موقف إسـ،ـرائيل من احتـ،ـلال قطاع غزة: الدوافع والتحديات

تواجه إسرائيل في تعاملها مع الحرب علي غزة خيارًا ما بين ثلاثة بدائل استراتيجية، وكلها تنطوي على تكاليف كبيرة إلى جانب مزاياها، ولا يمكن أي منها تحقيق أهداف الحرب بشكل كامل، كما يذكر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي. والخيارات الثلاثة التي تدرسها الأوساط السياسية، بحسب المعهد الإسرائيلي، تنحصر ما بين: 1- تعزيز السياسة الحالية وزيادة الضغط العسكري على حماس واستمرار محاولات استنزاف مواردها المالية والسيطرة على السكان بنقلهم إلى “المدينة الإنسانية” في رفح وتعزيز محاولات السيطرة على توزيع المساعدات على السكان من خلال الآلية الإسرائيلية الأمريكية. 2- التوصل إلي اتفاق وقف لإطلاق النار في قطاع غزة يفضي إلى إنهاء الحرب. 3- السيطرة الكاملة على قطاع غزة وفرض حكومة عسكرية مؤقتة. ويبدو أن إسرائيل حسمت خيارها باحتلال قطاع غزة، حيث كشفت القناة الـ12 الإسرائيلية جزءًا من تفاصيل خطة عسكرية لاحتلال قطاع غزة سيناقشها الكابينت (المجلس الوزاري المصغر)، في 7 أغسطس 2025، وهي الخطة التي يعارضها رئيس الأركان إيال زامير، واصفًا إياها بالفخ الاستراتيجي. وقالت إن الحديث يدور عن ما وصفته بمناورة برية تمتد من 4 إلى 5 أشهر، وفق تقديرات واضعي الخطة التي سيتولى تنفيذها من 4 إلى 6 فرق عسكرية. وتحدثت عن هدفين رئيسيين للخطة؛ أحدهما يتعلق باحتلال مدينة غزة والمخيمات الواقعة في وسط القطاع، في حين يتمثل الثاني في تهجير السكان، أو ما وصفته بدفع سكان القطاع جنوبًا بهدف تشجيعهم على الخروج من القطاع. وفي 5 أغسطس 2025، اتخذ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو – المطلوب للجنائية الدولية – قرارًا بالمضي في احتلال غزة، خلال اجتماع مغلق مع وزراء ومسؤولين أمنيين، بحسب ما نقلته هيئة البث الإسرائيلية الرسمية.  أولًا: دوافع إسرائيل لاحتلال قطاع غزة: يتمثل الدافع الرئيسي لدي إسرائيل – المستوي السياسي علي وجه الخصوص – في احتلال قطاع غزة بالكامل في؛ عدم جدوي أي خيارات أخري غير احتلال القطاع في تحقيق أهداف الحرب الإسرائيلية (استعادة جميع الأسرى لدي حماس، وتفكيك حماس كليًا ككيان عسكري ومدني منظم، وتغيير الواقع الأمني في قطاع غزة بحيث يُزال أي تهديد جوهري لإسرائيل، فضلًا عن الحفاظ على حرية العمل العملياتي لـ”جز العشب” متى اقتضت الحاجة على غرار نموذج العمل المتبع في الضفة الغربية)، وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي:  1- تخوض إسرائيل حربًا في قطاع غزة منذ نحو عامين، وعلى الرغم من الأضرار الكبيرة التي ألحقتها بقدرات حركة حماس، فإنها لم تحقق أهداف الحرب بعد. لا تزال حماس تمارس وظائفها، المدنية والعسكرية، كجهة مسيطرة على أجزاء كبيرة من القطاع، وعلى الرغم من أن هذه الأجزاء ليست واسعة جغرافيًا، فإن أهميتها تنبع من رمزيتها، ومن كونها تمثل مراكز ثقل للتنظيم ومناطق مكتظة بالسكان. فعلى سبيل المثال، يسيطر التنظيم على مدينة غزة، وغربي خان يونس، والمخيمات الوسطى، ومنطقة المواصي، حيث يتركز نحو نصف سكان القطاع. كما لا تزال تسيطر على الأنظمة البلدية (حتى لو كان ذلك من خلال لجان طوارئ بديلة من البلديات)، وتدير الاقتصاد المحلي، بما يشمل جباية الضرائب، وتحافظ على سيطرتها وتأثيرها في منشآت المساعدات الإنسانية والملاجئ، وخصوصًا تلك التابعة للأونروا التي يقيم بها النازحون. كذلك تواصل حماس تنفيذ إعدامات بحق مشتبه فيهم بالتعاون مع إسرائيل، أو سرقة المساعدات الإنسانية.  أما من الناحية العسكرية، فلا تزال حماس تمتلك في هذه المرحلة من الحرب هيكلين عسكريين رئيسيين، هما: لواء غزة ولواء خان يونس، اللذان حتى لو أنهما لا يعملان بكفاءة كاملة، فلا تزال قيادتا هذين اللواءين ناشطتين، وما زالت البنية العسكرية قائمة. ويبدو كأن حماس تنجح في تجنيد عدد كبير من الشبان، وتزويدهم بالسلاح. كذلك، تنجح حماس في استعادة قدراتها الإنتاجية الذاتية، القائمة أساسًا على استخدام بقايا قذائف إسرائيلية ومرافق إنتاج ونقاط معرفة لم تُدمر بعد. كما يبدو أنها تأقلمت مع الواقع الجديد، وتعمل وفق نمط حرب العصابات، وتنجح في إيقاع خسائر بإسرائيل أحيانًا. 2- لم تحقق إسرائيل بعد هدفها المتمثل في خلق ظروف تؤدي إلى تحرير جميع الأسرى لدي حماس، فعلى الرغم من النجاحات الإسرائيلية في استعادة جثامين أسرى مؤخرًا، فإن حماس لا تزال تحتجز 20 أسيرًا علي قيد الحياة و30 جثمانًا، وربما تجد صعوبة في الوصول إلى بعض الجثامين، سواء لأن جهات أخرى احتجزتها، أو لأن من دفن الجثامين قُتل، أو نظرًا إلى التغيرات التي جرت في معالم المناطق بفعل الدمار الهائل، بطريقة لا تسمح بتحديد مواقع الدفن. 3- لا تثق إسرائيل فيما يروج خلال مفاوضات وقف إطلاق النار من استعداد قيادة حماس للتنازل عن السيطرة المدنية على القطاع لمصلحة السلطة الفلسطينية، أو لجنة تكنوقراط، ما دام التنظيم يرفض نزع سلاحه، فما دامت حماس تواصل الاحتفاظ بقدراتها العسكرية، فإنها ستسعى بكل قوة، وبدعم إيراني، لإعادة تنظيم نفسها وتعزيز قوتها العسكرية من جديد، وفقًا لوجهة النظر الإسرائيلية. 4- وبالتالي، وبحسب وجهة النظر الإسرائيلية، فإن السيطرة الكاملة على قطاع غزة وفرض إدارة عسكرية موقتة يعتبر الخيار الوحيد القادر، ولو موقتًا، على تحقيق أهداف الحرب ضد حماس: تدمير قدراتها العسكرية والحكومية بشكل مباشر، ثم إزالة التهديدات من غزة في اتجاه “إسرائيل”، وتهيئة الظروف التي تسمح بعودة سكان “غلاف غزة” إلى منازلهم بأمان. أما بالنسبة إلى استعادة جميع الأسرى، فقد تكون عمليات الجيش الإسرائيلي في هذا الاتجاه محفوفة بخطر الإضرار غير المقصود بالأسرى، أو دفع حماس إلى إيذائهم. ومع ذلك، فأن السيطرة الإسرائيلية على القطاع قد تشجع فلسطينيين يملكون معلومات عن الأسرى على تقديمها لإسرائيل، والذين يمتنعون من اتخاذ هذه الخطوة حاليًا، خوفًا من استهدافهم من حماس. كما أنه إذا اقتنع قادة حماس بأن إسرائيل حسمت أمرها في اتجاه خيار احتلال غزة، ستزداد فرص التوصل إلى اتفاق معها بشروط أقرب كثيرًا إلى شروط إسرائيل. 5- لا يمكن تنفيذ مخططات التهجير والضم والاستيطان بقطاع غزة إلا عبر احتلال القطاع. وفي هذا السياق، طالب وزراء ونواب كنيست، وزير الأمن، يسرائيل كاتس، بالسماح لهم بالدخول إلى قطاع غزة من أجل التحضير لإقامة المستوطنات على أنقاضها، طبقًا لما أفادت به “القناة 12” الإسرائيلية. وذكرت القناة أن “22 وزيرًا وعضوًا في الائتلاف الحاكم يتقدمهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير قد تقدموا بطلب لوزير الأمن كي يسمح لهم بالقيام بجولة في شمال قطاع غزة للتمهيد للاستيطان في القطاع”.  وكانت صحيفة “هآرتس” قد كشفت أنه في إثر قرار نتنياهو زيادة المساعدات الإنسانية المقدمة إلى القطاع، الذي عارضه حزب “الصهيونية الدينية” برئاسة الوزير بتسلئيل سموتريتش، تم التعهد لهذا الأخير بضم مناطق من القطاع إلى إسرائيل من أجل إغرائه بالبقاء في صفوف “الائتلاف” الحاكم.  أكثر من ذلك، وصل الأمر إلي دعوة وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو، إلى احتلال قطاع غزة بالكامل والتخلي عن الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية في القطاع. وقال إلياهو – من “عوتسما يهوديت” (القوة اليهودية)-، إن غزة يجب أن تكون يهودية. وطالب…

