تعايش تونس أجواء مأزومة منذ منتصف يناير، على وقع احتجاجات شعبية منددة بتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تابعها تفاقم الأوضاع الصحية والإغلاق الذي فرضته السلطات التونسية، لمواجهة تصاعد أعداد الاصابات بفيروس كورونا، وهو ما ضاعف الأزمات المعيشية في البلاد. وتفجرت أعمال شغب واحتجاجات عنيفة، في أكثر من 15 مدينة في أنحاء البلاد، فيما ردت قوات الأمن باعتقال نحو 635 مواطنا، وذلك بعدما عمدوا إلى تخريب ممتلكات وحاولوا سرقة متاجر وبنوك، وفق بيانات وزارة الداخلية التونسية.
وعلى الرغم من عدم إعلان أي جهة مسئوليتها أو دعمها للحراك، إلا أن الأحداث لا تخلو مظاهرها من وجود أدوار خارجية، قد لا تكون المحرك الاساس للاحتجاجات، إنما تريد استثمارها واللعب على وترها، كما كان باديا من بعض وسائل الإعلام الإماراتية، التي ركزت بكثافة على متابعة الأحداث وتطوراتها. وإلى أن يثبت حقيقة الدور الاقليمي في الاحداث، تأتي أحداث الشغب والاحتجاجات في أعقاب الذكرى العاشرة للثورة التونسية التي جلبت الديمقراطية لكنها لم تجلب سوى قليل من المكاسب المادية لمعظم التونسيين وسط تزايد الغضب من تردي الخدمات العامة والبطالة المزمنة التي ارتفعت نسبتها من نحو 12% في 2010 إلى 18% العام الماضي. وتحمل الاحتجاجات الشعبية العديد من الدلالات، والرسائل الخطيرة المعبرة عن أزمة سياسية واجتماعية بالبلاد، يمكن تلمسها.
أولا: دلالات الاحتجاجات وتوقيتها
-احتبار صعب لحكومة التكنوقراط
ومع تصاعد الغضب الشعبي وسرقة بعض المحال التجارية والاعتداء من قبل المحتجين على المقار الحكومية والشركات الخاصة، لجأت السلطات لنشرالجيش في أربعة مدن هي سوسة وسليانة والقصرين وبنزرت لحماية المقرات السيادية. وتمثل الاحتجاجات اختبارا حقيقيا لقدرة حكومة رئيس الوزراء هشام المشيشي على التعامل معها بينما يشهد الوضع توترا كبيرا بين الفرقاء السياسيين.
-انقسام سياسي
وبحسب “فرانس برس” أدّت التوتّرات بين الأحزاب الممثّلة في البرلمان إلى إضعاف الحكومة التي أُجري عليها تعديل وزاريّ السبت الماضي، لا يزال يتعيّن على البرلمان المصادقة عليه. والطبقة السياسيّة منقسمة أكثر من أيّ وقت مضى منذ الانتخابات التشريعيّة في 2019، رغم تفاقم الأوضاع الاجتماعيّة جراء انتشار وباء كوفيد-19 (177231 إصابة منها 5616 وفاة) وغلاء الأسعار وارتفاع نسبة البطالة والتراجع المستمرّ للخدمات العامّة. ولا تجمع بين الرئاسيات الثلاثة “الحكومة- الرئاسة- البرلمان” علاقات متسقة أو ود سياسي، حيث تتصاعد الاختلافات والتجاذبات بين الرئيس قيس سعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي منذ اختياره لرئاسة الحكومة، حيث تباينت وجهات النظر بينهما، حول اختياراته الوزارية، كما يسود الخلافا بين الرئيس سعيد ورئيس البرلمان راشد الغنوشي.
وهو ما يحمل كافة الأطراف المسئولية، في ظل أحاديث عن دور للرئيس سعيد في تحريك الشارع التونسي ضد المشيشي وقيادة البرلمان من جانب، وهو ما يدلل عليه، زيارة قيس سعيد للمحتجين وحديثه معهم عن حقوقهم وأنه سيسعى لتلبيتها، فيما بث على الصفحة الرسمية للرئاسة فيديوهات لمحتجين يطالبون باسقاط الحكومة والبرلمان- وهو ما عده البعض رسالة من سعيد. فيما تتجاذب الأطراف السياسية تحميل المسئولية على البرلمان الذي لم ينجز كثير من الملفات حتى الآن، كالإختلاف على تشكيل المحكمة الدستورية، وتعطل بعض الميزانيات الحكومية، وهو ما ينفيه برلمانيون بأن الاختلافات داخل البرلمان لم تمنع من إقرار الميزانيات، وتمرير التشريعات.
