تفجرت الأزمة بين فرنسا والعالم الإسلامي يوم أول أكتوبر2020م، عندما أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصريحات عدائية ضد الإسلام مدعيا أن «الإسلام يعيش اليوم في أزمة في كل مكان بالعالم»، وهي التصريحات التي لاقت استنكارا واسعا داخل العالم الإسلامي. وفي خطوة عدائية واصل ماكرون، تصعيده بإعلانه عن مشروع قانون ضد ما أسماه بـ”الانعزالية الإسلامية”، بدعوى “مواجهة التطرف الديني وحماية القيم العلمانية للجمهورية الفرنسية”، والذي ينطوي على فرض رقابة أكثر صرامة على الجمعيات الإسلامية والمساجد، ومنع “شهادات العذرية” للفتيات المسلمات قبل الزواج. وفي هذه الأثناء أدلى وزير داخلية فرنسا جيرالد دارمانان تصريحات مسيئة للإسلام مؤكدا أن بلاده «في حرب ضد الإرهاب الإسلامي»، وذلك في ذكرى الهجوم على صحيفة “شارلي إيبدو” سنة 2015، والتي دأبت على نشر الرسوم المسيئة للنبي (صلى الله عليه وسلم).
وتجددت الأزمة مرة أخرى في “16” أكتوبر2020م، حيث شن الرئيس الفرنسي مواقف عدائية ضد الإسلام ونبيه الأعظم محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ وخلال تأبين مدرس فرنسي تعرض للقتل على يد مراهق شيشاني، بسبب نشره رسوما مسيئة للنبي محمد(صلى الله عليه وسلم)،على تلاميذه داخل المدرسة، وبالغ الرئيس الفرنسي في عدائه للإسلام زاعما أن المدرس الفرنسي راح ضحية «الإرهاب الإسلامي» مضيفا «سندافع عن الحرية وسنحمل راية العلمانية عاليا، ولن نتخلى عن الرسومات والكاريكاتيرات»، وادعى أيضا أن «الظلامية لن تنتصر»، في تطاول سافر على الإسلام والمسلمين. تبني الرئيس الفرنسي لهذه الرسوم والإصرار على نشرها مجددا يعني أن الدولة الفرنسية تتبنى الإساءة للإسلام والرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ولا تبالي بتادعيات الصدام مع نحو ملياري مسلم حول العالم، ولا تكثرت لوجود نحو 8 ملايين مسلم يعيشون في فرنسا بعضهم يحملون الجنسية الفرنسية.
وفي 2015، تعرضت صحيفة “شارل إيبدو” لهجوم مسلح أسفر عن مقتل 12 وإصابة العشرات في أعقاب نشرها رسوما مسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهو الهجوم الذي أدانته معظم الجهات والمدارس الإسلامية بذات القدر الذي أدانت فيه لجوء الصحيفة إلى إهانة الإسلام ونبيه العظيم، وبحسب مراقبين، فإن الحوادث التي تصفها الحكومة الفرنسية بالإرهابية ارتبط معظمها بالرسوم المسيئة للنبي محمد(صلى الله عليه وسلم)، حيث تعرضت فرنسا منذ بداية 2020م لــ4 حوادث، الأول في فبراير، حيث تعرضت عناصر الشرطة الفرنسية بمنطقة ديوز لهجوم داخل مركز الشرطة، من جانب شخص مسلح كان يحمل سكينا ويكبر، بحسب رواية الشرطة الفرنسية وتم إطلاق الرصاص عليه وإصابته في يده. وفي سبتمبر تعرضت صحيفة “شارل إيبدو” لتهديدات بعد إعادة نشرها للرسوم المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ما أدى إلى إصابة 4 أشخاص طعنا بالسلاح الأبيض قرب المقر القديم للصحيفة منتصف سبتمبر، واثنان من المصابين كانت حالتهم خطرة. وفي منتصف أكتوبر جرى ذبح مدرس فرنسي لنشره رسوما مسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) على تلاميذه في المدرسة. وفي أواخر أكتوبر قتل 3 أشخاص وأصيب آخرون بجروح في حادث قرب كنيسة في مدينة نيس. معنى ذلك أن كل الحوادث التي تعرضت لها فرنسا في 2020م أسفرت عن مقتل 3 وإصابة نحو 10 أشخاص؛ لكن لأهداف سياسية أيديولوجية جرى تضخيمها والمبالغة فيها في إطار من التوظيف السياسي لها من جانب نظام الرئيس ماكرون لاعتبارات انتخابية؛ ففي 2017م تم انتخاب ماكرون من جانب قاعدة يسار الوسط ضد مرشحة اليمين المتطرف ماريان لوبان، لكن سياسات ماكرون أفقدته شعبيته بين الوسط واليسار؛ حيث مثل الصدام مع أصحاب السترات الصفراء محطة فاصلة بينه وبين يسار الوسط، وبالتالي يراهن الرئيس الفرنسي على كسب أصوات اليمين واليمين المتطرف في محاولة للفوز بفترة رئاسية ثانية.
