ثمَّة تحولات جوهرية يشهدها الداخل الإثيوبي، وتعكسها التطورات الراهنة بما فيها من تغير للديناميات السياسية في إقليم تيجراي عقب إعلان الحكومة الفيدرالية وقف إطلاق النار من جانب واحد في 28 يونيو 2021؛ بناءً على طلب الإدارة المؤقتة في الإقليم قُبَيل انسحابها هي الأخرى من الإقليم إلى أديس أبابا، وتزامنًا مع سيطرة قوات دفاع تيجراي على العاصمة ميكيلي والمدن الرئيسية في الإقليم، وذلك عقب طردها للقوات الحكومية الإثيوبية من معظم أجزاء الإقليم، وتراجع القوات الإريترية إلى قرب الحدود المشتركة مع إقليم تيجراي. وهو ما يفتح المجال أمام العديد من السيناريوهات المحتملة حول مستقبل هذا الصراع القائم، وحول مستقبل العلاقة بين الحكومة الفيدرالية وإقليم تيجراي، وانعكاس ذلك على مستقبل الدولة الإثيوبية، وارتباط ذلك بمستقبل الأمن الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي ككل.
أسباب هزيمة القوات الإثيوبية في تيجراي: برغم تبرير آبي أحمد إطلاق العملية العسكرية ضد إقليم تيجراي في 4 نوفمبر 2020م بهدف القضاء على جبهة تحرير تيجراي وتنصيب إدارة إقليمية موالية للحكومة الفيدرالية في المنطقة، والتي أرجع أسبابها إلى هجوم قوات الإقليم ضد المنطقة الشمالية العسكرية للجيش الإثيوبي الواقعة في شمال تيجراي، وهي أسباب ظاهرية لإخفاء الأهداف الحقيقية لإصراره على استمرار الحرب الإثيوبية ضد الإقليم ضاربًا بعرض الحائط جميع النداءات الدولية بإنهائها، ووصولًا إلى إعلانه الانتصار في تلك الحرب بعد مرور 24 يومًا على انطلاقها.
وبالرغم من وجود العديد من التقارير التي تفيد باستمرار مقاومة قوات دفاع تيجراي للقوات الإثيوبية، ليأتي انسحاب القوات الإثيوبية من إقليم تيجراي في 28 يونيو الجاري ليدحض ادعاءات الحكومة الإثيوبية بتحقيق الانتصار في هذه الحرب، بالرغم من تأكيد رئيس الوزراء الإثيوبي على تحقيق العملية العسكرية لأهدافها بتقليص قدرات تيجراي الاقتصادية والعسكرية مما يمنعها من تهديد أمن إثيوبيا، في ضوء اتهامه لجبهة تحرير تيجراي بوضع استراتيجية لحرب طويلة الأمد تستهدف إضعاف إثيوبيا. ومع التحول النوعي الذي طرأ على المشهدين السياسي والأمني في إقليم تيجراي بهزيمة القوات الإثيوبية على يد قوات دفاع تيجراي وانسحابها من معظم أجزاء الإقليم، يبدو من الضروري معرفة أبرز الأسباب التي أسهمت في هزيمة قوات آبي أحمد على يد جبهة تحرير تيجراي، والتي تتمثل أبرزها في:[1]
- نجاح تكتيك حرب العصابات: فقد خالفت قوات دفاع تيجراي كافة التنبؤات بإمكانية تفككها بعد الهجوم الإثيوبي الإريتري عليها، واستطاعت إعادة ترتيب صفوفها مجددًا واستقطاب عناصر جديدة لصفوفها، ونجحت في شن العديد من العمليات العسكرية ضد القوات الإثيوبية على مدار الشهور الثمانية الماضية، وفقًا لتكتيك “حرب العصابات” الذي منحها الأفضلية؛ نظرًا لخبرتها الكبيرة بجغرافيا الإقليم، الأمر الذي مَكَّنها من هزيمة التحالف الثلاثي ضدها، والذي يضم إلى جانب القوات الفيدرالية الإثيوبية، القوات الإريترية وميلشيات قومية أمهرة.