تابع القراءة

الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية: الدوافع والحدود

أعلن وزير الخارجية الفرنسي جون نويل بارو، في 30 يونيو 2025، أن 15 دولة وجهت نداء جماعيًا تعتزم فيه الاعتراف بدولة فلسطين.  وقال بارو عبر منصة “إكس” عقب اختتام مؤتمر حل الدولتين “في نيويورك، في الفترة من 28 إلي 30 يونيو 2025، مع 14 دولة أخرى توجه فرنسا نداء جماعيًا: نعرب عن عزمنا الاعتراف بدولة فلسطين وندعو الذين لم يفعلوا ذلك حتى الآن إلى الانضمام إلينا”. والى جانب فرنسا، انضمت كندا وأستراليا، العضوان في مجموعة العشرين، إلى هذا النداء المشترك. ووقعت دول أخرى على الدعوة، وهي أندورا وفنلندا وأيسلندا وأيرلندا ولوكسمبورغ ومالطا ونيوزيلندا والنرويج والبرتغال وسان مارينو وسلوفينيا وإسبانيا. وأعربت 9 دول منها – لم تعترف بعد بالدولة الفلسطينية – عن استعدادها أو اهتمامها الإيجابي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهي أندورا وأستراليا وكندا وفنلندا ولوكسمبورغ ومالطا ونيوزيلندا والبرتغال وسان مارينو. وقالت القناة 12 الإسرائيلية إن البيان المشترك صدر بالتنسيق مع دول سبق أن اعترفت بدولة فلسطين، ومن بينها إسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا والنرويج. كما أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، في 29 يونيو 2025، أن بلاده ستعترف رسميًا بدولة فلسطين بحلول سبتمبر المقبل (موعد انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبلة) ما لم تتخذ إسرائيل خطوات ملموسة للسماح بدخول المساعدات إلى قطاع غزة وتلتزم بحل الدولتين وتمتنع عن ضم الضفة الغربية. أولًا: سياقات الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية: مر الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية بعدة مراحل، تمثلت في: وتأتي هذه الاعترافات الأوروبية الحالية بالدولة الفلسطينية في سياق ظهور مؤشرات واضحة على وجود تحولات في المواقف الأوروبية من العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة منذ منتصف عام 2024، والتي اكتسبت زخمًا أكبر بعد خرق إسرائيل للهدنة الأخيرة التي جرى التوصل إليها في 19 يناير 2025، واستئناف عدوانها، بعد شهرين، في 19 مارس، في ضوء تفاقم الوضع الإنساني، وتواتر التقارير الحقوقية عن التجويع الممنهج الذي تقوم به، واستهداف مباشر للنساء والأطفال. وبحلول مايو 2025، برزت مؤشرات على موجة تحول واسعة في المواقف الأوروبية من الجانب الإسرائيلي، اتخذت السمات التالية: ثانيًا: دوافع الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية: تتمثل أبرز الأسباب التي تقف خلف الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية فيما يلي: 1- الضغوط الشعبية: تصاعدت الاحتجاجات الشعبية المنددة بالانتهاكات الإسرائيلية في معظم العواصم الأوروبية، وباتت تشكل زخمًا كبيرًا وصداعًا في رأس الحكومات والأنظمة، خاصة في ظل وجود جالية عربية وإسلامية كبيرة تشكل رقمًا صعبًا في الخارطة الديموغرافية للمجتمع الأوروبي. وهو ما أجبر العديد من الحكومات الأوروبية، التي وجدت نفسها في حرج أخلاقي كبير، على إعادة النظر في مواقفها من الحرب الإسرائيلية علي غزة، لا سيما بعد تصاعد الخطاب الذي يتهم هذه الدول بالتواطؤ مع “إسرائيل” في تلك الإبادة.  ومؤخرًا، شهدت عواصم ومدن أوروبية مظاهرات يومية تطالب بوقف التجويع والإبادة الجماعية للفلسطينيين. وذلك بعدما أدت الحرب المتواصلة، وانهيار الخدمات الأساسية، والقيود المشددة المفروضة على إيصال المساعدات الإنسانية وتوزيعها، إلى خلق أوضاع كارثية في مجال الأمن الغذائي، شملت السكان في مختلف أنحاء القطاع. ووردت تقارير متزايدة عن وفيات ناجمة عن المجاعة، في حين جرى إدخال نحو 20 ألف طفل في غزة إلى المستشفيات، منذ أبريل 2025، بسبب سوء التغذية الحاد، وبات من الواضح أن قطاع غزة يرزح تحت وطأة المجاعة، في ظل منع وصول الغذاء إلى الغزيين، نتيجة السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى معاقبتهم وإبادتهم جماعيًا. ومنذ أواخر مايو 2025، تولت مؤسسة “غزة الإنسانية”، وهي منظمة تحوم حولها شبهات متعددة، عملية توزيع الغذاء من خلال أربعة مراكز تقع داخل مناطق يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، وتديرها شركات أمنية أمريكية خاصة؛ وقد أدى هذا التغيير إلى تباطؤ شديد في تدفق المساعدات الإنسانية. وعلاوة على ذلك، لقي مئات الفلسطينيين مصرعهم على الطرق المؤدية إلى تلك المراكز، إما نتيجة لإطلاق قوات الاحتلال النار، أو بسبب التدافع والدهس في أثناء انتظارهم الحصول على الغذاء. 2- الضغوط السياسية: وضعت تطورات الحرب والانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة، والمشاهد المرعبة القادمة من قلب قطاع غزة لحظة بلحظة، حكومات أوروبا في مأزق سياسي كبير، سواء أمام شعوبها أو في مواجهة ما تزعم التمسك به من مبادئ وأخلاقيات ومرتكزات إنسانية وحضارية. كما شكلت الخطوات التي اتخذتها عدد من دول القارة في مواجهة هذه الإبادة، كاعتراف إيرلندا وإسبانيا والنرويج بفلسطين، ضغوطًا إضافية على حكومات الدول داخل الاتحاد الأوروبي، وزاد من تعقيد الموقف إصدار المحكمة الجنائية الدولية، في نوفمبر 2024، مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير الحرب السابق يوآف غالانت، مما وضع قادة القارة في موقف بالغ الحرج، إذ إن تجاهل تلك القرارات يعني عمليًا تقويض المحكمة وغيرها من المؤسسات التي تعول عليها أوروبا في محاولتها لفرملة التوغل الروسي في القارة. أضف إلي ذلك، القلق الأوروبي المتنامي الناتج من ممارسات الحكومة الإسرائيلية في توسيع المستوطنات في الضفة الغربية والاعتداءات المتكررة على الحرم القدسي الشريف وهجمات عصابات المستوطنين اليومية على قرى فلسطينية، ومن نيات حكومة نتنياهو ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية وقطاع غزة أيضًا؛ ما من شأنه أن يقوض نهائيًا أي أفق لحل الدولتين الذي تتمسك به الدول الأوروبية في مقاربتها تجاه حل القضية الفلسطينية. وقد تزامنت أعمال الإبادة الجماعية في غزة مع تصعيد مواز في الضفة؛ تمثل في توسع الاستيطان، وارتفاع وتيرة عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين، فضلًا عن نقل صلاحيات إدارة الضفة من الجيش إلى السلطات المدنية الإسرائيلية، في خطوة تُفسر على نطاق واسع بأنها تمهيد فعلي للضم الكامل. ناهيك عن أن منع إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، بدءًا من مارس 2025، مثل معضلة مضاعفة للدول الأوروبية التي دأبت على محاولة تعويض قصور مواقفها السياسية المتقاعسة بالتركيز على إظهار تقديم مساعدات إنسانية للشعب الفلسطيني والظهور أحيانًا مع بعض شحنات الإغاثة المتجهة إلى غزة. أدت سياسات الحصار الشامل إلى تعطيل هذا الوجه من مسعى “الغسيل الأخلاقي” لسياسات منحازة لم يعد بوسعها إظهار “استجابات إنسانية” معهودة. 3- البراغماتية الأوروبية: تحاول أوروبا من خلال هذا التحرك استعادة نفوذها المفقود في الشرق الأوسط، والبحث عن موطئ قدم لها في المنطقة عبر البوابة الفلسطينية، في مواجهة الهيمنة الأمريكية والانفراد التام بإدارة الخارطة السياسية والاقتصادية، والسعي للظهور مجددًا كلاعب مؤثر في الملعب الإقليمي، بعد أن سُحب البساط من تحت أقدام المستعمرين القدماء. ثالثًا: حدود الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية: يُنظر إلى خطوة الاعتراف بدولة فلسطين على أنها تساعد في ترسيخ فكرة حل الدولتين باعتباره الإجابة الوحيدة الممكنة للسلام في المنطقة، وعلى النقيض من المقترحات الخاصة بالسيادة الإسرائيلية الكاملة علي جميع الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة. كما إن الاعتراف بدولة فلسطينية سيؤدي إلى اضطرار الحكومات الأوروبية إلى مراجعة علاقاتها مع إسرائيل، وربما يؤدي إلى حظر أوروبا لمنتجات المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. أضف إلي ذلك، فإن التحول نحو اعتراف القوى الغربية الصديقة لإسرائيل بفلسطين، وعلي الرغم من استمرار تمتعها بدعم الولايات المتحدة، قد تجد إسرائيل نفسها…

تابع القراءة

مؤتمر حل الدولتين في نيويورك: الإيجابيات والسلبيات

أصدر المؤتمر الدولي بشأن التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين الذي استضافه مقر الأمم المتحدة بنيويورك برئاسة مشتركة بين السعودية وفرنسا، في الفترة من 28 إلي 30 يوليو 2025، البيان الختامي “إعلان نيويورك”، متضمنًا الاتفاق على اتخاذ “خطوات ملموسة” و”مرتبطة بإطار زمني ولا رجعة فيها” من أجل تسوية قضية فلسطين. وبينما انعقد المؤتمر على مستوى وزراء الخارجية، فقد نص البيان الختامي علي ضرورة تعبئة المجتمع الدولي على مستوى القادة حول هذه الالتزامات على هامش الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025.  أولًا: إيجابيات مؤتمر حل الدولتين: حمل “إعلان نيويورك” عددًا من المؤشرات الإيجابية، أبرزها: ثانيًا: سلبيات مؤتمر حل الدولتين: في المقابل، فقد تم توجيه عدة انتقادات لـ “إعلان نيويورك”، أبرزها:  فيما وصف وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، خطط بريطانيا وفرنسا وكندا للاعتراف بالدولة الفلسطينية بأنها “غير مجدية”. وتابع: “أولًا، لا تملك أي من هذه الدول القدرة على إنشاء دولة فلسطينية، ولا يمكن أن تكون هناك دولة فلسطينية ما لم توافق إسرائيل عليها، وثانيًا، لا يمكنهم حتى تحديد مكان هذه الدولة الفلسطينية، لا يمكنهم تحديد من سيحكمها. ثالثًا، أعتقد أنها غير مجدية”. واعتبر أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية “سيكافئ حركة حماس، ويحفزها على رفض وقف إطلاق النار في قطاع غزة”. وزعم روبيو أن هذه الخطوة “تهدف إلى استرضاء القواعد الشعبية المحلية لقادة العالم”. وأضاف أن “بعض هذه البلدان لديها الآن دوائر انتخابية ضخمة تضغط عليها محليًا للانضمام إلى هذا الجانب، بغض النظر عن تداعياته الجيوسياسية”.  ومن المعلوم أن لا أحد يستطيع إحداث تغيير في السياسة الإسرائيلية سوى الولايات المتحدة، وقد تأكد أنها منسجمة مع سياسة بنيامين نتنياهو، وإلا لكانت فرضت حلًا يؤدي إلى وقف الحرب البربرية، والإفراج عن الرهائن، وإدخال المساعدات إلى غزة. ختامًا؛ يعد العنصر الأبرز في مؤتمر نيويورك وبيانه الختامي، هو إعادة طرح حل الدولتين كضرورة أمنية دولية، وتحديد إطار زمني واضح للتحرك، مع بروز استعداد أوروبي لاعتماد سياسات أكثر جرأة. إلا أن قيمة هذا الزخم ستُقاس بقدرته على الانتقال من “الشرعنة” إلى “التنفيذ”، في ظل غياب آليات إلزامية، ورفض إسرائيلي، وتردد أمريكي. فبدون آليات إلزامية، قد يتحول “إعلان نيويورك” إلى مجرد إضافة في سجل طويل من المبادرات غير المفعلة.

