يشن نظام 3 يوليو العسكري حاليا (ديسمبر 2020م) حملة سوداء على بعض رجال الأعمال، حيث جرى اعتقال بعضهم كأحمد صفوان ثابت، صاحب ورئيس مجلس إدارة شركة جهينة والتي تعتبر كبرى شركات منتجات الألبان بمصر والشرق الأوسط، وسيد السويركي، صاحب فروع محلات “التوحيد والنور” الشهيرة لتجارة الملابس، ومحمد رجب، صاحب فروع أولاد رجب الشهيرة لتجارة البقالة تمثل رسالة تهديد مباشر لكل رجال الأعمال. وقبل ذلك بنحو أسبوع، تضمنت قائمة لجنة التحفظ على “أموال الجماعات الإرهابية والإرهابيين” الأخيرة منع رجل الأعمال محمد منصور عبد الرحمن أبو عوف، وشقيقه مصطفى، من التصرف بأموالهما وأملاكهما، والتحفظ على شركتهما “ماي واي إيجيبت” (My way Egypt) لمستحضرات التجميل، إحدى أكبر الشركات العاملة في السوق المصرية في هذا المجال. وفي غرة سبتمبر 2020م، كانت أجهزة السيسي قد احتجزت رجل الأعمال صلاح دياب، رئيس مجلس إدارة شركة بيكو ومالك صحيفة المصري اليوم، للمرة الثانية في عهد نظام الانقلاب، وجرى تسوية الأمر بعد إجباره على دفع نحو مليار جنيه للنظام، وبيع أسهم غالبة من صحيفة المصري اليوم لجهاز أمني كبير يحتكر الإعلام المصري. وقبل عدة شهور شنت أجنحة داخل النظام حملة ضد شركات “توشيبا العربي” المملوكة لرجل الأعمال الشهير محمود العربي.
هذه السلسلة المتلاحقة من استهداف رجال أعمال وكياناتهم التجارية الكبرى أثارت تساؤلات عن أهدافها الحقيقية وآثارها الاقتصادية في مناخ الاستثمار والصناعة المحلية بمصر، فضلا عن انعكاساتها على شريحة عريضة من الطبقة المتوسطة والفقيرة ممن يستفيدون من تلك الكيانات المتضررة.
«صندوق تحيا مصر!»
وحتى نفهم مغزى توقيت هذه الحملة والرسائل والدلالات من ورائها، والمآرب المستهدفة بها، يتعين الرجوع إلى الوراء قليلا وتحديدا بعد مسرحية الرئاسة سنة 2014م، وقد ظهر لاحقا تسريب كاشف للواء عباس كامل، رئيس جهاز المخابرات حاليا والذي كان قتها مديرا لمكتب الطاغية عبدالفتاح السيسي، رئيس الانقلاب، وقد بدا عباس كامل خلال التسريب في حالة حنق وغضب من رجال الأعمال قائلا: «ومش عايزين حاجة من شوية العيال رجال الأعمال دول»!
وحتى تكتمل الصورة، دعا السيسي في يوم 3 يوليو 2014م، إلى إنشاء صندوق «تحيا مصر» وقال إنه يريد في هذا الصندوق مبلغ 100 مليار جنيه وفق حديثه: «أنا عايز 100 مليار جنيه على جنب كده»، بعدها قامت وسائل الإعلام بعمل حملة للتبرع وبدأت الدعوات لرجال الأعمال الكبار (شوية العيال) للاجتماع بالرئيس الذي سطا على الحكم بانقلاب عسكري قبل سنة وخرج للتو رئيسا من مسرحية انتخابية بائسة الشكل والجوهر والإخراج.
