حرب التصريحات واحتدام الصراع الفرنسي التركي في إفريقيا

 

حرب التصريحات بين تركيا وفرنسا مستمرة منذ عدة أِشهر، هذا في الوقت الذي تستمر فيه العلاقات بين البلدين في التدهور، ويدور التوتر بين الرجلين حول عدة ملفات، أبرزها ما يعتبره أردوغان “إسلاموفوبيا” فرنسية، والنزاع على منابع الطاقة في شرق المتوسط، والدور العسكري التركي في ليبيا. وقد وصلت الحرب الكلامية بينهما إلى أن دعا أردوغان الفرنسيين للتصويت ضد رئيسهم في الانتخابات القادمة، والتي من المتوقع أن يسعى خلالها ماكرون لولاية ثانية.

كل هذا ليس بجديد، لكن الجديد هذه المرة هو تحول تلك المراشقات الكلامية نحو إفريقيا، وتتسع الدائرة لتشمل مناطق في جنوب الصحراء الكبرى. فما هي جذور الأزمة بن البلدين؟ وكيف تطورت؟ وكيف هو شكل الصراع الدائر بين تركيا وفرنسا في إفريقيا؟ كل تلك التساؤلات ستسعى تلك الورقة للإجابة عليها خلال السطور القليلة القادمة..

 

أسباب الأزمة بين البلدين:

تشهد العلاقات الفرنسية التركية منذ أكثر من عقد هبوطًا واضحًا، لعدة أسباب، لعل أهمها التحفظ الفرنسي على دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، والمحاولات التركية للتمدد الناعم في الداخل الأوروبي من خلال الشبكات الدينية والسياسية، لكن العام الحالي شهد ذروة هذا الصراع الذي كان خفيا لسنوات، بسبب التحول الجذري في سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التي تغيرت إلى أساليب هجومية في مختلف المناطق، سواء في ليبيا أو أذريبجان أو سوريا، وكذلك في أوروبا، عبر استغلال الشتات التركي الكبير في القارة[1].

يرى البعض أنه بعدما فقدت عضوية الاتحاد الأوروبي بريقها؛ سادت نزعة عالمية لدى القادة لشخصنة العلاقات، وأردوغان وماكرون مثال على ذلك، وعدا عن دور الشخصية في إذكاء نار العداء بين الزعيمين، تلعب أيضًا رغبة كل منهما في زيادة شعبيته داخليًا دورًا في ذلك، حيث وجد كلٌّ من ماكرون وأردوغان في الآخر العدو المثالي، لذلك فإن هذا التراشق الكلامي يخدم مصالح كل من الزعيمين على المستوى الداخلي، وعلى مستوى التأثير الذي يسعى كلٌّ منهما لعرضه خارجيًا.

وحتى مع تولي إدارة بايدن الحكم في الولايات المتحدة، والتي يتوقع أن تلعب دورًا أكثر فاعلية على المستوى الدولي، بما في ذلك ما يتعلق بأوروبا، إلا أن ذلك ليس كافيًا ليخفف أردوغان حدة هجومه على ماكرون، فأردوغان سياسي بارع، وموقفه المعلن ضد فرنسا وأوروبا يُعد مكسب إضافي لرصيده الشعبي؛ لأن المشاعر القومية واسعة الانتشار، حتى في صفوف المعارضة، وفي المقابل؛ لدى ماكرون أيضًا دوافع داخلية؛ حيث دفاعه الشديد عن العلمانية إثر سلسلة الاعتداءات الأخيرة، ومحاولاته لجعل الممارسة الدينية الإسلامية أكثر تماشيًا مع الثقافة الفرنسية قد تدعم فرص إعادة انتخابه إذا واجه زعيمة اليمين المتطرف ماريان لوبان عام 2022[2]، والواضح أن الغضب الفرنسي على أردوغان تصاعد أكثر إثر توقيع المذكرة بين طرابلس وأنقرة، ولعل الغضب الفرنسي ليس من هذه المذكرة التي قد تفتح الباب على مصراعيه على تعاون بين حكومة الوفاق وتركيا، بقدر ما هو من الاتهامات التي يلقيها الإعلام الموالي لحكومة الوفاق لفرنسا بالتدخل في الشأن الليبي من خلال دعم الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر، وهو ما تنفيه باريس، وكل هذا بالتزامن مع تصاعد النفوذ التركي في إفريقيا؛ ولاسيما في ناطق النفوذ الفرنسي هناك.

 

تطورات الأزمة:

تبادلت أنقرة وباريس الاتهامات بشأن الأزمة في ليبيا، فبعد أن اتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره التركي رجب طيب أردوغان بعدم احترام كلامه حول التدخل في ليبيا، والمُتعلق بإنهاء التدخل الخارجي في الأزمة الليبية، اعتبرت وزارة الخارجية التركية أن فرنسا هي الفاعل الرئيسي المسؤول عن المشكلات في ليبيا منذ بدء الأزمة في العام 2011، حيث تُقدِّم الدعم اللامشروط لقوات حفتر في شرق ليبيا، في محاولة منها لإحكام السيطرة على موارد ليبيا الطبيعية، على حساب سيادة الحكومة الشرعية على الأراضي الليبية[3].

