السودان الباب الإفريقي، تحاول روسيا في السنوات الأخيرة أن تُعيد فرض نفوذها في مناطق العالم العربي وإفريقيا التي كان لها فيها نفوذ كبير في العصر السوفييتي منذ عقود، ويتجلى هذا في سياستها الخارجية تجاه السودان، وهي دولة كانت مؤيدة للسوفييت منذ 1969 (عندما تولى جعفر النميري السلطة) حتى الانقلاب المدعوم من الشيوعيين في 1971. وتنبع أهمية السودان الاستراتيجية بالنسبة لروسيا من موقعها الجغرافي على طول البحر الأحمر، الذي يربط البحر الأبيض المتوسط بآسيا، وهو أحد أكثر المجاري المائية ازدحامًا في العالم. كان للسوفييت ذات يوم بصمة عسكرية على طول البحر الأحمر في إثيوبيا والصومال وجنوب اليمن، وبالتالي فإن إعادة ترسيخ روسيا لوجودها في المنطقة أمر حاسم في إظهار النفوذ البحري والوصول إلى المحيط الهندي.
وبوجود منشأة بحرية لروسيا في سوريا والتحدث عن المزيد من القواعد في ليبيا، فإن ترسيخها لموطئ قدم في السودان يوفر لموسكو منصات في كل من البحر المتوسط والأحمر، فيما يعد خطوة مهمة في جهود روسيا لتصبح قوة بحرية عالمية. وخلال القرن 21، وخاصة منذ عام 2017، عزَّزت روسيا علاقتها مع السودان في عهد البشير والحكومة الانتقالية الحالية. واليوم، أصبحت السودان واحدة من أكبر أسواق الأسلحة لروسيا في إفريقيا، وبلغت التجارة الثنائية 500 مليون دولار في عام 2018، مما يجعل السودان ثالث أكبر شريك تجاري لروسيا جنوب الصحراء الكبرى. لكن السودان في الوقت ذاته يتطلع لفرص جديدة لتعميق العلاقات مع الغرب، بعد إزالته من قائمة الحكومة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، في أواخر عام 2020. وهكذا يجب على السودان موازنة نفسه جيوسياسيًا بين روسيا والولايات المتحدة، في وقت يُمكن أن ينضغط فيه بسبب المنافسة الأمريكية الروسية على النفوذ في البحر الأحمر.
القاعدة البحرية الروسية بالسودان
في ديسمبر 2020، وقَّعت الخرطوم وموسكو اتفاقية تعاون عسكري فني لإنشاء قاعدة لوجستية بحرية روسية في بورتسودان على ساحل البحر الأحمر. ويُعد هذا المركز البحري هو الأول لروسيا في إفريقيا والثاني خارج الاتحاد السوفيتي السابق، وتهدف الاتفاقية إلى “الحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة”، وتبلغ مدتها 25 عامًا، وهي تسمح للروس بإرساء 4 سفن و300 فرد كحد أقصى في الميناء، كما تمنح روسيا نافذة على إفريقيا. ويمنح الاتفاق لروسيا أيضًا حرية استخدام المطارات السودانية لنقل الأسلحة والذخيرة والمعدات اللازمة لدعم القاعدة. والواقع أن الدافع الرئيسي لهذه الاتفاقية، يكمن في مصالح الطاقة الروسية، حيث أن القاعدة ستساعد موسكو على فرض قدر من السيطرة على تدفق النفط الذي يمر عبر منطقة شمال شرق إفريقيا.