تابع القراءة

سياسات الإفقار والانقسام الطبقي بين مصر و “إيجيبت”

السياسات العامة تتعلق بما تلزم به الحكومة نفسها تجاه المجتمع الذي تحكمه من سياسات، في مجالات الصحة والتعليم والإسكان، وفي سائر الخَدمات التي من المفترض أن توفرها الحكومات لشعوبها. تبني الحكومة لسياسات أقل اهتمامًا بجمهور المواطنين يقود بالضرورة إلى حدوث تململ شعبي يظل يتصاعد وصولا إلى احتجاجات واسعة، أو تفكك اجتماعي واسع تحت ضغط الحاجة وقسوة الأوضاع، هذا المسار يتأكد حدوثه في ظل سيطرة الدولة على كل الموارد واحتكارها كل مصادر السلطة والثروة، بشكل لا يسمح للمجتمع بالبحث عن إشباع احتياجاته خارج المسار الذي تقدمه الدولة.  وهو ما ينطبق على الأوضاع في مصر، إذ أن الدولة هي مصدر كل قيمة -دون مبالغة- سواء كانت معنوية أو مادية، وفي الوقت نفسه تتخلى تدريجيا عن التزاماتها تجاه غالبية مواطنيها، مقابل اهتمام واضح بأقلية محظوظة، ففي السنوات الـ 15 الأخيرة تنكص عن كل التزاماتها، في الوقت ذاته تبدي نهم غير مسبوق للسيطرة على كل الموارد وامتصاص كل الثروات التي راكمها المجتمع في العقود السابقة على يناير 2011. سياسة ينجم عنها بالضرورة إعادة توزيع الثروة، وإعادة رسم خريطة الغنى والفقر في المجتمع. فالنظام المصري بحَسَب مراقبين يعيد إنتاج أشكال التفاوت الطبقي، ويعيد توزيع الثروة والملكيات، بصورة غير مسبوقة؛ بشكل تختفي فيه التدرجات والألوان ويصبح لدينا لونين فقط؛ الأبيض سكان إيجيبت، والأسود وهم غالبية سكان مصر ممن يعانون الفقر أو يحاولون بيأس الهروب منه. مع سياسات إعادة توزيع الثروة انطلقت عمليات الفرز الدائرة بين سكان مصر وأهل إيجيبت ليس فقط فرزا وفق مستوى الدخل، إنما وفق معايير ثقافية؛ ويكفي أن تتابع الجدالات المتجددة عن منع المحجبات من ارتياد بعض الأماكن الترفيهية، أو التعليقات الطبقية لسكان الكومباوندات عن مشكلات تحدث لمجتمعاتهم المسورة بسبب الزوار من عمال وغرباء، أو مشاجرات طلبة المدارس الدولية وسلوكيات بعضهم المثيرة للجدل. هذه النقاشات تكشف وعي الشارع بما يحدث، وإدراكه التحيزات الطبقية للنظام القائم.  وفي الحقيقة فإن المراقب للأوضاع في مصر يدرك ببساطة تحيز النظام المصري لأهل إيجيبت على حساب الغالبية من سكان مصر؛ وهو تحيز لا يبدو مفهومًا، إذا قرأناه من زاوية أن أصحاب رؤوس الأموال في مصر راكمو ثرواتهم بالاعتماد على المحسوبية والمشروعات الخدمية غير المنتجة، بالتالي هم أبناء السلطة ونتاج سياساتها، ويحتاجونها لمواصلة مراكمة الثروة، في حين لا تحتاجهم السلطة. لكن هذا التحيز يبدو مفهومًا، إذا أخذنا في الاعتبار أن سكان مصر وهم الغالبية، هم من يفجرون الثورات ويقودون الاحتجاجات ويحلمون بالتغيير، ويمثلون ضغطًا على النظام القائم. إيجيبت حين تختفي المواطنة ويحضر السوق: ليست الجنسية هي معيار الانتماء إلى ايجيبت إنما حجم الثروة ومستوى الدخل، فالجنسية والولادة في مصر، والتمتع بالانتماء لها، لا يجعل صاحبه من سكان ايجيبت؛ وهذا يحقق أمرين؛ الأول: الشعور بالتميز والاختلاف لمن يملك البقاء في هذه الأماكن، الثاني: يستهدف تحقيق رغبة الدولة في خلق إيرادات أجنبية.  نشير هنا إلى إعلان سلفستر ستالون عن مشروع ساوث ميد في الساحل الشمالي، وقد كان الحوار في الإعلان “باللغة الإنجليزية و بلكنة أمريكية خالصة، وتُرجمَ للعربية كأنه إعلان غربية. كما نشير إلى إعلانات “طلعت مصطفى” المتحدثة بالعربية، لكن الخطاب السائد فيها أيضًا هو “العالمية”. مظهر آخر من مظاهر اعتماد معيار الثروة كمعيار وحيد للانتماء لـ “إيجيبت” نقرأه في الإعلان الترويجي لمشروع رأس الحكمة الذي اشتمل على عبارة “فقط للأجانب وأصحاب الجنسية المزدوجة أو الجنسية الثانية أو جواز السفر الثاني أو الجنسيات المتعددة”، مصحوبة بصورة جوية للمشروع. ومن أبرز ملامح سكان إيجيبت، الهروب إلى المجتمعات المسورة، نهم الاستحواذ والتملك والاستهلاك،  الحرص على الاستعراض، خاصة لدى الصاعدين الجدد إلى الطبقة، الحديث بغير العربية، الانفصال عن المجتمع من حيث عاداته وتقاليده وربما همومه، “أنماط علاقات غير مألوفة بين من ينتمون ” لـ Egypt ” وبينهم والمجتمع، فهم فيما بينهم يرون أن كل شيء مباح وأن علاقاتهم مبنية على المساواة والندية، ويرون أنهم أفضل حالا من المجتمع الذي يعيشون فيه، فهم صفوة المجتمع، ولا ينبغي عليهم أن يكونوا صداقات مع أي أحد ممن “ينتمون لمصر” بسبب الاختلافات الكبيرة بينهم”. لكن أبرز ملامح أهل إيجيبت، أن ليس لهم حقوقًا سياسية، بمعنى أن ما اكتسبوه من امتيازات ليس بوصفهم مواطنين، إنما باعتبارهم يملكون ثمن هذه الامتيازات والخدمات؛ ومن ثم يمكن سحب هذه الامتيازات منهم في حال عجزوا عن الوفاء بتكلفتها. ويمكن كذلك أن يطالهم الإقصاء والتهميش في حال حاولوا ترجمة امتيازاتهم الطبقية إلى امتيازات سياسية. وبالتالي فإن علاقتهم هي علاقة زبونية، هم زبائن والدولة مقدم خدمة؛ بالتالي فالدولة في هذه الحال أقرب للشركة.  سكان مصر… بلاد الأشياء الأخيرة: يعيش أهل مصر ظروف هي معكوس أوضاع أهل إيجيبت؛ إذ تتبخر كل الضمانات، ويصبح كل شيء عرضة للتغيير، وكل حق عرضة للانتزاع. ومراجعة سريعة لسياسات الحكومة خلال الفترة الأخيرة يكشف ذلك بصورة واضحة. إذ تحولت الخدمات إلى أدوات فرز طبقي، وباتت السياسات الحكومية تتجه بصورة واضحة إلى تقليص الخدمات المقدمة للجمهور، عبر رفع سعر الخدمة، أو حتى خصخصتها بالكامل وإخضاعها لمنطق السوق القائم على تعظيم الربح وتقليل التكلفة.  نشير هنا إلى ثلاث أمثلة: الأول… التعليم: هناك مدارس دولية للطبقة الغنية والشرائح الأعلى من الطبقة الوسطى، وهناك عدة شرائح من المدارس الخاصة، يختلف مستوى الخدمات التعليمية التي تقدمها، باختلاف الشرائح التي تستهدفها، وأخيرًا، المدارس التجريبية والحكومية. والجامعات كذلك باتت أداة فرز طبقي. الثاني… الصحة: نجد الأمر نفسه، إذ هناك مستشفيات خاصة، يختلف مستوى الخدمة الطبية التي تقدمها باختلاف الوضع الطبقي للفئات المستهدفة، وفي قاع الهرم المستشفيات الحكومية التي تداعى مستوى الخدمات التي تقدمها بشكل كبير. ليس هذا فقط، إنما هذه المستشفيات باتت عرضة للخصخصة، بعد التصديق على قانون يسمح للقطاع الخاص في استئجار المستشفيات الحكومية، وهو ما ألقى بظلال كئيبة على المستشفيات التي أدركها قطار الخصخصة، مثل مستشفى أورام دار السلام «هرمل». ومع الخصخصة تأتي قرارات إعادة تسعير الخدمات الصحية التي تقدمها المنشآت الصحية الحكومية، إذ أصدر “وزيرا الصحة والتنمية المحلية، لائحة جديدة للمستشفيات ومراكز الخدمات العلاجية والوحدات الصحية ومكاتب الصحة، وتضمنت اللائحة التي أصدرها الوزيران برقم 75 لسنة 2024، ونشرتها جريدة الوقائع المصرية، رفع أسعار تذاكر العيادات الصباحية من جنيه إلى عشرة جنيهات في المستشفيات العامة، وخمسة جنيهات في الوحدات الصحية، على أن يجوز مضاعفة كل منها خمس مرات، بعد موافقة مديرية الصحة المختصة. بالإضافة إلى تقليص نسبة العلاج المجاني بالمستشفيات العامة من 60% في اللائحة القديمة، إلى 25% في اللائحة التي بدأ تطبيقها في الرابع من مارس 2024. الثالث… الإسكان: يكفي أن نعرف أن بيانات “المركزي للإحصاء” تُظهر تراجع نسبة وحدات الإسكان الاقتصادي من إجمالي الوحدات التي نفذتها الحكومة، من 99.3% في 2014/ 2015 إلى 40.6% في 2022/ 2023. وأن محافظتي الجيزة والقاهرة شهدت “هدم ما يعادل 57343 وحدة سكنية، وعليه إخلاء ما يقارب 2867150…

