منذ هلاك الجيش المصري غرقا في مياه البحر الأحمر في عهد فرعون ( 1200 ق م تقريبا ويرجح أنه رمسيس الثاني)، وذلك عندما كان يلاحق نبي الله موسى عليه السلام والمؤمنين معه فشق الله البحر لرسوله موسى عليه السلام لإنقاذ المؤمنين المستضعفين معه من بطش فرعون وجبروته، لم تعرف مصر بعدها جيشا نظاميا على النحو الذي كان في عهد الفراعنة.
قد كان جيش مصر في هذه الفترة منظما، لكنه كان يفتقد إلى الإنسانية والقيم الأخلاقية، وقد سجل القرآن الكريم كثيرا من جرائم هذا الجيش في حق المؤمنين المستضعفين حتى استحق هذه النهاية المؤلمة والمخزية ليكون عبرة لكل جيوش الأرض من بعده؛ ولم تعرف مصر بعد جيشها الغارق جيشا مثله؛ لأنها مرت بمراحل طويلة من الضعف والهشاشة، واحتلها الفرس واليونانيون والرمان لنحو ألفي سنة، وفي هذه الأثناء حيل بين المصريين والجيش، فقد كان كل غازٍ يأتي بجيشه وحاميته العسكرية، ومنع المصريون من حمل السلاح حتى لا يمثلوا على الغزاة خطرا أو يفكروا في تحرير بلادهم من الدخلاء المعتدين.
وعندما جاء الفتح الإسلامي لمصر، لم يكن لها جيش لأنها كانت ولاية رومانية محتلة، فانتصر المسلمون على الحامية الرومية حتى طردوهم من مصر. منح المسلمون المصريين كثيرا من الحرية في الاعتقاد والفكر والحركة والتجارة وأعادوا لمذهبهم الديني الاعتبار بعد أن كانوا مضطهدين في عهد الرومان. وأمام المكانة الرفيعة التي يحظى بها نبي الله عيسى وأمه في القرآن بوصفه رسولا من أولى العزم من الرسل وأمه صديقة هي خير نساء العالمين وجد كثير من الأقباط في الإسلام وعقيدته صفاء ونقاء وتصحيحا لما اعترى دينهم من بدع خلال المرحلة الرومانية التي امتزج فيها السياسي بالديني على النحو الذي جرى في المجمع المسكوني الأول (عقد سنة 325م في مدينة نيقية التركية) في عهد الإمبراطور قسطنطين الأول (306 م حتى 337م) والذي اتخذ خلاله المسيحية دينا عاما للإمبراطورية كلها بعدما انحاز للرأي الذي حاز له الأكثرية بين الرهبان والبطارقة حول طبيعة السيد المسيح عليه السلام.
بعد الفتح الإسلامي دخل جل الأقباط في الإسلام أفواجا، والتحق بعضهم كضباط أو جنود داخل جيش الولاية التابع للخليفة. وحتى الدول التي حاولت الانفراد بحكم مصر عن الخلافة كالطولونيين والإخشيديين والفاطميين والأيوبيين والمماليك كانت جيوشهم خليطا من المصريين وغير المصريين؛ لأن الحدود بين الولايات كانت مفتوحة ولم تكن لها الحدود السياسية الدقيقة على النحو المعروف حاليا.
وعندما هيمن العثمانيون على العالم الإسلامي في القرن السادس عشر الميلادي( بعد هزيمة المماليك أمام العثمانيين في معركتي مرج دابق 1516م والريدانية 1517م) بقيت مصر ولاية عثمانية، ولم يكن يلتحق بالجيش إلا المماليك وأبناء المماليك الذين خضعوا للسلطان العثماني، ومنع المصريون من الالتحاق بالجيش لاعتبارات تتعلق بالسياسية العليا للسلطنة، تتعلق بحاجة الدولة العثمانية إلى بسط وتوسيع الإنتاج الزراعي في مصر لتحقيق الاكتفاء الذي تحتاج إليه دولة الخلافة والولايات الأخرى من القوت والغذاء والخامات التي تستخدم في كثير من الصناعات الآخرى.