وفي 11 يوليو 2014 تم عقد اجتماع مع كل رجال الأعمال الكبار في قصر الاتحادية وجلس السيسي معهم قرابة النصف ساعة ودعاهم بشكل غير مباشر إلى التبرع إلى صندوق تحيا مصر، وتركهم ليرأس الاجتماع أحد أقرب المقربين للسيسي، ولم يكن وقتها من الحكومة. ودار الحديث حتى منتصف الليل وانتهى إلى ما يلي:
- فريق من رجال الأعمال دفع على الفوز وبدون نقاش. وهؤلاء خرج مانشيت «اليوم السابع» في اليوم التالي مباشرة “15 يوليو” تحت عنوان: «قائمة الشرف للمتبرعين لصندوق تحيا مصر»، وشملت «نجيب ساويرس» و «أحمد أبو هشيمة» و «منصور عامر» و«محمد أبو العينين» ورجال أعمال آخرين بقيمة تبرعات وصلت 5.4 مليار جنيه من أصل مبلغ طلبه السيسي وهو 100 مليار جنيه.
- فريق آخر وضع شروطا تخدم مصالحه الشخصية. هؤلاء تبرعوا في وقت لاحق بعد حصولهم على امتيازات خاصة وتسهيلات لخدمة أعمالهم.
- فريق ثالث رفض فكرة التبرع من الأساس باعتباره شكلا من أشكال الإتاوة، خصوصا وأنهم يدفعون ما عليهم من ضرائب والتزامات للدولة. وزاد من تحفظهم غياب أي رقابة على الصندوق والاعتماد على أنه تحت إشراف “الرئيس!” وهو الذي يحدد جهات الصرف منه، والتأكيد على أنهم على استعداد للمشاركة في مشروعات تراها الدولة من خلال شركاتهم بدلا من التبرع، وأن جهودهم الخيرية منتشرة في ربوع مصر؛ لكن النظام أصر على التبرعات؛ لأنه سيتم إسناد المشروعات المستهدفة للقوات المسلحة؛ وهو ما رفضه رجال أعمال متسائلين: ” كيف نتبرع للبلد ثم تنفذ القوات المسلحة المشروعات بدلا من شركاتنا؟”، لكن هؤلاء تلقوا تهديدا مباشرا من جانب مفوض السيسي الذي هددهم بقوله”اللي أخدتموه من البلد أكبر من المطلوب منكم، وكل واحد عنده مشاكل كبيرة في شغله”! وفي يوم 5 اغسطس 2014م، خرج السيسي مهددا: «هتدفعوا هتدفعوا وإن أخدت مني جنيه يبقالك الكلام، عارفين يعنى إيه أقول إن الصندوق ده أنا أشرف عليه.. اسألوا الجيش أنا كنت بعمل إيه وهناخد من جيب المصريين وهناخد إن شاء الله». ويوم 28 أكتوبر 2014 أمر السيسي القوات المسلحة والحكومة باسترداد الأراضي من أباطرة الأراضي بقيمة 100 مليار جنيه.
بعد تلك الأحداث لم يعد أحد من رجال الأعمال الذين أبدوا تحفظا على التبرع لصندوق السيسي يأمن على نفسه وأهله وشركاته؛ وبدأ النظام في عملية إعادة تصميم المشهد الاقتصادي بما يضمن احتكار المؤسسة العسكرية لمفاصل الاقتصاد، وتشكيل طبقة جديدة من رجال الأعمال تدين بالولاء المطلق للنظام، وبناء على تلك المخططات جرى تقسيم رجال الأعمال إلى ثلاثة اصناف:
الأول، هم المغضوب عليهم؛ وهؤلاء هو رجال الأعمال المنتمون إلى الإخوان، فقد جرى التنكيل بهم على نحو واسع، وصلت حد الاستئصال، كما جرى مع محمد خيرت الشاطر، نائب المرشد العام للإخوان، وحسن مالك وغيرهم؛ فقد جرى اعتقالهم واعتقال أبنائهم، وومصادرة أموالهم وشركاتهم. وسن القوانين التي تشرعن هذا السطو الإجرامي على المال الخاص المفترض أنهم محمي بنصوص الدستور الذي جرى انتهاكه على نحو بالغ.
