بقلم: حازم عبد الرحمن
أنتجت دولة الإمارات مسلسلا تاريخيا باسم ” ممالك النار”, بتكلفة 40 مليون دولار، ويتناول فترة دخول العثمانيين مصر بقيادة السلطان سليم الأول، وصراعه مع السلطان المملوكي قنصوه الغوري, ومن بعده طومان باي, وبدا واضحا أن المسلسل يهدف إلى تشويه تاريخ الدولة العثمانية التي تمثل تركيا امتدادا عصريا لها, وأيضا تأليب الرأي العام العربي, وخاصة المصري ضد تركيا الحديثة, رغم أن الأحداث التي يعالجها المسلسل قد مضى عليها أكثر من خمسة قرون, ولم يعد لها تأثير في السياسة الدولية اليوم, بل إن المماليك الذين قاتلهم سليم الأول لم يكونوا عربا ولا مصريين, فقد كانوا مجلوبين من بلاد بعيدة, وهم في غالبيتهم من بلاد الأتراك, ولا يتعاطف المصريون كثيرا مع فترات حكم المماليك التي اتسمت بعدم الرضا عن حكمهم؛ لكونهم مماليك, ولافتقارهم إلى صفات الحاكم العادل من القيام على شئون الرعية وإقامة العدل والالتزام بالشورى والأمانة .. إلخ .
ولا يعني ذلك الإجحاف بالدور التاريخي للمماليك في الدفاع عن البلاد ضد العدوان الخارجي, مثل قتال المغول والانتصار عليهم في عين جالوت, وكذلك مواجهة الحملات الصليبية وأسر ملك فرنسا لويس التاسع في معركة المنصورة, وما تلاها من تحرير الشام من التسلط الصليبي, وقد كان الهدف من جلبهم تجنيدهم في خدمة الدولة منذ أن بدأ في استخدامهم الخليفة العباسي المأمون, وجاء بعده الخليفة المعتصم بالله ليستقدم جنودا من التركمان ويضعهم في الجيش كي يعزز مكانته بعد ما فقد الثقة في العرب والفرس الذين قامت عليهم الدولة العباسية، وقد شجع ذلك الخلفاء والحكام الآخرين ممن جاءوا بعدهم في جلب المماليك؛ ليستعينوا بهم, حيث كان كل حاكم يتخذ منهم قوة تسانده، وتدعم الأمن والاستقرار في إمارته أو مملكته. وممن عمل على جلبهم الأيوبيون, وكان المماليك يخضعون لبرامج تربوية خاصة يتعلمون فيها الإسلام واللغة العربية, ويبايعون الملوك والأمراء، ويدربون على الطاعة والإخلاص والولاء, لكن صعود عدد منهم إلى قيادات الجيوش والتنافس بين كبارهم أوقع بينهم الفتن والأحقاد؛ فكان الطامعون منهم يتأمرون ضد بعض, حتى شاعت حوادث القتل بينهم للانقلاب على السلطة القائمة ومحاولة اغتصابها .
*علاقة المماليك والعثمانيين
كانت العلاقات بين الدولتين المملوكية والعثمانية علاقات أخوية, لم يعكر صفوها إلا خلافات لم تصل حد القتال, وكانت علاقة السلطان قنصوه الغوري بالسلطان بايزيد الثاني والد سليم الأول جيدة, وكانا متصوفين يتبادلان الهدايا, وقدم بايزيد الثاني أحدث أنواع المدافع إلى الغوري عندما طلبها, وكذلك قدم العثمانيون دعم أسطولهم البحري للماليك ضد البرتغاليين, وعندما تولى سليم الأول السلطنة كان اتجاه فتوحاته صوب أوروبا, كما كان نهج أسلافه من قبل, لكن حدثا خطيرا جعله يستدير إلى الشرق, وهو اتجاه السلطان إسماعيل الصفوي إلى نشر مذهبه الشيعي في شرقي الأناضول بعد إعلانه المذهب الشيعي مذهبا رسميا لدولته, وهو أمر خطير في سياسات الدول في كل العصور؛ فلم يكن أمام سليم الأول سوى التوقف عن حروبه في أوروبا, والاتجاه لقتال الشاه الصفوي الذي لم يكن جيشه يمتلك الأسلحة الحديثة من المدفعية والبنادق؛ فانتصر الجيش العثماني على الفرس في موقعة جالديران الشهيرة سنة 1514 م وفر الشاه إلى داخل بلاده.