تأسيس الجيش المصري الحديث
بعد نحو “3200” سنة من هلاك الجيش المصري في عهد رمسيس الثاني، يعتبر محمد علي باشا الذي حكم مصر ما بين 1805 حتى 1848م، هو مؤسس الجيش المصري بشكله الحديث والنظامي على النمط الغربي، والذي يمكن أن يمثل امتدادا للجيش الأول في عهد الفراعنة.
وهناك عدة ملاحظات:
أولا، مرجعنا فيما يتعلق بأسرار فترة محمد علي باشا، هو كتاب «كل رجال الباشا» للباحث خالد فهمي، وهو شخصية أكاديمية معروفة اكتسب شهرته الواسعة من هذا الكتاب الذي أُلِّف أصلا بالإنجليزية كرسالة للدكتوراه قضى فيها عشر سنوات، ثم نقله شريف يونس إلى العربية. لم يعتمد فيه على الروايات الرسمية وتاريخ الباشا الذي دونه أحفاده ورجاله وتشكل عبر وثائقه الموجودة بدار الكتب المصري وهي الوثائق التي جرى غربلتها والاعتماد فقط على الرواية الرسمية للسلطة التي تصنع هالة أسطورية للباشا وإبعاد ما سواها من وثائق تدين فترة عهد الباشا وتوثق ما جرى في عهده من جرائم وحشية بحق المصريين.
ثانيا، على الرغم مما يحظى به الحكم العثماني لمصر من تشويه من جانب النظام العسكري في مصر حاليا بوصفه غزوا واحتلالا إلا أن محمد علي باشا يحظى بتقدير واسع رغم أنه ألباني الأصل وكان أحد ضباط الحامية العثمانية التي جاءت لدعم المصريين ضد الغزو الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت (الحملة الفرنسية 1798 ــ1801م)، ويعتبره العسكر والعلمانيون باني مصر الحديثه وجيشها النظامي؛ فهو أول من أدخل العلمانية بمفهومها الغربي وأتى بالقوانين الوضعية الغربية بديلا لأحكام الشريعة الإسلامية، وهو من أدخل النمط الغربي في الحكم والإدارة والنظام العسكري، وهو أول من حطم الجدار بين مصر والغرب حتى تحولت القاهرة إلى قبلة للغربيين من كل دولة؛ حتى تمكن من إقامة دولة قوية بمفهومها المادي، ولكنها فقيرة بمفهوما الحضاري والإنساني والفكري والأخلاقي، وكان شديد البطش والقمع والطغيان وحكم مصر لنحو أربعين سنة بالحديد والنار.
ثالثا، الفارق الجوهريَّ بين مشروع محمد علي التحديثي ومثيله الغربي يكمن في أن النموذج الغربي تأسس ليُساير الانتقال من الزراعة للصناعة من أجل حسن إدارة الدولة وتحسين رفاهية مواطنيها، في حين تأسست الدولة المصرية الحديثة بدافع طموح عسكري للباشا، في سياق صراعه على النفوذ والسلطة. معنى ذلك أن الدولة الغربية الحديثة تمحورت في نشأتها حول المواطن وسخرت كل إمكانياتها من أجل الشعب وإسعاده وتحقيق الرفاهية له، بينما تمحورت الدولة المصرية الحديثة حول الجيش الذي كونه الحاكم كأداة يوظفه من أجل تكريس حكمه وتوسيع مملكته وقهر شعبه من أجل فرض تصوراته التحديثية التي ارتبطت بالنمط الغربي في شقيه المادي والفكري.
