عودة التنسيق الأمني بين سلطة عباس وإسرائيل …مخاطر أشد وطأة من التطبيع العربي على الفلسطينيين

 

 

بعد نحو ستة أشهر من القطيعة، وعلى عكس عجلة الواقع الصعب الذي تعايشه القضية الفلسطينية التي تتلقى أقسى الطعنات من بعض الأشقاء العرب والمهرولين للتطبيع، والداعمين الدوليين، بالاضافة إلى انتهاكات الكيان الصهيوني، جاء قرار رئيس ما يعرف بالسلطة الفلسطينية محمود عباس، بإعادة التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني مجددا، يوم 17 نوفمبر الجاري، ليثير الكثير من التساؤلات والاستهجان الفلسطيني والعربي والدولي، خاصة وأنه جاء مقارنا بإعلان إعادة السفيرين إلى الإمارات والبحرين بعد استدعائهما مؤخرًا، احتجاجًا على قرارهما توقيع اتفاق تطبيع كامل مع “إسرائيل” حسبما نقلت رويترز، ليكون ذلك مخالفًا للموقف الحاد الذي أعلنته السلطة خلال الأسابيع الماضية ضد الإمارات والبحرين، ليثبت بذلك أن القطيعة والاعتراض الذي أبداها عباس كانت صورية، ولم تنقطع العلاقات للحظة واحدة بين عباس وتل أبيب.

 

مواقف القوى الفلسطينية

أدانت حركة حماس قرار السلطة الفلسطينية ووصفت القرار، في بيان صحفي، بأنه يمثل طعنة للجهود الوطنية نحو بناء شراكة وطنية واستراتيجية نضالية لمواجهة الاحتلال والضم والتطبيع وصفقة القرن، ويأتي في ظل الإعلان عن آلاف الوحدات السكنية الاستيطانية في مدينة القدس المحتلة. وأوضحت الحركة أن السلطة الفلسطينية بهذا القرار تعطي المبرر لمعسكر التطبيع العربي الذي ما فتئت تدينه وترفضه، وطالبت السلطة بالتراجع الفوري عن قرارها وترك المراهنة على بايدن وغيره، وأكدت أن الطريقة الوحيدة لطرد الاحتلال تتمثل بتحقيق وحدة وطنية حقيقية مبنية على برنامج وطني شامل ينطلق من استراتيجية المواجهة مع الاحتلال.

فيما أدانت حركة الجهاد الإسلامي هذا الإعلان بأشد العبارات مثل عودة العلاقات المحرمة والمجرمة بين السلطة في رام الله والاحتلال الإسرائيلي، وأكدت الحركة في بيان لها، أن قرار عودة مسار العلاقة مع الاحتلال الاسرائيلي يمثل انقلابًا على كل مساعي الشراكة الوطنية وتحالفًا مع الاحتلال بدلًا من التحالف الوطني، وهو خروج على مقررات الإجماع الوطني ومخرجات اجتماع الأمناء للفصائل وتعطيل لجهود تحقيق المصالحة الداخلية.  أما الجبهة الشعبية فقد اعتبرت في بيان لها، أن إعلان السلطة إعادة العلاقات مع دولة الاحتلال كما كانت عليها، نسفٌ لقرارات المجلسين الوطني والمركزي بالتحلّل من الاتفاقيات الموقعة معها، ولنتائج اجتماع الأمناء العامين الذي عُقد، أخيرًا، في بيروت، وتفجير لجهود المصالحة التي أجمعت القوى على أن أهم متطلباتها تكمن في الأساس السياسي النقيض لاتفاقات أوسلو.

ولم يختلف الحال عن الجبهة الديمقراطية التي اعتبرت أيضًا أن قرار العودة إلى العلاقات مع دولة الاحتلال هو انقلاب على القرار القيادي في مايو/أيار الماضي الذي قضى بالتحلل من الاتفاقات والتفاهمات مع “إسرائيل” والولايات المتحدة، فضلًا عن كونه انتهاكًا لقرارات المجلس الوطني في دورته الأخيرة، وذلك لأن هذا القرار صدر بشكل منفرد دون العودة إلى الإطار القيادي الذي اتخذ قرار 19/5، ودون العودة إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبما يخالف اتجاهات العمل ومخرجات اجتماع الأمناء العامين بين بيروت ورام الله في 3 من سبتمبر الماضي.