وتشهد تونس منذ يونيو الماضي، معركة التنازع على الصلاحيات بين “المشيشي” و”سعيد” على رأس السلطة التنفيذية بدأت تدخل مرحلة خطيرة من شأنها أن تساهم في إرباك عمل الدولة، بعد أن وصلت إلى وزارة سيادية كالداخلية مؤخرا. وكان رئيس الجمهورية قد اختار “المشيشي”، لتشكيل الحكومة في يوليو الماضي، باعتباره “الشخصية الأقدر”، ليرفع في وجهه الفيتو بعد مدة قصيرة إثر تصاعد الخلافات بين الرجلين بشأن التركيبة الحكومية. واستلم “المشيشي” مهامه، إثر استقالة رئيس الحكومة السابق “إلياس الفخفاخ”، في يوليو الماضي، بسبب شبهات فساد. واختار “المشيشي”، تشكيل حكومة تكنوقراط، وهي الثالثة منذ انتخابات 2019، بسبب الخلافات بين الأحزاب. وتواجه حكومته تحديات اقتصادية كبرى في ظل نسبة انكماش متوقعة للاقتصاد في مستوى 7% بعام 2020، واحتجاجات اجتماعية متواترة في عدة ولايات تطالب بتحسين مستوى العيش وفرص عمل للعاطلين.
ويمثل الانقسام السياسي في الطبقة السياسية ، مدخلا لأية مشكلات اقتصادية أو اجتماعية لتتحول لإضرابات شعبية تعم البلاد، بحسب الباحث التونسي عبد القادر درماس، حيث أسفرت انتخابات 2019 عن برلمان منقسم بشكل كبير غير قادر على تشكيل حكومة مستقرة، حيث تتصارع الأحزاب على مقاعد وزارية وتؤجل قرارات كبيرة. كما أن الرئيس سعيد في خلاف مع المشيشي حول سلطاتهما وتحالفاتهما السياسية. ويشير التوتر إلى أزمة متوقعة قد تهدد حتى بانهيار حكومة التكنوقراط. وتشق الخلافات صفوف الائتلاف المؤيد للحكومة في البرلمان، إذ قال حزب الكرامة إنه لن يصوت على التعديل الوزاري وسيغادر الائتلاف، مما يضع الحكومة في موقف هش للغاية.
-تعديل وزاري مأزوم
وتأتي الاحتجاجات الشعبية، بعد عشر سنوات من الثورة على تفشي البطالة والفقر والفساد والظلم، حيث قطعت تونس طريقا سلسا صوب الديمقراطية لكن الوضع الاقتصادي ازداد سوءا وسط تردي الخدمات العامة بينما أوشكت البلاد على الإفلاس. وجاءت المواجهات، مترافقة مع إعلان رئيس الحكومة التونسي هشام المشيشي، مساء السبت الماضي، إجراء تعديل وزاري شمل 11 حقيبة وزارية (من أصل 25). وهو ما يثير الكثير من التوقعات لدى الشارع بتحسين اقتصاي وحلحلة لأوضاع الشعب المأزومة، وهو ما قد يكون دافعا للحراك الاحتجاجي.
وكان رئيس الحكومة المشيشي، أعلن السبت، إجراء تعديل وزاري شمل 12 وزارة في حكومته، وذلك بالتزامن مع معركة تنازع حادة على الصلاحيات بين “المشيشي”، والرئيس التونسي “قيس سعيد”، على رأس السلطة التنفيذية. وجاء التعديل، بعد 4 أشهر ونصف، من نيل حكومة “المشيشي” الثقة في البرلمان، مطلع سبتمبر الماضي. وشمل التعديل وزارتين سياديتين هما وزارتا العدل والداخلية، إضافة إلى تعيين وزراء جدد لسد الفراغ الذي خلفه إقالة وزراء الثقافة والبيئة والشؤون المحلية والداخلية، في وقت سابق.
