يتابع العالم هذه الأيام مسار الانتخابات الأمريكية المقبلة؛ نظرًا للتأثيرات البالغة التي تحدثها سياسات صانع القرار في البيت الأبيض على العالم بصفة عامة، ودول العالم الثالث بصفة خاصة.
شهدت السنوات الأربع الماضية حالة من الجدل الشديد، التي نتجت مع السياسات المندفعة للمرشح اليميني العنصري دونالد ترامب، ففي الداخل، تكررت فضائح الرجل في طريقة إدارته للمشهد المحلي، بصورة أثرت على هيبة الولايات المتحدة الأمريكية، ومستقبل الديمقراطية داخلها؛ نتيجة تعدد الأزمات التي أصابت إدارته، فساهمت في تعكير المشهد السياسي الكلي. وهو ما دفع أجهزة كبرى وشخصيات محورية في العمل على الإطاحة بترامب، بدون الانتظار لنهاية ولايته الأولى؛ لما رأوا من تهديدات تصيب القطب الأول في العالم.
لقد كانت السنوات الأربع التي قضاها ترامب في البيت الأبيض، خلال فترة ولايته الأولى، كافية لتدبيج عشرات الكتب والدراسات والمقالات التي حاولت سبر أغوار هذه الشخصية الفريدة والمستفزّة. بعض هذه الكتب ألفها صحافيون استقصائيون كبار، مثل بوب وودوارد مثلًا، أو محامون تعاملوا مع ملفات ترامب الخاصة عن قرب، كمحاميه الخاص مايكل كوهن، أو ساسة كبار شغلوا مناصب حساسة في إدارته، مثل جون بولتون، الذي كان مستشاره للأمن القومي. غير أن مايكل وولف، الذي صدر له كتابان عن ترامب، “النار والغضب”، وصدر في يناير 2018، و”الحصار: ترامب تحت القصف”، وصدر في يونيو 2019، هو أكثر من اقترب من تركيبة ترامب النفسية. لذا ربما يكون من المفيد هنا إعادة تذكير القارئ بأبعاد هذه الشخصية المركبة والمعقدة، كما تتجلى من ثنايا “النار والغضب” تحديدًا”[1].
وعلى المستوى الخارجي، وجدت أطراف كثيرة أن استمرار ترامب، سيهدد النظام العالمي الجديد؛ لذلك رفضت كثير من دول الاتحاد الأوروبي طريقة تعاطي ترامب مع العلاقات بين بلاده ودول الاتحاد الأوروبي، ونظرته للعولمة باعتبارها تفيد الأوروبيين وحدهم، وفيما يخص الشرق الأوسط، فقد كان أكثر المتضررين من سياسات ترامب، فالرجل منذ يومه الأول أعلن دعمه للأنظمة الاستبدادية التي تحارب مشروع التغيير والثورة في المنطقة؛ بل قام بمحاربة التنظيمات الثورية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، ثم قام بشن حرب موازية ضد الدول الداعمة للتغيير، فأعلن دعمه لحصار قطر، وقام من وقت لآخر بإطلاق تصريحات معادية لتركيا، باعتبار أن محور الربيع العربي -الذي يتكون من تركيا وقطر والإخوان المسلمين- هو رأس حربة معادٍ للاستبداد في المنطقة وللمحور الصهيوني الخليجي؛ ولذلك شن حربًا أخرى ثالثة، تستهدف القضية الفلسطينية وداعميها، وعلى رأسهم إيران، فأعلن سياسة الضغط القصوى عليها؛ كمقدمة لإنجاح صفقة القرن، التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية.
فالدول الاستبدادية العربية تتمنّى فوز ترامب لأسباب عديدة، ربما أهمها أن هذه الأوساط على يقين من عدم اكتراث ترامب لانتهاكات حقوق الإنسان في أي مكان، ومن ثم تتوقع أن يؤدّي انتخابه إلى استمرار إطلاق يدها في ممارسة كل أنواع البطش ضد شعوبها، طالما التزمت بدفع الإتاوة المطلوبة منها، مقابل ضمانات الحماية المقدّمة لها. كما يبدو واضحًا وجود أوساط سياسية وفكرية مناهضة للسياسات الأمريكية في مناطق مختلفة في العالم -ومنها عالمنا العربي- تتمنّى فوز ترامب في هذه الانتخابات؛ اعتقادًا منها أن وجود رجلٍ من عينته في البيت الأبيض يساعد على تفاقم المشكلات في الداخل والخارج، ومن ثم فقد يعجل بانهيار الولايات المتحدة، أو -على الأقل- يُضعف من مكانتها وقدرتها على التأثير في مصير الآخرين.
