لا يكف جنرال الانقلاب عبدالفتاح السيسي عن نشر أكاذيبه بين الناس بشأن مسئولية ثورة 25 يناير 2011م عن أزمة سد النهضة، معتمدا في الترويج لهذه الأكاذيب على الآلة الإعلامية الضخمة التي تديرها أجهزته المخابراتية والأمنية، وكان آخر هذه الأكاذيب يوم الأربعاء الماضي “7 أبريل 2021م” خلال افتتاح مركز إصدار الوثائق المؤمنة، حيث قال إن قلقه على مياه النيل بدأ منذ عام 2011 وبالتحديد يوم 25 يناير، وهو اليوم الذي انطلقت فيه الثورة الشعبية التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك بعد 30 عاما قضاها في السلطة. وعادة ما يربط السيسي بين ثورة يناير وبين سد النهضة، لكن الاتهام الأكثر وضوحا جاء في سبتمبر عام 2019 خلال إحدى مؤتمرات الشباب، حيث أعلن بوضوح أنه لولا ما جرى في عام 2011 (يقصد ثورة يناير)، ما أقدمت إثيوبيا على بناء سد النهضة. وخلال المؤتمر قال السيسي: «سأقول لكم عن غلطة واحدة أو ثمن واحد دفعناه وسندفعه، 2011 (في إشارة إلى الثورة) لم يكن أبدًا تبنى سدود على نهر النيل إلا بها». لكن الهدف من هذه التصريحات ليس كشفا للحقيقة بل هي أكاذيب وافتراءات لسبب واحد هو خوف السيسي من ثورة شعبية جديدة تقضي على نظامه الاستبدادي وهو نفسه اعترف بذلك في ذات التصريحات خلال المؤتمر «محذرا من احتمال اندلاع ثورة جديدة بقوله “والأخطر منه إنكم تكرروه تاني (اندلاع ثورة جديدة)”. وتابع السيسي، الذي كان مديرًا للمخابرات الحربية آنذاك “أنا قلت 2011 فقط ليه (لماذا) لأني جبتلكم (تحدثت إليكم عن) نقطة واحدة وتقولوا لي: حل يا سيسي وهات لنا الميه (حل أزمة المياه) أنتم (المصريون) عملتم كده (من فعل ذلك)”. وهي التصريحات التي تلقي بالمسئولية على الشعب وثورته العظيمة؛ في محاولة من جانب السيسي للتغطية على فشله من جهة وتهربه من المسئولية من جهة أخرى.
وفي هذا التقرير نرصد الحقائق التالية للبرهنة على مسئولية السيسي تحديدا والنظام العسكري بشكل عام عن أزمة سد النهضة.
محطات كاشفة
أولا، تكشف تصريحات السيسي عن مغالطة يحاول تمريرها، إذ على الرغم من أن الإعلان عن بناء سد النهضة بدأ في أبريل 2011، بعد اندلاع ثورة يناير، إلا أن الخطط الإثيوبية وتصميمات السد والدراسات المتعلقة به بدأت قبل ذلك بسنوات. كما أن المجلس العسكري، الذي كان السيسي أحد أبرز أعضائه، هو من يحكم مصر في ذلك الوقت ولمدة عام ونصف حتى منتصف 2012م. وخلال هذه الفترة الانتقالية انشغل المجلس العسكري وباقي مؤسسات الدولة التي تسيطر عليها مافيا الدولة العميقة الموازية وغير المنتخبة (الجيش ــ المخابرات ــ أمن الدولة ـ القضاء ـ الإعلام) بكيفية إفشال الثورة واسترداد نفوذهم بدلا من حماية حقوق مصر المائية وحدودها ومكانتها الإستراتيجية، وهو ما تكلل بانقلاب 3 يوليو 2013م. والبرهان على ذلك الحقائق الآتية:
- بدأت الخطط الإثيوبية في إنشاء سدود على نهر النيل في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.