وأعلن “المشيشي”، تعيين “يوسف الزواغي” وزيرا للعدل، و”وليد الذهبي” وزيرا للداخلية، و”عبداللطيف الميساوي” وزيرا لأملاك الدولة والشؤون العقارية، و”خالد بن قدور” وزيرا للتنمية الجهوية والاستثمار، و”رضا بن مصباح” وزيرا للصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة. كما تقرر تعيين “سفيان بن تونس” وزيرا للطاقة والمناجم، و”شهاب بن أحمد” وزيرا للشؤون المحلية والبيئة، و”يوسف فنيرة” وزيرا للتكوين المهني والتشغيل، و”زكرياء بلخوجة” وزيرا للشباب والرياضة، و”أسامة الخريجي” وزيرا للفلاحة والصيد البحري والموارد المائية، و”يوسف بن إبراهيم” وزيرا للثقافة، و”الهادي خيري” وزيرا للصحة العمومية.
وفي قراءة للتركيبة الجديدة لحكومة “المشيشي”، عادت عدة وجوه سبق لها أن تقلدت مناصب وزارية بنفس الحقائب تقريبا، ومن بينها “بن مصباح” و”الخريجي” في وزراتي الصناعة والفلاحة، والذين تقلدا مناصبهم ذاتها في الحكومة السابقة برئاسة “إلياس الفخفاخ”. كما سبق أن تولى “قدور” منصب وزير الطاقة والمناجم، و”بن أحمد”، منصب وزير النقل. وسبق أن كرر الرئيس قيس سعيد، في أكثر من خطاب له تحذيراته من وجود مخطط لإجراء تغيير وزاري في الحكومة خدمة لأطراف بعينها، وكان آخرها في كلمة له بمناسبة رأس السنة الميلادية، مؤكدا وجود ترتيبات لتغيير الحكومة أو تقديم لائحة لوم ضدها، بحسب ما نقلته “فرانس 24”.
ويترقب التونسيون جلسة التصويت على التعديل الوزاري في وضع صحي دقيق وتوتر برلماني غير مسبوق. فمن جهة، يعيش الحزام البرلماني للحكومة حالة من الانقسام بسبب الخلاف الدائر بين كتلتين من التحالف الحكومي، وهما: ائتلاف الكرامة وحركة النهضة، بسبب إصدار رئيس البرلمان راشد الغنوشي، بياناً أدان فيه نواب الكرامة بـ”ممارسة العنف ضد الكتلة الديمقراطية”، ما دفع رئيس الكتلة سيف الدين مخلوف، إلى التهديد بمقاطعة الأعمال البرلمانية والجلسات، وإنهاء التنسيق والتوافق مع “النهضة”.بجانب ما يثيره انتشار وباء كورونا، الذي أودى بحياة برلماني أصاب العشرات بينهم. وتصاعد الاصابات التي تصل في اليوم الواحد لأكثر من 4 آلاف اصابة الأسبوع الماضي.
وتثير حركة النهضة “54 مقعدا بالبرلمان” انتقادات لحكومة المشيشي الجديدة، بعد ان خلت من الرموز النسائية والتي كانت ممثلة في الحكومة السابقة بـ4 وزيرات.. علاوة على ما تثيره قوى أخرى من وجود شبهات تضارب مصالح أو فساد لدى وزيران من التشكيلة الجديدة. وهو ما ألمحت إليه منظمة “أنا يقظ” من تعيين وزير الصناعة والطاقة المقترح سفيان بن تونس، باعتباره عضواً في حزب “قلب تونس”، ولوجود تضارب مصالح من وراء تعيينه الذي وصفته المنظمة بـ”المشبوه”، بحسب بيانها. كما تداولت منظمات تقريراً للهيئة العليا للرقابة تتناول “شبهة تضارب مصالح وزير التشغيل يوسف فنيرة”.
