مستقبل الانتخابات الرئاسية بالجزائر في ظل أزمة الثقة بين الحراك الثوري ومؤسسات الدولة

يرفض المتظاهرين في الحراك السلمي المستمر منذ نحو تسعة أشهر بالجزائر الانتخابات الرئاسية المقررة 12 ديسمبر المقبل، معللين ذلك بترشح عدد من قادة النظام السابق، تدخل الجزائر منعطفا خطيرا، قد يقود الثورة الجزائرية المتمسكة  بالسلمية لاستكمال حراكها حتى نهاية مسارها الديمقراطي إلى مآلات غير متوقعة، بصدام عنيف مع العسكريين الذين يقودون البلاد، نحو نتائج يريدونها تصب في جيبهم، أو حتى الانزلاق نحو عشرية سوداء جديدة.

حيث تتمسك قيادة أركان الجيش بإجراء الانتخابات الرئاسية، فيما تذهب الحكومة المؤقتة إلى أن الانتخابات هي الحل الوحيد الذي يكرس الخيار الدستوري، للخروج من أزمة الفراغ السياسي القائم منذ استقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في 2 إبريل الماضي.

فيما لم يقدم الثوار أو القوى السياسية مرشحا متوافقا عليه يمنحونه ثقتهم بالانتخابات، وذلك لتمسكهم بإلغاء شكل المعادلة السياسية من الأساس، والتي يتحكم فيها العسكر حتى الآن، ويريدون فرضها على الجزائريين باستخدام رهانات معينة يرفضها الشارع الثائر؛ كالتخويف من الفراغ السياسي أو الأزمات الاقتصادية أو أن الثوار لا يملكون قوة ناظمة لهم، أو تصدير الأزمة الأمازيغية وربطها بالحراك بالشارع.

بل يصف المعارضون تلك الانتخابات بأنها “مسرحية سمجة على الهواء الطلق”، مستشهدين بأن أسماء المرشحين الخمسة المنتمين جميعا للنظام السابق، سيحظون بشرعية شعبية بعد الانتخابات، لإعادة إنتاج النظام السابق.   حيث من المؤكد أن بعض الأخزاب القديمة القائمة ستكون المستفيد الأول من أية استحقاقات قادمة في ظل المقاطعة الكبيرة التي تبدو في أفق الحياة السياسية في الفترة الماضية والمقبلة.

ويطالب ناشطو الحراك بأن تكون هناك “مرحلة انتقالية حقيقية” لا يشارك فيها أي من رموز النظام السابق ومسؤوليه، وأن أي انتخابات يجب أن تشرف عليها سلطة تنفيذية مستقلة، تنبثق عن حوار شامل مع كل قوى المجتمع.

ويتبلور سؤال اللحظة، في الأوساط الثورية الجزائرية، حول: “كيف يمكن تنظيم انتخابات رئاسية بالقوة ورغم أنف الشعب الذي يرفضها رفضًا تامًا؟ بدليل تظاهرات شعبية تنطلق عند قاعات الدعاية الانتخابية أو أمام المؤتمرات التي يعقدها المرشحون في أي وقت.  وهو ما يضع الجزائر أمام مستقبل مجهول المآلات.

بل إن إعادة إنتاج النظام السابق عبر 5 مرشحين ينتمون إليه، يضع الجزائر في موقف أكثر بؤسًا من ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة. !!

مناخ سياسي ملبد

وتعد الانتخابات الرئاسية التي دعت إليها السلطة للمرة الثالثة، في وقت قصير وهي تعيش حالة اضطراب قصوى مهمة للغاية، بعد أن فشلت السلطة في تنظيم استحقاقين انتخابيين في 18 أبريل و4 يوليو 2019؛ الأول منهما نتيجة الرفض الشعبي بعد ترشح بوتفليقة لها للمرة الخامسة، أما الثاني فقد ألغي بحجة عدم تقدم مرشحين له في الآجال القانونية نتيجة المقاطعة الشعبية الكبيرة التي قوبل بها.

