اعتمدت السردية في مسلسل “الاختيار2” بشكل أساسي على التحريات الأمنية وأقوال الضباط وأمناء الشرطة. ولا يدور مسلسل “الاختيار 2” وحده في هذا الفلك الوهمي الذي يرغب النظام في تعميم تفاصيله، بل وتقديمه في صورة “وثيقة تاريخية”، بل هناك أيضاً مسلسل “هجمة مرتدة”، لنفس جهة الإنتاج، وهي شركة “سينرجي” التابعة للشركة المتحدة المملوكة للمخابرات العامة، والذي يمهد لاعتبار الثورة والربيع العربي جزءاً من مؤامرة دولية على مصر والدول العربية. ويرسم المسلسلان صورة نقية بلا شوائب ولا سلبيات لأجهزة الشرطة والجيش والمخابرات(رغم اغتصابهم للحكم بانقلاب عسكري وتنفيذ عشرات المذابح الوحشية التي راح ضحيتها آلاف المصريين) مقابل تشويه المعارضين من الإسلاميين واليساريين والحقوقيين.
- رواية المسلسل تزعم بإلحاح على أن ضباط الشرطة لم يطلقوا النيران إلا استحياءً لرد الهجوم الذي تعرضوا له من المعتصمين بالميدان، وبالتوازي مع هذا أصدرت جماعة الإخوان المسلمين تعليماتها إلى أشخاص مسلحين في محافظات مصر للتحرك للهجوم على الكنائس وأقسام الشرطة، وهي رواية أمنية مفبركة نفتها الجماعة رسميا عبر بياناتها، وتعصف بها الحقائق الدامغة؛ ذلك أن الاعتصام كان يتم بثه بثا مباشرا عبر عدة شاشات وفضائيات على رأسها الجزيرة مباشر. ولا تزال أحداث المذبحة موثقة بالصوت والصورة.
- ثم انتقلت أحداث الحلقة إلى قسم شرطة كرداسة، حيث تعرض ضباطه لهجوم قتل فيه اللواء محمد جبر (يؤدي دوره أشرف عبدالباقي)، ورمزت الحلقة لشخصية السيدة سامية شنن -المعتقلة حاليا- بمشاركتها في الهجوم على قسم الشرطة، وإعطائها مأمور قسم الشرطة “ماء نار” (مادة كاوية) ليشربه حينما طلب مياه يشربها، وظهرت على أنها مثلت بجثامين 12 ضابطاً وفرد شرطة. وهي شائعات انتشرت على ألسنة الإعلاميين المأجورين التابعين للنظام وهو ما سبق أن نفته محكمة جنايات القاهرة، في حكمها في مرحلة إعادة المحاكمة في القضية في يوليو 2017 بعبارات واضحة نشرتها جميع الصحف وقتها، رداً من القاضي المعروف بمواقفه المتشددة ضد المعارضين محمد شيرين فهمي على تلك الشائعات التي انتشرت على ألسن الإعلاميين، رغم إدانته لشنن والحكم عليها بالسجن المؤبد.
- الأكذوبة الثالثة هي أن قرار فض الاعتصام صدر بالتزام السلمية. فعلى عكس الاعتراف بـ”استخدام القوة المفرطة”، حسب تعبير لجنة تقصي الحقائق الحكومية التي شكلها النظام نفسه، صور النظام ما حدث وكأنه كان معركة وجود بين تيار إرهابي وقوات الدولة، وأن الطرفين كانا مسلحين.
- الأكذوبة الرابعة تتمثل في التسليح الكثيف والثقيل للاعتصام، وإقدام المعتصمين على استخدامها في حرق خيمهم، وهو ما يناقض ما أعلنه وزير الداخلية آنذاك محمد إبراهيم من أن الشرطة وجدت في اعتصام رابعة 9 أسلحة آلية وطبنجة (مسدس) واحدة و5 خراطيش (رصاصات). وهذه الأكذوبة تتفق مع الحكم الصادر في 2018 بإعدام 75 من قيادات وناشطي اعتصام رابعة، إلى جانب عقوبات متوقعة تتدرج من السجن 3 سنوات إلى المؤبد بحق نحو 650 آخرين من المعتصمين، تمادياً في الزعم بأن الاعتصام كان خطراً على الأمن القومي، وأنه كان ساحة لارتكاب جرائم قتل وتعذيب لمعارضي مرسي ومؤيدي عبد الفتاح السيسي، وأن المحكومين بالإعدام حرضوا على قتل أفراد الجيش والشرطة، خلال فض الاعتصام وما تلاه من أحداث شغب انتقامية ضد الأقسام في كرداسة بالجيزة وبعض محافظات الصعيد.