وبحسب الباحث التونسي يوسف آدم، يبدو أن كتلة “قلب تونس” قد حسمت موقفها بالتصويت لصالح التعديل الوزاري من خلال مواقف وتصريحات أبرز قيادييها المساندين للتعديل، الذين تقاسموا توجه وفكرة إبعاد وزراء الرئيس أو الموالين له. وهو ما أكده القيادي والنائب عن حزب قلب تونس رفيق عمارة، في تصريح لـ”العربي الجديد”، أن التعديل الوزاري “في وقته وفي محله”، مشيراً إلى أنه “بهذا التعديل أصبحنا نتحدث عن حكومة هشام المشيشي، وطوينا صفحة حكومة الرئيس” وبجسب “كتلة الاصلاح الوطني” فإن “لهذا التعديل وجهين: ففي جانب، هو اضطراري لسد الحقائب الشاغرة ، وآخر تعديلي، ولرئيس الحكومة الحق في إجراء أي تعديل على أساس ما يراه من تقييم”.
فيما ترجح الدوائر السياسية، أنه رغم الانتقادات والصعوبات، يمكن تمرير التعديل الوزاري وحصوله على الأغلبية من الأصوات الداعمة للحكومة، من خلال أصوات كتل النهضة (54 عضواً) وقلب تونس (29 عضواً) وكتلة الإصلاح (16 عضواً) وكتلة تحيا تونس (10 نواب) والكتلة الوطنية (9 نواب)، وهو ما يعني 118 صوتاً، في وقت يتطلب فيه التصويت 109 أصوات فقط، هذا دون اعتبار إمكانية مراجعة كتلة ائتلاف الكرامة (18 نائباً) لموقفها بالتصويت أيضاً للتعديل الحكومي. في المقابل، تحافظ المعارضة على مواقفها الواضحة من التعديل برفضها المبدئي لحكومة هشام المشيشي، حيث تقف الكتلة الديمقراطية، التي تضم حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب، في صدارة المعارضين (بـ38 نائباً)، تليها كتلة الدستوري الحر (16 نائباً)، ومجموعة متحركة من النواب غير المنتمين إلى كتل واضحة تضم 26 نائباً، مواقفهم متغيرة ومتباينة، نصفهم مع الحكومة وبعضهم ضدها.
ثانيا: أسباب الاحتجاجات
-إغلاق صحي دون معالجة اجتماعية:
أغلب التحركات التي تشهدها بعض المناطق التونسية احتجاجية، رغم أنّ من الصعب تحديد مطالب المحتجين، ولكنْ وراءها غضب من الشباب على القرارات المتخذة بخصوص الحجر الصحي الشامل، الذي لم تواكبه قرارات اقتصادية واجتماعية. بجانب حصيلة الغضب المتراكم منذ سنوات على الوضع العام. وفق ما أكده المسؤول عن الإعلام في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، في تصريحه لـ”العربي الجديد”، إذ أنه لا يمكن تحديد الغاية وإلى أين يريد المحتجون الوصول، خاصة أنها تحركات غير مؤطرة، ولكنها حركات غاضبة، ومنها في سليانة شمال غرب، كانت نتيجة إهانة راعٍ، حيث إنه رغم محاولة السلطات الجهوية تطويق الأزمة، إلا أن عمليات الكر والفر متواصلة. أما في سوسة وأحياء من العاصمة، فيمكن تكييف ما يحصل على أنه حركات غاضبة على الوضع الاجتماعي والقرارات الحكومية بإعلان حظر التجول.
-الأزمة الاقتصادية :
وبالإضافة إلى الأسباب الهيكلية للأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، والتي فاقمها وباء كورونا والتدابير المتخذة لاحتوائه، فإن حالة من الإحباط العام تسود المجتمع التونسي الذي ظن كثير من أفراده أن مجرد القضاء على الاستبداد ومحاربة الفساد ستُترجَم إلى مكتسبات اقتصادية.