رابعا، الهدف من بناء الدولة المصرية الحديثة على النمط الغربي في عهد محمد علي كان خدمة الجيش الحديث والنظامي على النمط الفرنسي، فقد بدأ الباشا في تأسيس الجيش سنة 1815م أثناء حملته على الحركة الوهابية في بلاد الحرمين وهي الحركة التي كانت تطالب بالإصلاح الديني وترفض الانحرافات التي بدأت تظهر في دار الخلافة والسلطنة العثمانية. وقد حظي محمد علي بمكانة رفيعة لدى السلطان العثماني في أعقاب نجاحه في إخضاع بلاد الحجاز والقضاء على الحركة الوهابية للإصلاح الديني في بلاد الحجاز (1811 ــ 1818) بقيادة ابنه إبراهيم، ثم استعان به السلطان لإخضاع الفتنة في اليونان لكن الدول الغربية (إنجلترا وفرنسا وروسيا) تمكنت من تدمير الأسطول المصري الذي كان يعد أحد أقوى الأساطيل في العالم حينها، في معركة «نافارين البحرية» عام 1827 كجزء من حملة المورة. وتسبب انفتاحه على الغرب في توسيع نفوذ الأوروبيين في مصر ما تسبب في النهاية لخضوع القاهرة للقوى الغربية بعدما شاخ الوالي وانهارت عزيمته فوقع على اتفاقية لندن سنة 1840م. وهي الاتفاقية التي قوضت التجربة العلوية ودفعتها إلى الضمور والتراجع أمام التحالف الغربي.
خامسا، تولى الإشراف على تأسيس هذا الجيش المصري النظامي «چوزيف انتيلمى سيف Joseph Anthelme Sève» وهو ضابط فرنسي كان من جنود نابليون في غزوه لمصر وحروبه بأوروبا، ومع غروب إمبراطورية نابليون الفرنسية جرى تسريح آلاف الضباط والجنود، بعد تسريحه عرض جوزيف خدماته على الباشا محمد علي بتوصية من الكونت الفرنسي دي ساجور، الذي كان حينها ياورًا عند الإمبراطور الفرنسي. «الضابط جوزيف هو من عُرف لاحقاً باسم «سليمان باشا الفرنساوي» بعدما أعلن إسلامه، لكن بلده الأصلي في ليون الفرنسية مسقط رأسه لا تزال تحتفظ بتمثال لجوزيف الفرنساوي الذي أسس الجيش المصري الحديث»[[1]]؛ فمنذ متى يحظى من يتركون النصرانية ويدخلون في الإسلام بتقدير بلادهم الأصلية؟!، الأمر الذي يثير كثيرا من الشكوك حول سيرة الرجل وما دفع به إلى مصر للقيام بهذه المهمة وتشكيل جيش مصر على النمط الغربي العلماني القائم على القهر والإذلال.
التجنيد الإجباري
أراد محمد علي أن يصنع لنفسه جيشا نظاميا حديثا على النمط الفرنسي؛ فجند السودانيين، فكان جنوده يهجمون على البلدات السودانية فينتزعون الناس كأنها غارة على بلادهم، حتى انتزعوا 20 ألف سوداني، وباعوا النساء والأطفال والعجائز، وأخذوا من يصلح للقتال، فصاروا يموتون من الأوبئة أو من عدم تحمل قسوة المعاملة، ولم يتبق إلا 3 آلاف منهم، حتى رأى محمد علي أنه يدفع المبالغ الطائلة دون فائدة فكف عن تجنيد السودانيين. ولم يفكر محمد علي في بادئ الأمر في تجنيد المصريين لأنه كان يرى أنهم يتحملون العمل في الزراعة ولم يرد أن يقلل من القدرة الإنتاجية، لكن عندما فشل في تجنيد السودانيين، صار يجند المصريين، فتم جمعهم بكل وحشية.
ضم الجيش في تأسيسه عددا قليلا من الضباط الترك والألبان وحتى الفرنجة على رأسهم الضابط جوزيف الفرنساوي، حتى صدر أول مرسوم للتجنيد الإجباري في مصر في خطاب مؤرخ بتاريخ 18 فبراير/شباط 1822م. وفي تعليله لهذا الفرمان وتجنيد المصريين إجباريا أوضح المرسوم أن السبب هو الحرص على حياه الضباط حتى يظلوا قريبين من الوالي ولا يرسلون إلى المناطق البعيدة، في إشارة إلى حرصه على حمايتهم من الأخطار؛ وبالتالي فقد كان تجنيد المصريين لا علاقة له بالوطن بل لدفع الجنود إلى النقاط الساخنة والملتهبة للحفاظ على حياة الضباط وحمايتهم من المخاطر.