في المقابل، تقدم إلى هذه الانتخابات المفترض إجراؤها في 12 ديسمبر 2019، 143 مرشحًا حزبيًّا، وعدد كبير من المستقلين غير المعروفين على مستوى الساحة السياسية في الغالب، باستثناء بعض الوجوه الإعلامية، وقد عبَّروا عن نيتهم التقدم لها.  تمت غربلة 23 مرشحًا منهم فقط، وهم من تمكنوا من إيداع ملفاتهم شكليًّا لدى الهيئة المستقلة للانتخابات، ولم يبق منهم في المرحلة الأخيرة للترشح الرسمي إلا خمسة مرشحين استوفوا شروط الترشح الرسمي، والتي على رأسها جمع خمسين ألف توقيع تزكية مصادق عليها من قبل الإدارة المحلية في خمس وعشرين ولاية من ولايات الجزائر  البالغة ثماني وأربعين ولاية.

ومن المتوقع أن تجري الانتخابات في إطار قانوني جديد جاء بعد الإعلان عن تكوين هيئة وطنية عليا وُصفت رسميًّا بالمستقلة للإشراف عليها وتنظيمها، بدل إدارة وزارة الداخلية.  وقد تم تنصيب هذه الهيئة بعدما سُمي بجولة الحوار الوطني التي قاطعتها القوى السياسية الرئيسة، وبعد الانتهاء من عملها بتسرع.  ولم يحظ هذا التنصيب بالإجماع الذي كان مطلوبًا في هذه التجربة السياسية الأولى التي يعول عليها كثيرًا لإحداث القطيعة مع النظام السياسي المرفوض شعبيًّا خصوصًا آليات عمله القديمة.

حراك الشارع

ويبقى الحراك الشعبي أهم متغير سياسي ميَّز هذه المرحلة التي شهدت استقالة الرئيس بوتفليقة واستقالة الكثير من الوجوه المرتبطة بنظامه، بل وصل الأمر إلى حدِّ سجن العديد منهم بتهم الفساد والتربح وسوء الإدارة، على غرار الوزيرين الأولين السابقين: أحمد أويحيى وعبد المالك سلال والعديد من الوزراء ورجال الأعمال المعروفين بعلاقاتهم برجال السلطة وحاشية الرئيس القريبة منه والتي كان على رأسها السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس ومستشاره.

وظل الحراك يرفض بشكل واضح إجراء هذه الانتخابات الرئاسية، في تاريخها المعلن، 12 ديسمبر 2019، مشترطًا حزمة من المطالب، من بينها: ذهاب من تبقى من الرموز السياسية لنظام بوتفليقة، وفتح الساحة الإعلامية أمام الجميع وعلى رأسها المجال السمعي البصري، وإطلاق سراح المعتقلين من شباب الحراك، والتوقف عن التحرش الأمني بالمسيرات التي تنظم في العاصمة تحديدًا كل يوم جمعة.  كما طالبت أغلبية القوى السياسية والشخصيات المعارضة بإجراءات تكون على شكل تطمينات قبل الذهاب للانتخابات مما يخلق جوًّا توافقيًّا يسمح بمشاركة شعبية يوم الاقتراع، وهذا ما سيسمح باختيار رئيس يتمتع بقدر كبير من الشرعية.  وهي أمور لم تلبها السلطات العسكرية المتحكمة في المشهد الجزائري.

وهو ما يخشى معه أن تكون الانتخابات الرئاسية القادمة اللعنةُ التاريخية التي ارتبطت بها الانتخابات في الجزائر، كما حصل في 1991 على سبيل المثال عندما كانت تلك الانتخابات من أسباب دخول البلاد في أتون الحرب الأهلية، بعد إلغاء التشريعيات التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟ وهل ستنتقل الجزائر من انتخابات ملغاة إلى انتخابات دون مرشحين ومن ثم إلى انتخابات من دون مقترعين كما يمكن أن يحصل في ديسمبر المقبل؟

إصرار سلطوي

وبدلا من التطمينات المطلوبة شعبيًّا، ذهبت السلطة الفعلية، عكس الاتجاه فزادت في عدد الاعتقالات، وأحكمت إغلاق الساحة الإعلامية بشقيها العام والخاص، ورفعت من منسوب التهديد والوعيد لفرض إجراء الانتخابات في تاريخها المعلن.