 

التوقيت الخاطئ للقرار

كانت القيادة الفلسطينية أعلنت في 19 مايو الماضي التحلل من كافة الاتفاقيات والتفاهمات مع إسرائيل احتجاجا على الخطة الإسرائيلية لضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، وجاءت خطوة العودة للعلاقات والتنسيق الأمني الفلسطيني الإسرائيلي المعلن قبل أيام، بالتزامن مع مفاوضات المصالحة في القاهرة، التي أشيع أنّها قاب قوسين من النجاح، فأفشلها تماما إعلان عباس عودة التنسيق مع اسرائيل.

والأغرب من ذلك أن القرار الفلسطيني جاء، بعد قرار صهيوني ببدء الإجراءات لبناء حي استيطاني، في المنطقة الواقعة بين بيت لحم والقدس، الذي يعتبر أخطر مشروع استيطاني منذ عشرات السنين، وفق تحليل سياسي وتقدير موقف لصحيفة نون بوست. وهو نفس القرار الذي تسبب في اتخاذ السلطة لفلسطينية، قرار المقاطعة بالكامل مع إسرائيل، ووقف التنسيق الأمني معها، بمشاركة وبإجماع في الهيئات الفلسطينية المركزية، من المجلس الوطني حتى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، مرورا بالحكومة الفلسطينية، وبحركة فتح وسائر الفصائل، بد إعلان خطة الضم الصهيونية لأراضي من الضفة وغور الأردن. أمّا قرار العودة بالعلاقة مع الاحتلال إلى سابق عهدها فلم يمر سوى في الرئاسة الفلسطينية، ولم يبحث في أي هيئة، ولم يعلم به وبمجرياته إلّا قلّة قليلة من المسؤولين المقرّبين.

وهو ما يؤكد حقيقة أن الهيئات القيادية الفلسطينية أصبحت كيانات صورية، تظهر وتختفي حسب الحاجة والطلب، وأن النظام السياسي الفلسطيني الرسمي هو نظام هجين، فلا هو يتمتع بشرعية ثورية، ولا يعتمد على شرعية دستورية، ولا على قاعدة جماهيرية متينة، ولا يستند إلى أنظمة مؤسساتية، ومركز اتخاذ القرار ينحصر بشخص واحد مع مجموعة صغيرة من المقربين. وهو وضع في غاية الخطورة لأنّه يجعل القيادة الفلسطينية أكثر تعرّضًا للضغط والابتزاز، وأكثر عرضة لاتّباع سياسات خاطئة، في ظل غياب التوازنات، وتغييب المساهمات المختلفة. وللوقوف على القرار المشين، لابد من استكشاف دافعه وتداعياته المستقبلية على القضية الفلسطينية ككل.

 

دوافع عباس

ولعل من ضمن الدوافع التي أدّت إلى اتخاذ قرار إعادة العلاقة مع إسرائيل، ومنها :

-الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها السلطة:

وصلت السلطة إلى درجة الإفلاس المالي، ولم تعد البنوك مستعدة لمنحها المزيد من القروض، حصل ذلك بعد وقف استلام التحويلات من إسرائيل، ووقف الدعم الأمريكي والعربي، ونضوب كافة مصادر التمويل الممكنة، إضافة الى جائحة «كورونا» وآثارها الاقتصادية المدمّرة. ووقف العلاقات مع إسرائيل “تسبب بآثار سلبية عميقة على الاقتصاد الفلسطيني نتيجة عدم دفع رواتب الموظفين الحكوميين كاملة بسبب عدم تسلم أموال عائدات الضرائب. وبحسب تقديرات استراتيجية، نقلتها وكالة “شينحوا” الإخبارية، ترى السلطة الفلسطينية أن مصلحتها الملحة في الظرف الراهن استمرار قدرتها على الوفاء بخدماتها للمواطنين الفلسطينيين وحمايتهم من الفقر والعوز وما قد يسببه ذلك من تدهور أمني.