المقاطعة الشعبية
أمام الإساءة الفرنسية، وتواطؤ معظم النظم العربية والإسلامية تصدرت الشعوب المواجهة، وخرجت مظاهرات حاشدة في عظم العواصم الإسلامية تدين هذا السلوك الفرنسي البغيض، كما انتشرت دعوات شعبية لمعاقبة النظام الفرنسي بمقاطعة البضائع والشركات الفرنسية. ولا ينسى المسلمون أن مقاطعة البضائع الدنماركية والنرويجية سنة 2006م؛ احتجاجا وقتهاعلى الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد عليه السلام، أجبرت الصحيفة المسيئة وكبار المسئولين بحكومتي البلدين على الاعتذار في نهاية المطاف، يتكرر المشهد حاليا مع السلع والمنتجات الفرنسية التي تشهد مقاطعة واسعة من قبل شعوب بعض البلدان العربية والإسلامية مع إصرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الإساءة للدين الإسلامي؛ يتوقع محللون وخبراء أن يؤدي سلاح المقاطعة للسلع والمنتجات الفرنسية إلى إجبار ماكرون في النهاية، إما على الاعتذار عن الإساءات المستمرة للدين الإسلامي والنبي محمد عليه السلام، أو على الأقل وقف السياسة العنصرية التي يمارسها بحق الإسلام والمسلمين، أو أن تتعمق الأزمة الاقتصادية والمالية التي تشهدها فرنسا حاليا.
وفي مصر تصل حجم استثمارات الشركات الفرنسية إلى 160 شركة، باستثمارات تصل إلى 3 مليارات يورو، أي ما يعادل 30 مليار جنيه مصري، يعمل بها نحو 30 ألف عامل، وتلك الشركات تعمل في قطاعات التمويل والصناعات الزراعية والسياحة وتكنولوجيا المعلومات وقطاع الإنشاءات والخدمات والكهرباء والصحة والنقل الجوي ومواد البناء، وصناعات السيارات، والأدوية، والبنوك، والاتصالات، فضلاً عن دورها في إنشاء مترو أنفاق القاهرة أحد أهم مشروعات التعاون المشترك بين البلدين. وتوجد في القاهرة الغرفة التجارية الفرنسية التي تم إنشاؤها في عام 1992، وتضم حوالي 640 عضوا، معظمهم ممثلون عن شركات مصرية في قطاعات الصناعة والتجارة والخدمات، إلى جانب ممثلين عن شركات فرنسية متواجدة في مصر، كما تم إنشاء مجلس الأعمال الفرنسي المصري عام 2006، لتذليل جميع المشكلات التي تعرقل نمو نشاط الشركات الفرنسية، وتدعيم العلاقات الثنائية في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمارات.[[1]] وهناك العشرات من المنتجات الفرنسية الموجودة بالأسواق المصرية، من بينها أنواع معينة من الأجبان مثل “لا فاشكيرى – بيرى- بريزي دون” ومنتجات دانون للألبان منها “دانون زبادي– دانغو” وصلصة البولونيز، ومنتجات مولينكس على رأسها خلاطات المطابخ المنزلية وأواني التيفال، فضلاً عن منتجات شركة بيك من “أقلام وشفرات حلاقة” ومستحضرات التجميل من كريمات وشامبو وعطور وزيوت وأعشاب وأنواع من المنظفات، وساعات وحقائب، وعشرات الأنواع من الملابس، إضافة إلى سيارات “رينو– بيجو- سيتروين” والمياه الغازية ولبن البودرة والشكولاتة بأنواعها المختلفة، وغيرها من المنتجات.