- في العام 2001 أعلنت الحكومة الإثيوبية عن نيتها إنشاء عدد من المشروعات على أنهارها في إطار استراتيجية وطنية للمياه.
- نشر موقع ويكيلكس وثيقة مسربة يعود تاريخها إلى 26 من مايو 2010 ومفادها أن مبارك طلب من الخرطوم إنشاء قاعدة عسكرية لاستخدامها حال إصرار الجانب الإثيوبي على بناء سد.
- في أغسطس 2010 أعلنت الحكومة الإثيوبية الانتهاء من عملية مسح موقع سد النهضة، والتي بدأت في أكتوبرعام 2009.
- في نوفمبر 2010م، انتهت الحكومة الإثيوبية من تصميم السد، وأعلنت اعتزامها البدء في تنفيذه. وهو نفس العام العام الذي وقعت فيه أديس أبابا ودول حوض النيل على اتفاقية عنتيبي التي تضع معايير جديدة لتوزيع مياه النيل وهي الاتفاقية التي رفضتها مصر والسودان، ولم يوقعا عليها حتى اليوم. وخلال سنوات ما قبل ثورة يناير كانت هناك جولات عديدة من المفاوضات المتبادلة بين الجانبين المصري والإثيوبي، وهي مفاوضات غلب عليها العلاقات المتوترة بين البلدين.
جريمة الانقلاب
ثانيا، فإن انقلاب السيسي على الرئيس المنتخب والمسار الديمقراطي أضعف الموقف المصري؛ حيث جرى تعليق عضوية مصر في الإتحاد الإفريقي بسبب انتزاع السلطة بشكل غير دستوري “انقلاب”، وهو الإجراء الذي وظفته أديس أبابا لصالحها لاحقا؛ حيث ساومت السيسي وابتزته ليعترف بالسد مقابل الاعتراف بشرعية انقلابه من جانب الاتحاد الإفريقي وعودة مصر إلى الاتحاد مرة أخرى. وهو ما جرى بالفعل؛ ما يبرهن على أن السيسي منح الأولية لأطماعه في السلطة على حساب مصر وشعبها وحقوقها المائية.
الأمر الآخر، أن اللجنة الدولية لتقييم الدراسات الإثيوبية لسد النهضة والتي جرى التوافق عليها بين الدول الثلاث في 29 نوفمبر 2011م، وكانت تضم خبيرين من كل دولة(مصر ـ السودان ـإثيوبيا) وأربعة خبراء أجانب محايدين، ومتخصصين في مجالات هندسة السدود والموارد المائية، وتأثيرات السدود على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وبدأت اللجنة عملها في مايو 2012، وأنجزت تقريرها النهائي في 31 مايو 2013م، كشف التقرير النهائي الذي أصدرته عن وجود سلبيات خطيرة في التصميمات الإنشائية، وقالت اللجنة إن التصميمات الإنشائية التى قدمتها إثيوبيا عن السد هي تصميمات أولية وسطحية، ولا تختص بالمشروع نفسه ولا موقعه الحالي، ولا ترقى لمستوى الدراسات المطلوبة لسد بهذا الحجم الضخم، وأن بعض هذه الدراسات قد وضعت بعد البدء في بناء السد وأثناء عمل اللجنة. وأثبت التقرير أن حكومة إثيوبيا تخفي كثير من المعلومات الحيوية عن السد وتتعامل معها بسرية تامة، وأوصى الخبراء بضرورة وضع تصميمات جديدة للسد، وبإتاحة كل المعلومات المتعلقة ببناء السد، وإجراء دراسات إنشائية وبيئية واقتصادية جادة وحديثة، وقد أقرت إثيوبيا بما ورد في التقرير، ووقّع الخبيران الإثيوبيان عليه كاملًا.