تحت إشراف الضابط جوزيف الفرنساوي تم انتزاع الفلاحين من أرضهم بكل وحشية نحو التجنيد الإجباري؛ وهو ما قوبل برفض واسع؛ فالمصري يرتبط بأرضه ارتباطا وثيقا وانتزاعه من أهله وأسرته وأرضه رآه المصريون جريمة تقوم بها السلطة وشكلا من أشكال السخرة والاستعباد لأهداف لا علاقة لها بمصلحة الناس بقدر ما تستهدف تحقيق أطماع الوالي في التوسع وتكريس حكمه وجعله أكثر مركزية. تقول مراسلات الباشا لضباطه إنَّه أراد استعمال اللين والإقناع في تجنيد المصريين في البدء. إلا أنَّ المصريين تلقوا تلك الدعوات بآذان فارغة. فقد كره المصريون الانضمام للجيش المصري، وقاوموا بكل الأشكال، بدءاً بالتمرد الصريح وعدم دفع الضرائب، مروراً بتنبيه القرى بعضها حتى إذا أتت الحملة على قرية وجدتها خاوية على عروشها في مشهدٍ حزين.
وكانت حملات التجنيد الإجباري تقوم بها قوات نظامية تحاصر القرية وتنتقي منها الرجال القادرين على حمل السلاح، ويؤخذون قسرا ثم يربطون من أعناقهم بالحبال في مجموعات من ستة أو ثمانية أشخاص، ويسحبون خلف حملة التجنيد وسط لطم وصراح النساء وبكاء الأطفال. ولا يعلم الرجال لما يساقون أو متى يعودون إلى قراهم وأراضيهم التي قد تبور وعائلاتهم التي قد تتشرد.[[2]] وداخل المعسكرات كان يتم التعامل بكل وحشية وإذلال مع المجندين، حيث يمرون داخل هذه المعسكرات بأهوال تجعل منهم مجرد أدوات بالغة الانهزام النفسي والاستسلام لأوامر الضباط، فهم مجرد عبيد لا دور لهم في الحياة إلا الطاعة العمياء والمطلقة لسادتهم الضباط، وهي ذات الفلسفة التي تحكم عمليات التجنيد الإجباري داخل معسكرات الجيش المصري حتى يومنا هذا، وهي الفلسفة التي بنى عليها الجنرال الفرنسي الجيش المصري وكرسها من جاءوا بعده مهما تغيرت النظام واختلف الحكام.
وكلما ثار المصريون ضد التجنيد الإجباري أخمدهم محمد علي بكل عنف وقسوة؛ وهناك وثائق تشير إلى مقتل نحو 4 آلاف من أهالي الصعيد رفضوا التجنيد الإلزامي، وفي المنوفية ضربهم بالمدافع من أجل إجبارهم على التجنيد كما ذكر صاحب كتاب “كل رجال الباشا”. وهناك قصة مشهورة بأن أحد المجندين عندما هجموا على قرية وجد أباه بين المنتفضين ضد التجنيد الإجباري وسياسات محمد علي فقتله، ولما بلغ الخبر للباشا امتدح سلوك الجندي وكافأه على ذلك!. ولإخماد ثورة المصريين لجأ الباشا إلى إجراءات وتدابير بالغة العنف والبطش فقتل الرجال والنساء وحتى الأطفال والشيوخ والعجائز ونكل بالكثيرين حتى يردع الباقين، حتى فر بعض المصريين من بلدهم رفضا للتجنيد الإجباري في الجيش المصري ولجأ بعضهم إلى إصابة نفسه بعاهة مستديمة فرارا من التجنيد؛ فصدر مرسوم من الباشا بتجنيد أحد أقارب من يصيب نفسه بعاهة بدلا منه وأن كل أم ستساعد أبناءها على ذلك سيتم معاقبتها بالسجن.