ولهذا قاطع الكثير من الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات من مختلف الطيف السياسي، والتي كانت سباقة في وقت مضى للمشاركة في كل استحقاق، الدعوةَ لهذه الانتخابات وتحفظت عليها.

رهانات المقاطعة

وبحسب مراقبين، لم يُعوَّل يومًا وبشكل جدي داخل نظام سياسي على الانتخابات كوسيلة تغيير أو إنتاج نخبة سياسية بديلة أو مشاركة شعبية في الشأن العام.  فالشباب الذي يشكِّل أغلبية المجتمع الجزائري ابتعد مع الوقت وبشكل جلي ومتزايد عن المشاركة في هذا النوع من الانتخابات التي نادت بها السلطة تاريخيًّا، ولم يعد يشارك فيها إلا بنسب ضئيلة جدًّا.  والحال عكس ذلك بالنسبة لكبار السن الذين كانوا أكثر ارتباطًا بالخطاب الوطني الرسمي.  ونفس الحال بالنسبة لسكان المدن الكبرى والمتوسطة في الشمال على وجه الخصوص التي يعيش داخلها أغلبية الجزائريين (ثلثا السكان)، فهؤلاء السكان لم تعد تستهويهم هذه الانتخابات المحسومة النتائج مسبقًا.  وهذه الفئات الحضرية تحولت مع الوقت إلى القاعدة الأساسية لكل أنواع الحركات الاجتماعية المطلبية التي عرفها المجتمع الجزائري منذ سنوات.  كما أنه  كلما ابتعد الجزائريون عن الأمية وتحسن تعليمهم، زاد رفضهم للمشاركة في هذه النوع من الانتخابات التي تعودت السلطة على الدعوة إليها، بكل عيوبها ونواقصها المعروفة، وهو ما يتوقع معه أن يرفض الحراك الشعبي، الذي اندلع منذ 22 فبراير 2019، الانتخابات التي تدعو لها السلطة، دون تغيير في شروط أدائها، ومن المعلوم أنه حراك تقوده القوى الحضرية في المدن الكبرى والمتوسطة بكل تنوعها، ويحتل فيه الشباب مكان الصدارة، خصوصًا أنه حراك نشأ في مجتمع عرف انتشارًا واسعًا للتعليم في المدينة والقرية، واستفادت منه فئات شعبية واسعة.  وقد أفرزت هذه الوضعية الاجتماعية فئات وسطى عبَّرت بعدة أشكال عن تذمرها من أوضاعها، ليس بالضرورة في الشق الاقتصادي، بل ورفضها للنظام السياسي القائم.  وتكون هذه الصورة أوضح إذا أضفنا إلى هذه المعطيات نسب المشاركة الضعيفة تقليديًّا، بل المقاطعة التي ميزت منطقة القبائل وأبناء الجالية الجزائرية بالخارج المعروف عنهم مشاركتهم الضعيفة في هذه الاستحقاقات.

عامل آخر يضاف لاحتمالات المقاطعة الشعبية للانتخابات الرئاسية، وهو إجراء الانتخابات في فصل الشتاء عكس ما جرت عليه تقاليد تنظيم الانتخابات في فصل الربيع، مما قد يكون عاملًا إضافيًّا لعزوف المواطنين عن الخروج للانتخابات في حالة موانع طبيعية مرتبطة بالطقس كالأمطار في بلد قارية مثل الجزائر.

رهانات المشاركة

وبجانب ذلك، ورغم المعطيات السابقة للمقاطعة، تبرز القاعدة الاجتماعية للنظام المؤلفة من بقايا أحزاب السلطة، حتى ولو كان بشكل محتشم نتيجة حالة الاضطراب التي تعيشها هذه الأحزاب الضعيفة أصلًا، والمعتمدة تقليديًّا على قربها من مؤسسات الدولة، وذلك بعد انطلاق الحراك الشعبي وحملة محاربة الفساد التي مسَّت قياداتها، كأبرز المشاركين في هذه الانتخابات.

