما باعتبارهم يملكون ثمن هذه الامتيازات والخدمات؛ ومن ثم يمكن سحب هذه الامتيازات منهم في حال عجزوا عن الوفاء بتكلفتها. ويمكن كذلك أن يطالهم الإقصاء والتهميش في حال حاولوا ترجمة امتيازاتهم الطبقية إلى امتيازات سياسية. وبالتالي فإن علاقتهم هي علاقة زبونية، هم زبائن والدولة مقدم خدمة؛ بالتالي فالدولة في هذه الحال أقرب للشركة. 

سكان مصر… بلاد الأشياء الأخيرة:

يعيش أهل مصر ظروف هي معكوس أوضاع أهل إيجيبت؛ إذ تتبخر كل الضمانات، ويصبح كل شيء عرضة للتغيير، وكل حق عرضة للانتزاع. ومراجعة سريعة لسياسات الحكومة خلال الفترة الأخيرة يكشف ذلك بصورة واضحة. إذ تحولت الخدمات إلى أدوات فرز طبقي، وباتت السياسات الحكومية تتجه بصورة واضحة إلى تقليص الخدمات المقدمة للجمهور، عبر رفع سعر الخدمة، أو حتى خصخصتها بالكامل وإخضاعها لمنطق السوق القائم على تعظيم الربح وتقليل التكلفة. 

نشير هنا إلى ثلاث أمثلة:

الأول… التعليم: هناك مدارس دولية للطبقة الغنية والشرائح الأعلى من الطبقة الوسطى، وهناك عدة شرائح من المدارس الخاصة، يختلف مستوى الخدمات التعليمية التي تقدمها، باختلاف الشرائح التي تستهدفها، وأخيرًا، المدارس التجريبية والحكومية. والجامعات كذلك باتت أداة فرز طبقي.

الثاني… الصحة: نجد الأمر نفسه، إذ هناك مستشفيات خاصة، يختلف مستوى الخدمة الطبية التي تقدمها باختلاف الوضع الطبقي للفئات المستهدفة، وفي قاع الهرم المستشفيات الحكومية التي تداعى مستوى الخدمات التي تقدمها بشكل كبير. ليس هذا فقط، إنما هذه المستشفيات باتت عرضة للخصخصة، بعد التصديق على قانون يسمح للقطاع الخاص في استئجار المستشفيات الحكومية، وهو ما ألقى بظلال كئيبة على المستشفيات التي أدركها قطار الخصخصة، مثل مستشفى أورام دار السلام «هرمل». ومع الخصخصة تأتي قرارات إعادة تسعير الخدمات الصحية التي تقدمها المنشآت الصحية الحكومية، إذ أصدر “وزيرا الصحة والتنمية المحلية، لائحة جديدة للمستشفيات ومراكز الخدمات العلاجية والوحدات الصحية ومكاتب الصحة، وتضمنت اللائحة التي أصدرها الوزيران برقم 75 لسنة 2024، ونشرتها جريدة الوقائع المصرية، رفع أسعار تذاكر العيادات الصباحية من جنيه إلى عشرة جنيهات في المستشفيات العامة، وخمسة جنيهات في الوحدات الصحية، على أن يجوز مضاعفة كل منها خمس مرات، بعد موافقة مديرية الصحة المختصة. بالإضافة إلى تقليص نسبة العلاج المجاني بالمستشفيات العامة من 60% في اللائحة القديمة، إلى 25% في اللائحة التي بدأ تطبيقها في الرابع من مارس 2024.

الثالث… الإسكان: يكفي أن نعرف أن بيانات “المركزي للإحصاء” تُظهر تراجع نسبة وحدات الإسكان الاقتصادي من إجمالي الوحدات التي نفذتها الحكومة، من 99.3% في 2014/ 2015 إلى 40.6% في 2022/ 2023. وأن محافظتي الجيزة والقاهرة شهدت “هدم ما يعادل 57343 وحدة سكنية، وعليه إخلاء ما يقارب 2867150 فرد من مناطقهم الأصلية. وباعتبار أنّ عدد سكان المحافظتين يقدّر بـ 20 مليونًا، فهذا يعني أنه تمّ إجلاء 10% منهم من منازلهم. وبالتالي تمّ تشريد وإجلاء أكثر من مليوني مواطن من مساكنهم ومناطقهم”. وأن مع تعديل قانون الإيجار القديم يصبح لدينا “حوالي 3 ملايين و39 ألفًا و565 مبنى، موزعة في مختلف أنحاء الجمهورية، وذلك بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء”، لأصحابها الحق في إخلائها بعد 7 سنوات، هذه الوحدات 54% منها تستخدم لأغراض السكن، ويبلغ عدد الأسر المقيمة فيها حوالي 1.642 مليون أسرة، ويُقدّر عدد الأفراد القاطنين فيها بأكثر من 6 ملايين شخص، ما يعني أن القانون الجديد يهدد بتشريد أكثر من 6 مليون شخص، يتركز معظمهم في أربع محافظات رئيسية، القاهرة، الجيزة، الإسكندرية، القليوبية.