تابع القراءة

التطبيع بين إسرائيل وسوريا: المحفزات والمعوقات

يعيش الملف السوري – الإسرائيلي حالة من الزخم الإعلامي والسياسي غير المسبوق منذ عقود. فمع انهيار النظام السوري في ديسمبر 2024، وانكشاف الجنوب السوري أمام متغيرات ميدانية غير مألوفة، طفت على السطح تسريبات عن لقاءات غير معلنة بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، وسط وساطات عربية وإقليمية، وتصريحات أمريكية تفيد بإمكانية “تفاهمات قريبة”. فهل نحن أمام تحول استراتيجي في العلاقة بين دمشق وتل أبيب؟ أم أن السلام الموعود لا يزال بعيدًا، رغم حرارة التصريحات؟. أولًا: مؤشرات التطبيع بين إسرائيل وسوريا: كثر مؤخرًا الحديث عن لقاءات ذات طابع أمني بين سوريا و”إسرائيل”، بعضها لقاءات مباشرة شارك فيها مسؤولون رفيعو المستوى من الجانبين، إضافة لأحاديث وتصريحات أمريكية و”إسرائيلية” عن احتمال التوصل لاتفاق أمني بينهما يمهد لاحقًا لتطبيع العلاقات، في ظل حالة من شبه الصمت الرسمي السوري. كانت الإشارة الأولى على إمكانية تطبيع العلاقات بين سوريا و”إسرائيل” وردت لأول مرة في لقاء الرئيس السوري للفترة الانتقالية أحمد الشرع مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرياض، في 14 مايو 2025، حين حث الأخير نظيره السوري على التطبيع في سياق وعده برفع العقوبات عن سوريا. وفي مؤتمره الصحافي مع نظيره الفرنسي، أقر الشرع بوجود مفاوضات غير مباشرة مع “إسرائيل”، مؤكدًا على أن هدفها هو “تهدئة الأوضاع وعدم خروجها عن السيطرة”، في إشارة للاعتداءات “الإسرائيلية” المتكررة، بما في ذلك نقض اتفاق فض الاشتباك لعام 1974 وتوسيع الاحتلال وتدمير مقدرات الدولة السورية من سلاح ومنشآت ومعاهد بحثية، إضافة لحديث التقسيم ودعم الأقليات. وزعمت صحيفة “يديعوت أحرونوت”، نقلًا عن مصادر سورية، لم تسمها، أن الرئيس السوري أحمد الشرع التقى برئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي خلال زيارته إلى أبوظبي. وتابعت الصحيفة أن هذه المصادر أفادت بأن سوريا تجري محادثات “هادئة” مع إسرائيل، لا تهدف إلى السلام، بل إلى اتفاقية أمنية محدودة. على جانب آخر، نفت وكالة الأنباء الرسمية “سانا” في خبر مقتضب، نقلًا عن مصدر في وزارة الإعلام لم تسمه، صحة الأنباء المتداولة عن اجتماع الشرع مع مسؤولين إسرائيليين. ونقل موقع i24NEWS الإسرائيلي عمن وصفه بالمصدر السوري المطلع أن الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع حضر اجتماعًا مباشرًا واحدًا على الأقل، مع مسؤولين إسرائيليين في العاصمة الأذربيجانية باكو، في تطور يتعارض مع رواية رسمية نُشرت في وسائل إعلام سورية أكدت عدم مشاركته في أي محادثات مع الجانب الإسرائيلي. وأوضح المصدر، الذي وُصف بالمقرب من الرئيس الشرع، أن اللقاء كان جزءًا من سلسلة من اجتماعين أو ثلاثة عُقدت بين الطرفين، بحضور وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، إلى جانب أحمد الدالاتي، منسق الحكومة السورية للاجتماعات الأمنية مع إسرائيل.ويضم الوفد الإسرائيلي مبعوثًا خاصًا لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلى جانب مسؤولين أمنيين وعسكريين رفيعي المستوى. ووفق المصدر ذاته، تهدف الاجتماعات إلى بحث اتفاقية أمنية محتملة بين سوريا وإسرائيل، تتناول ملفات الوجود الإيراني في سوريا ولبنان، أسلحة “حزب الله”، الفصائل الفلسطينية، المخيمات في لبنان، ومستقبل اللاجئين الفلسطينيين من غزة، بالإضافة إلى إمكانية فتح مكتب تنسيق إسرائيلي في دمشق دون طابع دبلوماسي. في السياق نفسه، أفادت قناة “كان” الإسرائيلية بأن اجتماعًا مباشرًا عُقد بالفعل بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين في باكو، ناقش خلاله الطرفان المطلب السوري بانسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب سوريا، وسلسلة من التنسيقات بين الجانبين. وذكرت القناة أن لقاءً مرتقبًا سيجمع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ونظيره الإسرائيلي جدعون ساعر، في 14 يوليو 2025، في مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، دون تأكيد بشأن اجتماع ثنائي منفصل. واستندت صحيفة “يسرائيل هيوم” في تقريرها إلى ما نقلته قناة “إل بي سي آي” الإخبارية اللبنانية عن شروط سوريا لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. ويفيد التقرير بأن هذه الشروط تتضمن اعترافًا إسرائيليًا رسميًا بحكومة الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع، وانسحابًا كاملًا من الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد سقوط نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في ديسمبر 2024. كما تتضمن الشروط وقفًا شاملًا للغارات الجوية الإسرائيلية على سوريا وترتيبات أمنية جنوبي البلاد، إلى جانب ضمانات ودعم أمريكي للحكومة السورية. وفي المقابل، حسب الصحيفة، قد توافق سوريا على الاعتراف الدائم بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل. في التصريحات الرسمية وتعقيبًا على أخبار المحادثات بين الجانبين، قال وزير خارجية “إسرائيل” جدعون ساعر نهاية يونيو 2025 إن “لبلاده مصلحة في ضم دول جديدة، كسوريا ولبنان، لدائرة السلام والتطبيع”، مشددًا على أن الجولان “ستبقى جزءًا لا يتجزأ من إسرائيل في أي اتفاق سلام محتمل”. في المقابل، كانت صحيفة “الوطن” السورية قد نقلت عن مصادر رسمية نفيها القاطع لمشاركة الرئيس الشرع في أي لقاء مع وفود إسرائيلية، مؤكدة أن ما يجري في أذربيجان يندرج ضمن “استراتيجية تهدئة، لا تطبيع”، وأن الحديث عن اتفاق سلام “سابق لأوانه”. في المقابل، أفاد مصدر دبلوماسي مطلع في دمشق بأن اللقاءات تدور حول “الوجود العسكري الإسرائيلي المستحدث في جنوب سوريا”، في إشارة إلى توغل الجيش الإسرائيلي بعد سقوط نظام بشار الأسد قبل أكثر من سبعة أشهر. وفي الرابع من يوليو 2025، وفيما بدا ردًا على التصريحات “الإسرائيلية”، أكدت الخارجية السورية في بيان لها استعداد دمشق “للتعاون مع الولايات المتحدة للعودة إلى اتفاق فض الاشتباك مع إسرائيل لعام 1974″، وهو البيان الذي صدر إثر اتصال هاتفي بين وزيري خارجية البلدين ناقشا فيه “الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الجنوب السوري”. فيما كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طلب منه رفع العقوبات عن سوريا. وفيما يتعلق بالخطوات العملية، قامت دمشق بإغلاق مكاتب الفصائل الفلسطينية المدعومة من إيران على الأراضي السورية، والقبض على عناصر من منظمات مسلحة شيعية وسنية مثل حركة الجهاد الإسلامي، ومصادرة شحنات أسلحة كانت في طريقها إلى حزب الله. وعليه، اعتبرت هذه الخطوة رسالة طمأنة من دمشق إلى إسرائيل مفادها أن الأراضي السورية لن تكون مكانًا لنشاط تنظيمات معادية لإسرائيل. أما من الجانب الإسرائيلي فتمثلت الخطوات العملية في تراجع عمليات القصف الإسرائيلي في سورية؛ فمنذ اللقاء الثاني الذي جمع نتنياهو وترامب في البيت الأبيض في 8 أبريل 2025، تراجع القصف الإسرائيلي على سورية بشكل كبير، وفي بعض الفترات سادت حالة من الهدوء في العمليات العسكرية الإسرائيلية في سورية. وأيضًا تجاوز أزمة الدروز في سورية؛ فبعد اندلاع الأزمة في بلدتي صحنايا وجرمانا بريف دمشق، لم تتخذ إسرائيل إجراءات شديدة في هذا الشأن كما وعدت مع صعود السلطة الجديدة، فقد هددت بعمليات عسكرية في المناطق الدرزية للدفاع عنهم، بل اكتفت بعمليات غلب عليها الطابع الرمزي، مثل قصف مجموعة مسلحة كانت متوجهة إلى منطقة درزية، والتحليق فوق القصر الرئاسي وقصف هدف قربه. والتغير الأهم تمثل في دعوة إسرائيل لأول مرة النظام السوري إلى أخذ مسؤولياته للحفاظ على الدروز، وهو توجه جديد يدل على تطبيع إسرائيل مع السلطة الجديدة في سورية. ثانيًا: محفزات التطبيع بين إسرائيل وسوريا: تؤدي مصالح الطرفين، السوري والإسرائيلي، دورًا في انطلاق المباحثات بينهما، ويمكن الإشارة إلى…