صدمة فرنسية
أصيبت فرنسا بصدمة مدوية جراء الانتشار الواسع للمقاطعة، ويمكن البرهنة على ذلك بالبيان الذي أصدرته الخارجية الفرنسية في 25 أكتوبر 2020م، حيث زعمت أن “الدعوات إلى المقاطعة عبثية ويجب أن تتوقف فورا، وكذلك كل الهجمات التي تتعرض لها بلادنا والتي تقف وراءها أقلية راديكالية متطرفة”، كما غرِّد ماكرون واصفا دعوات المقاطعة بـ«خطاب الحقد».
وفي سبيل استدراك الموقف والخوف من تعرض اقتصاد فرنسا لهزة عنيفة على وقع تفشي دعوات المقاطعة، تحركت الحكومة الفرنسية على عدة مستويات:
- أولا، جرى تغيير نبرة التصريحات الرسمية مع الإشارة إلى أن فرنسا لا تحارب الإسلام لكنها تسعى إلى مواجهة المتطرفين والإرهابيين.
- ثانيا، أجرى الرئيس الفرنسي حوارا مع شبكة الجزيرة الإخبارية باعتبارها أكبر شبكة إعلامية ناطقة بالعربية وأكثرها انتشار ومصداقية، حيث أبدى الرئيس الفرنسي شيئا من التراجع، لكنه في ذات الوقت دافع عن الرسوم المسيئة باعتبارها جزءا من حرية التعبير، مدعيا أنه على المستوى الشخصي ربما يرفض هذه الرسوم لكنه لا يستطيع منعها لأن حرية الرأي والتعبير مكون أساسي من علمانية الدولة الفرنسية. لكن الرئيس الفرنسي تناسى أن القوانين الفرنسية تمنع انتقاد “إسرائيل” أو التشكيك في الهولوكوست (مذبحة اليهود على يد النازية الألمانية)، كما جرى فصل رسام كاريكاتير من صحيفة “شارل إيبدو” لسخريته من الرئيس الفرنسي. كما يناقش البرلمان الفرنسي حاليا قانونا حول “الأمن الشامل” يمنع من نشر صور ضباط وعناصر الشرطة حال قيامهم بالمهام بدعوى أن في ذلك خطورة عليهم رغم المعارضة المجتمعية الشديدة لمشروع القانون المثير للجدل والذي يحد من حرية الرأي والتعبير، ويبدو أن حرية إساءة الإسلام ورسوله(صلى الله عليه وسلم) هي الشيء الوحيد المصان وفق مزاعم ماكرون عن حرية الرأي والتعبير في بلاده.
- ثالثا، بعد مخاطبة العالم الإسلام من منبر قناة الجزيرة القطرية، توجه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى القاهرة، في 8 نوفمبر 2020م، حيث التقى برئيس الانقلاب عبدالفتاح السيسي، ووزير خارجيته سامح شكري، وهي اللقاءات التي خرجت بتصريحات باهتة لا تعكس حجم الغضب الشعبي الهائل بين المسلمين. لكن الأهم في الزيارة هو لقاء الوزير الفرنسي بالدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، حيث كان يرغب الوزير الفرنسي في الحصول على تصريحات من شيخ الأزهر تدعم الموقف الفرنسي، أو على الأقل تسهم في تهدئة الأجواء؛ لكن الطيب كان حاسما وعصمه إيمانه من الانزلاق كما فعل شيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي. وأعلن رفضه للموقف الفرنسي وتبني الدولة الفرنسية للرسوم المسيئة مطالبا بحرية احترام كافة الأديان على حد سواء. وكان الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك قد أصدر سنة 2003م قانونا بحظر “الرموز الدينية”، والذي تم على أثره منع ارتداء المسلمات للحجاب بالمدارس والمنشآت الحكومية؛ وهو القانون الذي قوبل برفض شعبي إسلامي واسع؛ وفي ديسمبر 2003، أرسل شيراك -الصديق الحميم لحسني مبارك- وزير داخليته نيكولا ساركوزي للقاء شيخ الأزهر حينها محمد سيد طنطاوي، الذي سبق اللقاء بفتوى تقر بحق المسؤولين الفرنسيين إصدار قانون يحظر ارتداء الحجاب بمدارسهم ومؤسساتهم الحكومية؛ الأمر الذي مثل صدمة لمسلمي أوروبا والعالم ومثلت برهانا على أن الأزهر هو مجرد أداة من أدوات النظام المصري مرهون بمواقفها وسياستها ولا يتمتع بأي استقلالية مزعومة. أما في الأزمة الراهنة فقد كان موقف الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، مغايرا لموقف النظام بشكل نسبي ومغايرا لموقف غير المأسوف عليه سيد طنطاوي؛ حيث استقبل الطيب لودريان، ورغم التصريحات التي مثلت وقتها شيئا من التراجع حيث قال الوزير الفرنسي إن “بلاده تكن احتراما عميقا للإسلام وأن المسلمين في فرنسا هم جزء من تاريخ وهوية البلاد، ونحن نكافح الإرهاب وتحوير الدين والتطرف”، لكن شيخ الأزهر لم ينخدع بهذا الكلام المعسول، وأطلق “12” تصريحا أبرزها الرفض للموقف الفرنسي وللرسوم المسيئة وملاحقة المسيئين للنبي محمد في المحاكم الدولية، قائلا: «إذا كنتم في فرنسا وأوروبا تعتبرون أن الإساءة لنبينا حرية تعبير، فنحن نرفضها شكلا ومضمونا»، كما رفض ربط الإسلام بالإرهاب وإدانة من يستخدمون وصف «الإرهاب الإسلامي»، وطالب بوقف استعماله فورا لأنه يجرح مشاعر المسلمين وينافي الحقيقة، مؤكدا أن الإرهابيين قلة ولا يمثلون الإسلام ولا المسلمين.