الثاني، هو فريق المقربين من رجال الأعمال؛ وهؤلاء جرى منحهم امتيازات واسعة، وتسهيلات كبيرة تعزز من نشاطهم بشرط الإذعان الكامل للنظام والولاء المطلق له. على أن يكون نشاطهم تحت إشراف ورعاية من المؤسسة العسكرية التي ستمنحهم هذه الامتيازات عبر احتكارها لجميع المشروعات ومفاصل الاقتصاد من الألف إلى الياء. وبعضهم مجرد واجهة لاستثمارات كبرى خاصة بأجهزة المخابرات وغيرها من أجهزة النظام.
الثالث، هو الفريق الذي يضم خليطا من رجال الأعمال، بعضهم رفض فكرة التبرع من الأساس باعتبارها شكلا من أشكال الإتاوة بعيدا عن القانون، والإقرار بها أول مرة سيغري النظام بتكرار طلب مثل هذه التبرعات. وبعضهم حاول أن يحيط نفسه بهامش من الاستقلالية عبر الابتعاد عن السياسة باعتبارها شرا محضا. وبعضهم تبرع لاحقا لصندوق السيسي “تحيا مصر” بدافع استرضاء النظام وعدم وضع العراقيل أمام نشاطه الاقتصادي رغم التزامه واستقامته، لكن يجمع كل هؤلاء عدم رضاهم عن النظام وتوجهاته الاقتصادية، وربما أن استجابتهم للتبرع لم تكن بالشكل والحجم المطلوب. والنظام من جانبه يتعامل في الملفات السياسية والاقتصادية بمنطق جورج بوش الابن «من ليس معنا فهو ضدنا»! فهو لا يرضى سوى بالإذعان الكامل والولاء المطلق الذي لا تشوبه شائبة. وهؤلاء هم من يجري التنكيل بهم حاليا، وبعضهم له تجارب سابقة غير جيدة مع نظام السيسي؛ فقد جرى وضع أحمد صفوان ثابت على قوائم الإرهاب سنة 2015م. كما جرى احتجاز سيد السويركي قبل سنوات في قضيتين: الأولى في عهد مبارك بتهمة الجمع بين خمس زوجات وتزوير وثائق رسمية وجرى تسوية القضية. والثانية، في عهد السيسي وتتعلق بإهانة علم مصر وقد حصل فيها على البراءة بعد تسوية الموضوع مع الأجهزة فيما يبدو. وعندما احتجز صلاح دياب أول مرة سنة 2015م، أصدر «إتحاد الصناعات المصرية» بيانا هو الأول من نوعه بالتنديد بالقبض على صلاح دياب، وفى حوار رجل الأعمال الأشهر «معتز الألفي» صاحب سلسلة مطاعم أمريكانا لصحيفة «المصري اليوم» في مطلع 2016م، قال إنه يصفي أعماله في مصر هو وشريكه الاستراتيجي مجموعة الخرافي لصالح أبراج كابيتال الإماراتية مؤكدا أنه رفض التبرع بالإكراه. و«كانت عدسات بعض المصورين التقطت صورة في غرة سبتمبر 2020م لمجند يفترش الشارع كبائع متجول يبيع أدوات بقالة أمام واجهة محلات “أولاد رجب”؛ الأمر الذي اعتبره مراقبون شكلا من أشكال الحرب والاستفزاز والتضييق على القطاع الخاص لحساب بيزنس الجيش».[[1]]
سياسات العرقلة
راح السيسي منذ 2015م يضع العراقيل أمام المجموعات المعارضة له بين رجال الأعمال المغضوب عليهم، وبدأ التوجه في تعطيل عمل تلك الشركات من وقف استيراد عشرات السلع وإسناد المشروعات وعمليات استيراد واسعة للقوات المسلحة حتى تناقس هؤلاء في نشاطهم الاقتصادي، وفرض المزيد من الضرائب منها ضرائب على أرباح البورصة وإحلال مجموعة رجال أعمال جدد خليجين ومصريين، وبدأ الاستثمار العسكري والخليجي يحتكر قطاعات بكاملها كقطاع الصحة والمقاولات وبعض الصناعات، وجرى إسناد جميع المشروعات الحكومية للهيئة الهندسية للقوات المسلحة، في مرحلة تعزيز بيزنس المؤسسة العسكرية وتوسيع إمبراطورية الجيش الاقتصادية.