تابع القراءة

الموقف الروسي والصيني تجاه الحرب بين إيران وإسرائيل: الأبعاد والمحددات

في خضم اشتعال حدة المواجهات المسلحة الإسرائيلية-الإيرانية، التي استمرت 12 يومًا من الهجمات والهجمات المضادة العنيفة (من 13 إلي 24 يونيو 2025)، التي كادت أن تصل إلى حرب شاملة كارثية على الشرق الأوسط برمته، أصطف خلالها الجيش الأمريكي الأقوى في العالم إلى جانب جيش الدفاع الإسرائيلي، وكذلك أعلنت غالبية العواصم الأوروبية دعمها الكامل لإسرائيل في ضرورة تحقيق هدفين: إزالة التهديدين النووي والباليستي لإيران. في المقابل، وجدت إيران نفسها وحيدة في المعركة، في موقف لا تحسد عليه، ولم تقدم لها الدول التي تصنفها على أنها حليفة مثل الصين وروسيا، أي شكل من أشكال المساندة أو التهديدات الرادعة، التي تمكنها ردع إسرائيل أو الحد من سقف أهدافها تجاه إيران، مقارنة بما قدمته الولايات المتحدة من مساندة عسكرية مباشرة لإسرائيل بقصف قاذفاتها الاستراتيجية الشبحية الأُصول النووية الإيرانية. واختار الشريكان الاستراتيجيان لإيران الوقوف على الحياد، واكتفيا بإدانة التصعيد الإسرائيلي، وحتى عندما أخذت روسيا خطوة أبعد من الإدانة، فلم تتخط حاجز الحياد المصلحي، وطرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الوساطة لإنهاء المواجهات المسلحة بين الطرفين. أولًا: أبعاد الموقف الروسي والصيني تجاه الحرب بين إيران وإسرائيل:  يمكن الوقوف علي أبعاد الموقفين الروسي والصيني تجاه الحرب بين إيران وإسرائيل كما يلي: 1- لم تكن لهجة روسيا في الحرب بين إيران وإسرائيل متوقعة بالنسبة للكثيرين ممن انتظروا سماع عبارات تهديد رنانة من الرئيس الروسي بوتين ومسئوليه، والأهم ربما توقعوا دعمًا عسكريًا روسيًا مؤثرًا لطهران، خاصة أن موسكو لا تحتمل أن تخسر حليفًا جديدًا في الشرق الأوسط بحجم إيران بعد أشهر من سقوط بشار الأسد في سوريا، لكن روسيا آثرت أن تكون لهجتها أكثر ميلًا للاتزان، مقتنعة بأن الدور الذي يمكن أن تلعبه هو دور الوسيط بين المتخاصمين. منذ الساعات الأولى للتصعيد الإيراني الإسرائيلي، اتخذت موسكو موقفًا اتسم بالحذر الشديد، عبرت فيه عن قلق بالغ من انزلاق الأوضاع نحو مواجهة إقليمية شاملة، دون أن تتورط في أي دعم عملي لطهران. فقد أدانت وزارة الخارجية الروسية الضربات الإسرائيلية ووصفتها بأنها “انتهاك صارخ لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة”، ومحذرة من أن الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية “يهدد بكارثة نووية عالمية”، وبحسب ما صرحت به المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية “ماريا زاخاروفا”، التي وصفت الغارات الإسرائيلية بأنها “لعبة مروعة لا يمكن التنبؤ بعواقبها”. ومع ذلك، بقي الرد الروسي في إطار التنديد اللفظي والدعوة إلى التهدئة، دون أن يترجم إلى دعم عسكري أو سياسي نوعي لإيران. هذا التوجه الروسي أثار جدلًا واسعًا حول مدى التزام موسكو باتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع طهران الموقعة في يناير 2025، خاصة أن المتحدث باسم الكرملين، “دميتري بيسكوف”، أوضح بشكل صريح أن “اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع إيران لا تتضمن بنودًا تتعلق بتقديم دعم عسكري متبادل”. وأضاف أن موسكو لم تتلق أي طلب رسمي من طهران لتقديم مثل هذا الدعم، مشددًا على أن المواقف الروسية واضحة في إدانة التصعيد لكنها لا تنسحب إلى خطوات ميدانية. وهذا التأكيد العلني بعدم وجود آلية دفاع مشترك يعكس سعي موسكو للفصل بين شراكتها السياسية مع إيران وبين انخراط مباشر في مواجهة قد تجرها إلى صدام مع إسرائيل أو حتى الولايات المتحدة. في الوقت ذاته، سعت روسيا إلى إبراز دورها كوسيط محتمل، وركزت على اتصالاتها الدبلوماسية المتكررة مع جميع الأطراف؛ إذ أجرى الرئيس فلاديمير بوتين محادثات هاتفية مع كل من الرئيس الإيراني، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، والرئيس الأمريكي، مؤكدًا أن “الحوار السياسي هو السبيل الوحيد لتسوية الخلافات”. كما أوضح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن “روسيا تواصل جهودها لتفادي المزيد من التصعيد”، داعيًا المجتمع الدولي إلى التحرك المشترك لاحتواء الأزمة. كل هذه التحركات تعكس تموضعًا روسيًا يهدف إلى الحفاظ على قنوات الاتصال مع مختلف الأطراف، دون الانحياز بشكل مباشر لطرف على حساب آخر، وذلك في الوقت الذي تحاول فيه موسكو اللعب بورقة التهدئة لكسب النفوذ دون كلفة استراتيجية باهظة. وعقب الضربة الأمريكية علي إيران، وصفت وزارة الخارجية الروسية الضربات الأمريكية بأنها “انتهاك صارخ” لميثاق الأُمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، محذرة من أن الهجوم ألحق “ضررًا بالغًا” بمصداقية “معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وآليات الرقابة التي تعتمدها الوكالة الدولية للطاقة الذرية”. ودعت موسكو إلى عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن، مطالبةً بعودة فورية إلى المسار الدبلوماسي. كما وصف البيان التحرك الأمريكي بأنه “غير مسؤول”، مشيرًا إلى خطر تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي. وفي الأُمم المتحدة، اتهم السفير الروسي فاسيلي نيبينزيا واشنطن بأنها “فتحت صندوق باندورا”؛ أي بوابة الشرور، وشبه مبررات الضربات بتلك التي سبقت غزو العراق عام 2003. كما رفض التبريرات الأمريكية واعتبرها واهية، محذرًا من مخاطر تطبيع العمليات العسكرية الأحادية الجانب. وربما كان أحد التصريحات الروسية القليلة التي ظهرت فيها النبرة المرتفعة هو إعلان الكرملين أن محاولة تغيير النظام في إيران يعد أمرًا غير مقبول، إذ صرح ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، بأن روسيا سترد “بشكل سلبي للغاية” في حال اغتيال المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، وأكد أن مثل هذا الأمر ينبغي ألا يكون الحديث عنه أو التفكير فيه مقبولًا. لكن حتى في تلك الحالة رفض بيسكوف – بحسب “سكاي نيوز”- أن يوضح التصرف الذي ستتخذه روسيا في حال اغتيال المرشد، وفضل القول إن الرد سيكون قويًا للغاية من داخل إيران، وبدأ يتحدث عن الأثر السلبي على المنطقة في حالة حدوث ذلك، إذ قال إن هذا سيؤدي إلى نشوب نزعات متطرفة داخل إيران، وإن على من يتحدثون عن قتل المرشد أن يستوعبوا ذلك ويضعوه في اعتبارهم، وأن يفهموا أنهم سيفتحون بذلك أبواب الشرور. ومثله، كان تهديد الرئيس الروسي السابق ونائب مجلس الأمن الروسي الحالي دميتري ميدفيديف بأن دولًا ثالثة قد تزود إيران بأسلحة نووية، حيث لم يفصح ميدفيديف عن هذه الدول، فيما امتنع المسؤولون الروس عن التعليق على هذا التصريح الذي انتقده الرئيس الأمريكي ترامب. 2- جاء الموقف الصيني متشابهًا مع الموقف الروسي، من حيث الوقوف علي الحياد، مع انتقاد الهجمات الإسرائيلية، ولكن دون تقديم دعم عسكري فعلي لإيران. حيث أجرى وزير الخارجية الصيني “وانغ يي”، في 14 يونيو 2025، اتصالات هاتفية مع نظيريه الإيراني والإسرائيلي. وقد أعرب الوزير “وانغ يي” خلال اتصاله مع نظيره الإيراني عن إدانة بلاده انتهاك إسرائيل لسيادة إيران وأمنها وسلامة أراضيها، ومعارضتها بشدة الهجمات المتهورة التي تستهدف المسئولين الإيرانيين وتتسبب في سقوط ضحايا من المدنيين. كما اعتبر أن هجمات إسرائيل على المنشآت النووية الإيرانية تشكل سابقة خطيرة ذات عواقب كارثية محتملة، مؤكدًا على دعم الصين لإيران في حماية سيادتها الوطنية والدفاع عن حقوقها ومصالحها المشروعة وضمان سلامة شعبها. وخلال اتصاله الهاتفي مع نظيره الإسرائيلي، كرر وزير الخارجية الصيني الإعراب عن معارضة بلاده استخدام القوة ضد إيران، مؤكدًا على أن المهمة العاجلة تتمثل في اتخاذ تدابير فورية لتجنب تصعيد الصراع، ومنع المنطقة من…