وعلى الفور شرع الرئيس مرسي في توظيف نتائج التقرير لدعم الموقف المصري والذي اعترفت إثيوبيا بكل ما ورد فيه من مخاطر، في مطالبة إثيوبيا بوقف بناء السد إلى حين التأكد من أنه لا يشكل خطرًا على أمن مصر المائي”. حيث دعا القوى الشعبية لتوحيد الصف الوطني، ودعا أحزاب المعارضة للاجتماع في مقر الرئاسة(في 3 يونيو 2013م)، وأطلعهم بشفافية على ما ورد في تقرير اللجنة الدولية، وهو الاجتماع الذي اذاعه التلفزيون الرسمي على الهواء مباشرة(قيل إنه جرى بثه دون علم المشاركين)، ودعا بعضهم إلى أعمال استخباراتية ضد اثيوبيا، واعتبرته وسائل الإعلام الموالية لأجهزة الدولة العميقة، فضيحة وكشفا لأسرار الدولة.
وبعيدا عن بروباجندا الإعلام المرتزق، فإن كل ما ورد في هذا الاجتماع هو تعبير جاد وحقيقي للرأي العام المصري، وبث ذلك مباشرة أعتقد أنه كان مقصودا للأسباب الآتية:
- أولا، ليكون رسالة واضحة الدلالة وغير ملتبسة بأن الموقف الشعبي ينسجم مع الموقف الرسمي بالتأكيد على أن مصر جادة في تهديدها، وأنها مفتوحة على كافة السيناريوهات لحماية حقوقها المائية بما فيها الخيار العسكري؛ دفاعا عن أمن مصر القومي.
- ثانيا، الاجتماع لم يكن كشفا لأسرار الدولة لأن المتحدثين كانوا رؤساء أحزاب وقيادات شعبية ولم يكونوا مسئولين بالحكومة؛ وبالتالي فإن الهدف من البث هو رسالة لإثيوبيا أن الشعب المصري كله مجمع على ضرورة التصدي لأطماعها حتى ولو بالقوة العسكرية.
- ثالثا، أكدت الدكتورة باكينام الشرقاوي، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومستشارة الرئيس مرسي والمشرفة على تنظيم الاجتماع، عبر صفحتها الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” أنه كان مرتبا تسجيل الاجتماع لكن الرئاسة ارتأت بثه على الهواء مباشرة ليكون أكثر وقعا على الجانب الإثيوبي، وكتبت على صفحتها: «كان مرتبا أن يذاع الاجتماع الوطني مسجلا كعادة هذه اللقاءات، ولكن ارتؤي لأهمية موضوع الأمن المائي قبل اللقاء مباشرة إذاعته على الهواء، فغاب عني إبلاغ الحضور بهذا التعديل؛ لذلك أعتذر عن أي حرج غير مقصود لأي من القيادات السياسية سببه عدم الإشارة عن البث المباشر للقاء».
- رابعا، الدليل الرابع أن الرئيس مرسي عاد وكرر نفس ما ورد بالاجتماع علنا في مؤتمر شعبي بعد ذلك بأيام حيث جرى تنظيمه تحت عنوان “المؤتمر الوطني للحفاظ على حقوق مصر في مياه نهر النيل”، لطمأنة المصريين بقدرة الدولة المصرية على الحفاظ على مياه النيل، وقال في كلمته أمام المؤتمر، الذي عُقد قبل انقلاب 3 يوليو بثلاثة أسابيع، وعلى الهواء مباشرة، أخطر مما قيل في اجتماع أحزاب المعارضة، وهو التهديد صراحة باستخدام القوة ضد إثيوبيا. وأنه كرئيس لن يسمح مطلقا بأن يهدد أمن مصر المائي أن نقص قطرة مياه واحدة فإن الدماء هي البديل. وللبرهنة على أهمية هذا الحوار الذي جرى تشويهه من جانب إعلام العسكر والدولة العميقة وقتها، أن السيسي نفسه اعترف في تصريحات تالية أنه عندما ذهب إلى أديس أبابا وجدهم مرعوبين مما ورد بهذا الحوار، وأنه طمأنهم وأذهب عنهم الروع والخوف ليحصل على ضمانات؛ فحصلوا منه على الأمن بعدالرعب، ولم يعطوه شيئاً؟! فالرئيس مرسي لم يمنح إثيوبيا موافقة مصر دون قيد أو شرط على بناء سد النهضة، لكن الذي فعل ذلك هو السيسي بالتوقيع على اتفاق المبادئ!