ترجمة التقسيم الطبقي إلى إنقسام هوياتي وسياسي:

هل يمكن أن تسفر الفروق الطبقية الصارخة بين سكان إيجيبت وسكان مصر عن ولادة قوى سياسية تمثل هذا الانقسام وتعبر عنه؟ أو ينجم عنها انقسام وتباين ثقافي حقيقي؟ 

سياسيًا، يبدو أن ذلك غير ممكن؛ فالترتيبات السياسية القائمة هي الضمانة الأساسية لبقاء واستمرار هذا الانقسام الطبقي، فهو انقسام ليس له جذور حقيقية تضمن استمراره، وبالتالي تغير الترتيبات السياسية القائمة يعني بالضرورة تفكك الانقسام الطبقي الموجود؛ فالانقسام الطبقي القائم هو نتاج سياسة إعادة توزيع الثروة بشكل يحرم الأغلبية من الوصول إلى مصادرها. 

وعلى صعيد الوعي والقيم الثقافية، فبحسب محمد نعيم، وهو باحث مشتغل بالشأن المصري، فإن مصر بلد شديد الكثافة والتكدس والتخالط، وفي ظل وجود مصر وEgypt معًا على الأرض نفسها، خاصة لمن كان مصريًا على حدود Egypt أو العكس، من الصعب أن يعرف طبقته، وسيظل بلدًا واحدًا، فالبلدان -مصر وEgypt- في الأصل شديدَا الهشاشة، والدخول في البلدين شديدة التطاير واللامعيارية، و يتسم بالغموض والسيولة ورثاثة المعايير.

ومن الصعب أن يسفر هذا التراشق بين مصر و Egypt أن يعبر عن تمايز ثقافي حقيقي، فما كسبه وراكمه الوعي الطبقي في مصر كان ومازال شديد الاضطراب. وفي أطواره المعاصرة صار اضطرابه ذلك يشكل خطرًا على اجتماعنا الحديث بالمجمل. الاضطراب ليس مردّه الأساسي قصور ثقافي ومعرفي، مع اعترافنا بوجوده كمشكلة عويصة في مصر، بل هو بالأساس خلل حتمي لمنتج مادي أفرزته حالة من السيولة حرمت المواقع الاجتماعية والأفراد داخلها من التشكل والانضاج بشكل يحفظ لهم القدرة على أن يعوا أنفسهم وعيًا ماديًا متراكمًا غير منقطع أو لاهث خلف حركة تاريخ لا ترحم في شدة تقلبها.

الخاتمة: 

ثمة ملاحظات ختامية نشير إليها:

أولًا: أن هذه الديناميكية “سياسات الدولة التي تدفع إلى إعادة توزيع الثروة بشكل يحرم الغالبية العظمى من المجتمع من الموارد، بما فيها مورد الأرض، بصورة تقسم المجتمع بشكل صارم إلى طبقتين أغنياء وفقراء، دون أية تدرجات لونية، ما يقود إلى حدوث انقسام اجتماعي/ثقافي بين أهل مصر وأهل إيجيبت” تنطبق بشكل رئيسي على القاهرة والجيزة؛ من جراء مركزية الحكم في مصر. أما في المحافظات والأقاليم فإن سياسات الأفقار تقود إلى تفكك أسري وغليان اجتماعي وارتفاع في معدلات العنف وانتشار تعاطي المخدرات؛ وتكفي نظرة على ما يشهده الصعيد المصري في هذا الباب دليلًا على هذا الاستنتاج.

كما أن ديناميكية الإفقار في الصعيد تنشط الهجرة من الريف إلى العاصمة، وهو ما سيكون له بالضرورة تأثيره على العاصمة وتفاعلاتها. 

ثانيًا: أنجزت الدولة في مصر، منذ نشأتها مع محمد علي، في بدايات القرن الـ 19، تحديث حقيقي، وهو ما نجد مصداقه في أن المجتمع المصري “هو أقل المجتمعات العربية انقساما وأكثرها تجانسا”، “وعلى الرغم من حضور التنوع المجتمعي وفكرة المركز والأطراف، والريف والمدينة، وتقسيمات، مثل: صعيدي، نوبي، عرب، فلاحين، وسوى ذلك، لكنها لا تبدو انقسامات عميقة، والمجتمع المدني قادر على صهر معظم هذه التنوعات والتخفيف من حضورها والحد من خلق تراتبية اجتماعية بناءً عليها”.

لكن النظام الحالي، بشكل واعي أو غير واعي، عبر سياساته يعزز الانقسام الطبقي، ما يعني أن الدولة التي كانت قاطرة للتحديث باتت تستخدم من قبل نخبة الحكم الحالي كأداة للتفكيك والتقسيم وخلق التوترات الطبقية.

الأخير: أن الإسلاميين -في معظمهم- ليس لديهم تصور عن مسألة العدالة الاجتماعية وكيفية تحقيقها، والسياسات اللازمة لذلك، وكل ما لديهم في هذا الباب هي انطباعات وردود فعل انعكاسية على التصورات الليبرالية واليسارية بخصوص سؤال العدالة، أو تصورات نظرية قديمة غير محدثة. 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022