وفي الأشهر الأخيرة توقفت السلطة الفلسطينية عن استلام أموال الضرائب التي تجمعها إسرائيل، والبالغة 3 مليارات شيقل (الدولار =3.40 شيقل)، ونتيجة لذلك وجدت السلطة صعوبة في دفع الرواتب والتعامل مع تداعيات أزمة مرض فيروس كورونا. ولجأت الحكومة الفلسطينية إلى صرف جزئي لرواتب موظفيها الحكوميين بفعل أزمتها المالية التي دفعتها للاقتراض عدة مرات من البنوك المحلية لتأمين الأموال اللازمة للرواتب. وبحسب المسئولين فإن السلطة الفلسطينية تقدمت مؤخرا إلى الاتحاد الأوروبي للحصول على قروض لتغطية العجز، إلا أن طلبهم قوبل برفض أوروبي ودعوهم إلى أخذ أموال الضرائب من إسرائيل. فالسلطة الفلسطينية لم تجد في الفترة الماضية أي بديل عن أموال الضرائب الفلسطينية في ظل تراجع المساعدات الخارجية لها ما شكل ضغطا كبيرا على المجتمع الفلسطيني.

 

– انعدام الرؤية الاستراتيجية لسلطة عباس:

غياب الرؤية الاستراتيجية الوطنية عن دائرة الحكم في السلطة الفلسطينية، ففي الوقت الذي ترفض فيه تقديم أية تنازلات لحركة حماس، خلال مفاوضات المصالحة الدائرة بالقاهرة وبتركيا، تقدم على ارتكاب الأخطاء التاريخية بحق الشعب الفلسطيني، دون مواربة، في مشهد خيانة يجري تسويقه على أنه إنجاز، ويعبر قرار إعادة العلاقات والتنسيق الأمني، قلة حيلة وانعدام الخيارات، ومن ثم إعادة القضية الفلسطينية مجددًا إلى فخ أوهام المفاوضات والعملية السلمية، وهو ما يزيد من فرص الاذعان الفلسطيني أمام الطوق الذي ترسمه إسرائيل وأمريكا وأوروبا ودول الانبطاح العربي. هذ الوضع يزداد صعوبة في ظل سيطرة اليمين الفاشي في إسرائيل وهرولة دول عربية إلى التطبيع. وهو ما يؤكد أن قرار المقاطعة اساسا كان مناورة سياسية وليس موقفا مبدئيا.

 

-الرهان على فوز بايدن بالانتخابات الامريكية:

إذ يبني محمود عباس الكثير من الرهانات على الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة بايدن، والمعسكر الديمقراطي، الذي يدفع  نحو تحقيق المصالح الإسرائيلية بشكل مرن وسلس، دون مواجهات عنيفة مع الفلسطينيين، ومن ثم جاء قرار عباس كعربون للإدارة الأمريكية لإعادة العمل معها كما كانت قبل مجيء ترامب، الذي سار في مسار عدائي فج ضد الفلسطينيين، بإعلان القدس كعاصمة لإسرائيل، واعتبار الجولان إسرائيلية، ووقف تمويل جهود اغاثة الفلسطينيين واللاجئين، وتقديم خطة صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية.

 

تداعيات القرار

-افشال المصالحة الفلسطينية

وعلى ما يبدو، أرادت القيادة الفلسطينية توظيف الحديث عن المصالحة لكسب الوقت، بانتظار نتائج الانتخابات الأمريكية، ولامتصاص الضربات المتتالية من ترامب وإسرائيل ودول التطبيع، ولكنّها لم تكن ناضجة لبناء شراكة حقيقية، والتنازل عن الاستفراد بالسلطة وباتخاذ القرار. فلا مصالحة بدون تقديم تنازلات، ومن لا يريد تقديم تنازلات لا يريد المصالحة. ومن المؤلم القول إنّ هناك مساهمة فلسطينية طوعية وجدّية في إنجاح سياسة «فرق تسد» الاستعمارية الإسرائيلية. في الوقت الذي نرى فيه مصالحة تتقهقر، نشاهد أمامنا اجتياحًا استيطانيًّا يتقدم ويتوغّل.