أمام هذه التحولات الضخمة والهائلة؛ قرر رجال أعمال الهروب إلى إفريقيا والخليج والصين وهو ما ذكره «طارق عامر» في تقريره للبرلمان بنفس النص: «أنه ولأول مرة يتم ملاحظة هروب رؤوس أموال مصرية خارج البلاد وتراجع الإنتاج المحلي برغم تراجع الاستيراد»، وهو يعنى أن رجال الأعمال يهربون برؤوس أموالهم خارج البلاد وتوقف الإنتاج مما أدى إلى نقص المعروض. وفي تقرير لهيئة أملاك دبي 2015 و2016م وصل عدد شراء المصريين للعقارات أكثر من مليار دولار، وهي كلفة لن يستطيع أن يقوم بها سوى رجال الأعمال من الحجم الثقيل.
هذه التحولات تؤكد أن النظام منذ اغتصابه للسلطة عبر انقلاب عسكري شرع على الفور في إعادة تصميم المشهد المصري كله ساسيا واقتصاديا واجتماعيا وحتى التلاعب بالهوية المصرية والإسلامية لمكونات المجتمع المصري؛ بما يضمن بقاء النظام واستمراره؛ ومضى بخطوات واثقة وصارمة نحو تغيير تركيبة رجال الأعمال من أبناء العائلات العريقة والذين أسهم بعضهم بشكل فعال في مجال التنمية عبر عقود طويلة، وبدأ إحلال المؤسسة العسكرية بدلا منهم مع السماح برجال الأعمال الفاسدين بالبقاء ومنحهم امتيازات واسعة مقابل الإذعان المطلق والولاء الكامل للنظام.
مآرب الحملة الجديدة
تذهب تفسيرات رصينة إلى أن الحملة الأمنية على بعض رجال الأعمال تستهدف إخلاء الساحة لبيزنس المؤسسة العسكرية في هذه القطاعات؛ فقبل اعتقال أحمد صفوان ثابت، رئيس شركة “جهينة” بيوم واحد، نشر المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية خبرًا عن اجتماع السيسي بقيادات حكومية، وعسكرية، لبحث سلسلة مشروعات رسمية كفائية في قطاعي الألبان واللحوم. وقبل سنة، أبدى وزير قطاع الأعمال العام، استياءه من بُنية قطاع الألبان المصريّ، المقسَّم بين ملايين ملّاك الأبقار الصغار وبين المصنَّعين الكبار، منوهًا عن نيّة الدولة، السّيطرة على هذه السّلاسل، ومركزتها، عبر مشروع عملاق، بالشراكة مع الصّندوق السياديّ المصريّة “ثراء”، الّذي يتعاون مع جهاتٍ خليجيّة، سعوديّة وإماراتيّة، في المشروع المنتظر إنشاؤه في توشكى. وبالتالي فإن ضرب شركة “جهينة” يصب بشكل مباشر في تعزيز بيزنس الجيش لأن الشركة التي تأسست قبل 35 سنة، و وتمتلك 70٪ من سوق الألبان في مصر ويقدر رأس مالها السوقي بنحو نصف مليار دولار أمريكي، تمثل المنافس الأبرز لمشروع النظام المرتقب وبيزنس الجيش في هذا المجال.[[2]] اللافت كذلك أنه بعد الإطاحة بصفوان ثابت من منصب رئيس مجلس الإدارة، كان من المقرر أن ينتقل المنصب إلى نجله سيف، الّذي كان يشغل منصب “نائب رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب للشركة”، باعتباره نجل المؤسس وخبرته في معظم القطاعات الأساسيّة بالشركة كالموارد البشرية، والعمليات التشغيليّة، ومصنع العصائر؛ وهو ما تقرر بالفعل وجرى الإعلان عنه، وبعد أسبوع واحد جرى الإعلان عن الإطاحة بنجل صفوان ثابت من رئاسة مجلس الإدارة التي ذهبت إلى المستثمر السعودي محمد الدغيم، الّذي تقلّد مناصب نافذة في وزارات سعوديّة، وكان جزءا من تشكيل عضوية مجلس إدارة الشركة. وهو ما يمثل تدعيما لمخططات اختطاف الشركة لحساب بيزنس النظام والجيش مع المستثمرين السعوديين والإماراتيين.