بجانب ما يمكن أن يجنده عامل الخوف من الفراغ السياسي لدى مواطنين غير متحزبين بالضرورة ومتخوفين على حال البلد، بعد تأثرهم بخطاب السلطة الرافض للذهاب إلى مرحلة انتقالية أو إلى تأخير الانتخابات بسبب ما يمكن أن ينجرَّ عنها من فراغ سياسي تم الترويج له إعلاميًّا، بعد أكثر من ستة أشهر من استقالة بوتفليقة.  ودون أن ننسى ما يمكن أن تجنده المؤسسات الرسمية من مشاركة في الاقتراع وسيكون مصدره بيروقراطية الدولة وقوات مسلحة ودرك وشرطة وحماية مدنية، وهي قطاعات يصعب التحكم أكثر فأكثر في اتجاه اقتراعها، في الظرف الحالي الذي تحررت فيه سلوكيات ومواقف الجزائريين، مهما كانت فيه مواقعهم الاجتماعية داخل دواليب الدولة.  علمًا بأن هذه القوة الانتخابية الضاربة ذات الأهمية في الانتخابات التشريعية، يمكن أن تتحول إلى شبه أغلبية في المناطق الجنوبية، ذات الكثافة الديمغرافية الضعيفة، وسوف تحدد لمن تكون نتائج الانتخابات التشريعية، كما هي الحال في ولايات الجنوب الحدودية والتي تتميز بحضور عسكري منتشر في تلك الولايات.

وعلى الرغم من أن المشهد السياسي الحالي قد يوحي مسبقًا بأن نسب المشاركة في هذه الانتخابات الرئاسية التي دعت إليها السلطة هذه المرة ستكون ضعيفة للغاية في حال تمت هذه الانتخابات بهدوء، ولم تعرف انزلاقات أمنية نتيجة المعارضة التي يبديها جزء مهم من الحراك الشعبي والقوى السياسية لهذا الاستحقاق الانتخابي.  على أن هذا الاستحقاق لن يكون محطة لإنتاج مشهد سياسي جديد تنتج عنه قطيعة مع النظام السياسي المرفوض شعبيًّا والمتهم بمحاولة تجديد جلده من خلال هذه الانتخابات. ومع أن هذه الانتخابات قد ترشحت لها وجوه قديمة ارتبطت لسنوات بالنظام، وتحوم حول بعضها شبهات بالفساد، إلا أن ذلك لن يساعد قطعًا في تجنيد المواطنين للمشاركة فيها يوم الاقتراع، أو تجنيدهم خلال الحملة الانتخابية التي يصعب تصور تنظيمها بشكل طبيعي في الظرف السياسي والأمني الذي تمر به الجزائر الآن، رغم أنه لا توجد لحد الساعة قوى سياسية منظمة وفاعلة دعت صراحة إلى منع إجراء الانتخابات أو التشويش عليها في حالة تنظيمها في وقتها المحدد.  وحتى في منطقة القبائل التي يتوقع مستويات مقاطعة كبيرة نتيجة شبه الإجماع الرافض لها بين أبناء هذه المنطقة وأحزابها وقواها السياسية.

المشاركون

وقد صادق المجلس الدستوري على قائمة نهائية بأسماء المترشحين وهم خمسة:

-عبد المجيد تبون: مرشح مستقل، ورئيس وزراء سابق

-علي بن فليس: رئيس وزراء سابق، ورئيس حزب طلائع الحرية

-عز الدين ميهوبي: الأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي وآخر وزير للثقافة

-عبد القادر بن قرينة: رئيس حزب العدالة والبناء، تقلد عددا من المناصب من بينها وزير السياحة ورئيس البرلمان

-عبد العزيز بلعيد وهو رئيس جبهة المستقبل

وتتراوح أعمار المترشحين بين 56 و75 سنة، وجميعهم تقلدوا مناصب سياسية في عهد بوتفليقة.