موقف أديس أبابا كان هشا وضعيفا بعد خروج تقرير اللجنة الدولية، ولم تتهم مرسي بإعلان الحرب، ولم تلجأ إلى الإتحاد الإفريقي أو الأمم المتحدة للاعتراض على خطاب مرسي، واكتفت بإطلاق تطمينات لمصر بعدم الضرر، لعلمها أن القانون الدولي لا يعطيها الحق في بناء السد دون موافقة مصر”. لكن السيسي تنازل في يناير 2014 عن وجود الخبراء الدوليين في اللجنة بعد ابتزاز إثيوبي، حتى جرى الإعلان عن توقيع اتفاق المبادئ الذي مثل أهم محطات الخيانة والتفريط في حقوق مصر المائية.
خطيئة اتفاق المبادئ
ثالثا، يعد اتفاق المبادئ الذي وقع عليه السيسي في مارس 2015م بالعاصمة السودانية الخرطوم مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي ماريام ديسالين، هو السبب الأهم وراء أزمة سد النهضة؛ ذلك أن السد قبل هذا الاتفاق كان يمثل إنشاء غير شرعي ويخالف القانون الدولي للأنهار ، لكن توقيع السيسي على الاتفاق مثل اعترافا مصريا به وأكسبه الصفة القانونية، وفتح الباب أمام إثيوبيا لتمويل السد من جهات تمويل ودول أخرى كالصين وفرنسا وإيطاليا وغيرها. مشكلة هذا الاتفاق الذي يكابر السيسي حتى اليوم ولا يريد الاعتراف بأنه كان خطيئة كبرى في حق مصر أنه لم يضمن حقوق مصر المائية على النحو التالي:
- المشروع الإثيوبى كشف عن تقصير مصرى سودانى 100%، لأن البلدين تجاهلا أن أساس أى مشروع مائى على الأنهار الدولية المشتركة، يعتمد على المدخل القانونى، وتقدير الوزن القانونى قبل الشروع فى تنفيذ المشروع.
- الاتفاق أدى إلى تقنين أوضاع سد النهضة، وحوله من سد غير مشروع دولياً إلى مشروع قانونياً.
- أضعف الاتفاقيات التاريخية، ولا يعطى مصر والسودان نقطة مياه واحدة؛ لأنه لم يتضمن تحديد حصة مصر بأرقام محددة مثل 55.5 مليار متر مكعب، واكتفي بدلا من ذلك بجملة مطاطة للغاية، وهي عدم الإضرار الجسيم، فاتحا الباب لجميع التفسيرات الإثيوبية.
- تمت صياغته بما يحقق المصالح الإثيوبية فقط، وحذف الأمن المائى، ما يعنى ضعفا قانونيا للمفاوض المصرى والسودانى.