وقوبل قرار السلطة الفلسطينية بشأن عودة العلاقات مع إسرائيل بانتقادات شديدة من الفصائل الفلسطينية المعارضة لاسيما حركة حماس، وعقب إعلان القرار بوقت قصير أعلنت حركتا فتح، وحماس انتهاء لقاءات ثنائية في القاهرة دون إحراز أي تقدم بشأن تحديد موعد الانتخابات العامة وتحقيق المصالحة. كما أن قرار عودة العلاقات مع إسرائيل “يثير القلق والخوف العميقين في أوساط الشعب الفلسطيني بشأن إنهاء الفرص الجدية لتحقيق المصالحة، خاصة في ضوء رهانات السلطة الفلسطينية التي لا تزال تراهن على العودة إلى طاولة المفاوضات، وإعادة إحيائها ضمن صيغ مختلفة، إمّا عبر الشرعية الدولية، أو إحياء الاتفاقات السابقة، أو البناء على ما وصلت إليه المفاوضات.

ولعل ما فاقم فشل المصالحة الفلسطينية، إلى جانب قرار عودة التنسيق الأمني، عدم توافق الحركتين على قضايا رئيسية وأخرى تفصيلية، أبرزها يتعلق بالانتخابات التشريعية والرئاسية، وآليات إجراء انتخابات المجلس الوطني وطريقة توزيع مقاعده في المناطق التي لا يمكن إجراء الانتخابات فيها، مثل الأردن وغيرها من دول الشتات، فضلا عن ملفات تتعلق برواتب الموظفين والعقوبات التي تفرضها السلطة على غزة منذ مارس 2017. فحركة حماس تريد “ضمانات” بأن تلتزم حركة فتح بتطبيق كل “مخرجات اجتماع بيروت وتفاهمات إسطنبول” بعد إجراء الانتخابات التشريعية، وأن تتخذ خطوات “حسن نية” عبر رفع العقوبات عن غزة. واتفقت القوى الفلسطينية في اجتماع بيروت في 3 سبتمبر الماضي على “تشكيل لجنة تقدم رؤية استراتيجية خلال 5 أسابيع، لتحقيق إنهاء الانقسام”، و”تشكيل لجنة وطنية لقيادة المقاومة الشعبية الشاملة“. كما أجرت الحركتان حوارا ثنائيا في إسطنبول التركية في 24 من الشهر ذاته، واتفقتا على “رؤية ستقدم لحوار وطني شامل، بمشاركة القوى والفصائل الفلسطينية“. وعلى ضوء ما تقرر في الاجتماعين، كان من المفترض أن يصدر “محمود عباس” مرسوما يحدد موعدا للانتخابات، وبررت فتح التأخر في صدوره بانتظار رسالة رسمية من حماس تتضمن موافقتها على “تفاهمات إسطنبول”.

 

 -العودة لمربع أوسلو:

وهو ما يزيل كل مشاهد الغضب التي اعلنتها السلطة الفلسطينية، وقت تصاعد قرارات التطبيع العربي مع إسرائيل، ولعل ذلك ما يؤكده الكاتب الصحفي الأردني عبد الله المجالي، بمقاله المنشور بصحيفة السبيل “المتغطي بأوسلو بردان” ، بقوله: “في ظل سعار استيطاني تجلى بعد اتفاقيات التطبيع الجديدة.  يبدو أن مسؤولي السلطة لم يحتملوا فراق أصدقائهم الصهاينة، ويبدو أن هواتف الضباط الفلسطينيين اشتاقت لكلمة “شالوم” وتثبت سلطة أوسلو أنها غير معنية بالمصالحة أو التوافق مع الكل الفلسطيني، وتثبت أن هواها إسرائيلي مهما كان ذلك الإسرائيلي. ولعل أخطر ما في قرار السلطة هو أنه يهيل التراب على كل المواقف القوية للسلطة تجاه التطبيع الخليجي مع الكيان الصهيوني، كما يهيل التراب على مواقف السلطة من “صفقة القرن”، وستعود السلطة إلى عادتها القديمة، وستعود إلى المربع المفضل لديها؛ وهي المفاوضات، ولا يهم إن كانت المفاوضات ستؤتي شيئًا، بل المهم أن تستمر وتستمر إلى ما لا نهاية حتى تبقى السلطة تجد ما تفعله.