وينظر لعلي بن فليس على أنه “جزء من النظام السابق” وأنه أقرب لأحزاب المعارضة التقليدية، خاصة بعد رفضه للمرحلة الانتقالية، وقبوله دعوة الجيش للانتخابات.

أما عبد المجيد تبون فهو الآخر يتذكره غالبية الجزائريين كوزير للسكن، و رئاسته للحكومة لم تدم أكثر من ثلاثة أشهر في 2017، بسبب خلافات بين المسئولين داخل النظام السابق.

وبالنسبة لعبد القادر بن قرينة، فهو ممثل التيار الإسلامي في قائمة المرشحين.  كان أحد مؤسسي حركة مجتمع السلم (تيار الإخوان المسلمين) قبل أن ينشق عنها ويؤسس حركة البناء الوطني.

ويرأس عز الدين ميهوبي حزب التجمع الوطني الديمقراطي، أحد الحزبين الرئيسيين للسلطة، إلى جانب جبهة التحرير الوطني.

أما عبد العزيز بلعيد، فهو الأقل شهرة بين المترشحين، وقد تدرج في المنظمات الشبابية الموالية للسلطة، إلى أن أصبح رئيس حزب، وكان طيلة مسيرته، من بين من اعتمد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة على دعمهم في سنوات حكمه.

المقاطعون

وتقاطع الانتخابات حركة مجتمع السلم، وكانت من القوى المشاركة في “التحالف الرئاسي” الذي دعم بوتفليقة، إلى غاية انسحابها منه في 2012.

وتقاطعها أيضا جبهة العدالة والتنمية، التي يرأسها عبد الله جاب الله (إسلامي)، والحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي أسسه كريم طابو أحد المسؤولين السابقين في جبهة القوى الاشتراكية المعارضة.

ويرفض هذه الانتخابات أيضا عدد من الشخصيات السياسية، من أبرزها رئيس الحكومة السابق مولود حمروش، وهو من الشخصيات الإصلاحية في جبهة التحرير الوطني، وكان رفض دعوات شعبية تطالبه بالترشح مشككا في أن تؤدي إلى حل جذري للأزمة التي تمر بها البلاد.

 

تحديات ما بعد الانتخابات

ومن المتوقع في ظل إصرار العسكر على الذهاب للصندوق الانتخابي، قبل بلورة واقع جديد يتمناه الشارع، فإنه من المتوقع

فوز وجوه مرتبطة بالنظام، على غرار رئيسي الحكومة السابقين، عبد المجيد تبون وعلي بن فليس، وهذا في حد ذاته إعادة إنتاج نفس المشهد السياسي القديم.

وسوف تنجلي هذه الانتخابات عن رئيس جمهورية من دون شرعية كبيرة لا في الداخل ولا حتى في الخارج، وسيكون رئيسًا لنظام سياسي كوَّنت فيه السياسة الخارجية عامل تجنيد شعبي مهم للرئيس كشخص وللنظام السياسي ككل، وذلك بعد فترة طويلة نسبيًّا من غياب دولي للجزائر على المستويين الإقليمي والقاري خاصة.

بل إن هذه الشرعية المنقوصة لن تمكِّن الرئيس الجديد من رفع التحديات التي تنتظره، ليس على المستوى السياسي فقط، بل على الجبهات الاقتصادية والاجتماعية، وستكون الجزائر أمام تحديات كبيرة جرَّاء الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد، وهو وضع مرشح لصعوبات أكبر على المديين القصير والمتوسط. كما أن الرئيس الجديد سيواجه مواطنين زادت مطالبهم وتغيرت نظرتهم إلى المؤسسات والنخب التي تحكمهم بفعل القطيعة التي كونها الحراك الشعبي.