- أما الأكذوبة الخامسة فهي الخاصة بالممر الآمن. والواقع أنه مع بداية أعمال الفض كانت إدارة الشؤون المعنوية والآلة الإعلامية التابعة لها تطلق، بالتوازي مع الرصاص في الميدان، مناشدات للمعتصمين لإنهاء الاعتصام، مقابل ضمان خروج آمن لهم. وبحسب روايات موثقة في تقارير حقوقية فإن الضباط القائمين على الممرات الآمنة ألقوا القبض على معظم من سلكوها، سواء كانوا مصابين أو أصحاء، بينما شهد آخرون من المعتصمين في تحقيقات النيابة العامة أنه أثناء إسعاف المصابين، وحملهم للخارج، قال بعض الضباط إن الخروج الآمن ليس للمصابين والجثث. ولذلك أشارت بعض التقارير إلى مسؤولية هذه النقطة عن ارتفاع عدد الوفيات بين مصابين بحالات متوسطة، نتيجة إبطاء إسعافهم أو تخيير مسعفيهم ما بين الخروج الفوري أو الاعتقال.[[1]]
- الأكذوبة السادسة الخاصة بحرق الكنائس؛ ذلك أنه رغم آلاف المظاهرات التي انطلقت ضد الانقلاب وتم توثيق كل دقيقة فيها بالصوت والصورة لدرجة حرص القائمين عليها على بثها بثا مباشرا عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، لم ترصد مظاهرة واحدة أو تجمع واحد اعتدى على كنيسة واحدة خلال الأحداث رغم المشاركة الواسعة من الكنيسة في مشهد الانقلاب الدموي. والأرجح أن الاعتداء على الكنائس كان مخططا له من جانب مليشيات الانقلاب وأجهزته الأمنية باستخدام بعض المسجلين خطر من أجل إلصاق التهمة بأنصار الرئيس المنتخب وتسويق ذلك عالميا لإقناع الغرب بدعم الانقلاب وعدم التعاطف مع الضحايا من أنصار الرئيس وجلهم من الإسلاميين. والبرهان على ذلك أن بعض الكنائس التي تعرضت لاعتداءات البلطجية ناشدت وزارة الداخلية حمايتها وتواصل بعض الكهنة مع مراكز وأقسام الشرطة لكنها الداخلية امتنعت عن التدخل في دليل دامغ على أن البلطجية الذين اعتدوا على الكنائس أخذوا التعليمات من أجهزة النظام ضمن مخططات الانقلاب وحملات الدعاية ضد الإسلاميين.
«أكذوبة الاعتصام المسلح»
«اعتصام مسلح»، كانت هذه هي الأكذوبة التي روجت لها أبواق العسكر ولا تزال واعتمد عليها مسلسل «الاختيار 2» من أجل تبرير هذه المذابح الوحشية التي نفذها الجيش والشرطة بحق المعتصمين في ميادين رابعة العدوية بالقاهرة وميدان نهضة مصر ومصطفى محمود بالجيزة، وثبت بالأدلة الدامغة أنها ليست سوى سلسلة أكاذيب ممنهجة لتبرير الجريمة الوحشية والتغطية على المذابح المروعة. وأي متابع يتسم بقدر ولو قليل من الحيدة والإنصاف يدرك تمامًا أن كل الشواهد والأدلة تنسف هذه المزاعم حول أكذوبة “الاعتصام المسلح” ويمكن رصد هذه الأدلة التي تدحض هذه المزاعم وتنسف هذه الأكاذيب من جذروها فلا يبقى لها قرار إلا في نفوسى المرضى الذي يتبعون الظنون والأوهام ضاربين عرض الحائط باليقين والشواهد المؤكدة.