تابع القراءة

مستقبل الشرق الأوسط علي ضوء الحرب بين إسرائيل وإيران

بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف إطلاق النار في الحرب التي نشبت بين إسرائيل وإيران وامتدت لاثنى عشر يومًا، في الفترة من 13 حتى 24 يونيو 2025، باستهداف إسرائيل المنشآت الإيرانية الاستراتيجية، منها النووية والعسكرية والاقتصادية، وكذلك استهداف عدد من علماء الذرة والقيادات العسكرية، وفي المقابل ردت إيران باستهداف العديد من المدن الإسرائيلية والمواقع الاستراتيجية في تل أبيب وحيفا وبئر السبع وغيرها. ومع إعلان طرفي الصراع انتصار كل منهما فى تلك الحرب، بدا التساؤل المركزي يدور حول ما إذا كانت نتائج تلك الحرب ستؤدى إلى تغير موازين القوى فى إقليم الشرق الأوسط، أم إن نتائج المواجهات بين الطرفين – وحتى بعد دخول الولايات المتحدة لمساندة إسرائيل واستهداف ثلاث منشآت نووية إيرانية هى: فوردو ونطنز وأصفهان – لا تزال قيد التقييم، وأن تغيير موازين القوى في إقليم الشرق الأوسط يحتاج لعقود متتالية فى ظل التداخل الإقليمي والدولي مع تفاعلات المشهد المعقد بمفرداته المتعددة. وفي محاولة للإجابة علي هذا التساؤل، يمكن الإشارة إلي مجموعة من العوامل الرئيسية التي يمكن أن تساهم في محاولة استشراف مستقبل إقليم الشرق الأوسط علي ضوء هذه الحرب، تتمثل أبرزها فيما يلي: أولًا: جدل النصر والهزيمة: أثارت الحرب بين إيران وإسرائيل حالة من الجدل حول حسابات النصر أو الهزيمة لكلا الطرفين. ففي حين يري البعض أن الحرب انتهت بانتصار إسرائيل بعد أن اتضح بجلاء الاختلال النوعي في ميزان القوى بين إسرائيل المدعومة أمريكيًا، وإيران التي حاربت منفردة. ناهيك عن إثبات إسرائيل لقدراتها الفائقة علي مهاجمة إيران عسكريًا داخل أراضيها عبر استباحة أجوائها، ومن خلال عمليات عسكرية نوعية قام بها عملاء لجهاز الاستخبارات الإسرائيلى “الموساد” إلى جانب عدد من أفراد القوات الخاصة الإسرائيلية “كوماندز”. فضلًا عن حالة الاختراق الاستخباراتى الغير مسبوقة التي استهدفت اغتيال قادة الصفين الأول والثانى فى الحرس الثورى والجيش الإيرانى، إلى جانب عدد كبير من العلماء النوويين وآخرين يعملون فى مجال التكنولوجيا العسكرية. كما أن الضربة الإسرائيلية للبرنامج النووي الإيراني؛ تجعل من إسرائيل القوة النووية الإقليمية الوحيدة، بل وخارج نطاق الرقابة الدولية.  في المقابل، يري البعض أنه بغض النظر عن نتائج حرب الـ(12) يومًا التى انتهت بقرار وقف اطلاق النار بإيعاز من الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، ورغم الخسائر المادية والعسكرية والبشرية التى لحقت بإيران، إلا أن الأخيرة أبدت قدرة لافتة على الصمود أمام الاستهدافات الإسرائيلية، رغم حالة الاختراق الاستخباراتى الواسعة، كما انتقلت من مرحلة الصمود إلى مرحلة الردع المتبادل واكتساب القدرة على استهداف البنية الداخلية فى إسرائيل من مراكز عسكرية وموانئ ومحطات للطاقة – غاز وكهرباء – ومراكز بحثية عسكرية مهمة. هذا بخلاف حالة الصدمة المعنوية التى أحدثتها صواريخ إيران الباليستية لدى المجتمع الإسرائيلى، وانكشاف نظام القباب الحديدية المتنوعة كأداة حماية أمنية عسكرية ضد الاستهدافات الصاروخية والمسيرات المناوئة، ما يشير إلي أن إيران استطاعت – رغم قسوة الخسائر- أن تفرض معادلة ردع متبادل مع إسرائيل، وأن إسرائيل لم تستطيع تحقيق أهداف النصر الذى ترغبه فى إيران؛ فلم تستطع القضاء الكلى على البرنامج النووى الإيرانى فضلًا عن احتفاظ إيران بمخزون اليورانيوم المخصب – وإن كانت الضربات الأمريكية لمنشآته ستؤدى حتمًا إلى تأخير مساره لسنوات مقبلة تتراوح ما بين 5 إلى 10 سنوات – كما أنها لم تستطع إحداث تحول داخلى قوى على الساحة الإيرانية ينتج عنه تغيير النظام السياسى القائم. ثانيًا: بروز إسرائيل كقوة مهيمنة علي الإقليم: سوف تسعى تل أبيب إلى الاستفادة من هذه الحرب في تحقيق هدفها المتمثل في إعادة تشكيل الشرق الأوسط الذي تحدث عنه رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، عدة مرات على مدى عامين، والذي تتمثل أبرز ملامحه فيما يلي: ولكن في مقابل ذلك فإن هناك عددًا من العراقيل أمام إسرائيل في قيادة الشرق الأوسط الجديد كما يصرح نتنياهو: ثالثًا: إعادة إيران تقييم سياساتها: تبقى إيران بعد الحرب قوة إقليمية جريحة وضعيفة نسبيًا، وخاصة بعد تآكل أذرعها في المنطقة. والأرجح أن إيران سوف تسعى إلى ترميم نظامها الدفاعي لتعويض خسائرها، وإعادة بناء قدراتها العسكرية، وربما تصل إلى الاقتناع بأن الوصول إلى القنبلة النووية هو أهم ضمانة لحماية أمنها في المستقبل كما حدث في حالة كوريا الشمالية.  كما أن المشروع الإيرانى فى المنطقة يبدو وكأنه مقبل على تطورات ومتغيرات جديدة نابعة من نتائج الحرب الإسرائيلية-الإيرانية، التي أثارت العديد من التساؤلات حول أسباب عدم مساندة محور إيران الإقليمى – حزب الله اللبنانى والمليشيات العراقية وجماعة أنصار الله الحوثية اليمنية – لها فى حرب الـ 12 يومًا من ناحية، ومستقبل هذا المحور من ناحية ثانية، وهل ستعيد إيران بناؤه مجددًا؟ أم أنها ستكتفى بالحفاظ على ما تبقى منه – المليشيات العراقية وجماعة أنصار الله الحوثية – انتظارًا لما ستسفر عنه جولة التهدئة الحالية بينها وبين إسرائيل والولايات المتحدة من ناحية ثالثة؟ ثمة رؤى مختلفة حول موقف إيران- وبعد المواجهة المباشرة مع إسرائيل- من فكرة إعادة إحياءها لـ”محور المقاومة” الإقليمى من عدمها. فثمة آراء تقول بأن موقف النأى بالنفس الذى اتخذته أذرع إيران فى الإقليم بشأن المواجهات بين الأخيرة وبين إسرائيل يعود إلى وجهة نظر إيرانية هدفها عدم انزلاق تلك الأذراع وتحديداً (المليشيات العراقية وجماعة أنصار الله الحوثية) ضمن حرب قد تؤدى إلى “إنهاء” تلك الأذرع بصورة كاملة؛ بمعنى أن إيران لا ترغب فى أن تتعرض المليشيات العراقية ولا الجماعة الحوثية للسيناريو الذى تعرض له حزب الله اللبنانى، ويدلل أنصار هذا الرأى على تلك الاحتمالية بنمط التفاعل الإيرانى نفسه مع مسار الحرب خلال مدة الـ (12) يومًا؛ حيث لم تنفذ إيران تهديدها بشأن غلق مضيق هرمز أو الإيعاز للحوثيين بإغلاق باب المندب، وهو ما اعتبره المحللون نمطًا للرد المحسوب والمدروس من قبل إيران، بحيث لا يؤدى إلى الإجهاز على نظامها الداخلى ولا على برنامجها النووى من ناحية، ولا يؤدى كذلك إلى إشعال حرب إقليمية واسعة تتطلب دخول أذرعها الإقليمية على خط المواجهة من ناحية ثانية، وهذا التفسير يعنى أن إيران لاتزال ترغب فى الحفاظ على محورها باقيًا، حتى وإن لم يقدم لها دعمًا واضحًا فى حربها مع إسرائيل. وهناك رؤية مقابلة تقول بأن إيران لم تعد تمتلك خيارات واسعة بشأن إعادة إحياء “محور المقاومة” الإقليمى من منطلق أنها نفسها قد تعرضت لهجوم مباشر على أراضيها، وأن ما تعرضت له من خسائر سيؤخر دورها فى دعم هذا المحور ومن ثم ستتراجع قدرتها العسكرية والمادية (وليس رغبتها) على إحياء هذا المحور مجددًا، فضلًا عن أن حسابات الداخل بالنسبة للجماعات المنضوية فى المحور باتت تفرض نفسها بقوة على طموحات تفاعلاتها الخارجية. ومن المرجح القول بأن إيران باتت غير قادرة حاليًا على إعادة الزخم لمحورها الإقليمى – وإن كان بصورة مؤقتة – حيث ستنشغل لفترة بترميم خسائرها الداخلية لاسيما حالة الاختراق الأمنى والاستخباراتى التى تعرضت لها من قبل إسرائيل، فضلًا…

تابع القراءة

اكتمال سد النهضة: حين تُوَجَّه الدعوة من أديس أبابا وتُكْتَب الهزيمة في القاهرة

في مشهد يعكس حجم التراجع الإقليمي لمصر، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، في 3 يوليو 2025، اكتمال بناء سد النهضة الكبير، موجّهًا دعوة رسمية إلى مصر والسودان لحضور حفل الافتتاح المزمع في سبتمبر المقبل. هذه الخطوة – رغم ما تحمله ظاهريًا من طابع دبلوماسي – تأتي كذروة مسار سياسي مائي فاشل، كرّسته الإدارة المصرية الحالية منذ توقيع “اتفاق المبادئ” الكارثي في 2015، الذي منح أديس أبابا للمرة الأولى اعترافًا قانونيًا بحقها في بناء السد دون أي ضمانات مُلزمة لحقوق مصر التاريخية في مياه النيل. لقد تحوّلت مصر من دولة مقررة إلى طرف مُستدرَج لحفلاتٍ تدشينية تأتي تتويجًا لهزيمتها الاستراتيجية في ملفٍ وجودي. من توقيع الخراب إلى لحظة الإذلال: كيف فتحت السلطة المصرية الباب للسد؟ يُجمع أغلب خبراء المياه والقانون الدولي أن الجريمة السياسية الكبرى لم تكن في بناء السد، بل في منح الشرعية له عبر توقيع اتفاق 2015. هذا الاتفاق – الذي وقّعه السيسي شخصيًا – أسقط صفة “الاعتداء غير المشروع” عن السد، واعتبره مشروعًا قوميًا إثيوبيًا يستحق الاعتراف والتعاون، دون اشتراط توقيع اتفاق ملزم بشأن سنوات الملء أو قواعد التشغيل. بل إن أخطر بنوده كان التعهد بـ”عدم الإضرار”، وهو بند غامض يسمح بتأويلات فضفاضة، ويضع العبء الإثباتي على مصر، لا على إثيوبيا. وبذلك، انتقل الملف من كونه خرقًا إثيوبيًا لحقوق مصر، إلى كونه خلافًا فنيًا قابلًا للحل، وهو ما استغلته أديس أبابا لاحقًا في جميع المحافل الدولية، لتبدو “متعاونة”، في حين ظهرت القاهرة بمظهر الطرف المراوغ. ولم تكن كارثة الاتفاق سوى تتويج لمسار أوسع من سوء الإدارة. فمنذ 2013، أفرغ النظام المصري المؤسسات الفنية من الكفاءات المستقلة، وأحلّ محلها دوائر أمنية ومكاتب ملحقة بالرئاسة، ما أدى إلى تهميش وزارة الري وتفريغ الهيئة العامة لمشروعات المياه من دورها. وتمت هندسة الملف سياسيًا لا علميًا، على نحو سمح بتوقيع اتفاق بلا دراسات، وبلا مداولات عامة، وبلا مساءلة برلمانية. لقد قرّر الجنرال توقيع الاتفاق كما يُوقّع أمرًا عسكريًا، ففتح بذلك الباب لحصار مصر مائيًا دون طلقة واحدة. الدعوة الإثيوبية: رسالة إذلال أكثر منها دبلوماسية دعوة آبي أحمد لمصر والسودان لحضور حفل الافتتاح ليست إلا تكتيكًا لإحكام قفل “مشروع السد” سياسيًا، وتثبيت الهيمنة الإثيوبية عبر مشهد احتفالي يُصور أديس أبابا كقوة تنموية صاعدة، والقاهرة كدولة فاشلة تُستدرج لتصفق لمن حاصرها. الخطاب الإثيوبي – المتكرر حول “فرص التنمية المشتركة” – لا يمكن فصله عن الواقع: أربعة ملءات تمت دون اتفاق، رفض متكرر لتقديم بيانات التشغيل، تقارير تؤكد التخزين في فترات الجفاف، وتعنت في إدماج أي آلية إنذار مبكر تُفيد مصر أو السودان. بل إن أديس أبابا تمادت في التهديد بإدارة مياه النيل باعتبارها “سلعة سيادية”، ملوّحة بفكرة تسعير المياه أو بيع الكهرباء بشرط الخضوع السياسي، وكل هذا بفضل توقيع السلطة المصرية على اتفاق منحها الأرضية القانونية. انهيار المنظومة المائية والزراعية: نتائج حتمية لفشل سياسي الخطر المائي الذي يتهدد مصر لم يعد سيناريو مستقبليًا بل واقعًا معاشًا. فبحسب تقرير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (2024)، تراجعت حصة المواطن المصري من المياه إلى 540 مترًا مكعبًا سنويًا، مع توقع نزولها تحت خط الفقر المائي (500 م³) خلال عامين. وتشير بيانات رسمية إلى انخفاض منسوب بحيرة ناصر بمقدار 11 مترًا منذ بدء أول ملء لسد النهضة، ما أثّر مباشرة على كفاءة السد العالي وأدى إلى تقليص عدد أيام الري في محافظات الدلتا. كما تكشف تقارير صادرة عن وزارة الزراعة عن فقدان أكثر من 800 ألف فدان من المساحة المزروعة، بسبب نقص مياه الري، وارتفاع نسبة الملوحة في شمال الدلتا. وعوضًا عن معالجة الأزمة بخطط استراتيجية، لجأت الحكومة إلى مشاريع تحلية وصرف مكلفة، لا تُدار بشفافية، وممولة عبر قروض أجنبية، ما زاد من أعباء الدين العام. ومن المفارقات أن النظام العسكري الذي برر توقيعه الاتفاق بـ”ضمان السلم الإقليمي” يجد نفسه اليوم في مأزق تمويلي وأمني، مع ارتفاع تكلفة استيراد الغذاء، وانهيار قيمة الجنيه، وتنامي الغضب الشعبي في الأقاليم الزراعية. السودان: المراقب المتضرر في مشهد التواطؤ الإقليمي أما السودان، فقد دفع ثمناً مزدوجًا: التهميش المائي والانكشاف السياسي. فبعد أن غلبت عليه نغمة الحياد في بدايات الأزمة، فوجئ خلال الملء الأول والثاني بانخفاض مفاجئ في تصريف المياه، مما أدى إلى توقف محطات مياه الشرب في الخرطوم، وتدمير المحاصيل في النيل الأزرق. ولم تفلح محاولاته اللاحقة في فرض آلية لتبادل المعلومات، خاصة مع غياب سلطة مركزية موحدة بعد انقلاب 2021. وأصبح السودان اليوم في وضع تابع؛ يتحكم جاره الشرقي في تدفقات النيل، بينما تُفرَض عليه تبعات القرارات الإثيوبية دون أن يمتلك قدرة الرد أو التأثير. الختام: حين تدفع الشعوب ثمن هندسة السلطة إن اكتمال بناء سد النهضة لا يمثل فقط فشلًا تفاوضيًا أو هزيمة دبلوماسية، بل نتيجة حتمية لنظام انقلابي قام على تصفية الكفاءات، وتحويل ملفات الدولة إلى صفقات سياسية داخل غرف مغلقة. لقد أدارت السلطة المصرية أخطر ملف وجودي بعقل أمني، فوقّعت دون شروط، وتفاوضت دون أدوات، وأدارت الأزمة بمنطق التبرير لا الحل. واليوم، لا يمكن الحديث عن “خسارة معركة السد” دون تحميل النظام القائم المسؤولية السياسية والأخلاقية الكاملة. والمطلوب ليس مجرد نقد فني، بل مساءلة شاملة لمن منح الخصم مفاتيح النهر، ثم جاء يخطب في الناس عن الصمود.