ومن المتوقع كذلك من جهة أخرى على المستوى المؤسساتي أن الرئيس الجديد المنتخب بهذه الشروط التي تقترحها الانتخابات المقبلة، لن يكون في موقع قوة يسمح له بإحداث التغييرات التي يتطلبها الوضع في الجزائر، كما عبَّر عن ذلك الرأي العام الوطني من خلال الحراك الشعبي الذي يطالب بالفصل بين السلطات، والحد من تغول السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى بما فيها القضاء والبرلمان، ومنح حريات إعلامية وسياسية أوسع للجزائريين، عكس ما عبرت عنه بشكل فج تجربة إدارة الرئيس بوتفليقة في العشرين سنة الأخيرة التي تغوَّل فيها شخص الرئيس مما لم يسمح لهذه المؤسسات المعطلة عمليًّا بالقيام بالإصلاحات التي كانت مطلوبة في وقتها مثلما كانت الحال مع البرلمان أو السلطة القضائية.  مع أنه كان من الممكن أن تسهم مؤسسة الرئاسة في تحسين أداء النظام السياسي بالتدريج، قبل دخولها النفق المظلم الذي وصلته في آخر أيام حكم الرئيس المتنحي، بوتفليقة.

معضلة العسكر والسياسة

وتبقى علاقة الرئيس المنتخب في هذه الشروط بالمؤسسة العسكرية كإحدى أهم المعضلات التي ما فتئ النظام السياسي الجزائري يعيشها، في وقت تعالت فيه أصوات داخل الحراك وخارجه تطالب بتطبيق روح ونصوص القانون، وتصر هذه الأصوات على ضرورة تحديد أدوار المؤسسة العسكرية وقيادتها خارج مجال اللعبة السياسية، وتبقى في ميداني الدفاع عن الحدود والأمن تحديدا، عكس ما كان يقول الواقع السياسي منذ استقلال الجزائر.  ومعلوم أنه على الدوام كان للمؤسسة العسكرية الدور الحاسم في إبعاد كل رؤساء الجزائر بعد الإتيان بهم في وقت سابق، وقد عادت المؤسسة العسكرية بقوة إلى لعب أدوار سياسية من الدرجة الأولى، بعد استقالة بوتفليقة في ظرف تعيش فيه مؤسسة الرئاسة حالة هوان واضح، وقد زادها من ضعفها الحالة الصحية للرئيس المؤقت الذي لم يتعود طول مساره السياسي والمهني إلا على الأدوار الثانوية التي لا تؤهله للقيادة والمبادرة باتخاذ القرار خاصة في هذا الظرف السياسي الحساس؛ مما زاد في إضعاف دور مؤسسة الرئاسة التي اختفت تمامًا عن المشهد السياسي.

وبحسب الأكاديمي الجزائري والباحث في علم الاجتماع السياسي د. ناصر جابي، في دراسته عن “سسيولوجيا الانتخابات الجزائرية” فقد أصبحت مؤسسة الرئاسة تابعة لإملاءات المؤسسة العسكرية وفي شخص قائد الأركان تحديدًا الذي كان المبادر بالدعوة لهذه الانتخابات الرئاسية، وهو الذي حدد خطوات مسار الحوار عن طريق خطب سياسية أسبوعية كونت المعالم الرئيسية للحياة السياسية والإعلامية في جزائر ما بعد بوتفليقة.

وفي المحصلة، ستنطلق الجزائر من أول عملية انتخابية تجري بعد حراك 22 فبراير 2019، ولن تكون النتيجة ذات بال في هذه المحطة الانتخابية التي ستهدر فيها الجزائر فرصة تاريخية ثمينة، في طريق إصلاح نظامها السياسي، بل ستتحول النتيجة إلى خطر فعلي على الدولة الوطنية والمجتمع، عن طريق انتخابات، ستكون مثل الانتخابات التي سبقتها.

كما أنه وفي ظل تحكم العسكر في مفاصل الدولة، عبر سياسات طحن المعارضين وتكسير عظام الرافضين للتحول الديمقراطي بنكهته العسكرية، ستزداد الارتباطات بين مؤسسة الرئاسة والعسكر، كما عانى الجزائر من ذلك خلال سنوات حكم بوتفليقة.

فانطلاقا من التجربة السياسية بالجزائر، فرئيس الجمهورية في النظام السياسي الجزائري، حتى ولو كان ضعيفًا كشخصية سياسية ومنتخبًا بشكل سيء، كما حصل في أكثر من مرة، من الممكن أن يكتسب صلاحيات واسعة مع الوقت، في الممارسة اليومية وليس على مستوى النص الدستوري فقط الذي يحدد صلاحياته كرأس للسلطة التنفيذية بشكل واضح.