- تراجع الحلفاء: ثمة تراجع للقوات الإريترية في الإقليم إلى أطراف إقليم تيجراي عند الحدود المشتركة بينهما، في ضوء التخوف القائم لدى النظام الإريتري من انتقام جبهة تحرير تيجراي وزعزعة الداخل الإريتري، وفي ذات الوقت تزايد الضغوط الدولية التي تطالب بانسحاب تلك القوات منذ فبراير 2021. على الجانب الآخر، بات تورط ميلشيات قومية أمهرة في الحرب الإثيوبية الأخيرة ضد إقليم تيجراي بدافع السيطرة واستعادة السيادة على بعض المناطق التي يدّعي قادة أمهرة أن جبهة تحرير تيجراي قد احتلتها منذ صعودها للسلطة في عام 1991، والتي يدور حولها قتال حاليًا في إطار مساعي قوات دفاع تيجراي بسط سيادتها على كامل أراضي الإقليم.
- تزايد الضغوط الدولية على آبي أحمد: يتعرض نظام آبي أحمد لموجة انتقادات دولية وضغوط أمريكية ودولية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في إقليم تيجراي، وتفاقم الأوضاع الإنسانية لأكثر من 6 ملايين شخص يقطنون الإقليم. ويبدو أن طرح الحكومة الفيدرالية لمبادرة وقف إطلاق النار من جانب واحد بهدف تخفيف حدة تلك الانتقادات والضغوط، كما يمكن اعتبارها بمثابة المنقذ لقوات آبي أحمد من مستنقع تيجراي والتي تكبَّدت فيه خسائر واضحة خلال الفترة السابقة.
- الرفض الشعبي للقوات الإثيوبية في تيجراي: وهو أحد مبررات آبي أحمد لانسحاب قواته من الإقليم، حيث لم تجد دعمًا قويًّا من شعب تيجراي الذي يرى أن تدخل الجيش الإثيوبي في الإقليم بمثابة غزو واحتلال، الأمر الذي دعا البعض إلى المطالبة بالانفصال عن الدولة الإثيوبية، والتعبير عن سخطه من آبي أحمد بشكل خاص. كما وجّه معظم شعب تيجراي المساعدات الإنسانية التي يحصل عليها من الحكومة المركزية إلى جبهة تحرير تيجراي، وتحت تصرفها لمواجهة القوات الفيدرالية؛ حسبما زعم رئيس الوزراء.
- التكلفة الباهظة للحرب: فقد أعلن آبي أحمد أن حكومته أنفقت حوالي 100 مليار بر إثيوبي في منطقة تيجراي منذ بدء الصراع هناك، وهو ما يعادل عشرة أضعاف ميزانية الحكومة المركزية للإقليم. وهو ما يمثل عبئًا على خزينة الدولة. وفي تقرير صدر في 4 يوليو الجاري عن صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، أشار إلى احتجاز قوات دفاع تيجراي لبضعة آلاف من الجنود الإثيوبيين في سجون الإقليم. كما أن تداعيات تلك الحرب سوف تفضي إلى تزايد تآكل شعبية آبي أحمد داخليًّا والمزيد من السخط لدى الرأي العام الإثيوبي، وارتفاع موجة الاضطرابات السياسية والأمنية والإثنية في البلاد؛ اعتراضًا على سياسات آبي أحمد.
- سلسلة الأزمات التي تواجه آبي أحمد: يواجه النظام الحاكم في إثيوبيا معارضة حادة لسياساته منذ عام 2018، ويظل السياق الأمني الداخلي متأزمًا في ضوء ما أكده آبي أحمد بأن الجيش الإثيوبي يحارب في عشر جبهات في الداخل الإثيوبي، بالإضافة إلى الاضطرابات الإثنية التي أفضت إلى مواجهات عسكرية بين بعض الأقاليم الفيدرالية، الأمر الذي يهدد استقرار الدولة الإثيوبية مستقبلًا.
وفي ذات الوقت، تُواجه إثيوبيا بعض التهديدات على المستوى الإقليمي خاصة في ظل التصعيد المستمر للخلاف بين مصر والسودان وإثيوبيا بسبب قضية سد النهضة الإثيوبي، فضلًا عن تصاعد الخلاف الحدودي بين السودان وإثيوبيا على منطقة الفشقة المتنازع عليها بين الطرفين. وهو ما يضع آبي أحمد في معضلة كبيرة بسبب ضغوطات تلك الأزمات وانعكاساتها على استقرار حكمه لا سيما أنه ينتظر نتائج الانتخابات الأخيرة ليبدأ ولاية جديدة تمهيدًا لتنفيذ مشروعه السياسي في الداخل الإثيوبي الذي ربما يمهد له الحكم لسنوات قادمة.