تفسير آخر، يذهب إلى أن المآرب من هذه الحملة السوداء ضد بعض رجل الأعمال هو السطو على أموالهم وشركاتهم، فالسيسي يحتاج إلى سيولة لاستكمال عاصمته الإدارية في ظل تراجع موارد الدولة جراء تفشي جائحة كورونا، والشلل التام الذي ضرب قطاعات مهمة منها السياحة وقناة السويس. وبالتالي فإن السيسي يمضي على خطى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع أمراء الأسرة المالكة سنة 2017م، حيث احتجز نحو 400 أمير، في فندق “الريتز كارلتون” بالعاصمة الرياض، وتحت لافتة “محاربة الفساد” مارس “بن سلمان” صنوفا متعددة من التهديد والابتزاز حتى تمكن من السطو على نحو “120” مليار دولار. وقد يتجه السيسي نحو السطو على أموال وشركات رجال الأعمال كما فعلها من قبل الدكتاتور جمال عبدالناصر تحت لافتة “التأميم”، وتذهب تقديرات إلى أن الأموال التي ربما يسطو عليها السيسي تصل إلى نحو 250 مليار جنيه. يعزز هذه الفرضة أن الاتهامات التي وجِّهت لرجال الأعمال لا تتعلق بوقائع فساد مالي في الأساس، وإنما حُبسوا 15 يوما على ذمة التحقيقات في القضية 865 حصر أمن الدولة العليا، لسنة 2020، ضمن لائحة اتهام تتضمن: الانضمام إلى جماعة إرهابية، والدّعوة إلى التظاهر دون تصريح، والتحريض على العنف، وتمويل جماعة إرهابية؛ وهو ما يترتب عليه بشكل أو بآخر، مصادرة أموالهم، لحين البتّ، قضائيًا، في هذه الاتهامات.
وسطو السيسي على أموال رجال الأعمال ليس جديدا، فقد سطا بالفعل على أموال وأصول وشركات رجال الأعمال من قيادات وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين؛ وذلك من خلال ما تعرف بـ بـ”لجنة التحفظ على أموال العناصر الإرهابية”، الّتي تشكّلت رسميًا عام 2015، على خلفيّة الحكم القضائي الصادر عن محكمة الأمور المستعجلة، في النصف الثاني من عام 2013، بحظر أنشطة جماعة الإخوان المسلمين، واعتبارها جماعة إرهابيّة، والتحفظ على أموال قياداتها وعناصرها.