فلو كان قادة الاعتصام يريدون خوض صراع مسلح لما كان لهم أن يعتصموا من الأساس؛ لأن الاعتصام بحد ذاته هو أداة سلمية من أدوات الاحتجاج والتعبير عن الرأي. ولا يوجد في العالم كله مجموعة تختار المسار المسلح تقيم اعتصاما لتجعل من عناصرها صيدا سهلا لخصومها وأعدائها! فهل سمع أحد يوما أن عناصر تابعين لتنظيم داعش أو ولاية سيناء أقاموا اعتصاما اعتراضا على قرار حكومي معين؟ فهذا مستحيل لأن الاعتصام أداة للتعبير السلمي وهو ما ينقض أدبيات التنظيمات المسلحة. إذًا.. أول هذه الأدلة التي تنسف أكذوبة “الاعتصام المسلح” هو فكرة الاعتصام نفسها لأنها تتناقض كليًا مع فكرة التسلح واستخدام العنف؛ فمن كان يتجه نحو السلاح والعنف وتسليح الثورة طريقًا لتحقيق أهدافه، فلماذا يحشر نفسه في اعتصام محدد ببقعة جغرافية صغيرة تتجه إليها كل الأنظار ويدخل إليها كل من يريد بشرط ألا يكون حاملاً سلاحًا كما كان شباب التأمين يشترطون للدخول خوفًا على المعتصمين من تسلل جواسيس الأمن وإثارة الفوضى داخل الاعتصام؟
الدليل الثاني، هو موقع الاعتصامين في رابعة والنهضة، وهو ما يعصف حقا بكل هذه الافتراءات؛ فقد كان “اعتصام رابعة” محاطا بثكنات عسكرية من كل جانب، وتحيط به وحدات الجيش والمخابرات من كل جانب، وكاميرات هذه الوحدات العسكرية كانت تراقب كل صغيرة و كبيرة داخل الاعتصام. فهل يصح بعد ذلك ترويج أكذوبة “الاعتصام المسلح”؟!. وقد كان الاعتصام مفتوحا لأي مواطن بشرط ألا يكون حاملا للسلاح وقد كان للجيش والمخابرات جواسيس يتوغلون في الاعتصام ويمرون بكل متر فيه ويعرفون تماما أن القول بوجود أسلحة لا يقل سخافة عن القول بأن زعيم الانقلاب عبدالفتاح السيسي أسر قائد الأسطول السادس الأمريكي الذي كان يريد دعم الإخوان، أو أكذوبة وجود كرة أرضية تحت المنصة يتم فيها دفن القتلى. أما اعتصام النهضة فقد كان بجوار أحد أكبر مديريات الأمن بالجمهورية كلها وهي مديرية أمن الجيزة التي كانت تبعد عشرات المترات فقط عن مقر الاعتصام، وكان محاطا كذلك بجهات حكومية كانت وكرا للضباط والجواسيسي ويتسللون من خلالها وقتما شاءوا، كجامعة القاهرة أو حديقة الحيوان، أو حديثة الأورمان التي كانت تفصل بين مديرية الأمن والاعتصام.
الدليل الثالث، هو حرص القائمين على الاعتصام على بث كل تفاصيله ليل نهار دون توقف، في الوقت الذي سعت فيه سلطات الانقلاب منذ الأيام الأولى على فرض حالة من التعتيم الإعلامي الكامل على الاعتصام ومنع وصول وسائل الإعلام إليه وعدم تمكنيها من نقل وقائعه، في الوقت نفسه كانت تنشر وتبث أكاذيب كثيرة حوله. ولكن هذه المساعي تحطمت سريعا بجهود المعتصمين ومن بينهم إعلاميين وفنيين ومهندسي اتصالات، وأصبحت هناك عشرات القنوات التي تبث فعاليات الاعتصام للعالم كله على مدار 24 ساعة يوميا. ولا ننسى أن سلطات الانقلاب كانت قد أغلقت كل القنوات الإسلامية بالتزامن مع بيان الانقلاب في 3 يوليو 2013م. فقد نجح مهندسو اتصالات وفنيون وإعلاميون على كسر التعتيم الإعلامي من خلال فك شفرات سيارة البث التابعة للتلفزيون المصري، والتي كان أرسلها وزير الإعلام صلاح عبد المقصود يوم 28 يونيو (قبل الانقلاب بخمسة أيام) لتغطية الاعتصام، حيث تم تشعيل البث وفتحه لكل القنوات الراغبة في النقل والتي لامست 300 قناة عبر العالم، وظلت تلك السيارة في حماية المعتصمين على مدار اليوم خوفا من أي محاولات لتعطيلها، كما نجح أبناء قناة “مصر 25” (الناطقة باسم الإخوان) بعد إغلاق قناتهم في تأسيس قناة جديدة باسم “أحرار 25″، واتخذت من إحدى غرف جمعية رابعة مقرا لها، وفي نفس الوقت كانت قناة الجزيرة تبث فعاليات الاعتصام على مدار الساعة، وكل ذلك نجح في إيصال صوت المعتصمين إلى كل العالم بما في ذلك لحظات الفض نفسها.