مستقبل الصراع في إقليم تيجراي: يُلقي الصراع في إقليم تيجراي والتطورات الراهنة على الساحة بظلاله على مستقبل العلاقة بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تحرير تيجراي التي استطاعت بسط سيطرتها على الإقليم مجددًا، والتي يبدو أنها قد وصلت لطريق مسدود، مما يجعل فرص الوصول إلى حلّ سياسي لهذا الصراع مستبعدًا حاليًا، في ضوء تصاعد بعض الأصوات داخل شعب تيجراي التي تطالب بالانفصال عن الدولة الإثيوبية، وقيام دولة تيجراي التي تمثل حلمًا منذ سبعينيات القرن الماضي؛ لا سيما أن الدستور الفيدرالي يمنح هذا الحق وفقًا لمادته (39) الخاصة بحق تقرير المصير للأقاليم الإثيوبية بشروط محددة.
في الوقت الذي ربما يسعى فيه آبي أحمد إلى التورط في حرب جديدة ضد الإقليم بهدف رد الاعتبار لنظامه وشعبيته التي تآكلت وقواته العسكرية على الصعيدين الداخلي والدولي، وربما يشجّعه على ذلك إعلان فوزه في نتائج الانتخابات المقبلة، وتخفيف حدّة الانتقادات الدولية ضده بسبب الأزمة الإنسانية في تيجراي، وإعادة تشكيل تحالفاته ومواءماته المحلية والإقليمية خاصة مع قومية أمهرة وإريتريا.
وإجمالًا، تواجه إثيوبيا تحت حكم آبي أحمد -الذي سادت حالة من التفاؤل بعد تنصيبه رئيسًا للوزراء في عام 2018م، وحصوله على جائزة نوبل للسلام في عام 2019م- موجة من الأزمات الداخلية والإقليمية التي تتفاقم مع مرور الوقت في ظل غياب إرادة سياسية لتسوية تلك الأزمات، الأمر الذي يُهدِّد بشكل واضح الوحدة الإثيوبية، والذي ينعكس بدوره على أمن واستقرار منطقة القرن الإفريقي بشكل أوسع.
مما قد ينذر بممارسة المزيد من الضغوط الأمريكية والدولية على حكومة أديس أبابا لوضع حدّ لتلك الأزمات والدفع نحو تسويتها، أو ربما تشهد إثيوبيا انقلابًا ناعمًا للسلطة خلال الفترة المقبلة وربما خشنًا؛ وذلك في محاولة للحفاظ على الدولة الإثيوبية من التفكك والانهيار الذي يُشكِّل تهديدًا صريحًا للمصالح الدولية الاستراتيجيَّة في القرن الإفريقي؛ على اعتبار أن أديس أبابا بمثابة ركيزة أساسية للاستقرار الإقليمي في المنطقة.[2]
التراجع الإثيوبي والفوضى القادمة: كانت إثيوبيا لعقود من الزمان بمثابة القوة الإقليمية الكبرى التي فرضت مفهومها للسلام في القرن الإفريقي “باكس إثيوبيانا”. إنها تحتضن في قلب عاصمتها مقر الاتحاد الإفريقي والعديد من المنظمات الدولية، وهو ما جعلها قوة سياسية ودبلوماسية وعسكرية تفوقت على العديد من دول الجوار الإفريقي.
لقد استطاعت أن تهيمن بالمشاركة مع كينيا على جهود حل النزاعات وحفظ السلام في القرن الإفريقي مثلما حدث في السودان والصومال. كما اتضح ذلك أيضا بجلاء من الدور الإثيوبي البارز في الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (الإيجاد)، التي أسهمت في تسوية العديد من الصراعات والأزمات في المنطقة. تعرض دور إثيوبيا في تحقيق الاستقرار في القرن الإفريقي لضربة قوية في السنوات الأخيرة.
وأحدثت سياسات رئيس الوزراء أبي أحمد وحساباته الشخصية تحولات فارقة في طبيعة الاستراتيجية القديمة لإثيوبيا، كما قوّضت التحالفات القديمة، وأثارت التوترات مع كينيا، وأقامت علاقات مراوغة وغير حكيمة مع كل من رجل القرن الإفريقي العجوز أسياس أفورقي في إريتريا ومحمد عبد الله فرماجو المنتهية ولايته في الصومال. وعلى الرغم من أن الهدف المعلن لهذا التحالف الثلاثي الذي تم تدشينه في يناير 2020، هو تعزيز التكامل الاقتصادي في القرن الإفريقي، فإنه في جوهره كان يدعم بقاء الحكام الثلاثة في مناصبهم.