وفي 5 أكتوبر علق الطيب على تصريحات ماكرون قائلا: “تصريحات غير مسؤولة، تتخذ من الهجوم على الإسلام غطاء لتحقيق مكاسب سياسية واهية، هذا السلوك اللاحضاري ضد الأديان يؤسس لثقافة الكراهية والعنصرية ويولد الإرهاب”. وفي 18 أكتوبر2020م قال إن “وصف الإسلام بالإرهاب يَنُمُّ عن جهل بهذا الدين الحنيف، ومجازفة لا تأخذ في اعتبارها احترام عقيدة الآخرين، ودعوة صريحة للكراهية والعنف، ورجوع إلى وحشية القرون الوسطى، واستفزاز كريه لمشاعر ما يقرب من ملياري مسلم”. وفي 24 أكتوبر2020، أعلن شيخ الأزهر رفضه لهجوم ماكرون على الإسلام والمسلمين، واعتبره “حملة ممنهجة للزج بالإسلام في المعارك السياسية، وصناعة فوضى بدأت بهجمة مغرضة على نبي الرحمة”، قائلا: “لا نقبل بأن تكون رموزنا ومقدساتنا ضحية مضاربة رخيصة في سوق السياسات والصراعات الانتخابية”. وخلال كلمته بذكرى المولد النبوي الشريف بحضور السيسي، في 28 أكتوبر 2020، أكد أنه “من المؤلم أن نرى الإساءة للإسلام والمسلمين أصبحت أداة لحشد الأصوات والمضاربة بها في أسواق الانتخابات، وهذه الرسوم المسيئة لنبينا العظيم والتي تتبناها بعض الصحف والمجلات”.[[2]] موقف الأزهر لاقى ترحيبا واسعا في أرجاء العالم الإسلامي؛ لكن اللافت في مواقف الأزهر أنه اكتفى بالكلام وهي الدائرة التي يمكن أن يقبل بها نظام السيسي؛ ولم يتطرق شيخ الأزهر إلى إجراء عملي يمكن أن يؤدب الفرنسيين سوى اللجوء إلى القضاء الدولي وملاحقة الذين يؤذون الإسلام ونبيه محمد (صلى الله عليه وسلم). وهو إجراء شكلي لن يحقق شيئا، ومن اللافت أيضا أن شيخ الأزهر التزم بالخطوط الحمراء التي وضعها النظام، ولم يتطرق مطلقا إلى دعوة الجماهير إلى المقاطعة وهو ما يضعف موقف المؤسسة الإسلامية ويحد من تأثيرها على المستويين المحلي والعالمي.
موقف نظام السيسي
تعامل نظام العسكر في مصر بازدواجية مع أزمة الرسوم المسيئة؛ وظهر النظام بوجهين: الأول، تقمص زعيم الانقلاب عبدالفتاح السيسي لدور المستنكر للرسوم المسيئة وإن لم يقل ذلك صراحة وهو ما تجلي في خطابه في احتفال وزارة الأوقاف بالمولد النبوي الشريف يوم 28 أكتوبر2020م. والوجه الثاني، هو الوجه العملي حيث جرى التعميم على كافة أجهزة الدولة بمواجهة دعوات المقاطعة والتنكيل بكل العلماء والداعين إليها وممارسة تهديدات بحقهم للحد من انتشارها في إطار توجهات النظام نحو التهدئة مع الحكومة الفرنسية والاكتفاء بالكلام دون الانتقال إلى الأفعال التي يمكن أن تسبب الأذى للنظام الفرنسي.