ومنذ تشكيل هذه اللجنة من قضاة موالين للنظام تشدد سلطات الانقلاب على وصفها باللجنة القضائية المستقلة في محاولة لصبغها بصبغة نزاهة زائفة، وهي اللجنة التي قوبلت بمعارضة واضحة من بعض الهيئات القضائية الأخرى، الّتي كانت تنظر إلى قرارات اللّجنة باعتبارها قرارات سياسيّة، وإداريّة، يجوز الطّعن عليها، مما أدّى إلى نشوب ما يشبه المعركة الصّامتة بين هذه اللّجنة والنّيابة العامة ومحكمة الأمور المستعجلة من جهة، والمحكمة الإدارية العليا ومحكمة النقض من جهة أخرى. وفي 2015، أصدرت اللجنة قرارًا بالتّحفّظ على أموال وممتلكات 1345 شخصيّة مقرّبة من جماعة الإخوان المسلمين، وأكثر من 100 مدرسة، ونحو 60 شركة، و500 مقرًا، تصل قيمتهم السّوقيّة نحو 50 مليار جنيه وفق أقلّ التقديرات، كان من بين هذه الشخصيّات أحمد صفوان ثابت، رئيس مجلس إدارة شركة “جهينة”، ومحمد أبوتريكة لاعب كرة القدم السابق في النادي الأهلي، وفي يناير 2017، أيَّدت جنايات القاهرة هذه القرار، ولكنّ المفاجأة كانت إلغاء محكمة النقض هذه الأحكام لاحقا. وبحلول عام 2018، تفتَّق ذهن النظام المصري، الّذي ألمح رأسه، عبد الفتاح السيسي، في أكثر من مناسبة إلى عدم رضائه عن المسارات التقليديّة لمحاكمة خصومه السياسيين في القضاء المصري، إلى ضرورة تحصين أعمال هذه اللّجنة، لتكون أعمالها بالتنسيق مع النيابة العامة، ويقصر على محكمة الأمور المستعجلة، المعروف ولاؤها للنظام، وحدها، النظر في قرارات التحفظ على الأموال الصادرة عن اللجنة، بقانون رئاسي رقم 22 لسنة 2018، على أن تذهب الأموال المصادرة إلى الخزينة العامة للدولة.
وحول مغزى التوقيت ودلالته، تذهب تفسيرات إلى أن حملة السيسي على رجال الأعمال إضافة إلى مسرحية اعتقال أعضاء المبادرة المصرية ثم الإفراج عنهم لاحقا، مثل الحدثان كلاهما عربون مودة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وذلك لأن الحدثين استبقا زيارة السيسي لفرنسا بأيام قليلة وهي الزيارة التي استمرت ثلاثة أيام(6 ـ 8 ديسمبر 2020م). وبالتالي فإن التحقيق مع رجال الأعمال بتهم تتعلق بالإرهاب وتمويل تنظيم إرهابي هي من باب تبرير جريمة السطو على أموال خاصة وهو ما يخالف الدستور، وكذلك بهدف التغطية على الأهداف الحقيقة للحملة السوداء على رجال الأعمال من خلال تعزيز إمبراطورية الجيش الاقتصادية، وفي ذات الوقت تبرهن للرئيس الفرنسي الذي يبدي حماسا كبيرا في حربه على الإسلام حاليا أن السيسي هو شريكه الأكبر في هذه الحرب الدنسة. هذه الأحداث انعكست بالفعل على تصريحات الرئيس الفرنسي واستقباله الحافل بأحد أكبر الطغاة في العالم، فقد فرشت له باريس السجادة الحمراء التي تفرش لكبار الشخصيات العالمية، كما منحته أكبر وسام فرنسي وهو صليب وسام جوقة الشرف؛ تقديرا لدوره في الحرب على الإسلام بدعوى الحرب على الإرهاب. كما تغاضى الرئيس الفرنسي عمدا ومع سبق الإصرار والترصد عن الانتقادات الهائلة لنظام السيسي في ملف حقوق الإنسان، واعتبر ذلك عائقا أمام الحرب (المقدسة) على الإرهاب والتطرف.