شُكلت هيئة عليا أشرفت على تقسيم الجنود إلى 5 (كتائب)، وعلى أنواع التدريبات، ومدى قوتها وجدّتها، وألّفت من محمد علي وابنه إبراهيم ومحمد لاظوغلي “ناظر الجهادية فيما بعد”، وسيف “الضابط الفرنسي” وطاهر باشا “مدير مديرية جرجا”، فكانت النواة الأولى أربعة آلاف مصري من الفلاحين، لكن بعد عام واحد فقط اجتاحت موجات التجنيد البلاد، وبعد أقل من عام كان 30 ألفًا من الفلاحين يتدربون بالفعل في المعسكر الجديد الذي أُقيم في “بني عدي” القريبة من منفلوط في مصر الوسطى، ومنذ ذلك التاريخ 1822م أصبح التجنيد في مصر تجنيدًا إجباريًا.
وبحلول شهر يونيو من عام 1824، أصبح لدى محمد علي ست كتائب من الجند النظاميين، يتجاوز عددهم 25 ألف جندي، فأمر بانتقالهم إلى القاهرة. بذلك أصبح لمصر جيش نظامي بدأ يتزايد باطّراد حتى بلغ 169 ألف ضابط وجندي في إحصاء تم عام 1833، وإلى 236 ألف في إحصاء تم عام 1839. كما أنشأ محمد علي ديوانًا عرف بديوان الجهادية لتنظيم شؤون الجيش وتأمين احتياجاته من الذخائر والمؤن والأدوية، وتنظيم الرواتب. كانت أول مشاركات هذا الجيش في حرب المورة، التي أظهرت ما وصلت إليه العسكرية المصرية، وهو ما جعل لها شأنًا بين القوى العسكرية المعاصرة، وقد اعتمد عليه إبراهيم باشا في حملته على الشام والأناضول.[[3]]
الدولة في خدمة الجيش
فكرة تأسيس جيش حديث تتطلب بالضرورة تأسيس دولة حديثة، تستطيع أن تدوِّن الواقع وتضع الحياة في القوالب المكتبية، وخطوط إمداد الجيش تحتاج إلى أسطول ضخم من البيروقراطيين لتسجيل أحوال الجيش وإمداده بكل شيء من طعام وشراب وذخيرة وحتى الزي العسكري. [[4]] وهكذا كانت الدولة التي أنشأها محمد علي مهيأة لخدمة الجيش، فأنشأ إحصاء عاما ليس لمصلحة الناس وإنما لكي يعرف عدد من يصلج للتجنيد من شبابها ورجالها، وأنشأ المستشفيات لكي يعالج الأمراض التي أصابت الجنود نتيجة الحروب، وأنشأ الدواوين والدفاتر للتسجيل والتوثيق لكي يسيطر على خدمة الجيش، وأنشأ البطاقات الشخصية لكي يكافح التهرب من الجيش، حتى نشأ الجهاز الإداري للدولة والكتاب والإداريين والأطباء، والإعلام والوعاظ لإقناع الناس بفضل الجندية، وطاعة الحاكم، وهذه القناعة لازالت موجودة حتى عصرنا هذا، فهم يروون أن الدولة خادمة للجيش وليس الجيش خادما للدولة ويخضع لسيادة شعبها ككل الجيوش الاحترافية في العالم المتحضر.
عقيدة الجيش القتالية
اتجه الجنرال الفرنسي في بناء عقيدة الجيش النظامي الجديد عبر تغيير الأفكار وصناعة عقيدة جديدة خلاصتها أن تكون الطاعة المطلقة للحاكم وحده، والضباط باعتبارهم نواب عن الحاكم. وعبر عمليات التربية العسكرية على الضبط والربط والانضباط للأوامر ثم الوحشية التي جرى بها التعامل مع المجندين حتى يصبحوا عجينة قابلة للتشكيل الذي يريده الحاكم، جرى كسر نفوسهم واستعبادهم وتمت عمليات غسيل مخ عبر أدوات القهر والتلقين والأوامر، وجرى ترسيخ هذه المفاهيم في عقولهم وأذهانهم بهدف إنتاج جندي كالآلة يطيع وينفذ الأوامر دون نقاش أو تفكير أو حتى مرجعية أخلاقية أو دينية.