وكم كان مدهشًا أن عبد الفتاح السيسي ألقى خطابًا محترمًا، عكس التوقع، وعقلانيًا، على غير العادة، في احتفال وزارة الأوقاف بالمولد النبوي الشريف(28 نوفمبر2020م). حين ظهر السيسي مشاركًا جموع المسلمين الغضب من الإساءة لشخص النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وإهانة شعور أكثر من مليار ونصف المليار إنسان مسلم، هم أنفسهم الذين أهان السيسي مشاعرهم وحرّض واستثمر في التحريض عليهم منذ خمس سنوات، حتى في فقرة الارتجال الفكاهية التي يقدمها بعد أن يطوي الورقة التي تحوي الخطبة الرسمية المكتوبة له، بدا السيسي متزنًا وعقلانيًا على غير العادة، في مفاجأة للجميع.[[3]]
تفسير هذا الاتزان الطارئ، أن الحقيقة فرضت نفسها ، وقوة الرأي العام الإسلامي فرضت على السيسي أن تأتي كلمته جيدة ومحترمة، مع التأكيد بالطبع على أن هذا لا ينفي عنه أنه طاغية وانقلابي ومختطف للسلطة بانقلاب وحشي، فما كان للسيسي أن يقدر على الصدام مع الرأي العام الإسلامي في قضية كهذه. ودعوات المقاطعة وصيحات الغضب من الإهانة لم تؤثر في الأوساط الأوروبية فقط، وإنما أحدثت تغييرًا نوعيًا مذهلًا في الخطاب الصادر عن طغاة ومستبدّين عرب كانوا حتى وقت قريب، يقتاتون على منتجات مصانع الكراهية والعنصرية التي تمارس ازدراءً بحق الدين الإسلامي، كما تمارس تحريضًا ضد المسلمين في المجتمعات الأوروبية، على نحو صريح كما فعل عبد الفتاح السيسي قبل سنوات، وهو يحذّر الأوروبيين من خطر المسلمين الذين يعيشون بينهم.
من جهة ثانية، فإن كلمة السيسي جاءت بعد أن تحدث شيخ الأزهر، فأبدع في بيان الحالة، مفندًا أباطيل لوثة الإساءة للنبي محمد وللدين الإسلامي التي اعترت الرئيس الفرنسي ماكرون، في أعقاب جريمة قتل معلم الرسوم المسيئة، وبالتالي فما كان لخطاب السيسي أن يكون أقل في محتواه ومضامينه من بيان شيخ الأزهر؛ وإلا تعرض لحفلة تسفيه هو ونظامه في غنى عنها في هذا المقام؛ وبالتالي من الواضح أن أجهزته المخابراتية والأمنية شددت عليه بضرورة التظاهر بتبني حالة الغضب الشعبي وعدم الصدام معها.
من جهة ثالثة، فإن السيسي وأجهزته كانوا محل انتقاد حاد قبل شهور قليلة بشأن حملة الهدم التي طالت عشرات المساجد بدعوى أنها بنيت بالمخالفة للقانون؛ في الوقت الذي سن فيه قانونا خاصا لتقنين وضع الكنائس المخالفة، فقد جرى هدم نحو 35 مسجدا وتعهد بهدم نحو 71 مسجدا آخر. وهو ما يؤكد ازدواجية تعامل النظام واضطهاد للمسلمين على نحو يفوق حتى ما تفعله فرنسا الآن. كما لا ينسى ملايين المسلمين أن السيسي نفسه هو من اتهم الإسلام والمسلمين بالإرهاب عندما زعم أن نحو مليار وسبع مائة مليون مسلم يريدون أن يعيشوا وحدهم. وسمعة السيسي في الهذيان ضد الإسلام لا تخفى على أحد وتصريحاته العدائية ضد الإسلام والمسلمين خير شاهد. وبالتالي فإن أجهزة النظام كانت بالغة الحرص على عدم الدخول في أزمة جديدة فكتبت كلمة السيسي بعناية شديدة، وجرى تدريبه على عدم الخروج على النص كما يفعل دائما.