خسائر ترامب في الولاية الأولى:
تعرض ترامب لعدد من الأزمات الكبيرة التي كانت بحاجة لطرق معالجة دقيقة، يقوم بها خبراء مختصون، إلا أنه لم يفعل ذلك، فكان تجاهله للتظاهرات المناهضة للعنصرية، سببًا لتطورها وخروجها في بعض المناطق عن السيطرة، وآخرها كانت أزمة جائحة الكورونا، التي يتحمل جزءًا كبيرًا من نتائجها؛ لتجاهله رسائل الخبراء والمختصين.
لقد أظهرت السنوات الماضية عددًا من الخبايا في شخصية ترامب؛ فلديه شحصية شديدة النرجسية، لديها شعور مفرط بالقدرة على الإنجاز في كل شيء، محصنة ضد الانقياد أو التأثر بالآخرين، حتى ولو كانوا من أكثر الخبراء تخصصًا وإلمامًا بالجوانب الفنية للقضايا المطروحة على بساط البحث. هذا الولع الجنوني بالذات يبدو غير مبرّر على الإطلاق، خصوصًا إذا ما قابلناه بالجانب الآخر من هذه الشخصية المركّبة، فترامب رجل ينفر -بطبيعته- من القراءة والاطلاع، ولا يهتم بالغوص في العمق، أو بالبحث في التفاصيل، فضلًا عن أنه متقلب “المزاج”، ويصعب التنبؤ بردود أفعاله، وكثيرًا ما يتخذ قراراته في ضوء آخر ما يسمعه من الأشخاص المقرّبين جدًّا منه، حتى ولو كانوا من غير أصحاب الخبرة، فإذا ما نحّينا جانبًا هذا البعد، وحاولنا إلقاء الضوء على الجوانب المتعلقة بحياته الأسرية وبرؤيته للمرأة، سوف نكتشف أنها ربما تكون الأكثر إثارة ومدعاة للجدل، فزوجته الحالية، ميلانيا، هي الزوجة الثالثة في حياته، وربما لا تكون الأخيرة. ولديه ضعف شديد تجاه ابنته إيفانكا وزوجها اليهودي جاريد كوشنر بالذات. ويعتمد في تصريف العديد من أعماله المالية والإدارية على نجليه إريك ودونالد ترامب جونيور، اللذين تطلق عليهما أجهزة إعلامية -تندّرًا- لقب قصي وعدي؛ إحالةً إلى ابني صدام حسين!
ولأن ترامب لا يطيق قيود الحياة الأسرية، ولديه ضعف شديد تجاه المرأة والجمال، فقد أصبح دائم الترحال، ولم يتردد في اقتناص الجميلات، كلما استطاع إلى ذلك سبيلًا، بما في ذلك إبّان حملة الانتخابات الرئاسية. وربما كان أخطر ما كشف عنه وولف في كتابه، ما تردّد عن ولع ترامب بالإيقاع بزوجات أصدقائه، فحين تروق له إحداهن، يدعو زوجها إلى مكتبه، ثم يستدرجه إلى حوار حميم حول علاقاته الغرامية خارج نطاق الزواج، بينما تقوم سكرتيرته بالاتصال بالزوجة المخدوعة؛ لتستمع مباشرة إلى زوجها، وهو يحكي بنفسه لترامب عن تفاصيل نزواته الخاصة، ممهدًا الطريق أمامه للوصول إلى أغراضه الخبيثة المبيتة.
يدرك ترامب -من خلال المقربين له- أن شعبيته في انهيار كبير؛ لذلك يحاول التأثير على الشعب الأمريكي بقوله إن جو بايدن هو أسوأ مرشح في التاريخ، وبذلك يتخلى ترامب عن كافة التقاليد والبروتوكولات السياسية في التعامل مع الخصوم السياسيين، بوصفه بايدن بأنه الاسوأ، رغم أن للرجل تاريخًا سياسيًّا كبيرًا، يشهد له القاصي والداني في الولايات المتحدة الأمريكية. وتابع قائلًا: “التنافس مع أسوأ مرشح في تاريخ السياسة الرئاسية يضعني تحت الضغط .. هل تتصورون لو انهزمت؟ ماذا سأفعل طوال حياتي؟ سأقول إنني انهزمت أمام أسوأ مرشح في تاريخ السياسة”. وأضاف الرئيس الأمريكي ساخرًا: “لن أشعر بأنني بحالة جيدة .. ربما يتعين علي مغادرة البلاد، لا أدري”[2].
ونظرًا لذلك يتوقع لترامب هزيمة قاسية، تعيده إلى المكانة التي يستحقها.
——————————————
[1] حسن نافعة، “هل يحتمل العالم ترامب أربع سنوات أخرى؟”، العربي الجديد، 17/10/2020
[2] ترامب مهاجمًا بايدن: ربما أغادر البلاد بحال فوز أسوأ مرشح في التاريخ، العربي الجديد، 17/10/2020