وفي هذه الأثناء كانت مصر تعيش فترة عصيبة من تاريخها تحت حكم المماليك بقيادة السلطان الغوري؛ حيث تم اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح؛ فخسرت مصر عوائد مرور التجارة الدولية عبر أراضيها, وشاعت المؤامرات بين قيادات المماليك, وانتشرت الخيانات والتجسس, وهبط مستوى الوعي لدى العامة, وكان السلطان قنصوه الغوري يعتمد على رمال ” يضرب الرمل” ليعرف طالعه؛ فأخبره الرمال بأن نهاية ملكه ستكون على يد رجل أول حرف من اسمه “س” فجعل السلطان كل همه في تتبع كل من يبدأ اسمه بحرف السين من قيادات المماليك, وأخذ يرصد الجواسيس لتتبع تحركات “سيباي” أحد قادته.
وكان إمام الحديث الحافظ ابن حجر العسقلاني من مؤرخي العصر المملوكي, وسجل عددا من مظاهر سوء الحكم في ذلك العصر, وذكر أن أهالي دمياط كانوا يشتكون من ولاية ابن الملاح عليهم, وهو رجل فاجر, لا يدين بالإسلام؛ فكان حل المشكلة فقط في أن يعلن الرجل إسلامه, ويبقى في منصبه, رغم فجوره الذي ثبت بشهادة الشهود, مع أنه لو كان مسلما من الأصل, وهو على فجوره, ما جاز له أن يتولى على المسلمين, وهكذا كان سوء إدارة الحكم في الحقبة المملوكية, وشاع مثل ذلك في تولي سائر مناصب الدولة.
ولما جاء أحد التجار المغاربة إلى السلطان الغوري بـ “البندقية” وأخبره أن هذا سلاح جديد لم يظهر من قبل في المعارك بين الدول, ويقتل العدو عن بعد, رفض الغوري شراء هذا السلاح بحجة أنه لا يجوز شرعا قتل المسلم بالنيران!, وهكذا ارتسمت ملامح نهايات الدول على السلطنة المملوكية, وكانت خيانات اثنين من كبار قيادات المماليك سببا في تسهيل دخول العثمانيين مصر, وكان من هذه الخيانات الأمر بإخفاء المدافع القليلة التي في حوزتهم بالرمال, حتى لا يراها العثمانيون فيأخذوها(!), وهي خديعة لأن هذه المدافع هي السلاح الحديث الوحيد بيد المماليك المسلحين بالسيوف والأدوات الحربية القديمة,ويقاتلون كفرسان ومشاة, حسب الأسلوب الذي اعتادوا عليه دون تطوير, بينما كان الجيش العثماني مسلحا بالمدافع والبنادق وغيرها؛ فكان الطبيعي أن ينتصر برغم المقاومة الباسلة التي أبداها طومان باي ورجاله الذي قاتلوا بكل شرف وشجاعة حتى كانت الخيانة الأخيرة بتسليمه إلى السلطان سليم الأول ليتم إعدامه في مشهد رهيب خلع قلوب المصريين.
* بين الغوري وسليم الأول
يذكر أحد مؤرخي هذه الحقبة وهو ابن زنبل الرمال السابق الإشارة إليه في ضرب الرمل للسلطان الغوري أن سليم الأول عندما توجه إلى قتال الشاه إسماعيل الصفوي رفض علاء الدولة عامل الغوري على مرعش في الشام أن يبيع الأعلاف والمؤن لجيوش السلطان سليم, وهي تتقدم لحرب الصفويين؛ ما أدى إلى خسائر كبيرة في الدواب والعساكر العثمانية؛ فغضب سليم الأول, وأرسل إلى الغوري يشكو فعلة عامله على مرعش فأجابه الغوري بأن علاء الدولة عاص أمري, ثم كتب الغوري إلى علاء الدولة يشكره على ما فعل ويغريه بقتال السلطان سليم, كما خرجت جيوش الغوري مدججة بالسلاح إلى الشام, وهي تعتقد بأن الغوري سيعقد صلحا بين سليم الأول والصفويين, وليس بهدف قتال العثمانيين, وهناك رؤية مهمة للأحداث يذكرها العلامة محمد فريد وجدي بأن الفتح العثماني لمصر كان عملا مقصودا تماما انتقاما من مشروع تحالف لم يتم بين الصفويين والمماليك ضد العثمانيين, وفي الحالتين كان يمكن للسلطان الغوري أن يجنب البلاد مصير الحرب, لكنه كان يعتقد أن العثمانيين لا يمكن أن يجسروا على قتاله أو دخول مصر لما يعلمونه من فروسية المماليك وجلدهم في القتال, وهي مقولة قد تكون صحيحة بدون استخدام العثمانيين الأسلحة الحديثة, وهي تعكس جهل الغوري بالتقدم في مجال التسليح والتجمد عند نقطة سابقة في التاريخ, وتقدير حساباته عليها.