 

-القرار قد يفقد السلطة الفلسطينية الدعم الدولي:

في 30 أغسطس 2020، تعهد مرشح الرئاسة الأمريكية الفائز جو بايدن، تأييده لحل الدولتين، ورفضه نوايا (إسرائيل) ضم أراض فلسطينية. وتعهد “بايدن” في وثيقة أصدرها، باستئناف العلاقات الدبلوماسية والدعم المالي للسلطة الفلسطينية، وإعادة المساعدات المالية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، بحسب وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا” وكان موقع The Hill الأمريكي نقل عن بايدن، في مايو المنصرم قوله خلال فعالية ليهود ديمقراطيين: “أنا لا أؤيد الضم”، مضيفا “في الواقع، سوف أعكس تقويض ترامب لعملية السلام” ودعا (إسرائيل) خلال تلك الفعالية إلى أن “توقف تهديدات ضم الأراضي والنشاط الاستيطاني، لأنها ستخنق أي أمل في السلام.

يشار إلى أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، “بنيامين نتنياهو”، قد أعلن أكثر من مرة، أن حكومته ستضم 30% من مساحة الضفة الغربية، مطلع شهر يوليو الماضي، لكن الأمر تأجل، ومن ثم يأتي القرار غير المدروس أو المتوقع من قبل محمود عباس، ليقدم المبرر للإدارة الأمريكية الجديدة، بالتريث في تقديم الدعم المالي  للفلسطينيين. حيث سترد إسرائيل على اية مطالب أمريكية بوقف مخططات التوسع الاستيطاني أو خنق وحصار الفلسطينيين، بالتنسيق الامني وعودة اللقاءات والعلاقات السياسية مع سلطة عباس. وهو ما يؤثر حتما على الموقف الأووروبي الذي يتخذ العديد من القرارات المضادة لإسرائيل، خاصة ضد الاستيطان والتغول الصهيوني على حساب الفلسطينيين.

 

-دفع المسار الصهيوني نحو الغاء حل الدولتين:

ولعل أخطر ما يهدد القضية الفلسطينية بعد عودة التنسيق الامني بين السلطة والكيان، هو الإتيان بصورة كبيرة على مسار حل الدولتين، فقد أعلنت إسرائيل الأسبوع الماضي عن عطاء لبناء 1257 وحدة سكنية في منطقة دير مار الياس، الواقعة على الطريق بين بيت لحم ومدينة القدس وشرقي بيت صفافا، التي تطلق عليها إسرائيل اسم «جبعات همتوس» أي تلة الطائرة نسبة الى سقوط طائرة إسرائيلية هناك خلال حرب 1967. ويشكل هذا العطاء مرحلة أولى من بناء حي سكني كبير يصل الى أكثر من 2500 وحدة سكنية. وسيؤدي هذا المشروع إلى محاصرة منطقة بيت صفافا من كل الجهات، وفصلها عن بقية أحياء القدس الشرقية، كما سيؤدّي إلى قطع التواصل الجغرافي بين بيت لحم والقدس، ما يشكّل ضربة كبيرة لمشروع «حل الدولتين». وسيكون من السهل تسويق هذه الوحدات السكنية، لأنّها معدة للبيع بأسعار مخفّضة وأقل بكثير من سعر السوق. تم إعداد هذا المشروع قبل أكثر من عشر سنوات، لكنّ إدارة أوباما ضغطت لمنع تنفيذه، وحين حاول نتنياهو بعدها الشروع به تدخلت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، وطلبت منه العدول عنه فاستجاب لها. وبعد عشر سنوات من الامتناع عن التطبيق، جاء الاعلان  الإسرائيلي عن بدء العطاء، وهو خطوة رسمية وفق القانون الإسرائيلي وتنتهي في 18 يناير المقبل، أي يومين قبل ذهاب ترامب وتولّي بايدن الرئاسة. وبعد أن يرسى العطاء على شركة معيّنة، سيكون من الصعب على الحكومة الإسرائيلية التراجع.