وبحسب الباحث التونسي أنور الجمعاوي بـ”العربي الجديد” ورثت الثورة عن النظام القديم اقتصادا ريعيا، هشّا، هيمنت عليه الأسرة الحاكمة وعائلات متنفّذة، نهبت أموال التونسيين، واحتكرت السوق والثروة. ولم تبذل الحكومات المتعاقبة، طوال العشرية المنقضية، جهودا جادّة لمكافحة لوبيات الفساد والاحتكار، ولم تسترجع سوى النزر من الأموال المنهوبة، وحافظت على المنوال التنموي التقليدي. واستفحلت أزمة الاقتصاد التونسي بسبب غلق السوق الليبية، وتراجع مردودية قطاع السياحة نتيجة جائحة كورونا. لذلك تزايدت نسب البطالة والفقر. وتلاشت الطبقة الوسطى نتيجة ارتفاع الأسعار وتراجع المقدرة الشرائية للمواطنين.
كما يغيب عن الشارع التونسي أدوار حقيقية للحكومة، لدعم أصحاب المشاريع الصغرى، أو المشاريع التشغيلية وتُنوّع مصادر تمويلها على نحو يحدّ من بطالة الشباب، ويُرفّع من نسق التصدير بدل التوريد، ويرتقي بالبلاد من اقتصاد ريعي/ استهلاكي إلى اقتصاد تشغيلي/ إنتاجي.
-الفشل في استرجاع الأموال المنهوبة
ويزيد الإحباطَ عدمُ قدرة الدولة التونسية على استعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج خلال فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، لما كان يمكن أن يقدّمه ذلك لو حدث، من دفعة معنوية وإن لم يكن الأثر المادي المباشر كبيراً. وبحسب استطلاع لوكالة الأناضول، فإنه لا توجد إرادة سياسية حقيقية لاسترجاع الأموال المهرّبة، فمعظم من حكموا بعد الثورة كانت لهم مصالح مباشرة وغير مباشرة مع عائلة بن علي، بحسب تصريحات مهاب القروي – عضو الهيئة التنفيذي لمنظمة “أنا يقظ” لموقع “T RT عربي” حيث ذهب إلى أن أهمّ تلك العوامل يتمثل في “عدم وجود إرادة سياسية حقيقية لاسترجاع هذه الأموال، بجانب الصعوبات الكبيرة التي واجهتها تونس في استرداد الأموال المنهوبة والمجمدة في أرصدة بنكية بعدد من الدول، كانت بسبب تعقيدات قانونية وتقنية، وعدم إبداء الدول التي تحتضن مصارفها الأرصدة المصادرة تعاوناً في هذا الشأن”. وتعلل الدول الأوروبية عدم اعادة الأموال المنهوبة إلى تونس، بعدم حصول الأحكام القضائية على صيغتها النهائية إلى الآن. وذلك راجع إلى استمرار المتهمين في الفرار خارج البلاد، وتجنُّب مواجهة القضاء التونسي منذ نحو 10 سنوات رغم ضمانات المحاكمة العادلة التي أقرّتها الحكومة”.
علاوة على تشتُّت مجهودات الدولة وعدم تركيز لجنة أو جهة واحدة على هذا الملف، الذي تتولى مسؤوليته في كل مرة وزارة أو جهة مختلفة، وآخرها إعلان الرئيس سعيد تشكيل لجنة جديدة من الرئاسة تُعنَى بملف الأموال المنهوبة المودعة في الخارج. وقبل أيام، قالت صحيفة “لوتان” السويسرية، إن السباق مع الزمن قد بدأ قبل أن تضيع من تونس، فرصة استرجاع 200 مليون فرنك سويسري (نحو 225 مليون دولار)، اختلستها جماعة الرئيس السابق بن علي. وأشارت الصحيفة، إلى أن المجلس الاتحادي السويسري كان قد أصدر أمرا بتجميد أصول بن علي مع 36 من أقاربه يوم 19 يناير 2011، بعد 5 أيام من هروبه. غير أن للأشخاص المدرجين في الأمر، وفق الصحيفة، حق استرداد الجزء الأكبر من هذا المبلغ عندما ينتهي التجميد الإداري نهاية يناير الجاري، بعد فترة قانونية مدتها 10 سنوات.