لكن هذا لا يخلو من التحديات، حيث تقع معظم حقول النفط في المنطقة جنوب السودان، لكن صادرات النفط تعتمد بشكل كامل تقريبًا على جمهورية السودان. وإذا كانت روسيا تهدف بالفعل إلى السيطرة على تدفقات النفط في هذه المنطقة، فإنها تحتاج إلى امتلاك محطة بورتسودان النفطية المهمة استراتيجيًا. وفي أبريل 2021؛ أفادت مصادر إعلامية مختلفة بأن الخرطوم ألغت الاتفاقية بضغط من إدارة بايدن؛ إلا أنه تم نفي الخبر من الجانب الروسي وأظهرت وسائل الإعلام السودانية وصول سفينة حربية روسية في 1 مايو، لكن الحكومة السودانية لم تُعلق على هذه المزاعم، ولم تكن هناك مستجدات في الأسابيع التي تلت هذه التقارير.[1]
ومؤخرًا؛ تداول البعض أنباء عن كون السودان قد أخطر الجانب الروسي بتجميد اتفاقية إقامة قاعدة روسية على شواطئه على البحر الأحمر إلى حين إجازتها أو رفضها من البرلمان الانتقالي الذي لم يُشكَّل بعد. وفي وقتٍ سابق أكدت السفارة الروسية في الخرطوم أن هناك خلافًا بين الخرطوم وموسكو فيما يتعلق باتفاق القاعدة؛ ولكن تدعو الأخيرة لحل وسط بين البلدين. وفي سياق متصل، أوضح رئيس الأركان السوداني محمد عثمان الحسين أن السودان بصدد مراجعة تلك الاتفاقية التي وُقِّعت في عهد النظام السابق، وأشار لوسائل إعلام محلية إلى أن المحادثات التي جرت مؤخرًا مع وفد روسي برئاسة نائب وزير الدفاع الروسي في 22 مايو الماضي، هدفت لإعادة النظر في الاتفاقية بما يحقق مصالح السودان نوإعادة تقييم الخرطوم لعلاقاتها مع موسكو انطلاقًا من جزئية التعاون الأمني خاصةً والمتعلقة بإنشاء المركز اللوجستي الروسي علي السواحل السودانية.
وبعيدًا عن ما تشمله تفاصيل العلاقات السودانية الروسية فإن احتمالية إلغاء الاتفاقية يعود لعدة أسباب: أولها؛ إدراك الخرطوم بأن إنشاء قاعدة في السواحل السودانية يزعج أصدقائها الإقليمين والدوليين. وثانيها؛ إن توجه الحكومة باتجاه التقارب مع الغرب، والذى أبدى استعداده في التعاون معها على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني، ستكون ضمن شروطه المُدرجة للخرطوم التراجع عن التفاهمات التي تمت مع روسيا، حتى لا يتم تحميل الخرطوم خلل التوازن الإقليمي القائم في منطقة البحر الأحمر، باستدعائها لوافد جديد.[2]
السودان وتركيا
في أول زيارة رسمية لوفد سوداني إلى تركيا منذ الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام البشير، وصل النائب الأول لرئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى أنقرة في 27 مايو 2021، في زيارة استمرت ليومين، على رأس وفد كبير تضمن وزراء الزراعة والغابات، والطاقة والنفط، والثروة الحيوانية، والنقل، والتنمية العمرانية والطرق والجسور، بالإضافة إلى عدد من المسئولين. وتم خلال الزيارة بحث العديد من الملفات والقضايا المشتركة، بيد أن السياق الإقليمي الراهن والتطورات المتسارعة التي تشهدها قد تضفي أهمية خاصة لهذه الزيارة، خاصةً وأنها تأتي بعد فترة من الفتور والجمود في العلاقة بين البلدين.
أهداف ومُخرجات الزيارة:
نتج عن الزيارة مجموعة من المُخرجات الهامة.
فعلى المستوى الاقتصادي؛
تم توقيع عدة اتفاقيات اقتصادية بين البلدين، بلغت قيمتها نحو 10 مليار دولار، كما تم بحث القضايا المتعلقة بالاستثمارات السابقة وإحياء الاتفاقيات القديمة، في إشارة إلى الاتفاقيات الـ 22 التي تم توقيعها بين الخرطوم وأنقرة في عدة مجالات في ديسمبر 2017 بعد الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب أردوغان إلى السودان. كما تضمنت الزيارة جلسة مباحثات مطولة مع نائب الرئيس التركي فؤاد أقطاي لبحث تعزيز التعاون المشترك بين البلدين في العديد من المجالات، وقد أعلن أقطاي عن دعم بلاده للسودان خلال المرحلة الراهنة، مشيرًا إلى سعى أنقرة إلى رفع حجم التبادل التجاري مع الخرطوم إلى مليار دولار(يبلغ حاليًا حوالي 481 مليون دولار).