وفي يوم الفض (14 أغسطس) استهدف قناصة الداخلية المصورين الصحفيين الذين كانوا يقومون بدورهم في تغطية الحدث، فقتلوا أحمد عبد الجواد (صحيفة الأخبار ومراسل قناة مصر 25) وحبيبة عبد العزيز (صحيفة جلف نيوز)، ومصعب الشامي (شبكة رصد) ومايك دين (مصور قناة سكاي نيوز العالمية)، كما أصابوا عددا آخر من المصورين تماثلوا للشفاء لاحقا. كان هناك حرص أمني على فرض التعتيم الإعلامي بقدر المستطاع على عملية الفض (باستثناء رواية الداخلية والإعلاميين المصاحبين لها)، ولذا فقد كانت سيارة البث التابعة للتلفزيون هي أول المستهدفات بالسيطرة السريعة، وكذا قناة “أحرار 25” التي تبث من الميدان، وقنص المصورين كما ذكرنا. وبالفعل توقف بث القنوات بعد ساعات قليلة من بدء عملية الفض التي استغرقت 12 ساعة، لكنها كانت قد نقلت فظائع الفض، وانهمار القذائف برا وجوا، وسقوط الشهداء والمصابين، وقد تابع العالم كله ذلك على الهواء مباشرة قبل وقف البث.[[2]]
معنى ذلك أن قادة الاعتصام كانوا حريصيين على كشف الحقيقة كاملة بالبث الحي؛ في المقابل كان قادة الانقلاب العسكري حريصين أشد الحرص على طمس الحقيقة ومنع البث التلفزيوني لأنهم كانوا مدركين أنهم يرتكبون جريمة نكراء يتعين أن تتم في الخفاء وبعيدا عن عيون الناس داخليا وعلى المستوى الدولي أيضا. ولذلك لم ينقطع بث هذه الفضائيات في أبشع المواقف سخونة وانتهاكًا لحقوق المعتصمين من مجازر الحرس والمنصة ورمسيس.. فهل سمع أحد يومًا أن مجموعة قررت أن تنظم اعتصامًا مسلحًا ثم تقوم في ذات الوقت بالبث المباشر لما يجري في الاعتصام ليل نهار دون انقطاع؟!. أضف إلى ذلك أن تسمح إدارة هذا “الاعتصام المسلح!” لأي فرد أن يقوم بالتصوير عبر هاتفه الجوال لأي مكان داخل الاعتصام، فلم يسمع قط أن قادة الاعتصام حظروا دخول الهواتف المحمولة أو حظروا التصوير بها داخل مقر الاعتصام، ليس ذلك فقط بل إن آلاف الفيديوهات لكل ما جرى في الاعتصام توثق سلمية الاعتصام والمعتصمين وبشاعة الانقلاب ومليشياته التي فاقت جرائم هتلر وجنكيزخان وعتاة الإجرام عبر التاريخ.
الدليل الرابع، أن قادة الاعتصام أنفسهم ردوا على هذه الافتراءات التي كانت ترددها الآلة الإعلامية التابعة وقتها للجيش والدولة العميقة ورجال الأعمال التابعين لها، وتحت عنوان «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»، نفى قادة الاعتصام هذه الأكاذيب وأعلنوا أنهم على استعداد لاستقبال أي شخص أو جهة للتأكد من عدم صحة هذه الشائعات، وجرى بالفعل استقبال عشرات من السياسيين والوسطاء المصريين والأجانب، كما كان الاعتصام مفتوحا على مصراعيه للإعلام الأجنبي وحتى المحلي، ولم يتم رصد مشهد واحد يبرهن على صحة هذه المزاعم.
الدليل الخامس، على سلمية الاعتصامات بل المسار السياسي كله لرافضي الانقلاب، أن فضيلة المرشد العام الدكتور محمد بديع قد أكد على هذه السلمية من فوق منصة رابعة بقولته الشهيرة «سلميتنا أقوى من الرصاص»، ولا يمكن فهم ذلك إلا من خلال مسار الثورة السورية التي بقيت سلمية لـ6 أشهر كاملة ذاقوا خلالها الويل وجرى قصفهم بالطائرات والدبابات والأسلحة الثقيلة على نحو إجرامي غير مسبوق، ودفعت هذه الوحشية المرعبة من جانب نظام الأسد الثوار إلى حمل السلاح ردا على جرائم النظام ومليشياته الطائفية، فأدى ذلك إلى مقتل نحو ربع مليون سوري في ظل توطؤ دولي وإقليمي. أما في مصر فالمسار مختلف تماما ويحسب للتيار الإسلامي ورافضي الانقلاب أنهم صبروا على أذى مليشيات الانقلاب وقمعها الوحشي وغير المسبوق ولم ينجروا للرد على جرائم السيسي بعنف مضاد ويحولوها إلى ثورة مسلحة وحرب أهلية لا تبقي ولا تذر؛ فجرائم السيسي لا تقل بشاعة عن جرائم بشار ولكن المسار يمضى تحت شعار “سلميتنا أقوى من الرصاص”.. عملاً بقوله تعالى “اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)” الأعراف. وهو رد موسى عليه السلام لقومه المؤمنين على جرائم فرعون وجنوده التي كانت شبيهة بجرائم السيسي وبشار.