كما أن جزءا من الأموال بقيمة 60 مليون فرنك (نحو 660 مليون دولار) تم تجميده بأمر قضائي وسيظل آمنا مهما حدث، وقد استعادت منها الدولة التونسية حتى الآن 4.27 ملايين دولار. وكان الاتحاد الأوروبي راسل رئاسة الجمهورية التونسية، ليعلمها بأن آخر مدة لرفع التجميد عن الأموال المنهوبة في دول أوروبية سيكون نهاية يناير 2021. وفي فبراير 2011، أنشأت السلطات التونسية بمساعدة مبادرة استرداد الأموال المنهوبة “ستار” (شراكة بين البنك الدولي ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة) لجنة خاصة لاسترجاع الأموال المنهوبة لوضع تخطيط وقيادة وتعاون استراتيجي على المستويين المحلي والدولي.
عقب ذلك، صممت اللجنة إستراتيجية شاملة تجمع بين مختلف أدوات التحقيق والأدوات القانونية، بما في ذلك الملاحقة القضائية المحلية، والتعاون الدولي غير الرسمي، وطلبات المساعدة القانونية المتبادلة. فضلاً عن تدخل اللجنة كطرف مدني في الإجراءات الجنائية في فرنسا وسويسرا، ووجهت السلطات القضائية في تونس حينها (2011) 57 إنابة عدلية منها 26 أصلية و31 تكميلية لطلب تجميد الأموال والأملاك المنهوبة من الرئيس المخلوع وأقاربه.
-الأدوار الخارجية:
ولا يستبعد من خلال قراءة التاريخ القريب لتونس، وجود ادوار خارجية تلعب في الخلفية المجتمعية لتونس، من أجل اسقاط فكرة الثورة وتشويهها، خاصة في ظل صمود التجربة الديمقراطية التونسية على الصعيد السياسي، حتى الآن. حيث سبق أن تبنت الامارات والسعودية، أدوارا وخططط سياسية وإعلامية واقتصادية، ساهمت في خلق المزيد من التوترات الاجتماعية والسياسية في بلد ثورة الياسمين، حيث أوقفت الإمارات والسعودية مشروعات استثمارية كبرى في تونس، كانت قد بدأتها مع الرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي، بعدما رفض مؤامرة إماراتية للانقلاب على حركة النهضة وأخراجها من الائتلاف الحاكم، ثم تلى ذلك تضييق إماراتي على حركة المسافرين التونسيين إلى الامارات، وتعليق دخول التونسيات إلى الإمارات، بجانب الحملات الإعلامية لدعم الحراك المضاد للديمقراطية من خلال النائبة بالبرلمان التنسي عبير موسي، ودعوتها للثورة على البرلمان والمطالبة بإقالة راشد الغنوشي من رئاسته، والاطاحة بحركة النهضة من الحياة السياسية، وهو ما ركزت عليه الدعاية الإعلامية والبرامج التلفزيونية في كل من مصر والإمارات ، في الشهور القليلة الماضية، عبر قنوات الغد بمصر وصدى البلد، وقنوات الإمارات العديدة.
ومع تصاعد حركة التطبيع العربي المجاني مع الكيان الصهيوني، وانجرار المغرب والسودان والإمارات والبحرين والسعودية نحو حظيرة إسرائيل، كان للبرلمان التونسي والرئاسة التونسية موقفا معتبرا، برفض التطبيع التونسي مع إسرائيل، مهما كانت الغريات أو التحديات. وهو ما أكده في 14 يناير الجاري، رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي، عبر حواره مع “تلفزيون العربي”، حيث قال إن “التونسيين لا يجتمعون على شيء كالاجتماع على التضامن مع القضية الفلسطينية، فقضية فلسطين قضية مقدسة في بلادنا”.
وأضاف الغنوشي “هذا خط أحمر لا يتجاوزه أحد” وتابع: “نحن في حالة إجماع لمناصرة القضية الفلسطينية ومعارضة شديدة لكل تطبيع ولكل ما يمارسه الاحتلال الغاشم من تعدي على حقوق الأمة كلها وعلى حقوق الشعب الفلسطيني الأصيل”. وصرح الغنوشي أن “رفض التطبيع ليس محلّ نقاش في تونس بل محلّ إجماع، ولا أحد تجرأ بقطع النظر عن قناعاته الفردية في الحديث عنه… الرأي العام التونسي بعلمانييه وإسلامييه لا يختلف حول هذا الموضوع” هذا الموقف قد يكون احد مفزات استغلال الاحتجاجات الشعبية الغاضبة من تردي الأحوال المعيشية في البلاد، سواء بالدخول المباشر من قبل اطراف اقليمية أو دولية لاثارة مزيد من القلاقل بالداخل التونسي.