الملاحظة الأخرى أن اعتقال بعض رجال الأعمال جرى في الفترة التي شهدت تطورا لافتا؛ حيث صدر قرار محكمة العدل الأوروبية بإلغاء العقوبات المفروضة على الرئيس المخلوع حسني مبارك وأفراد أسرته بشأن تجميد أموالهم، وهو ما يفتح الباب أمام آل مبارك لاسترداد 300 مليون دولار من البنوك السويسرية والتي تم تجميدها عقب ثورة 25 يناير 2011. ولا يعرف أحد حتى الآن مصدر هذه الثروة الضخمة، خاصة أن راتب مبارك الرسمي من منصبه كان ضعيفاً، وكان نجله الأصغر جمال يعمل في العمل العام، أما ابنه الأكبر علاء فلم يكن أحد يعرف بالضبط ما هي وظيفته، هل هو رجل أعمال، أم مدير صفقات، أم ماذا؟ وفي تفسير قرار المحكمة الأوروبية فإن السبب وراء إلغاء العقوبات التي فرضها مجلس الاتحاد الأوروبي على أصول مبارك وعائلته، كان خطأ في الإجراءات! معنى ذلك أن سلطات الانقلاب لم تكلف نفسها تقديم ما يثبت إدانة مبارك في قضايا فساد مالي للمحكمة الأوروبية ، منها حكم بات ونهائي من محكمة النقض، أعلى محكمة في مصر، يدينه في قضية القصور الرئاسية الشهيرة، وبالتالي ضيعت على البلاد استرداد 300 مليون دولار للخزانة العامة للدولة التي تعاني من عجز ضخم. ولم تبذل اللجنة المكلفة باسترداد أموال مصر المنهوبة في الخارج جهداً لإثبات أن الأموال المودعة في البنوك السويسرية والبريطانية وغيرها من البنوك الأوروبية هي نتاج أعمال غير مشروعة. في الوقت الذي يتحفز النظام للسطو على أموال رجال أعمال لا يمتلك النظام ولا أجهزته الأمنية والرقابية دليلا واحدا يدينهم! [[3]]
ربط القضية بالإخوان
ويبقى ربط اعتقال رجال الأعمال هؤلاء بالإخوان الهدف منه هو التغطية على الأهداف الحقيقية للحملة، وقد تعمد النظام هذا الربط من خلال تزامن الحملة مع ظهور الدكتور محمود عزت، الذي كان يقوم باعمال المرشد العام لجماعة الإخوان المسملين، والذي اعتقل في 28 أغسطس 2020م. والزعم بأن عزت وشى خلال التحقيقات برجال الأعمال المعتقلين. كما تزامنت هذه الحملة مع حملة إلكترونية للذباب الإلكتروني التابع للنظام العسكري تحت وسم “محمود_عزت” حيث سوقت اللجان الإلكترونية للنظام على مواقع التواصل الاجتماعي بأن اعتقال رجال الأعمال جاء بعد وشاية عزت بهم. ونشرت فضائيات وصحف ومواقع تابعة للمخابرات مزاعم مفادها أنه بسؤال الدكتور عزت “عمن كان يساعده في عمليات الهروب، ويدفع له الأموال اللازمة للتخفي وإيجار الشقة التي يقيم فيها، أجاب بأنها مساعدات من فاعلي خير”! ويحاول إعلام المخابرات حبك القصة المُختلقة، فيمضي بالقول أنه بتعقب دافعي فواتير الكهرباء والماء للشقة التي يقيم فيها عزت، توصلت التحقيقات إلى أن ثابت والسويركي كانا من بين مجموعة من رجال الأعمال قاموا بسداد الفواتير، بحسب ما نقلت صحيفة “المصري اليوم”.[[4]] ومن جانب آخر، تم اعتقال وزيرين سابقين بحكومة الدكتور هشام قنديل وربطهم بالقضية من أجل إقناع الراي العام المحلي والعالمي بالاتهامات الموجهة لرجال الأعمال وهما خالد الأزهري، وزير القوى العاملة، والدكتور حاتم عبداللطيف، وزير النقل.
تداعيات مؤلمة على الاقتصاد
الحملة على رجال الأعمال سوف تنعكس سلبا على كافة الوضع الاقتصادي المتردي من الأساس؛ فاعتقال رجال الأعمال لأسباب واهية من شأنه أن يبعث برسالة تهديد وقلق للجميع، ولكافة المسثمرين الأجانب وحتى المستثمر المحلي لم يعد آمنا في بلد تحكمه مافيا، وربما يفكر بعضهم في ضخ استثماراته خارج السوق المصرية من باب توزيع المخاطر. بخلاف احتكار المؤسسة العسكرية لكافة المشروعات الاقتصادية بما لها من نفوذ واسع وامتيازات لاتحصى تجعل من منافستها ضربا من الجنون، وإما بفعل التشريعات الشاذة التي تخلق أجواء سلبية للاستثمار، وإما بفعل عدم الأمان في دولة لا مكان فيها للقانون، بل تحكمها أجهزة أمنية أصيبت بالسعار. كما أن فريقا من المستثمرين ربما يلجأون إلى التشارك مع المؤسسة العسكرية حماية لشركاتهم وأموالهم؛ وحتى يكون لهم شوكة وظهر يستندون إليه أمام تغول الأجهزة الأمنية.