ذلك أنه يمكن أن يغير الرئيس النظام بالشكل الذي يخدم مصالحه، كما كانت الحال مع الرئيس بوتفليقة عندما تمكن من الترشح لعهدة ثالثة لم يكن دستور 1996 يسمح بها.

كما أن هناك اعتبارات كثيرة يمكن أن تدخل بطبيعة الحال في تحديد معالم هذا السيناريو، من بينها سن الرئيس وقدرته على المطالبة بأكثر من عهدة رئاسية، بما تطرحه من مسألة تتعلق بالأجيال ويعاني من آثارها النظام السياسي الجزائري منذ سنوات نتيجة كبر سن النخبة السياسية الحاكمة التي لم تتجدد بالقدر الكافي لانغلاق النظام السياسي على نفسه.  علمًا بأن المرشحين الأكثر حظًّا للفوز في هذه الانتخابات، وهم الذين تسميهم الساحة السياسة بأبناء النظام، تجاوزوا السبعين سنة من العمر منذ عدة سنوات، مثل: علي بن فليس أو عبد المجيد تبون.

خاتمة

ولعل الأخطر في الجزائر، هو إغلاق الأفق السياسي أمام الحراك الشعبي، وعدم خلق آليات لإقناع الحراك بالمشاركة السياسية وتحقيق رغباته ومطالبه المعتبرة سياسيا، من الشفافية والاستقلالية وتأجيل الانتخابات، ووقف القمع والاعتقالات في صفوف الحراك، ووقف التنقلات القضائية التي طالت نحو 3 آلاف قاض، عبروا عن غضبهم من النظام السياسي وتدخلات السلطة التنفيذية في الشأن القضائي، على الرغم من التفاهمات التي تمت بين الحكومة المؤقتة ونقابة القضاة مؤخرا. بجانب إغلاق القنوات الفضائية التي تتابع الحراك وتنقل فعالياته كقناتي “المغاربية” و”حراك تي في”.

كما أن المخاطر تتزايد وتحوط بمستقبل الجزائر في ظل تعويل النظام العسكري على إرهاق الحراك منذ انطلاقه في 22 فبراير 2019 وذلك باللعب على نقاط ضعفه الموضوعية، كعدم بروز قيادة معترف بها، وغياب برنامج سياسي واضح في بدايته على الأقل، واختراقه لاحقًا عن طريق خلق نقاط استقطاب ثقافية، كمسألة الراية الأمازيغية أو منع الدخول إلى العاصمة وغيرها من نقاط الاستقطاب، وكما حصل مع الاعتقالات التي مست وجوهًا معروفة داخل الحراك الشعبي الذي حافظ على سلميته رغم كل الاستفزازات.  وتنوع أداء الحراك بشكل شعبي مقدر عبر مسيرات يوم الجمعة الشعبية التي جرت في عشرات المدن الكبيرة والمتوسطة أو مسيرات الثلاثاء الطلابية أو مسيرات الأحد بدول المهجر، من قبل أبناء الجاليات الجزائرية.  ناهيك عما عبرت عنه مسيرات واحتجاجات النقابات وبعض القوى الاجتماعية المهنية، وكان على رأسهم القضاة والمحامون الذين انحازوا بأشكال متفاوتة لمطالب الشعب حتى وهم يطرحون بعضًا من مطالبهم الاجتماعية الفئوية، كما كانت الحال مع القضاة.

وهو ما يدفع محللون وخبراء للقول بأن حراكًا شعبيًّا بهذا الزخم تعرفه الجزائر لأول مرة في تاريخها، ينبغي الاعتماد عليه في إجراء هذه الانتخابات للقطيعة مع النظام السياسي السابق، كما كان يمكن أن يحصل لو تم الاستماع لمطالب الجزائريين، لا القفز عليه والالتفاف عليه بشتى الاستراتيجيات العسكرتارية.

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022