*طومان باي
بعد هزيمة الجيش المملوكي في موقعة مرج دابق, قاد البلاد طومان باي, ووصلته رسالة من السلطان سليم الأول, يطلب منه فيها أن تكون السكة (ضرب العملة) والخطبة باسم السلطان سليم الأول, وأن يكون طومان باي نائبا عن السلطان العثماني في مصر, ويروي ابن زنبل أن طومان باي ارتاح لهذا العرض لما فيه من حقن لدماء المسلمين, لكن أحد أمراء المماليك علم بوصول رسالة سليم الأول فأسرع بقتل حامليها الثلاثة, ولما بلغ الخبر سليم الأول جمع مستشاريه؛ فكان عملاؤه من خونة المماليك يحثونه على الحرب بينما كان رأي الصدر الأعظم يونس باشا أن يكتفي السلطان سليم بالشام ولا يدخل مصر, وحذره من مغبة التوغل فيها؛ فأخذ سليم برأي العملاء من المماليك, وجرت موقعة الريدانية, وعاشت القاهرة فترة حالكة من السواد والخوف والجوع, وقد انتقم القدر من أكبر خائنين من المماليك, وهما جانبيرد الغزالي وخاير بك فلقيا حتفهما بعد فترة قصير من تولي الأول نيابة الشام ( قتله مملوكه وحارسه تقربا للعثمانيين) والآخر نيابة مصر, ومات في الطاعون بعد عام من مقتل رفيق السوء الغزالي, وقد نفذ سليم عرضه الأول على طومان باي بأن تكون السكة والخطبة للسلطان العثماني وإدارة شئون الحكم للمماليك, لذلك يصف بعض المؤرخين هذه الحقبة بالمملوكية العثمانية, ولا يعني ذلك تبرئة ذمة سليم الأول من الدماء التي سالت على أرض مصر؛ فقد كان بإمكانه الأخذ بنصيحة الصدر الأعظم ويكتفي بالشام, ويحقن دماء المسلمين, والجدير بالذكر أنه حكم الدولة العثمانية من سنة 1512 حتى سنة 1520م .
الخلافة العثمانية في مصر
مضى الآن على معركة الريدانية, وما شهدته مصر على أثرها من مآس أكثر من خمسمائة عام, ولم يعد لها تأثير في حاضر السياسة الدولية, التي تشهد تحالفات بين دول قتلت من بعضها الملايين مثل أوروبا في الحرب العالمية, وهي الآن في تحالف كامل عبر الاتحاد الأوروبي, أما أن يأتي ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد لينبش في الماضي البعيد, ويستخرج منه أسوأ ما فيه, من خلال عمل فني ينفق عليه ملايين الدولارات؛ فإنه هنا لا يقل عن قيادات المماليك الذين ضحوا ببلادهم, حمقا وخيانة, في سبيل الطموح الشخصي, ولن يكون مصيره أفضل من خاير بك وجانبيرد الغزالي, وأما تشويه الخلافة العثمانية بعد إلغائها سنة 1924 م فقد ثبت فشله وخطؤه, وانكشفت خديعة مصطفى كمال أتاتورك وجماعته من المتآمرين على دولة الخلافة, حيث أنهم بعد أن نجحوا في تضليل الجماهير المسلمة فترة؛ تبينت الأمة الحقيقة, وكتب أحمد شوقي أمير الشعراء رثاء في الخلافة يقول:
يا أُختَ أَندَلُسٍ عَلَيكِ سَــــــلامُ هَوَتِ الخِلافَةُ عَنكِ وَالإِسلامُ
نَزَلَ الهِلالُ من السَماءِ فَيالَيتَها طُوِيَت وَعَمَّ العالَمينَ ظَـــلامُ