المناورات المصرية السودانية – هل تضرب مصر سد النهضة؟

تُعد المياه من العناصر التي قد تفجر حروبًا في المستقبل؛ فقد تجمعت عوامل متعددة تجعل قيمة الماء تزداد أهمية مع مرور الوقت، وهي التصحر والجفاف وارتفاع الحرارة؛ مما يتسبب في تبخر المياه، هذا مع ارتفاع نسبة سكان العالم في العقد الأخير. فأضحى الماء عنصرًا رئيسًا في مفهوم الأمن القومي لكل دولة، ولاسيما في إفريقيا وآسيا. ولعل مثال مصر هو الأبرز في الوقت الراهن، بعدما أصبح سد النهضة الإثيوبي الكبير، مصدر تهديد لعشرات الملايين من المصريين. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ماذا ستفعل مصر لحماية أمنها القومي؟ وهل هي قادرة بالفعل على التدخل العسكري الذي يجري التلويح به؟ وما موقف السودان من هذا النوع من التدخلات؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى تلك الورقة للإجابة عنها.

 

الموقف المصري:

الأمن المائي مسألة شديدة الحساسية في مصر، لا سيما عندما شرعت إثيوبيا في ملء سد النهضة، بشكل أحادي، ما يثير تبعات على نصيب القاهرة من مياه النيل، خاصةً بعد ما حدث في يوليو 2019 من انخفاض إيراد مصر من النيل بمقدار 5 مليارات متر مكعب من أصل 55.5 مليار، هي حصتها من النهر. وإن كانت القاهرة استطاعت تعويض المليارات الخمسة من المخزون الإستراتيجي لبحيرة ناصر، إلا أن أي نقص جديد في حصتها مع استمرار إثيوبيا في إجراءاتها الأحادية، سيُلحق ضررًا أكبر بمصر لا تستطيع تفاديه.

وإثر جولات من المفاوضات جرت في واشنطن، أعلنت الإدارة الأمريكية، في فبراير الماضي، التوصل إلى اتفاق حول آلية عمل السد. وبينما وقَّعت القاهرة الاتفاق بالأحرف الأولى، قالت واشنطن إن أديس أبابا امتنعت عن حضور الجولة الأخيرة من المفاوضات، التي كانت مخصصة للتوقيع، في حين اتهمت إثيوبيا واشنطن بالانحياز إلى مصر. ثم جاء حديث ترامب الأخير ليعطي ضوء أخضر لمصر للتحرك عسكريًّا، بعد تعثر جولات المفاوضات الأخيرة.

في المقابل، أعلنت إثيوبيا عدم الرضوخ لأي نوع من الاعتداءات بعد حديث ترامب، واستدعت السفير الأمريكي لديها. وهناك خمسة مبررات قد تدفع مصر للخيار العسكري؛ أولها: انخفاض حصة مصر عن 55 مليار متر مكعب، وهو أمر وارد جراء التغير المناخي. وثانيها: عجز المخزون الإستراتيجي لبحيرة ناصر عن سد أي نقص مع استمرار إثيوبيا بإجراءاتها. وثالثها: عدم توقيع إثيوبيا لاتفاق نهائي يضمن الحصص، أو التعهد بعدم ملء السد أوقات الجفاف. ورابعها: الحصول على ضوء أخضر دولي مبني على أساس انتهاك إثيوبيا للقوانين الدولية. وخامسها: توجيه انتباه المجتمع الدولي نحو النزاع، وفرضه على جدول أعمال الرئيس الأمريكي.[1]

 

الموقف السوداني:

ترتبط الخرطوم بعلاقات جيدة مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد؛ لكن ذلك قابل للتغير وفق مقتضيات المصلحة، وما يحدث الآن من تعاون عسكري بين مصر والسودان، يُعد وثيق الصلة بالحرب الإثيوبية، وفقًا لوجهة النظر السودانية. فالحكومة السودانية، ورغم عدم تدخلها المباشر حتى الآن في صراع إقليم تيجراي، إلا أنها تلوح بملفات، منها منطقة الفشقة السودانية وسد النهضة الإثيوبي؛ حيث تأمل بالحصول على تنازلات من أديس أبابا، مقابل دعم الخرطوم لها في الحرب. والفشقة منطقة سودانية حدودية، تبلغ مساحتها 251 كيلو مترًا، وتشهد خلال فترتي الإعداد للموسم الزراعي والحصاد، هجمات دموية، تشنها جماعات إثيوبية مسلحة، غير خاضعة لسلطة أديس أبابا. ويُعد توقيت المناورات العسكرية الراهنة بين السودان ومصر، بمثابة إشارة إلى أديس أبابا بأن الخرطوم قادرة على تحقيق مصلحتها بتحالفات مع جيرانها.

وتكمن قوة السودان في ملف الصراع الإثيوبي الجاري، في أن حدود إقليم تيجراي المتاحة حاليًّا للجبهة الشعبية لتحرير تيجراي هي الأراضي السودانية. فالسودان هو المنفذ الوحيد للجبهة؛ لأن بقية حدود إقليم تيجراي مشتركة مع أعدائها، سواء حكومة آبي أحمد أو دولة إريتريا ذات العداء التاريخي مع تيجراي. وقد فطنت الخرطوم لهذا الوضع، فأغلقت الحدود مع إثيوبيا، ونشرت الجيش على الحدود كإجراء احترازي؛ لمنع تسرب مقاتلين إلى داخل السودان، أو دخول مسلحين إلى الإقليم. حيث الصراع في إثيوبيا هو صراع قوميات، ولا تستطيع الخرطوم الدخول مع أي طرف فيه، فعدوى القوميات قد تنتقل إلى أراضيها، لا سيما شرقي السودان. وبعد دخول إريتريا في حيز الصراع، ستصبح المنطقة بأكملها في حالة حرب؛ ولذا تسعى الخرطوم في هذه الفترة للعب دور الوسيط، بالشكل الذي قد يُمكِّنها من مساومة أديس أبابا في ملف الفشقة، والذي قد يكون أيسر من ملف السد، وذلك عبر استمرار إغلاق حدودها، ومنع مقاتلي تيجراي من التحرك على الحدود، أو التزود باحتياجاتهم من غذاء ووقود وسلاح.​​​​​​​[2]

 

الإمكانية الفنية لضرب السد:

يُعد التدخل العسكري آخر ورقة لحل النزاع إذا فشلت المفاوضات الدبلوماسية. ويرى البعض عدم قدرة مصر على حسم ملف سد النهضة عسكريًّا؛ وذلك لعدة أسباب؛ أولها: تاريخ التسلح العسكري المصري، لاسيما خلال العشرين سنة الأخيرة هو للدفاع عن البلاد من أي غزو محتمل، على شاكلة ما حدث بالعراق سنة 2003، وبالتالي لا تتوفر لمصر أسلحة تسمح لها بشن هجمات خارج حدودها بشكل فعَّال. وثانيها: خلال العشرين سنة الأخيرة، تم الزج بالجيش في مواجهة المعارضة المصرية أكثر بكثير من تعبئته في الدفاع عن المصالح العليا والحساسة، وهذا من سمات الدول غير الديمقراطية، التي تحول جيوشها إلى شرطة عسكرية سياسية، بدل ترك المؤسسة العسكرية على الحياد، وتخصيص وقتها للدفاع عن الأمن القومي الذي يهدد وجود الوطن، وليس وجود النظام. وثالثها: اعتمدت مصر على التسلح الخارجي بدون تطوير صناعة أسلحة، وخاصة الصواريخ، تمنحها قوة إستراتيجية في ضرب الأهداف. فهي لم تتبن الإستراتيجية الإيرانية، بالتركيز على تطوير الصواريخ؛ خوفًا من الضغوطات الإسرائيلية والأمريكية؛ ما سيؤدي إلى وقف الاستثمارات والمساعدات الغربية. وعليه، لا يُمكن لمصر شن هجوم عسكري على إثيوبيا.