حرب السيسي على المقاطعة
بعيدا عن الخطاب المعسول الذي ألقاه السيسي في احتفال المولد النبوي لأسباب ذكرناها وفسرنا دوافعها، كانت كافة أجهزة النظام تعمل بكل طاقتها بشكل بالغ الانحياز للموقف الفرنسي؛ وشن نظام السيسي حربا ضارية ضد حملات المقاطعة وأبدى توددا لفرنسا يثير الأسى والأسف.
أولا، كان موقف الآلة الإعلامية للنظام من حملة مقاطعة البضائع الفرنسية برهانا عمليا على أن نظام السيسي يتعامل مع الإساءة الفرنسية للإسلام ونبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) بوجهين: الأول هو التصريحات المعسولة من جانب رئيس الانقلاب والتي جاءت على غير العادة متوازنة، وبين أفعاله التي تناقض هذه الأفعال، وبدا الارتباك واضحا على أدوات السلطة الإعلامية والتي انحازت للموقف الفرنسي وراحت تقلل من شأن المقاطعة؛ حيث حاولوا تثبيط حماسة المصريين بالحديث عن انعدام جدوى المقاطعة، وأنها لن تؤثر في الاقتصاد الفرنسي القوي، وهو ما رد عليه مغردون بتداول بيان الخارجية الفرنسية الذي يطلب من الدول الإسلامية عدم المقاطعة. كما حاول بعضهم تفريغ دعوات المقاطعة من مضمونها بالحديث عن ضرورة التفرقة بين المنتجات المصنعة في فرنسا، والمنتجات الفرنسية المصنعة في مصر في مصانع يعمل فيها مصريون. لكن كل هذه الترهات لم تقنع المصريين بالتوقف عن المقاطعة؛ ثم جرى الزعم أخيرا بعدم جدواها ثم ربطها بتركيا وجماعة الإخوان المسلمين باعتبارها موقفا سياسيا يتبناه الرئيس التركي في سياق توتر العلاقات مع فرنسا وجماعة الإخوان التي تؤيد تركيا على طول الخط. لكن الانتشار الواسع للمقاطعة بين المصريين بمختلف انتماءاتهم وضع نظام السيسي في ورطة كبيرة؛ لأن النظام وقبل أزمة الرسوم المسيئة بأسبوع واحد، كان يتبنى الحملات السعودية الإماراتية لمقاطعة البضائع التركية، وتبارى المذيعون الموالون للسلطة في الحديث بحماس شديد عن فوائد مقاطعة البضائع التركية وتأثيرها على نظام الرئيس رجب طيب أردوغان، بينما أخذوا موقفا مناهضا لمقاطعة البضائع الفرنسية؛ وهو ما كشف نفاق النظام من جهة وبرهن على أنهم لا يغضبون إلا إذا جرى المس بزعيم الانقلاب باعتباره يحظى بمكانة عندهم أعلى من مكانة الرسول (صلى الله عليه وسلم) . ويتجلى ذلك بوضوح في تأكيد عدد من التجار أنهم يواجهون صعوبات إدارية من جانب حكومة السيسي عند الاستيراد من تركيا، وهي الصعوبات التي تختفي تماما عن الاستيراد من فرنسا.[[4]]
ثانيا، في ظل اشتعال أزمة الرسوم المسيئة، أعلن الجيش المصري في 3 نوفمبر 2020م عن تنفيذ مناورة بحرية مع فرنسا في مياه البحر المتوسط، بمشاركة الفرقاطة المصرية (طابا) والفرقاطة الفرنسية (JEAN BART)، وجرى التدريب على تنفيذ تشكيلات الإبحار المختلفة، وتقييم التهديدات السطحية والجوية وتحت السطح وسيناريوهات التعامل معها”.وفقا لبيان نشره المتحدث العسكري على صفحته الرسمية بموقف التواصل الاجتماعي “فيس بوك”.[[5]] وفي 17 نوفمبر “2020”م، أعلن الجيش أيضا عن تننفيذ تدريب بحري بين القوات البحرية المصرية ونظيرتها الفرنسية في البحر المتوسط، وبحسب المتحدث العسكر العقيد تامر الرفاعي، فإن “التدريب تم في نطاق الأسطول الشمالي بالبحر المتوسط بمشاركة فرقاطتين، أحدهما مصرية والثانية فرنسية”. هذا التدريب هو الثاني من نوعه خلال فترة وجيزة مع القوات البحرية الفرنسية، لتعزيز التعاون العسكري بين الجانبين بحسب المتحدث الرسمي للجيش.[[6]]