والأكثر خطورة أن هذا التحالف الثلاثي غير المقدس كان يهدف إلى إعادة تشكيل القرن الإفريقي وفقا لرؤية أسياس أفورقي. اتضح ذلك بجلاء من خلال محاولة تفكيك هيئة الايجاد والترويج للنموذج الإريتري (حكم الشخص)، حيث لم تشهد أريتريا أي انتخابات منذ استقلالها في عام 1993. على الصعيد الصومالي، يوجد آلاف من القوات الإثيوبية في جنوب وسط الصومال، يخدمون في الغالب داخل أميصوم. تاريخيًا، كما يقول رشيد عبدي المحلل الصومالي فإن استراتيجية إثيوبيا في الصومال لم تكن فقط هزيمة حركة الشباب، وانما دفع محيطها الأمني إلى عمق الصومال، وإغلاق حدودها بشكل أكثر إحكامًا، وبناء النفوذ بين العشائر في المناطق الصومالية على طول الحدود، وتحصين أقاليمها ضد ما تسميه التطرف الاسلامي.
وقد تم تحقيق ذلك من خلال إنشاء قوات خاصة تدعم الولايات الفيدرالية في جوبالاند وبونتلاند والقوات المحلية المناهضة لحركة الشباب. كانت الاستراتيجية فعالة، من منظور أديس أبابا. بيد انه في عهد أبي أحمد، تم التخلي عن الاستراتيجية القديمة. لا شك أن الهزيمة الثقيلة للجيش الإثيوبي في التيجراي سوف يكون لها تداعيات خطيرة على الداخل الإثيوبي وعلى المنطقة الأوسع في القرن الإفريقي ، بما في ذلك الصومال وإريتريا. ولعل كل المؤشرات تشير إلى أن إثيوبيا تتجه صوب التفكك البطيء في حالة أشبه بالبلقنة أو حرب الكل ضد الكل التي تحدث عنها توماس هوبز. إذا استمرت الحرب في التيجراي، وهو احتمال مرجح، فإن معنى ذلك فرار الملايين عبر الحدود، واشتعال حرائق متعددة في منطقة القرن الأوسع وتؤدي إلى أسوأ فترة من عدم الاستقرار منذ سبعينيات القرن الماضي.[3]
الخُلاصة؛ قد يتدهور الوضع في إثيوبيا في الفترة المقبلة بصورة سريعة إذا لم يتدخل المجتمع الدولي بشكل حاسم. ويمكن أن يمتد الصراع إلى إريتريا والداخل الإثيوبي نفسه مثل أمهرا والأورومو وغيرها من بؤر التوتر العرقي. وقد يفضي وجود انفجار أو نزاع مسلح خطير طويل الأمد في إثيوبيا إلى خفض أعداد أو ربما الانسحاب الكامل للقوات الإثيوبية من الصومال. ولاشك أن الانسحاب الإثيوبي المتسرع سيمنح جماعة الشباب فرصة للتوسع والتمدد على نطاق أوسع في وسط الصومال. إنه على الرغم من المطالب الدولية بإنهاء الصراع، لا تزال القوات العسكرية الإثيوبية والقوات المتحالفة تسيطر على جزء كبير من تيجراي، وتحاصر عاصمتها الاقليمية من خلال قطع الكهرباء والاتصالات والمياه النظيفة وهو ما يفاقم الأزمة الإنسانية. وأخيرًا يُمكن القول أنه حتى وقت قريب، كان يُنظر إلى إثيوبيا، الحليف العسكري الموثوق به لدى الغرب، على أنها المحور الاستراتيجي للقرن الإفريقي. لكن مع استمرار الصراع، ثمة شعور متزايد بالقلق من أن إثيوبيا أصبحت مصدرًا لعدم الاستقرار في منطقة تمثل بحد ذاتها مركبا أمنيا بالغ التعقيد والتشابك.
[1] أحمد عسكر، “معضلة الإخفاق الإثيوبي في إقليم تيجراي.. الأسباب والتداعيات”، قراءات إفريقية، 5/7/2021. متاح على الرابط:https://cutt.us/Bn14g
[2] أحمد عسكر، مرجع سبق ذكره.
[3] د. حمدي عبد الرحمن، “الأزمة الإثيوبية وتأثيراتها الإقليمية”، قراءات إفريقية، 4/7/2021. متاح على الرابط: https://cutt.us/Dxb3o