وفي تحوُّل لتلك التصريحات نحو إفريقيا؛ قال أردوغان في تصريحات صحفية له؛ معلقًا على دعوة ماكرون لسحب تركيا جنودها من ليبيا، أن القوات التركية موجودة في ليبيا تلبيةً لدعوة من حكومتها الشرعية، وفق اتفاقية التعاون الأمني والعسكري بينهما، وأنه يتعين على ماكرون توجيه دعوته إلى الأطراف الأخرى التي ترسل مقاتلين مرتزقة إلى ليبيا؛ منبِّهًا إلى وجود مقاتلين في ليبيا قادمين من تشاد ومالي. وفي هذا الإطار؛ تسائل أردوغان إلى سبب تواجد الفرنسيين في مالي وتشاد[4]؛ في إشارة إلى النفوذ الفرنسي المُتنامي في دول الساحل كقوة تقليدية قديمة.

 

الصراع التركي الفرنسي في إفريقيا:

لم يقف الصراع بين باريس وأنقرة في إفريقيا على ليبيا؛ بل وشمل كامل منطقة القرن والساحل الإفريقيين. فتاريخيًا كان أردوغان أول رئيس غير إفريقي يزور الصومال في العام 2011، وكان البلد الإفريقي آنذاك يعاني من وطأة مجاعة مهلكة، وقد مثَّلت هذه الزيارة للرئيس التركي منطلقًا ليتخذ من العمل الإنساني؛ بداية للعمل على توسعة نفوذ بلاده، وترسيخ اسمها كقوة منافسة لفرنسا على القرن الإفريقي، وكان ذلك من خلال الاستثمارات وبعث بعض المشاريع، وهو ما أثار حفيظة باريس. كذلك منذ وصول أردوغان وحزبه العدالة والتنمية للحكم عام 2002، شهدت الدبلوماسية التركية الإفريقية نقلة نوعية، حيث ارتفعت عدد سفارات أنقرة في إفريقيا من 12 إلى 42؛ وهو ما يؤكد محاولة تركيا تعزيز حضورها في إفريقيا الغنية بثرواتها، هذا بالتزامن مع إدراك الدول الإفريقية بأن الغرب لا يريد لإفريقيا أن تنهض، وتستفيد من إمكاناتها الهائلة وتنعم بالسلام.

في المقابل لم يعد التواجد العسكري لفرنسا في منطقة الساحل الإفريقي، الذي اخترقته تركيا من خلال مالي، يفي بالغرض لاسيما بعد تأكيد باريس على أن معركتها في الساحل ستستغرق وقتًا طويلاً، وبالرغم من الأبوية السياسية والاقتصادية التي أنشأتها فرنسا في بلدان الساحل وفي مقدمتها مالي، والتي تكرسها بالاعتماد على التدخل العسكري بذريعة مواجهة الإرهاب، وكذلك على الجماعة المالية الإفريقية التي تأسست منذ 60 عامًا، وتسعى إلى ترسيخ الثقافة الفرنسية ورعاية مصالح باريس الاقتصادية، من خلال التعامل بالفرنك، الذي فرضته فرنسا لحماية مصالحها الاقتصادية في إفريقيا، إلا أن فرنسا باتت تدرك اليوم الخطر الذي يتربص بنفوذها، في ظل تصاعد مقاومة الجماعات الإسلامية المتشددة هناك[5].

بينما نجد أن أردوغان قد وضع أولوية له، تتمثَّل في تعزيز النفوذ التركي في غرب إفريقيا، كما فعل في شرقها، وباستهدافه الماضي الاستعماري لفرنسا في إفريقيا، أعلن أردوغان في الغابون في العام 2013، أن إفريقيا للإفريقيين، وفي القمة التركية-الإفريقية في غينيا الاستوائية في 2014، قال أردوغان: “سوف تنحاز تركيا إلى الأمم الإفريقية بينما يُشيَّد نظام عالمي جديد”، ويُعد سلاح أنقرة الأقوى ضد فرنسا في غرب إفريقيا هو خلفيتها الثقافية والتاريخية[6].