- ساهم الاتفاق فى تقوية الموقف الإثيوبى فى المفاوضات الثلاثية. ويجمع خبراء القانون الدولي أن البند رقم “10” في اتفاق المبادئ يمنح الطرف الإثيوبي وضعا قويا للغاية؛ لأنه قيد فكرة تدخل طرف رابع أو وسيط بين أطراف الأزمة الثلاثة “مصر وإثيوبيا والسودان” كما قيد اللجوء إلى التسوية القانونية عبر القضاء الدولي سواء أمام محكمة العدل الدولية أو القانون الدولي. وتنص الققرة “أ” من المادة “10” على «تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتها الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أوالتفاوض وفقًا لمبدأ حسن النوايا. وإذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق، والوساطة، أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/رئيس الحكومة”». وثمة أمران: الأول، ضرورة موافقة جميع الأطراف” على طلب التوفيق أو الوساطة، عبر استخدام عبارة «مجتمعين» ما يعني أن مصر لن تستطيع تمرير أي قرار خاص بالسد بصورة منفردة، كما أن تحقق هذا التوافق “الإجماع” أمر في غاية الصعوبة، ناهيك عن أن التسوية ستكون سياسية أيضًا من خلال طلب التوفيق” الذي يعني تشكيل لجنة لبحث النزاع من جميع جوانبه وتقديم تقرير للدول المعنية يقدم اقتراحات معينة غير ملزمة للأطراف المعنية “، أو الوساطة وتعني تدخل طرف خارج، وله المشاركة في المفاوضات وتقديم اقتراحات للحل غير ملزمة” ، أما ما سوى ذلك فيتم رفعه لرؤساء الدول والحكومات للدول الثلاث لاتخاذ ما يلزم. الثاني، أنه كان يمكن النص على الوسائل القانونية للتسوية مثل التحكيم والقضاء الدولي ولكن لم يتم النص عليها لرفض إثيوبيا المسبق لذلك. ومعنى هذا أنه لن يتم اللجوء للتحكيم أو القضاء الدولي رغم أنهما إحدى الأدوات التي نصت عليها المادة 33 من اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997الخاصة بالاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، والتي استند اليها إعلان المبادئ في معظم بنوده، لكن يبدو أن اثيوبيا سعت لإفراغ بعض هذه الاتفاقية الدولية من مضمونها أو تحويرها بما يتوافق مع أهدافها، وللأسف وافقت مصر على ذلك. معنى هذا أن حلول الأزمة ستبقى رهينة بالجهود الدبلوماسية فقط. فلن تتمكن مصر وفق بنود اتفاق المبادئ من اللجوء إلى الوساطة أو التحكيم الدولي أو طلب التدخل من الاتحاد الإفريقي أو مجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية لعدم النص على ذلك في الاتفاق الكارثي، وإذا حدث بعد جهود مضنية فلن يكون قراراها إلزاميا.
الغريب أن فضائيات وصحف النظام العسكري خرجت في اليوم التالي لتوقيع الاتفاق بمانشيتات تؤكد حل الأزمة ومنها مانشيت اليوم السابع الشهير وقتها «السيسي حلها»! اللافت أن الخارجية المصرية كانت قد نجحت في 23 إبريل 2014م، وقبل تنصيب السيسي رئيسا بشهرين فقط بعد مسرحية الانتخابات الرئاسية، في استصدار قرار أوروبي روسي صيني، بالاشتراك مع البنك الدولي، بوقف تمويل سد النهضة، ووقف القروض التي كانت ستحصل عليها إثيوبيا من كل من الصين وإيطاليا وغيرها، بهدف إقامة سدود على النيل. إلا أن السيسي فاجأ المصريين والصينيين والروس والأوروبيين بتوقيع اتفاق إعلان المبادئ في مارس 2015، ملغيا بذلك اتفاقية 1902 التي كانت تمنع كل دول حوض النيل من إقامة أي سدود على النيل إلا بموافقة مصر والسودان. وكانت إثيوبيا قبل هذا الاتفاق مغلولة اليدين في طلب التمويلات الدولية لبناء السد، وبعدها انطلقت لطلب تمويل دولي لبناء السد. وصرح السيسي وقتها بأن لإثيوبيا الحق في عمل نهضة شاملة، وبأن إقامة سدود لإنتاج الكهرباء ضرورة لهذه النهضة. ويعد تمسك أديس أبابا بهذا الاتفاق حاليا برهانا على حجم الجريمة التي ارتكبها السيسي، حتى إن هناك أصواتا مصرية تطالب بسحب التوقيع على الاتفاق للعودة إلى المربع الأول وفقدان السد للصفة القانونية. وفي يوليو 2020 وخلال لقاء مع قناة الجزيرة، كشف رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي ماريام ديسالين أن اتفاقية إعلان المبادئ الخاصة بسد النهضة، نصت على أن الملء الأول للسد سيكون بالتوازي مع التشييد، وأن مصر أبرمت الاتفاقية وهي تعلم ذلك.