ثالثا: حسابات المستقبل معقدة
وعلى أية حال، فإن الاحتجاجات الشعبية- الحاصلة الآن والتي تكررت في أوقات عديدة سابقا- وتوازنات حكومة المشيشي عقب منحها الثقة بعد التعديل الأخير، وغيرها من التجاذبات السياسية والاجتماعية، تؤكد أن الاستقرار السياسي في تونس، بات مسألة مشكوك بها. ولعل ما يؤكد ذلك، المعركة السياسية الدائرة في داخل الدوائر الرئاسية الثلاث “البرلمان- الحكومة- الرئاسة” منذ قرار رئيس الحكومة هشام المشيشي بإقالة وزير الداخلية توفيق شرف الدين ، عقب رفضه فض الاحتجاجات الشعبية وتحولها لنهب الممتلكات الخاصة والتعدي على مؤسسات الدولة، السبت الماضي..
حيث عبرت الإقالة، وفق تقديرات سياسية، أن إقالة شرف الدين كانت منتظرة منذ فترة باعتباره محسوباً على الرئيس قيس سعيد ومرفوضاً من قبل الحزام السياسي للحكومة المكون من حركة النهضة وحليفيها ائتلاف الكرامة وحزب قلب تونس، كما أن العلاقة بين المشيشي وسعيد الذي كان وراء ترشيحه لتشكيل الحكومة وصلت إلى طريق مسدود، وهو ما يعني دخول رئاستي الحكومة والبرلمان في مواجهة مباشرة مع مؤسسة الرئاسة. فسعيد عندما اختار المشيشي في 25 يوليو الماضي لتشكيل الحكومة من بين الأسماء التي رشحتها له الكتل البرلمانية، كان يتعامل معه على أنه مقرّب منه، حيث سبق أن عينه في فبراير الماضي مستشاراً أولاً له مكلفاً بالشؤون القانونية ثم كان وراء ترشيحه لحقيبة الداخلية في حكومة إلياس الفخفاخ التي أعلن عن تكوينها في أواخر الشهر ذاته، لتستمر في الحكم ثم في تسيير الأعمال لمدة ستة أشهر وستة أيام .
ونظراً للصراع داخل البرلمان بعد الإطاحة بحكومة الفخفاخ، كان على المشيشي أن يضمن حزاماً سياسياً من الكتل للحصول على ثقة النواب، وهو ما وجده لدى التحالف الذي تتزعمه حركة النهضة، وتزامن ذلك مع الخلافات الحادة بين رئاستي الجمهورية والبرلمان، في ظل اتهامات لرئيس حركة النهضة ومجلس نواب الشعب راشد الغنوشي بتجاوز صلاحياته ومحاولته تنازع سلطات سعيد. وبات واضحاً منذ البداية أن الحزام السياسي للحكومة كان يضغط على رئيسها لإجراء تعديل حكومي يتم بموجبه إقصاء الوزراء المحسوبين على مؤسسة الرئاسة، ومن بينهم شرف الدين الذي تربطه علاقة صداقة قديمة وزمالة في التدريس الجامعي بالرئيس سعيد، كما كان رئيس حملته الانتخابية في سوسة (وسط شرق)، نظراً لأن الدستور التونسي يشير إلى أن لرئيس الدولة وزارتين فقط يمكنه التدخل في سيرهما وترشيح من يشرف عليهما وهما الدفاع والخارجية. وايضا، فالعلاقات بين رئيس الحكومة ووزير الداخلية كانت تتسم بنوع من البرود، حيث إن أنصار سعيد يتهمون المشيشي بأنه انقلب عليه عندما وضع يده في يد حركة النهضة، بينما يرى أنصار المشيشي أنه، وباعتباره المسؤول الأول عن السلطة التنفيذية في البلاد يعمل وفق الدستور والقانون والتوازنات السياسية وخاصة داخل البرلمان الذي تعود له سلطة منحه الثقة أو سحبها منه.