فالأوامر الصادرة هي بحسب هذه التربية العسكرية أعلى قدسية من الأحكام الدينية والقيم والمبادئ الأخلاقية ذاتها. وكانت العقوبات الغليظة التي جرى إيقاعها بالمخالفين للأوامر هي التي مهدت الطريق لتكوين مثل هذه النوعية من المجندين الغلاظ الشداد الذين لا يعصون الحاكم فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
لم ترتبط عقيدة الجيش بأي قيمة إسلامية أو وطنية، بل على العكس فإجراءات التأسيس وطرق التجنيد تخالف قيم الإسلام وأحكامه بصورة كبيرة، ولم يدِّع محمد علي نفسه أنه يجند المصريين لنصرة الإسلام أو حتى لحماية الوطن لأن الدولة الوطنية لم تكن معروفة وقتها على النحو الذي هي عليه الآن. ولكن الهدف الأساسي هو تنفيذ أوامر ولي الأمر دون نقاش أو تفكير. فهذا الجيش قتل المسلمين من أنصار الشيخ محمد بن عبدالوهاب في بلاد الحرمين لدعوتهم إلى الإصلاح الديني من جهة ورفضهم لبض الانحرافات التي ظهرت على السلطنة العثمانية من جهة ثانية، وقضى الوالي على هذه الحركة باعتبارها تمردا حتى يتقرب إلى السلطان ويحظى بضم بلاد الشام لتكون تحت حكمه ويوسع ولايته.
وبهذا الجيش جرى قهر المصريين وإذلالهم على نحو رهيب رصدنا بعضه في هذه الورقة البحثية. وعندما تعارضت المصالح شن الباشا بهذا الجيش حربا على السلطان والجيش العثماني الذي كان يمثل رمزا للمسلمين وقتها رغم ما بالسلطنة من انحرافات. وحتى من الناحية الساسية فإن محمد علي هو أول من أخضع الأزهر للسلطة وأول من عين شيخا للأزهر وقبل ذلك كان شيخ الأزهر ينتخب من كبار علمائه من كل المذاهب الإسلامية.
الأمر الآخر، أنه وفقا لاتفاقية “لندن” سنة 1840م فقد جرى تخفيض عدد الجيش، وأوكل له حفظ الأمن الداخلي وحماية نظام الحكم فقط بقمع الشعب إذا طالب بالإصلاح، أما حماية الحدود فليست من اختصاصه، وإنما كانت دائما وظيفة الغرب، ونصت الاتفاقية على أن “يكون الإنجليز هم المسؤلون عن الحدود وأن يكون دور الجيش حفظ الأمن الداخلي.
الخلاصة أن الدولة المصرية الحديثة التي أسسها محمد علي باشا نشأت لخدمة الجيش النظامي الحديث، وهذا الجيش ما نشأ إلا بهدف واحد هو تحقيق أطماع الباشا التوسعية وحماية نظامه ضد كل التهديدات والأخطار. فالدولة المصرية خادمة للجيش والجيش خادم للحاكم وأداته لإخضاع الشعب وقهره إذا طالب بالحرية والإصلاح.
[1] ماهر حسن/ عاشق مصر ومؤسس جيشها سليمان باشا الفرنساوى/ المصري اليوم ــ الخميس 15 مارس 2018م
[2] عبد الرحمن إبراهيم يسري/ محمد علي وجيش مصر: التحديث من أجل التوسُّع/ إضاءات ــ29 نوفمبر 2019
[3] الرافعي, عبد الرحمن (2000). “الجيش”. تاريخ الحركة القومية، وتطور نظام الحكم، ج3 عصر محمد علي. القاهرة: مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب. صفحات ص 325-366. ISBN 977-01-6930-7.
[4] عبد الرحمن إبراهيم يسري/ محمد علي وجيش مصر: التحديث من أجل التوسُّع/ إضاءات ــ29 نوفمبر 2019