الدليل السادس، مذبحة “سيارة الترحيلات” التي وقفعت أحداثها في صباح يوم 18 اغسطس 2013م، حيث لقي 38 مصريا مصرعهم داخل سيارة ترحيلات سجن أبو زعبل، وذلك لأن الضباط المسئولين عن السيارة تركوا المعتقلين بداخلها لنحو 4 ساعات كاملة بدون مياه أو حتى السماح لهم بدخول الحمامات، وأمام صراخات المعتقلين داخل السيارة راح الضباط يسخرون منهم، فطلبوا أولا أن يسبوا الرئيس المنتخب محمد مرسي للسماح بدخول المياه لهم، وطلبوا منهم ثانيا أن يطلقوا على أنفسهم أسماء نساء، فلما فعل بعضهم ذلك راح الضباط يضحكون ويسخرون قائلين: نحن لا نتعامل مع نسوان! فكان المشهد وحشيا بامتياز يعكس كيف تحول الضباط إلى ذئات بشرية افتقدت إلى أدنى معايير الإنسانية، بينما راح يتساقط بعض المعتقلين داخل السيارة من التعب والجوع والعطش والإعياء، و لما اشتد صراخ المعتقلين أطلق الضباط عليهم عدة قنابل مسيلة للدموع فقتل منهم 38 شخصا من أصل 45 كانوا داخلها! هذه الجريمة الوحشية تعصف بكل أكاذيب العسكر وبرواية النظام التي تبناها (الاختيار2)؛ ذلك أنهم ادعوا ظلما وزورا أن الاعتصامات في رابعة والنهضة كانت مسلحة كذريعة لفضها بالقوة المفرطة التي بثتها شاشات عدة وكشفت عن سادية متوحشة ومستويات عالية من الانحطاط والوضاعة والإصرار على الولوغ في دماء الضحايا والتلذذ بإذلالهم وقتلهم على النحو الذي جرى. مسلسل (الاختيار 2) تجاهل هذه الجريمة المروعة لأنها ببساطة تعصف بكل الأكاذيب التي تأسست عليها أسطورة فض الاعتصامات والزعم بأنها كانت مسلحة؛ فماذا عن هؤلاء الضحايا الذين كانوا مقيدين بالكلابشات بأيديهم من الخلف مثنى مثنى، فهل كانوا أيضا مسلحين حتى يتم قتلهم بهذه الخسة والندالة والوضاعة؟!
الدليل السابع، هو المجازر الأخرى التي حدثت قبل الفض وأثناءه وبعده، بل المجازر التي وقعت أثناء ثورة 25 يناير 2011م، مرورا بمجلس الوزراء ومحمد محمود وماسبيرو ومذبحة استاد بورسعيد والعباسية واستاد الدفاع الجوي، وحتى المذبحة التي وقعت بمجرد إعلان الانقلاب وحتى قبل ترويج هذه المزاعم والأكاذيب حول تسليح الاعتصام؛ فمن قتل 23 من رافضي الانقلاب في مذبحة بين السرايات يوم 2 يوليو2013م قبل إعلان الانقلاب بيوم كامل؟ ومن قتل أكثر من مائة شهيد في مذبحة الحرس الجمهوري يوم 8 يوليو بعد الانقلاب ب 5 أيام فقط؟ ومن قتل 10 في مجررة رمسيس الأولى يوم 15 يوليو؟ ومن قتل 11 مصريا منهم 5 نساء في مذبحة المنصورة يوم 20 يوليو التي قتلت فيها هالة أبو شعيشع؟ وفي مذبحة المنصة أكثر من 250 شهيدا وغيرها الكثير؟ ومن قتل أكثر من 50 مصريا في مذبحة ميدان مصطفى محمود يوم الفض؟ ومن قتل العشرات في مذبحة نفق الهرم يوم الفض أيضا؟ فمن قتل هؤلاء في معظم محافظات مصر؟ وهل كانوا أيضًا مسلحين رغم أن هذه الجرائم موثقة بالصوت والصورة؟!.