وهكذا يبدو أن المعركة بين فرنسا وتركيا انتقلت من ليبيا وشرق المتوسط إلى منطقتي الساحل والصحراء، وذلك بعد تحرك الدبلوماسية التركية نحو دول إفريقية لطالما اعتُبرت من الملاعب التقليدية للسياسة الفرنسية. واعتمدت تركيا على استراتيجية “الاستثمار في الأزمات”، حيث وسعت علاقاتها بدول إفريقية عدة لا سيما في الساحل والصحراء، مثل النيجر، وتشاد، ومالي، وبوركينا فاسو وموريتانيا، وهي دول تواجه أزمات عدة على غرار انتشار الجماعات الإرهابية فيها، وتفشي الفقر والمجاعة، والصراعات القبلية والعرقية والإثنية، وغياب التنمية وفساد الأنظمة، بدليل ما حدث أخيرًا في دولة مالي حيث عمت البلاد تظاهرات تطالب بخروج القوات الفرنسية بعد فشلها في محاربة الإرهاب كما وعدت، وأيضًا برحيل الرئيس أبو بكر كيتا، بسبب الفساد وضعفه في قيادة البلاد وولائه لفرنسا، كما طالب المحتجون بدفع عجلة التنمية[7]، وقد تعهَّدت أنقرة بتقديم خمسة ملايين دولار مساعدات مالية لجهود مكافحة الإرهاب التي تبذلها كتلة الدول الساحلية الخمس، كما وقَّعت أحدث اتفاقاتها العسكرية مع النيجر منذ أشهر قليلة، بما يسمح بتعاون ثنائي من ليبيا إلى الغرب، كما اتجهت لمساعدة نيجيريا في الحد من تدفُّق الأسلحة إلى الجماعات المسلحة مثل بوكو حرام في شمال شرق البلاد، أو المسلحين الذين يستهدفون منشآت النفط والغاز النيجيرية في الجنوب[8].

 

الخُلاصة:

يُمكن القول أن ما يُثار بشأن الاستعمار التركي الجديد لإفريقيا هو أمر مبالغ فيه، فبينما تُصدِّر أنقرة نفسها وصورتها كونها قوة خيرية، فلا تزال قدرتها على ممارسة نفوذها الجيوسياسي في غرب إفريقيا محدودة أمام نفوذ القوى الكبرى الراسخ هناك حتى اللحظة رغم تذبذبه أحيانًا، كالولايات المتحدة والصين وفرنسا، كما أن هناك القوى الحديثة على المنطقة كروسيا، التي تواصل العمل على تعزيز التعاون العسكري التقني مع دول غرب القارة، حيث وقَّعت موسكو أكثر من اتفاقية تهدف لتعزيز التعاون في مجال الشؤون العسكرية والأمنية هناك.

إلا أن هذا لا يمنع أن المنطقة تظهر باعتبارها محطة صراع مستقبلية مفصلية بين باريس وأنقرة، بينما لا تمانع الولايات المتحدة الوجود المتزايد لأنقرة على الأرجح، كونها قوة مضادة للنفوذ الصيني المتزايد كذلك، ومع احتدام التوترات بين دول الخليج وفرنسا من جهة، وتركيا من جهة أخرى في الشمال الإفريقي؛ سيصبح الغرب الإفريقي مساحة صراع مهمة وحاسمة لتحديد اللاعب الجديد الأقوى مستقبلاً في نصف القارة الأعلى، تلك القارة التي يعدها خبراء أنها المكان القادم والأهم للعبة النفوذ السياسي العالمي.

 

[1]  أحمد نظيف، “2020.. عام الصراع الفرنسي التركي على مختلف الجبهات”، عربية Sky News، 30/12/2020. متاح على الرابط: https://cutt.us/0mzw9

[2]  نيكول تريان، “وسط الحرب الكلامية… ماكرون وأردوغان خصمان مثاليان؟”، France  24، 8/12/2020. متاح على الرابط: https://cutt.us/oUUTI

[3]  “تبادل الاتهامات بين باريس وأنقرة بشأن الأزمة الليبية”، France 24، 30/1/2020. متاح على الرابط: https://cutt.us/0SXrJ

[4]  “أردوغان ينتقد تصريحات ماكرون والتصريحات الأمريكية والأوروبية”، RT Online، 5/2/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/iRUvA

[5]  “احتدام الصدام الفرنسي التركي بسبب تعارض المصالح في إفريقيا”، العرب، 5/12/2019. متاح على الرابط: https://cutt.us/NkZs3

[6]  “تركيا تهدد إرثها الاستعماري.. لماذا كل هذا الغضب الفرنسي من الوجود التركي في إفريقيا؟”، عربي بوست، 10/7/2020. متاح على الرابط: https://cutt.us/08738

[7]  علي ياحي، “اقتحام تركيا “ملعب فرنسا التقليدي” في إفريقيا يهدد أمن الساحل”، عربية Independent، 14/8/2020. متاح على الرابط: https://cutt.us/4bHyI

[8]  ميرفت عوف، “الحرب التركية الفرنسية.. لماذا يخشى الفرنسيون الأتراك في غرب إفريقيا؟”، الجزيرة نت، 2/11/2020. متاح على الرابط: https://cutt.us/OwRVS

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022