أما على المستوى السياسي؛
فيرى البعض أن زيارة الوفد السوداني لتركيا تُمثِّل أحد إفرازات التقارب المصري- التركي والمصري– القطري، حيث بدأت العلاقات السودانية تتطور بالدوحة وأنقرة خلال الفترة الأخيرة، ولا يمكن استبعاد الربط بين زيارة حميدتي لتركيا وزيارة وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثان للخرطوم. بينما يرى البعض الآخر أن هناك علاقة بين زيارة حميدتي لتركيا وبين محاولة بعض القوى الأوروبية الحصول على مساعدة قوات الدعم السريع التي يقودها في ضبط الهجرة غير الشرعية عبر بوابة ليبيا إلى أوروبا، ومنع دخول أي عناصر إلى ليبيا.
ويرى هؤلاء أن الدعم ينطوي على وجود اتفاق بين الجانبين يتضمَّن التزام قوات الدعم السريع بضبط عمليات الهجرة غير الشرعية وضبط الحدود مع ليبيا لوقف دخول أي عناصر أو مقاتلين إليها، مقابل الحصول على أنظمة متقدمة للدعم اللوجستي بالإضافة إلى طائرات الدرون التركية. لكن على الرغم من إشارة أنصار هذا الادعاء بأن اختيار حميدتي من بين أعضاء مجلس السيادة السوداني للقيام بزيارة أنقرة ربما يدعم طرحهم، بيد أنه حتى الآن يبقى مجرد افتراض غير مدعوم بأي أدلة حقيقية، خاصةً وأن اهتمام مجلس السيادة والحكومة السودانية في الوقت الراهن منصبًا على أزمة سد النهضة وملف استيعاب بقية المجموعات المسلحة، كذلك فالوفد المرافق لحميدتي كان قد تضمن العديد من الوزراء في مجالات متنوعة، مما يعكس دلالات هامة بأن هدف هذه الزيارة هو اقتصادي بالأساس.[3]
الخُلاصة
تسعى الخرطوم إلى الحفاظ على سياسة خارجية متوازنة بين واشنطن وموسكو، لكن هذا سيعتمد على مشهد الحكم الحالي في السودان، والذي يقوم على اتفاق لتقاسم السلطة بين قيادة الجيش والمكون المدني. فالجيش أحرص على الاقتراب أكثر من روسيا، في حين أن المكون المدني أكثر ميلًا بكل إخلاص لجانب الولايات المتحدة. وتسعى الإدارة الحالية إلى تمييز سياستها الخارجية تجاه روسيا عن سابقتها. في الوقت نفسه، يحاول البيت الأبيض إغراء الخرطوم بالتقرُّب من واشنطن مع استغلال الديناميكيات الجديدة في العلاقات الأمريكية السودانية التي نتجت عن رفع تصنيف الإرهاب العام الماضي.
أما عن تركيا؛ فتعكس زيارة النائب الأول لرئيس مجلس السيادة السوداني إلى تركيا أحد ملامح التطورات الراهنة التي تشهدها المنطقة. فمن ناحية؛ تغيير النهج التركي في المنطقة والعمل على تعزيز علاقاتها بمصر وحلفائها (منها السودان). ومن ناحية أخرى؛ يبدو أن تركيا تسعى للاستفادة من قرار رفع السودان من قائمة الإرهاب لتنمية استثماراتها في الخرطوم، وفي هذا الإطار؛ لا يُمكن استبعاد فكرة التنافس التركي– الفرنسي في هذا المجال، خاصةً وأن زيارة حميدتي لأنقرة جاءت بالتزامن مع مؤتمر باريس الذي رعاه الرئيس الفرنسي ماكرون بهدف دعم السودان، ومن ثمَّ فمن ناحية تُمثِّل هذه الزيارة في أحد أبعادها محاولة من قِبل تركيا للاستفادة من السوق السودانية الواعدة والتي تحتاج إلى استثمارات كبيرة ويتوقع أن تشهد منافسة دولية وإقليمية كبيرة، بالإضافة إلى ذلك يبدو أن الخرطوم باتت تمثل أحد ساحات التنافس بين باريس وأنقرة.
[1] جورجيو كافيرو، “كيف أصبح السودان ساحة معركة مهمة في الصراع بين أمريكا وروسيا؟”، الخليج الجديد، 7/6/2021.
[2] بكري عبد الرحمن، “إريتريا ستكون الوجهة البديل للقاعدة الروسية في السودان”، فيس بوك، 5/6/2021.
[3] عدنان موسى، “مؤشرات متعددة: ما هي دلالات زيارة “حميدتي” لتركيا؟”، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، 1/6/2021.