في الوقت ذاته، تدمير سد النهضة يحتاج إلى قوة نارية من القنابل ضخمة للغاية، تعادل القنبلة النووية، ولا تمتلك مصر هذه القوة؛ لأنها تفتقر للقنابل الذكية التي تخترق التحصينات الجدرانية من الأسمنت، لاسيما في حالة السدود. فإذا نجحت طائرات الرافال المصرية في الوصول إلى السد، وتجنبت الكثير من العراقيل، لن تلحق به سوى أضرار محدودة، تتطلب أيامًا من الإصلاح فقط. فالأمر يتعلق بسد ارتفاعه يقارب 170 مترًا وطوله يتجاوز 1800 متر.

وفي المُقابل، لا يُمكن الاستهانة بالجيش الإثيوبي؛ فهذا البلد يمتلك أسطولًا جويًّا لا بأس به، مكون من سوخوي 25 وميغ 25 وسوخوي 27 الروسية، ذات المهام المتعددة، والقادرة على اعتراض المقاتلات المصرية.

وعندما بدأت إثيوبيا تشييد السد، اقتنت مضادات طيران متطورة، وتحت إشراف إسرائيلي، مثل سبايدر إم إر، وتتوفر لديها أنظمة روسية مثل بانشير وفولغا. ووفق الكثير من التقديرات العسكرية، الحل الوحيد الذي كان أمام مصر هو إستراتيجية الصواريخ ذات المدى البعيد، وذات الحمولة التفجيرية الهائلة والتصويب الدقيق؛ أي إمطار السد بشكل مستمر بصواريخ؛ لتجميد عمله، وتخريبه الجزئي؛ لإجبار إثيوبيا على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وهي الإستراتيجية التي نهجتها إيران بتطوير صواريخ، لكن مصر امتنعت عن تطوير الصواريخ؛ لطمأنة إسرائيل[3].

 

أهداف المناورات الجوية:

أعلن الجيش المصري، السبت 14 نوفمبر عن انطلاق فعاليات التدريب المشترك الجوي المصري – السوداني “نسور النيل 1” في قاعدة مروى الجوية شمال الخرطوم. وتُعد المناورات الجوية بين مصر والسودان، بداية للتعاون العسكري بين الجانبين، علاوةً على أنها تحمل رسائل للعديد من الأطراف الدولية والإقليمية. فبالنظر إلى الوضع في المنطقة والقرن الإفريقي؛ فإن تركيا تمتلك أكبر قاعدة عسكرية لها في الخارج في جمهورية الصومال، كما أنها تحاول إنشاء قاعدة في جيبوتي؛ لذا فإن وجود هذا التحالف بين مصر والسودان في البحر الأحمر يمثل سدًّا منيعًا ضد تطلعات أي دولة، وهي رسائل لكل دول العالم والمنطقة. بجانب أنها رسالة موجهة إلى إثيوبيا، والتي كادت تصل بالتفاوض السلمي مع مصر والسودان إلى طريق مسدود، وربما أرادت مصر أن تلوح بالردع دون الدخول فيه؛ نظرًا لتضرر الدولتين بشكل كبير من التعنت الإثيوبي فيما يتعلق بسد النهضة، وتأتي عمليات التلويح بالردع لإثيوبيا في هذا التوقيت الذي تعيش فيه حالة عدم استقرار.