وجاء توقيت البدء بهذا المشروع لاستغلال ما تبقى من فترة ترامب في البيت الأبيض، واستند إلى تقدير بأن الردّ الفلسطيني سيكون ضعيفًا، فإسرائيل كانت على علم أن الاتجاه هو عودة التنسيق الأمني، وليس تفعيل النضال ضد الاحتلال والاستيطان. كما أن إعادة مسار العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، خطوة نحو إعادة قطار المشاريع الصهيونية على مسارها المتسارع، حيث يشمل مشروع ضم الأراضي التي احتلتها (إسرائيل) عام 1967 أكثر من 30% من مساحة الضفة، ما ينسف فكرة “حل الدولتين” التي شكلت أساسا لاتفاقات السلطة و(إسرائيل) على مدى العقود الماضية.

 

-حماية إسرائيل من المسائلة الدولية:

وبالمخالفة،  فوقت اعلان السلطة الفلسطينية تعليق العلاقات والتنسيق الامني، في مايو الماضي، كان يتعين على (إسرائيل)، بعد إعلان “عباس”، أن تتحمل جميع المسؤوليات والالتزامات أمام المجتمع الدولي كـ”قوة احتلال” في أرض فلسطين، بكل ما يترتب على ذلك من آثار وتبعات وتداعيات من شأنها التأسيس لمرحلة جديدة من المواجهة الفلسطينية مع الاحتلال، حسبما أكد المجلس الوطني الفلسطيني، في بيان وقتها،  واعتبر المجلس أن الانسحاب من الاتفاقيات الموقعة مع (إسرائيل) يعني التحول الفلسطيني “من مرحلة السلطة إلى مرحلة الدولة”، مشددا على أن تنفيذ ذلك على الأرض يتطلب من الجميع التحلي بالمسؤولية الوطنية، والإعلان عن إنهاء الانقسام، وفقا لما أوردته وكالة “وفا” الفلسطينية.

ووفق هكذا تصور، فإن إعلان “عباس” ربما يفتح باب اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا ما مضت دولة الاحتلال قدما في ضم أراضي الضفة الغربية. حسبما توقع خبير العلاقات الدولية “إيتان جيلبوا” في مقال بصحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية. وهو ما باتت اسرائيل في مأمن منه، بعد اعلان عباس العودة إلى الخلف مع اسرائيل، على الرغم من نتائج الانتخابات الامريكية التي ولو نظريا، تحمل اتجاهات ايجابية إزاء الحقوق الفلسطينية.

 

-تفريغ المشروع الفلسطيني:

ومع عودة التنسيق الأمني، تعود القضية الفلسطينية مراحل واسعة للخلف، حيث تتعمق المروعات التقسيمية والتقزيم الفلسطيني، على أراضيها، وصولا إلى دويلات الكاونتات وهو ما بدأته اتفاقات اوسلو سابقا، حيث بدأ التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني كأحد مخرجات اتفاق أوسلو الذي جرى توقيعه بين الطرفين في 13 من سبتمبر1993، والذي نص على اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بسيطرة صهيونية (على 78% من أراضي فلسطين، أي كل فلسطين ما عدا الضفة الغربية وغزة).ومع مرور السنوات تآكلت بنود اتفاق أوسلو وفرغته حكومات الاحتلال المتعاقبة بانتهاكاتها المتواصلة من أي مضمون؛ ولم يتبق منه شيء سوى ملف التنسيق الأمني، ولكن الأكثر خطورة أن مسار أوسلو صمم المنظومة الأمنية والسياسية والاقتصادية للسلطة بحيث تبقى دائما تحت رحمة الاحتلال والإدارة الأمريكية وما يسمى بالمجتمع الدولي؛ فالسلطة فعليا غير قادرة على البقاء والاستمرار دون رعاية وكفالة من الاحتلال والإدارة الأمريكية؛ فهي لا تستطيع تحقيق أي اكتفاء ذاتي من جهة التمويل والغذاء والماء والكهرباء ولا حتى الحصول على المساعدات الدولية دون موافقة من حكومة الاحتلال، بل إن قيادت السلطة أنفسهم لا يملكون حرية الحركة داخل مناطق الضفة الغربية دون موافقة من أجهزة الاحتلال الأمنية.