ثالثا، في ظل الأزمة استقبل كرم جبر، رئيس ما يسمى بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بمكتبه بمبنى ماسبيرو، ستيفان روماتيه السفير الفرنسي بالقاهرة والوفد المرافق له والمكون من منية جيكيل المستشارة الإعلامية والصحفية بالسفارة الفرنسية بالقاهرة ، وأحمد فاضل الملحق الصحفى بالسفارة الفرنسية. وتناول اللقاء العديد من القضايا المشتركة الخاصة بالإعلام والصحافة وسبل التعاون بين الطرفين في المرحلة المقبلة، الذي كان محل ترحيب من الطرفين. وأبدى رئيس الأعلى للإعلام استعداده لدعوة مجموعة من كبار الصحفيين الفرنسيين للتحاور حول طرق مواجهة الخطر المشترك الذي يواجه مصر وفرنسا على حد سواء، وهو الإرهاب ونشر الأفكار المتطرفة والعنف المصاحب لها.[[7]] ولم يتطرق اللقاء مطلقا لأي ذكر عن أزمة الرسوم المسيئة ولا الإهانة الفرنسية لمقام الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، بل على العكس رحب الجانب المصري بالتعاون ضد ما أسماه بالإرهاب في تماهٍ مع الموقف الفرنسي وانحياز له.
رابعا، من البراهين الواضحة على خذلان الموقف الرسمي لنظام السيسي في أزمة الرسوم المسيئة أن وزارة الأوقاف فرضت موضوعا محددا لخطبة الجمعة على جميع الأئمة حول “حق الاختلاف وقبول الآخر”؛ وهو عنوان براق أريد به سحب الجماهير من مربع المقاطعة التي انتشرت كالنار في الهشيم الفرنسي، إلى مربع التهدئة والحوار؛ إذ لم يشر محتوى الخطبة الذي نشرته الوزارة وفرضته على الجميع مطلقا لأي ذكر عن مقاطعة البضائع الفرنسية ولا حتى ذكر لفرنسا والرسوم المسيئة من الأساس. ومن الفقرات المثيرة التي وردت بمحتوى الخطبة «لقد دعانا ديننا الحنيف إلى قبول هذا التنوع، وجعله وسيلة للتعارف والتقارب، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال الحوار الهادف الذي يقرب وجهات النظر، ويخاطب العقول بالحكمة والموعظة الحسنة، فالأمم التي تؤمن بحق الاختلاف وقبول الآخر هي أكثر الأمم أمناً واستقراراً وتقدماً. والأمم التي وقعت في فخ الاحتراب والاقتتال الطائفي أو المذهبي، دخلت في دوائر فوضى ودمار عصفت بكيانها ومزقت أوصالها». فهذا الكلام الموزون يخرج من وزارة أدمنت البطش والقمع ولا تسمح مطلقا بأي هامش من الحرية والتنوع والاختلاف، واستخدمت سلاح الفصل نهائيا ضد كل من أبدى شيئا من الاختلاف مع مواقفها ومواقف النظام الذي تتبعه، وهو نظام عسكري اغتصب السلطة بقوة السلاح ويمارس أبشع صورة القمع والاستئصال لكل ما هو إسلامي أو معارض!.[[8]]
خامسا، التنكيل بكل من يدعو إلى مقاطعة البضائع الفرنسية؛ فقد وقفت أجهزة السيسي الأمنية والإعلامية والحكومية لحملات مقاطعة البضائع الفرنسية بالمرصاد؛ فإلى جانب التقليل من شأنها في وسائل الإعلام، وتحريض الجماهير على عدم تبني خيار المقاطعة كرد عملي على الإهانة الفرنسية للإسلام والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، أحالت وزارة الأوقاف إمام مسجد، للنيابتين العامة والإدارية؛ بدعوى تعليقه على أزمة الرسوم المسيئة للنبي “محمد صلى الله عليه وسلم”، وتحريضه ضد فرنسا. وتعامل الوزير مع الإمام (أحمد همام) الذي دعا إلى مقاطعة البضائع الفرنسية بشدة في غير محلها؛ وقرر وقفه عن العمل، والتوصية بسرعة إنهاء خدمته. بما يعني فصله من العمل وقطع رزقه لأنه تجرأ ودافع عن النبي محمد ضد الإجرام الفرنسي. واعتبر الوزير المعروف بولائه المشين للنظام وأجهزته الأمنية ما فعله الإمام المظلوم تحريضا على العنف والإرهاب يستوجب منعه من الصعود للمنبر مجددا.