الدليل الثامن، هو القانون الذي سنه السيسي في صيف 2018م تحت مسمى «معاملة بعض كبار قادة القوات المسلحة»، الذي يجيز له إصدار قرار بتحديد بعض الشخصيات العسكرية ممن تولوا مناصب قيادية في فترة تعطيل الدستور، التي وقعت خلالها أحداث رابعة والنهضة، ومنحهم حصانة نهائية من أي إجراءات قضائية بشأن أي جرائم وقعت منهم، أو بمناسبة توليهم مناصبهم، وكذلك منحهم حصانة دبلوماسية تقيهم الملاحقة القانونية خارج مصر. والسيسي نفسه على رأس الشخصيات العسكرية التي تستفيد من هذا القانون للإفلات من أي ملاحقة قضائية، محلية أو دولية، بسبب اعتصام رابعة، فهو المسؤول الأمني الأول في البلاد وقت الأحداث، ولن يكون بمعزل عن المحاسبة إذا تغير النظام السياسي أياً كانت الطريقة. [[3]] وهذا القانون بحد ذاته برهان ساطع على أن السيسي يعتقد اعتقادا جازما أنه ارتكب مذبحة مروعة تستوجب المحاكمة، ولعله يرى في منامه كوابيس مرعبة هي التي دفته إلى سن هذا القانون الغريب والعجيب من نوعه في عالم التشريع.
الخلاصة أن نظام 3 يوليو العسكري يصر على المضي قدماً في إنتاج هذه الروايات الملفقة المليئة بالأكاذيب والافتراءات، والتي بدأها منذ سنوات من خلال الإعلام والقضاء، والآن من خلال الأعمال الفنية، وهذه الإجراءات والتوجهات لا تعبر عن خطة ممنهجة لتزييف التاريخ، فحسب، بل يعكس أيضاً الخوف الدفين من تحمل النظام وقياداته وزر المذبحة سياسياً وجنائياً في المستقبل، خاصة بعدما حسم خياراته بعدم سلوك طريق العدالة الانتقالية، لتضمنها عنصري المحاسبة والمصالحة، وفي ظل استمرار محاولات تحريك دعاوى ضد قيادات النظام ومؤسساته آنذاك في الخارج. ولا يمكن فهم رسالة مسلسل «الاختيار 2» من خلال نظرية صناعة العدو التي يعتمدها النظام منذ الانقلاب كأساس لشرعيته. ووفقا لكتاب «صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح؟»، للمؤلف «بيار كونيسا» ([4]) فإن نظم الحكم وأجهزة المخابرات ترى في صناعة العدو ضرورة باعتباره حاجة اجتماعية سياسية عليا يحقق كثيرا من الأهداف التي تتعلق بالتماسك المجتمعي وتحميله خطايا الفشل والإخفاق ونعته بأحط الصفات؛ ليلبي نوازع الإحساس الكاذب لدى الطغاة والمستبدين وحتى نظم ديمقراطية بالحسن والتظاهر بالصلاح الكاذب والتقوى المصطنعة. الغريب في الأمر أن السيسي يتهرب من مواجهة العدو الحقيقي (إثيوبيا) ليصنع عدوا وهميا من نصف الشعب المصري (الإسلاميين) بدعوى الحرب على الإرهاب، وينسى أن أثيوبيا هي من تصر على حجز مياه النيل وتجويع مصر، وليس الإخوان أو الثوار، ليصنع لنفسه بطولات زائفة في عالم الدراما هروبا من الفشل والإخفاقات المتلاحقة في العالم الحقيقي.
[1] مجزرة فض “رابعة”: 7 سنوات من التزوير والخوف من الحساب/ العربي الجديد ــ 19 ابريل 2021
[2] قطب العربي/اعتصام رابعة.. الدراما القاتلة/ “عربي 21” الأحد، 18 أبريل 2021
[3] مجزرة فض “رابعة”: 7 سنوات من التزوير والخوف من الحساب/ العربي الجديد ــ 19 ابريل 2021
[4] عرض محمود المنير/قراءة في كتاب: صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح/ مجلة المجتمع 18 مارس 2017 (المؤلف بيار كونيسا ، ترجمة: نبيل عجان
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى: مايو 2015)