وتأتي أهمية المناورات الجوية مع مصر لسببين؛ الأول: أنها جاءت عقب زيارة الوفد العسكري المصري الكبير للسودان مؤخرًا؛ مما يعني البدء الفوري لتنفيذ الاتفاقيات العسكرية والأمنية. والثاني: أن نوايا الحكومة السودانية في التطبيع مع إسرائيل، يعني أن المنطقة ستكون وجهة جاذبة للجماعات المتطرفة، خاصةً مع وجود حدود واسعة ومفتوحة للسودان مع عدد من دول الجوار التي ليس لديها انضباط أمني؛ مما يفتح المجال لجيوب إرهابية تدخل عبر العمق الإفريقي للسودان ومصر، وفي هذه الحالة ستحتاج قوات البلدين للتنسيق؛ لمراقبة الحدود، أو القيام بعمليات جوية مشتركة، في ظل الارتفاع المتوقع لوتيرة المهددات الأمنية في المنطقة[4].

 

الخُلاصة:

لا تُعد المناورات الجوية الحالية بين مصر والسودان هي الأولى من نوعها؛ فقد كانت هناك العديد من المناورات والتدريبات المشتركة بين مصر والسودان في السنوات الماضية، وأحيانًا بمشاركة دول أخرى، مثل السعودية والإمارات، ومن بينها رعد الشمال، والموج الأحمر، ومناورات دول الساحل والصحراء؛ وكان ذلك للعلاقات المتقدمة بين عمر البشير وعبد الفتاح السيسي من ناحية، والبشير وحكومات الخليج من ناحية، لكن هذه المرة تميزت بأنها مناورات جوية وثنائية. ومن الواضح أن المنظومة العسكرية والأمنية في السودان تواصل في نفس مسارها الذي بدأ في عهد البشير، من حيث تقوية العلاقة بمصر وروسيا والسعودية والإمارات والصين. ومن المعلوم أن روسيا ستوقع كذلك اتفاقية إنشاء مركز لوجيستي أشبه بالقاعدة العسكرية في المياه الإقليمية للسودان قريبًا؛ مما يوضح أن المكون العسكري والأمني لم يتخل عن تحالفاته الخارجية التي عقدها في عهد البشير، وشركاء حزب المؤتمر الوطني.

وبالرغم من كون توصيل رسالة لإثيوبيا -بإمكانية توجيه ضربة عسكرية للسد- قد تكون أحد أهداف تلك المناورات بين مصر والسودان، لاسيما من الجانب المصري؛ إلا أن المؤكد أن الأمر يختلف في الجانب السوداني، الذي يسعى من خلال المناورات إلى استغلال الوضع الداخلي الإثيوبي للضغط على أديس أبابا؛ للوصول لاتفاق فيما يخص منطقة الفشقة السودانية، والذي قد يكون أسهل من إمكانية الوصول لاتفاق بشأن السد، لاسيما وكون الحرب الإثيوبية من شأنها أن تساهم في تأخير استكمال السد ربما لبضع سنوات أخرى. وبالنظر إلى الصعوبات الفنية، مع الأخذ في الاعتبار الصعوبات السياسية التي قد تترتب على ضرب السد، من دخول المنطقة ككل في حرب إقليمية بعيدة المدى – فإن احتمال الضربة العسكرية للسد غير وارد في ظل الوضع الحالي.

 

[1] وليد قرضاب، “هل تضرب مصر «سد النهضة» الإثيوبي؟”، القبس، 24/10/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/zyh3q

[2] عادل عبد الرحيم، “حرب “تيجراي” بإثيوبيا .. السودان بين حذر راهن ومساومة محتملة (تحليل)”، وكالة الأناضول، 17/11/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/yPCYS

[3] د. حسين مجدوبي، “لماذا مصر عاجزة عن الحل العسكري لملف سد النهضة الإثيوبي؟”، القدس العربي، 20/6/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/rSm96

[4] “المناورات الجوية الأولى بين مصر والسودان .. إلى من توجه رسائلها؟”، عربي SPUTNIK، 15/11/2020. متاح على الرابط: https://2u.pw/2Eg93

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022