من جانب آخر فإن إخفاء الأسباب الحقيقية وراء اعتقال واستهداف رجال الأعمال يفتح المجال أمام تكهنات مختلفة، كل منها له حججه المنطقية الدافعة لطرحه. فالهدف ربما يكون محاولة الضغط على رجال الأعمال المستهدفين للتبرع لمصلحة النظام، وكذلك محاولة الضغط عليهم لبيع شركاتهم أو الأسهم التي يملكونها فيها لبعض الجهات النافذة التابعة في نهاية الأمر للمؤسسة العسكرية. وربما يكون الدافع هو التأثير سلبا في الشركات المملوكة لرجال الأعمال المقبوض عليهم، عبر إفساح المجال لشركات تتبع جهات سيادية في الدولة، للسيطرة على مساحات النشاط التي كانوا يعملون بها. وبغض النظر عن المآرب الحقيقية فإن ما حدث هو عملية “سطو بالقوة القاهرة” على الأموال بدون وجه حق وبدون أي مسوغ قانوني حقيقي ومقنع، وسوف يؤثر سلبا بالضرورة في مناخ الاستثمار، كما سيؤثر في الطبقة الفقيرة التي توفر لها الكيانات المستهدفة سلعا بأسعار مقبولة. فالنظام حريص كل الحرص على تعزيز الإمبراطورية الاقتصادية للجيش دون النظر إلى المآلات الخطرة لهذه السياسات على مستقبل مصر واقتصادها الهش.[[5]]
الأكثر خطورة أن النظام بهذه الممارسات القمعية يضع تعريفا جديدا لرجل الأعمال الصالح من وجهة نظر السلطة العسكرية في مصر؛ فرجل الأعمال الصالح، وفق هذه الممارسات، لا من يقوم بأداء دوره الوطنيّ والاجتماعيّ، عبر سداد الضرائب والتأمينات والأجور، إلى جانب تنمية أرباحه، بغض النظر عن ميوله السياسيّة والفكريّة، وإنما هو من ينجح في خطب ودّ السّلطة، سياسيًا وإعلاميًا، أو على الأقلّ تجنّب إغضابها. كما أن اعتقال رجال الأعمال هؤلاء يمثل رسالة تهديد مباشرة لكل رجال الأعمال ولكل مكونات المجتمع بأنه لا حصانة لأحد إلا لشخص الطاغية وعصابته ومن ينافقونه؛ فالكل مهما بلغ نفوذه تحت التهديد، وما اعتقال رجال الأعمال إلا إعادة رسم خرائط المستثمرين المهيمنين على القطاعات الكبرى ليظلّوا تحت المجهر دائما، ولضمان بقاء ولائهم للنظام مدى الدهر.
———————
[1] أحمد عزب/ الجيش المصري يعلن الحرب على “أولاد رجب”!/ العربي الجديد 01 سبتمبر 2016
[2] لماذا يشن النظام المصري حملة أمنية ضد رجال الأعمال؟/ نون بوست 13 ديسمبر 2020
[3] مصطفى عبد السلام/ عن قضايا مبارك وصفوان والسويركي/ العربي الجديد 7 ديسمبر 2020
[4] أحمد شلبي/محمود عزت كلمة السر.. مصادر قضائية تكشف «أول خيوط القبض على ثابت والسويركي وزهران»/ المصري اليوم الخميس 10 ديسمبر 2020
[5] عبد الرحمن محمد/ استهداف رجال أعمال بارزين بمصر.. لماذا الآن؟/ الجزيرة نت 10 ديسمبر 2020