هزل وقت الجد
رابعا، لم يتعامل السسيسي مع الأزمة كما يجب أن يكون باعتبارها ليست فقط تهديدا لأمن مصر القومي، بل تهدد وجودها؛ فمصر هبة النيل، ولم يتخيل أحد لمصر وجودا بدون نهر النيل العظيم. وبدلا من التعامل بالجدية والاحترافية اللازمة، استخدم السيسي تصريحات لتخدير الشعب وتضليله والتهوين من الأزمة. وهذه بعض تصريحاته:
- في نوفمبر2017، وخلال افتتاحه لمشروع مزرعة سمكية، قال السيسي عن سد النهضة “مياه مصر موضوع مفيهوش كلام، وأنا بطمنكوا، ومحدش يقدر يمس ميّة مصر”. مضيفا: اتكلمنا مع أشقائنا في السودان وإثيوبيا على عدم المساس بالمياه، لأن المياه مش تنمية دي حياة أو موت لشعب كامل، والموضوع ده خلصان، كده خلصت”.
- في يناير 2018، وخلال قمة ثلاثية مع الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير وهايلي ديسالين رئيس وزراء إثيوبيا آنذاك في أديس أبابا، قال السيسي إنه لم تكن هناك أزمة بالأساس بين مصر والسودان وإثيوبيا فيما يتعلق بسد النهضة. وقالت وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية المصرية في تغطيتها للقمة إن الزعماء الثلاثة خرجوا من اجتماع القمة “متشابكي الأيدي علامة على التضامن وروح التعاون الإيجابي”.
- قبل ذلك وفي نفس الشهر، قال السيسي إنه “لن يسمح أبدًا بوجود مشكلة مياه في مصر”. وقال إن الحكومة تعمل على تنفيذ أكبر مشروع لمعالجة مياه الصرف لحل أي مشكلة متوقعة (في إشارة لسد النهضة).
- في يونيو 2018، استضاف السيسي رئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد في القاهرة، وجعله يقسم باللغة العربية أن بلاده لن تضر بحصة مصر من مياه النيل، وسط ضحكات الحضور.
https://www.youtube.com/watch?v=N9_PvNXxyPo
خيانة من كل الأطراف
خامسا، الدور الإسرائيلي القذر في دعم وحماية سد النهضة للإضرار بأمن مصر القومي، وهم حلفاء السيسي الأهم في المنطقة؛ ففي يوليو 2019م، نشر موقع “ديبكا” الاستخباراتي الإسرائيلي رفض حكومة نتنياهو طلب مصر بعدم نشر نظام الدفاع الجوي المتطور “سبايدر أم آر” لحماية سد النهضة الإثيوبي، مؤكدا أن إثيوبيا انتهت بالفعل من نصب النظام الإسرائيلى حول السد وقامت بتشغيله. وبرأي مراقبين، شجعت تلك الخطوة إثيوبيا على رفض جميع المقترحات المصرية لملء السد على مدى فترات أطول، وراحت تتعنت وتتلكأ في المفاوضات بعد أن حققت هدفها ببناء السد بالكامل، وحان وقت الملء، مع إقامة حائط من منظومات الدفاع الجوي إسرائيلية الصنع حول السد.