ويرى مقربون من المشيشي ، أنه كان وزير الداخلية قبل شرف الدين، وبالتالي فهو يعرف كل ما يدور داخلها، كونه المسؤول الأول عن الأمن الداخلي، لكن سعيد كان كثيراً ما يعلن أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والأمنية، وهو ما أكده مساء 31 ديسمبر الماضي عند زيارته لغرفة العمليات الجديدة بالوزارة، تزامناً مع وجود المشيشي خارج البلاد في زيارة خاصة إلى باريس، وذلك وفق تقدير سياسي للباحث التونسي، صغير الحيدري، بصحيفة “العرب” اللندنية.
خاتمة:
أمام المشهد التونسي المرتبك حاليا، فإن الكثير من الرهانات قد تطفو على سطح الحياة السياسية، تذهب إلى ضرورة تبني الدولة التونسية، النظام الرئاسي، ليكون الأمور تحت تصرف رئيس الجمهورية بالدرجة الأولى، وهو ما ألمح إليه من بعيد الرئيس قيس سعيد، حينما نشر على صفحة رئاسة الجمهورية، فيديو من تظاهرات الجماهير التونسية، الذين ردد بعضهم هتافات داعية لاسقاط البرلمان والحكومة…!! إلا أن مقتضيات الديمقراطية، في اللحظة الآنية، تؤميء إلى أن الاحتجاج يقتضي تدشين حوار وطني.
ومن زاوية أخرى، فإن طرح البعض لدعوات بحكم رئاسي مطلق، باستعادة نموذج الدولة الأحادية قبل الثورة تفاعلا مع احتجاجات مطلبية، يلتقون عند إعادة إنتاج الحكم الفردي، والقفز على الشرعية الانتخابية باعتبارهم يرومون حلّ البرلمان، وهو مؤسّسة سيادية، شرعية، وازنة، أنتجها صندوق الاقتراع، وتصويت المواطنين الذين اختاروا ممثّليهم في المؤسسة النيابية في كنف النزاهة والحرّية بشهادة منظّماتٍ رقابيةٍ محلّية ودولية موثوق بصدقيتها. ويُفترض، في حال وجود شبهاتٍ حامت حول بعض النوّاب، أو حول سيرورة العملية الانتخابية في بعض الجهات، التوجّه إلى القضاء مع تقديم أدلّة يقينية/ ثابتة في هذا الخصوص. وهو طرح قد تقف وراءه جهات اقليمية، تستثمر في الأزمة السياسية لصالح أجنداتها، وليس لصالح التونسيين ومطالب الشعب..
وهو مطلب قد يدشن لانقلاب ناعم على دستور الجمهورية الثانية (2014) الذي ينصّ على الفصل الصريح بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. ويضبط في بنود عدّة صلاحيات كلّ طرف، بشكل يمنع ترْكز السلطة عند جهة دون أخرى، ويؤسّس لرقابة متوازنة، متبادلة بين كلّ السلطات. واستحضار الفصل 80 من الدستور التونسي لتدشين ما تُعرف بحالة “الاستثناء”، لتمكين رئيس الجمهورية من تسيير شؤون البلاد جميعا هو استحضار في غير محلّه. ذلك أنّه يشرط التدخّل المباشر لرئيس الدولة بوجود “خطر داهم”، من قبيل غزو أجنبي، أو حرب أهلية أو انتشار الفوضى والعنف في عموم البلاد، وليس ثمة شيء من هذا كله في واقع الحال في تونس حاليا، فالمشهود في البلاد احتجاجات سلمية محدودة. والاحتجاج أو االتنابز في البرلمان حالة مشهودة في المجتمعات الديمقراطية، إلا أنه يبقى الخطر محدق بتونس، منبع ثورة الياسمين، في ضوء الازمات الاقتصادية والاجتماعية ومن قبلهم التأزيم السياسي.
كما أنه مع عدم وجود خطة واضحة للاحتجاجات أو قيادة سياسية أو دعم من الأحزاب الرئيسية، ليس من الواضح ما إذا كانت ستكتسب زخماً أم ستخمد كما حدث في العديد من جولات الاحتجاجات التي وقعت خلال الأعوام التالية لـ2011.