وعبر سنوات طويلة مضت تمكن الاحتلال من تكوين شبكة أو مافيا حاكمة ترتبط وجودا وعدما بالاحتلال تستمد منه القوة والنفوذ والسيطرة. وحتى لو أراد أبو مازن الخروج على هذه القواعد التي شارك في تكريسها فسوف يجد من داخل السلطة وأجهزتها الأمنية من يتمردون عليه إمعانا في خدمة أجندة الاحتلال، كما فعل هو من قبل مع ياسر عرفات؛ حيث بات ولاء كثير من هذه الطبقة الحاكمة أولا وأخيرا للاحتلال وليس للسلطة ولا حركة فتح فضلا عن قضية فلسطين التي تعد بالنسبة لهؤلاء مجرد بيزنس يحققون من ورائه ثروات طائلة“. وكان الدور الأخطر في ملف التنسيق الأمني ،  هو ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب انتفاضة الأقصى(2000 2005)، حيث اتجهت إلى التلاعب بالعقيدة الأمنية لقيادات وعناصر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية من خلال مأسسة هذه الأجهزة وتغيير عقيدتها و شكَّلت واشنطن مجلسًا لتنسيق التعاون الأمني بين السلطة وصهيون، بقيادة الجنرال الأمريكي، كيث دايتون، الذي تولى شخصيًا مهمة الإشراف على إعداد وتدريب أجهزة السلطة الأمنية لتحسين قدرتها على إحباط العمليات المسلحة للمقاومة.

وإلى جانب مأسسة أجهزة السلطة الأمنية لتكون أكثر ولاء لأفكار وتصورات أبو مازن المتطابقة مع أفكار الاحتلال والأمريكان؛ حرص دايتون على أن تسهم دورات التدريب التي أشرف عليها في فرض عقيدة أمنية جديدة على المؤسسة الأمنية في السلطة، بحيث يفضي تشرب منتسبي الأجهزة الأمنية الفلسطينية تلك العقيدة إلى “صناعة الفلسطيني الجديد”، الذي يرى في إحباط العمل المقاوم ضد الاحتلال مصلحة وطنية له. وقد أثنى جيش الاحتلال على دور هذا التحولات على النظام السياسي الفلسطيني وزيادة فعالية التعاون الأمني وإسهامها في تحسين ظروف المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وإجهاض مشروع المقاومة بها بعكس تعاظم دور المقاومة في قطاع غزة والتي تمكنت من تحرير القطاع سنة 2005م.

 

رؤية مستقبلية:

وأمام المشهد الملتبس فلسطينيا، من المتوقع أن تزداد الانقسامات الفلسطينية، وتتعالى دعوات التشظي الوطني، والصراع مجددا على سلاح المقاومة والضغط على الفصائل المقاومة، مع استمرار المشاريع الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية، مع دعم عربي لها من قبل دول التطبيع المرتكسة بغمار العار الصهيوني مؤخرا، وهو الأمر الذي لا محالة سيدفع حركات المقاومة في قطاع غزة للتصعيد العسكري ضد الصهاينة لوقف مخططاتهم، وهو ما بدا يلوح بالافق خلال الساعات الماضية بضرب قطاع غزة عسكريا ورد المقاومة وتحدي القبة الحديدية الصهيونية.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022