كما تؤكد وثائق بالبنك الدولي ــ وفقا لخبير السدود محمد حافظ في حواره له مع الجزيرة نت ــ تؤكد تقدم وزير الري السابق محمود أبو زيد بطلب رسمي للبنك الدولي، لجمع تبرعات وقروض للدولة الإثيوبية لمساعدتها في بناء سد النهضة وسدود أخرى بالنيل الأزرق. وأشار إلى تشجيع حسني مبارك على بناء منظومة سدود هيدروليكية على مجري النيل الأزرق منذ عام 2008، واستغلت إثيوبيا هذه الموافقة لتوسيع أبعاد السد بحيث يتسع لـ 74 مليار متر مكعب وذلك قبل إسقاط حسني مبارك بعدة أشهر. وتوقع حافظ تفاقم مخاطر السد الإثيوبي على الدولة المصرية بنقص المياه ببحيرة ناصر بما يعادل قرابة 34 مليار متر مكعب سنويا، ما يسبب بوار خمسة ملايين فدان من الأراضي الزراعية على الأقل، بما يترتب على ذلك من أثر اجتماعي واقتصادي مدمر على مصر. كما كشف نائب رئيس المركز الإقليمي لعلوم الفضاء في الأمم المتحدة، الدكتور علاء النهري، في حوار مع اليوم السابع بتاريخ 27 أغسطس 2016م، أن الولايات المتحدة تعمدت التشويش وتضليل الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية الأميركية كي لا تتمكن مصر من متابعة مراحل البناء في السد وتفاصيله، وقال إن إسرائيل لها يد في الموضوع، وقال في تصريح آخر إن إثيوبيا قامت بتركيب 16 بوابة للمياه في جسم السد وأنها أميركية الصنع ومن ماركة فرانسيز. فلماذا يقدم نظام السيسي الخدمات الجليلة لإسرائيل وأمريكا وهما يتعمدان الإضرار بالأمن القومي المصري على هذا النحو المبين؟!
إنشاء السد في عهد السيسي
سادسا، بعد تحميل السيسي لثورة يناير بالمسئولية عن السد في تصريحاته في 2019م، كشف علماء في هندسة السدود بالاستعانة بخرائط وصور (جوجل إيرث) أن عملية البناء الحقيقية لجسم سد النهضة بدأت في عهد السيسي وتحديدًا أواخر عام 2014. وبحسب خبير هندسة السدود والأنفاق والمشروعات المائية محمد حافظ الذي يشغل منصب أستاذ مساعد بجامعة تناجا بماليزيا، في محاضرة على صحفته الخاصة بموقع “فيس بوك” نشرتها الجزيرة نت في 23 أكتوبر 2019م، يستخدم فيها مقاطع الفيديو وعدد من الصور تم التقاطها بواسطة الأقمار الصناعية وجوجل إيرث، تحدد تاريخ البدء في بناء سد النهضة، حيث توضح أنه حتى نهاية 2013 لم يوضع حجر واحد في أساسات السد، وأن البناء بدأ مع تنصيب السيسي رئيسا. وتؤكد صور جوجل إيرث أن عملية صب الأساسات بدأت في يونيو 2014 وانتهت طبقة الأساسات في منتصف ديسمبر2015، وما قبل ذلك كانت عمليات تحديد مكان السد وتجريف المنطقة استعدادًا لبنائه. وفي أعقاب تشكيك موالين للسيسي في هذه الخرائط، غرد الخبير الهندسي العالمي ممدوح حمزة على تويتر، ليؤكد صحة ما ذكره “حافظ”، مؤكدًا أنه حتى 30 يونيو 2014 لم تكن هناك أي انشاءات في موقع السد بحسب صور القمر الاصطناعي. وعرض “حمزة” صورًا لموقع سد النهضة على جوجل إيرث من 2015 إلى 2018، تظهر أن الإنشاءات بدأت قبيل عام 2015 أو في خلال الجزء الثاني من 2014 طبقًا لصور موقع سد النهضة من القمر الاصطناعي. بعد عرض هذه الحقائق، سخر “حمزة” ضمنًا من اتهام السيسي لثورة يناير بالمسؤولية عن بناء السد، وقوله إن “مصر كشفت ظهرها وعرت كتفها”، قائلًا “لم تكشفي عن ظهرك ولم تعري كتفك، هم أرادوا لكِ العهر ولكن الله حارس وسخر لكِ أبناءك المخلصين”.