تابع القراءة

تداعيات الحرب بين إسرائيل وإيران علي مصر

شنت “إسرائيل”، في 13 يونيو 2025، هجومًا عسكريًا جويًا واستخباراتيًا علي إيران تحت مسمي “الأسد الصاعد”، استهدفت خلالها المواقع النووية والقيادات العسكرية والعلماء النوويين والبنية الصاروخية. فيما ردت إيران بقذف “إسرائيل” بالصواريخ الباليستية والفرط صوتية تحت مسمي “عملية الوعد الصادق 3”. ومع استمرار المواجهات، قامت الولايات المتحدة، في 22 يونيو 2025، بشن هجوم على ثلاثة مواقع نووية في إيران، هي فوردو ونطنز وأصفهان. وفي 24 يونيو 2025، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن اتفاق تام بين إسرائيل وإيران على وقف إطلاق نار كامل وشامل، وذلك بعد هجوم إيران على قاعدة العديد في قطر. وقد كان لهذه الحرب التي اصطلح علي تسميتها بحرب الـ “12 يوم” تداعيات كبيرة علي مصر، اقصاديًا وسياسيًا وأمنيًا. أولًا: التداعيات الاقتصادية:  قال المتحدث الرسمي باسم رئاسة مجلس الوزراء المصري، محمد الحمصاني، أن رئيس مجلس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، أصدر قرارًا، في 16 يونيو 2025، بتشكيل “لجنة أزمات” عليا لمتابعة التطورات المتسارعة في المنطقة، في ظل التصعيد العسكري بين إيران و”إسرائيل”، وذلك بهدف تعزيز الاستعدادات الحكومية للسيناريوهات المحتملة كافة. وأوضح الحمصاني أن “اللجنة التي يترأسها مدبولي تضم عددًا من كبار المسؤولين وصناع القرار في الدولة، بينهم محافظ البنك المركزي، ووزراء الصناعة، والتخطيط، والتعاون الدولي، والكهرباء، والمالية، والتموين، والبترول، إلى جانب ممثلين عن وزارتي الدفاع والداخلية، وجهازي المخابرات العامة والرقابة الإدارية”. وأضاف أن “رئيس الوزراء سيعقد اجتماعات دورية مع اللجنة لمتابعة تطورات الوضع”، مؤكدًا أن “هناك تكثيفًا في الاجتماعات مع اللجان الاستشارية لمناقشة انعكاسات التصعيد الإقليمي على الاقتصاد المصري، وأمن الطاقة، والتوريد، والاستعدادات الأمنية، في إطار رؤية استباقية للتعامل مع أي تداعيات مباشرة أو غير مباشرة” وفق تعبيره. وكانت للحرب بين إسرائيل وإيران تداعيات اقتصادية سلبية علي مصر، تمثلت في: 1- ارتفاع أسعار النفط: يأتي النفط في مقدمة السلع التي تتأثر بالاضطرابات الجيوسياسية، وكانت الحكومة المصرية تخشي من ارتفاع أسعار النفط عالميًا (ارتفع النفط بحوالي 7% دفعة واحدة)، مما يؤدي إلى زيادة فاتورة الواردات لمصر من الطاقة، وارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل محليًا. كما أن ارتفاع أسعار النفط الدولية سوف يضغط على الموازنة العامة التي تحدد متوسط سعر البرميل عند 74 دولارًا، في حين أن المؤشرات قد تجعله يتجاوز 80 دولارًا للبرميل وأكثر في حال إطالة أمد الحرب. وكان من المتوقع أن يدفع ارتفاع أسعار النفط إلي انعقاد لجنة التسعير التلقائي التي تنعقد كل ثلاثة أشهر لزيادة أسعار الوقود، في حين أن الحكومة قدمت وعودًا بعدم زيادة أسعار البنزين والسولار حتى نهاية هذا العام. 2- توقف إمدادات الغاز: ترتبط الحكومتان المصرية والإسرائيلية باتفاق رسمي موقع في 18 فبراير 2018، بين مجموعة “دلك” الإسرائيلية وشركة “دولفينوس” المصرية، بقيمة 15 مليار دولار لبيع 7.2 بليون متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا، لمدة 15 عامًا. منذ ذلك الحين تعتمد مصر على الغاز المستخرج من الأراضي الفلسطينية المحتلة لتلبية ما بين 15 إلى 20 بالمئة من استهلاكها، وما بين 40 إلى 60% من إجمالي الإمدادات المستوردة إلى مصر. لكنه منذ بدء حرب الإبادة الدموية الإسرائيلية على 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، شهدت الإمدادات الإسرائيلية من الغاز لمصر 4 انقطاعات متتابعة؛ فمع عملية “طوفان الأقصى”، أغلقت إسرائيل حقل غاز “تمارا” لأسباب أمنية، لتنخفض واردات مصر بنسبة 51 بالمئة إلى 357 مليون قدم مكعب يوميًا، من نحو 850 مليون قدم مكعب يوميًا. وفي مايو 2025، أوقف الاحتلال الإسرائيلي ضخ الغاز من حقل “ليفياثان” مدة 10 أيام بدعوى أعمال الصيانة مما أدى إلى تفاقم عجز الغاز الطبيعي في مصر، واضطرت حكومتها إلى قطع إمدادات الغاز عن بعض الأنشطة الصناعية كثيفة الاستهلاك. ومع بدء الضربات العسكرية الإسرائيلية على إيران في 13 يونيو 2025، أوقفت إسرائيل ضخ الغاز من حقلي “ليفياثان” و”كاريش”، ما فاقم النقص الحاد في إمدادات الغاز لدى مصر، التي واصلت قطع إمدادات الغاز عن مصانع الأسمدة وتحويل محطات الكهرباء للعمل بالديزل. بعد 5 أيام من هذا التوقف وتحديدًا في 18 يونيو 2025، أعادت إسرائيل ضخ كميات محدودة من الغاز من حقل (تمارا) فقط، الأمر الذي استمر نحو 4 أيام فقط لتعاود تل أبيب منع إمدادات الغاز. وفي 22 يونيو 2025، أوقف الاحتلال الإسرائيلي ضخ الغاز للمرة الرابعة إلى مصر، دون إخطار مسبق، بالتزامن مع الضربة العسكرية الأمريكية ضد إيران، زاعمة أن حقل “ليفياثان” لم يُعاد تشغيله بالكامل. هذه الانقطاعات المتكررة لها تأثيرات سلبية مباشرة على الاقتصاد المصري، منها تقليص توريد الغاز لمصانع كثيفة الاستهلاك مثل الأسمدة والبتروكيماويات، وزيادة ساعات تخفيف الأحمال وانقطاع التيار الكهربائي عن المنازل. مما يجعل وزارة الكهرباء تضطر لتشغيل محطات الكهرباء بوقود بديل عن الغاز الطبيعي مثل المازوت والديزل، وهما أكثر تكلفة وأقل كفاءة ويساهمان في تلوث البيئة. فضلًا عن اضطرار القاهرة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من الأسواق العالمية بأسعار أعلى. كما أن تلك الضغوط دفعت بمصر إلى اللجوء إلى تأجير 6 وحدات تغويز عملاقة من ألمانيا وأمريكا وتركيا وقبرص لاستقبال الغاز المستور وإعادة ضخه إلى الشبكة القومية للغاز، ما يتطلب دفع مبالغ مالية ضخمة. وهي الإجراءات التي تضغط على احتياطيات مصر من العملة الصعبة وتزيد من فاتورة الواردات، وتؤثر سلبًا على سعر صرف الجنيه المصري الذي يشهد انخفاضًا مع بداية المواجهات العسكرية الإسرائيلية الإيرانية. ذلك الوضع دفع كثيرون للتساؤل حول رد الفعل المصري تجاه خرق إسرائيل اتفاقية تصدير الغاز الموقعة بينهما عام 2018، والإجراء القانوني الذي يجب أن تتبعه الحكومة المصرية. وهل ستقدم حكومة القاهرة على تقديم شكوى ضد حكومة تل أبيب في “غرفة التجارة الدولية” بالعاصمة الفرنسية باريس، كما فعلت إسرائيل مع مصر عقب تفجير خط الغاز بينهما المار في سيناء (خط أنابيب نقل الغاز بين عسقلان والعريش) وتوقف الإمدادات المصرية إلى الاحتلال في عام 2011، والحكم لـ”إسرائيل” في عام 2015 بتعويضات 1.76 مليار دولار. وبينما تتحدث تقارير عن وصول تدفقات من الغاز الإسرائيلي إلى الشبكة القومية في مصر بقدرات مبدئية 650 إلى 750 مليون قدم مكعب يوميًا اعتبارًا من بداية شهر يوليو 2025، وصولًا لمعدلات توريد الغاز إلى مليار قدم مكعب يوميًا خلال الفترة المقبلة من حقلي تمار وليفياثان. فقد تفاجأ المصريون بتلميح تقارير اقتصادية إسرائيلية إلى احتمال رفع تل أبيب سعر المتر المكعب من الغاز الذي تورده لمصر، مستغلة فترات دخول فصل الصيف وانقطاع الكهرباء، وتراجع إنتاج مصر من الغاز. ففي حين يبلغ سعر المليون وحدة حرارية من الغاز الإسرائيلي لمصر حوالي 6.7 دولارات، حسب صفقة الاستيراد الأولى، بقيمة 15 مليار دولار لـ 64 مليار متر مكعب، فإن “تل أبيب” طلبت زيادة السعر بنسبة 25% في الصفقات الحالية، ما يعني رفع السعر إلى حوالي 9.4 دولارات لكل مليون وحدة حرارية. 3- ارتفاع تأمين النقل البحري: دفعت الحرب بين إسرائيل وإيران نحو زيادة…