[[9]] كما جرى ــ في ذات السياق ــ اعتقال الداعية السلفي المعروف الشيخ مصطفى العدوى من منزله فجر الأربعاء 4 نوفمبر 2020م على خلفية إطلاقه تصريحات إعلامية بشأن وجوب مقاطعة المنتجات الفرنسية نصرة للرسول صلى الله عليه وسلم[[10]]؛ ورغم إطلاق سراحه بعد ساعات من احتجازه؛ إلا أن الرسالة قد وصلت، بأن النظام لن يتسامح مطلقا مع الأشخاص والجهات التي تتبنى حملات المقاطعة ضد البضائع الفرنسية عبر المنابر أو وسائل الإعلام. ومنعت قناة “صفا” الفضائية «العدوي» من الظهور على شاشتها في برنامج “أولوا العلم” المختص بالفتاوى، والذي يقدمه على القناة الممولة من المملكة العربية السعودية منذ فترة غير قصيرة، بعد نشرها توثيقاً لاتصال أجراه أحد المواطنين السعوديين المقيمين في الخارج مع الداعية الإسلامي، والذي سأله عن جواز حرق وإهانة صور “الحكام المتصهينين” (المتعاونون مع الاحتلال الإسرائيلي)، فأجابه بالجواز، وكان وزير الأوقاف محمد مختار جمعة قد أصدر مؤخرا قراراً بإلغاء ترخيص الخطابة للعدوي، ومنعه من صعود المنبر، أو أداء الدروس الدينية، بناءً على مذكرة مقدمة من مديرية الأوقاف بدعوى “ما نسب إليه من تصرفات لا تتسق، والسماح له بصعود المنبر”.
خلاصة الأمر أن فرنسا كافأت السيسي على موقفه المشين هذا؛ فقد صدَّق الجنرال في 12 نوفمبر 2020م، على القرار رقم 409 لسنة 2020م والخاص بقرضين من فرنسا بقيمة 900 مليون يورو بدعوى القيام بإصلاحات في مرفق مترو الأنفاق ووزارة الكهرباء.[[11]] وهو ما يؤكد أن السيسي لم يكن على استعداد في يوم من الأيام لمواجهة الاستعلاء والاستكبار الفرنسي حتى لو تطاولوا على مقام النبوة وأساءوا للإسلام العظيم.
—————————————-
[1] منعم سداوي/ دعوات المقاطعة الفرنسية تلهب الشارع المصري وسط سخط على الأداء الحكومي/ العربي الجديد 26 أكتوبر 2020
[2] ماكرون يستغيث بالأزهر.. هل تنجح فرنسا في امتصاص غضبة المسلمين؟/ الاستقلال 12 نوفمبر 2020
[3] وائل قنديل/ طعن النبي على باب الكنيسة/ العربي الجديد 30 أكتوبر 2020
[4] بين الاستحياء والوقاحة.. إعلام السيسي مرتبك بين مقاطعة فرنسا وتركيا/ الجزيرة نت 27 أكتوبر 2020
[5] مصر تعلن تنفيذ مناورات بحرية مع فرنسا في المتوسط/ وكالة الأناضول 3 نوفمبر 2020
[6] قوات مصرية وفرنسية تجري تدريبا عابرا في البحر المتوسط/ الخليج الجديد الثلاثاء 17 نوفمبر 2020
[7] فاطمة شعراوى/ رئيس «الأعلى للإعلام» يلتقي السفير الفرنسي في القاهرة | صور/ بوابة الأهرام 21 أكتوبر 2020
[8] بعد تحذير شيخ الأزهر من الإساءة للنبي… خطبة “جمعة” موحدة/ العربي الجديد 10 نوفمبر 2020
[9] إحالة إمام مسجد في مصر للنيابة لمهاجمته فرنسا وماكرون/ “الخليج الجديد” الاثنين 2 نوفمبر 2020
[10] مصر: اعتقال الداعية مصطفى العدوي بسبب دعوته لمقاطعة منتجات فرنسا/العربي الجديد 04 نوفمبر 2020
[11] السيسي يصدّق على قرضين فرنسيين بـ900 مليون يورو لإصلاح النقل والكهرباء/العربي الجديد 12 نوفمبر 2020