تابع القراءة

الحرب بين إسرائيل وإيران: السياقات والآفاق

أطلقت إسرائيل فجر الجمعة، 13 يونيو 2025، عملية عسكرية كبيرة ضد إيران تحت اسم “الأسد الناهض” شاركت فيها أكثر من 200 طائرة حربية، بما في ذلك مقاتلات “إف-35”. وقد أسفر الهجوم الذي برز فيه التفوق الاستخباري والتكنولوجي الإسرائيلي (والأميركي بطبيعة الحال) خلال اليوم الأول عن اغتيال نحو عشرين من كبار ضباط الحرس الثوري والقوات المسلحة الإيرانية، بمن فيهم قائد الحرس الثوري حسين سلامي، ورئيس هيئة أركان الجيش محمد باقري، وتسعة علماء نوويين. كما استهدف الهجوم مواقع البرنامج النووي الإيراني في نطنز (أصفهان) وفوردو (قم) وبارشين (شرق طهران) وآراك (غرب وسط البلاد)، فضلًا عن مراكز تصنيع الصواريخ البالستية وقواعد إطلاقها، ومنشآت إنتاج الطائرات المسيرة. وفي المقابل، ردت إيران بإطلاق عملية “الوعد الصادق 3″، حيث أطلقت أكثر من 150 صاروخًا بالستيًا وأكثر من 100 طائرة مسيرة في اتجاه إسرائيل تمكن العديد منها من تجاوز المنظومات الدفاعية الإسرائيلية والأميركية، التي شاركت في محاولات صد الهجوم الإيراني، وأصابت مناطق مختلفة من إسرائيل، بما فيها حيفا وتل أبيب. ورغم التعتيم والرقابة الأمنية المشددة من الجانب الإسرائيلي حول المواقع المستهدفة، تفيد بيانات الحرس الثوري ووسائل إعلام دولية، ومقاطع فيديو وشهادات نشطاء، بأن الضربات الإيرانية طالت مواقع حساسة وعميقة داخل إسرائيل مثل وزارة الدفاع الإسرائيلية، ومصافي النفط في حيفا، ومعهد وايزمان للعلوم. كما استهدف الهجوم الإيراني مدن وأحياء عدة مثل قيسارية ورمات غان وبيتاح تكفا وريشون لتسيون وبني براك وبيت يام، خلف أضرارًا جسيمة في المباني والمركبات. أولًا: سياقات الحرب بين إسرائيل وإيران: جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، منذ عودته إلى الحكم عام 2009، تدمير البرنامج النووي الإيراني هدفًا رئيسًا لكل الحكومات التي شكلها، سواء من خلال عمليات أمنية تخريبية، أو عبر استهداف العلماء النوويين الإيرانيين بالاغتيال. وفي هذا السياق، عارض أي تسوية سلمية لملف إيران النووي، ووقف بقوة ضد اتفاق عام 2015 الذي أبرمته إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، والذي عُرف رسميًا باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وسعى لإجهاضه، وهو ما حصل عندما قرر الرئيس ترمب الانسحاب منه في مايو 2018 وأعاد فرض العقوبات الاقتصادية على إيران في إطار سياسة عُرفت إعلاميًا بسياسة “الضغوط القصوى” التي استهدفت دفعها إلى القبول باتفاق جديد أكثر تشددًا في مراقبة نشاطاتها النووية. وفي العام نفسه، تمكنت إسرائيل من سرقة أرشيف البرنامج النووي الإيراني، وعرضت أجزاء منه للعلن. ونجحت في نوفمبر 2020 في اغتيال محسن فخري زاده، الذي تعده إيران بمنزلة “أب” لبرنامجها النووي. وقد ساهمت مجموعة من العوامل في تهيئة الشروط الملائمة لاتخاذ إسرائيل قرار شن حرب علي إيران، والحصول على موافقة الإدارة الأميركية في هذا الشأن، وكان أهمها فقدان إيران العديد من عناصر القوة التي كانت لديها، وذلك من خلال حدوث تطورات متسارعة؛ بعضها نتيجة لعمل إسرائيلي أو استغلال لوضع ما بعد عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023، وأبرزها ما يلي: ثانيًا: آفاق الحرب بين إسرائيل وإيران: القراءة الأولية لتطورات المشهد الملتهب منذ فجر الجمعة 13 يونيو 2025 تشير إلى أن ما يحدث بين إسرائيل وإيران حاليًا ليس مجرد جولة في صراع ثنائي مسلح، بل هو أقرب إلي الحرب الشاملة. وبطبيعة الحال فإن المواجهة الإيرانية الإسرائيلية الراهنة ليست حربًا مفتوحة بلا سقف زمني، إذ أنها محكومة بمحددات خمسة ترسم بشكل كبير ملامحها وإلى أي مدى يمكن الوصول إليه، ومن ثم استشراف مآلاتها المستقبلية. 1- القدرات العسكرية: تمثل القوة العسكرية العامل الأبرز الذي يحدد مصير أي معركة مسلحة، وفي الحالة الراهنة يتمتع طرفا المواجهة بإمكانيات وقدرات عسكرية كبيرة، إذ يصنف الجيش الإيراني في المرتبة الـ14 عالميًا بين أقوى الجيوش بينما يحتل الجيش الإسرائيلي المرتبة 17، وفقًا لعدد من المؤشرات التي تشمل عدد الأفراد والعتاد العسكري من آليات وطائرات وسفن حربية. وبعيدًا عن لغة الأرقام الخاصة بالإمكانيات العسكرية لكل طرف، فإن لكل منهما نقطة قوة يتميز بها، فعلى الجانب الإيراني مثلًا لديه تفوق كاسح في القوة الصاروخية، حيث تمتلك طهران صواريخ فرط صوتية تعرف باسم “فتاح-1” و”فتاح-2″، التي يصل مداها إلى 1500 كيلو متر، كما تمتلك صاروخ “قادر” وصاروخ “خيبر”. وتُقدر الترسانة الصاروخية الإيرانية بأكثر من 3000 صاروخ باليستي يصل مداها لنحو 2000 كيلو متر، أبرزها صواريخ “سجيل” و”خورمشهر”، هذا بخلاف صواريخ كروز التي يصل مداها إلى 1350 كيلو مترًا. كما تتفوق طهران في مجال الطائرات بدون طيار (المسيرات). أما على الجانب الإسرائيلي فهناك طفرة كبيرة في مجال الطائرات المقاتلة، والبون شاسع بين تل أبيب وطهران في امتلاك هذا السلاح سواء من حيث النوع أو القدرة القتالية، حيث تمتلك إسرائيل عددًا من الطائرات ذات الطرازات المتطورة والبعيدة تمامًا عن أيدي الإيرانيين أبرزها F 35I ، F 16I. علاوة على هذا هناك “Boeing 707 Re’em” وهي النسخة المعدلة من”Boeing 707″، والمخصصة للتزود الجوي بالوقود. 2- مستوى الإمداد والتموين: تتمتع إسرائيل بخطوط إمداد وتموين مفتوحة على مدار الساعة، حيث الدعم الأمريكي والغربي الذي لا يتوقف، وإن لم يعلن عنه بشكل صريح، لكن في الوقت ذاته لا يمكن تجاهله، وهو الدعم المنوع ما بين عسكري ولوجيستي واستخباراتي، فضلًا عن الغطاء السياسي والاقتصادي والإعلامي الذي يوفره المعسكر الغربي لحليفه الإسرائيلي. هذا الدعم يشكل حاضنة قوية من الأمان لدى جيش الاحتلال تمنحه الأريحية في تكثيف عملياته ضد الأهداف الإيرانية، وفي ذات الوقت يعفي حكومة نتنياهو من ورطة المقاربة الخاصة بالدخول في حرب على أكثر من جبهة في نفس الوقت، إيران واليمن وغزة، الأمر الذي يمكن النظر إليه كعامل قوة وربما حسم في مستقبل المواجهات الطويلة. وفي المقابل تعاني طهران من فقدان أو ندرة هذا المقوم، فبعيدًا عن التصريحات الصادرة عن باكستان وأفغانستان بشأن تقديم أوجه عدة من الدعم السياسي والعسكري لإيران لكنه الدعم – إذا ما ثبت فعليًا- الذي لا يلبي احتياجات الجيش الإيراني الفعلية في مواجهة كيان مدعوم من أقوى امبراطوريات الأرض اقتصاديًا وعسكريًا.  3- مستوى وحجم الخسائر: بعيدًا عن المعايير التقليدية والحسابات العسكرية المتعارف عليها بشأن تقييم الخسائر في مثل تلك المواجهات، فإن للمواجهة الإيرانية الإسرائيلية طابع خاص، يعيد تشكيل أولويات الخسائر تبعًا لكل طرف ووفقًا لبعض الاعتبارات التي قد تزيد من وقع خسارة هنا وتقلل من ذات الخسارة على الجانب الأخر والعكس. على الجانب الإيراني فإن الخسارة الأكبر تتمثل في استهداف العلماء وضرب القواعد النووية وقصف المنصات وقواعد الارتكاز الصاروخي والدفاعات الجوية، هذا بخلاف وضع المصانع العسكرية في مرمى النيران الإسرائيلية، علاوة على تدمير البنية النفطية من خلال نسف محطات الوقود وغيرها، وما لكل ذلك من إرهاق للاقتصاد الإيراني المنهك بطبيعة الحال. أما على المستوى الإسرائيلي فإن ضرب الجبهة الداخلية عبر زعزعة الأمن والاستقرار وتدمير نظرية الردع وتحويل تل أبيب وحيفا إلى مناطق أشباح، هي الخسارة الأكثر فداحة، فالمشاهد المتناقلة لحجم الخراب والدمار الذي حل بتلك المدن لم يعرفها الإسرائيليون…

تابع القراءة

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022