تتواصل الفعاليات الاحتجاجية على مقتل المعارض السياسي الفلسطيني والمرشح للانتخابات التشريعية التي تم إلغاؤها نزار بنات، فى 24 يونيو 2021، عقب اعتقاله من الأجهزة الأمنية الفلسطينية من مكان سكنه في بلدة دورا جنوبي الخليل جنوب الضفة الغربية المحتلة.
وهتف العشرات من المتظاهرين الفلسطينيين مطالبين بتحقيق العدالة لنزار، ومحاسبة المسؤولين عن مقتله، كما هتفوا ضد السلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس، مكررين شعار “ارحل”، وطالبوا بإجراء الانتخابات[1].
أولًا: ما وراء انتفاضة الشارع الفلسطينى:
يمكن إرجاع هذه الانتفاضة ضد السلطة الفلسطينية إلى مجموعة من الأسباب تتمثل فى:
استراتيجيًا: فقد فشلت العملية السياسية التى تبنتها السلطة، والتى انطلقت منذ بداية التسعينيات، وراهنت على حل وسط، عبر المفاوضات تحت عنوان “حل الدولتين”، وانتهت إلى حالة تطرّف عنصري شامل في المنظومة الإسرائيلية، واختلال في ميزان القوى، وتعمّق الاحتلال والتطهير العرقي الإسرائيلي، في منظومة أبارتهايد وتمييز عنصري شامل لكل مكونات الشعب الفلسطيني.
وبالتالي، نشوء فشل برنامجي لما اعتمدته منظمة التحرير منذ الثمانينيات، وراهنت عليه عبر اتفاق أوسلو وغيره[2]. وتحولت السلطة، بدلاً من ذلك، إلى قناع أو أداة أو وكيل لأرخص احتلال في التاريخ.
أيضًا، فقد تصرفت السلطة طوال الوقت كأنها لمواطني الداخل فقط، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى من دون القدس، مع تجاهل تام أيضاً للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، وفلسطينى الشتات والخارج.
كما فشلت السلطة فى انهاء الانقسام السياسي والجغرافي بين حركتي فتح وحماس، والضفة الغربية وغزة، وأدّى، ضمن أسباب أخرى، إلى تعطيل الحياة السياسية، وعدم إجراء الانتخابات سنوات طويلة، ثم استغله الرئيس محمود عباس لحلّ المجلس التشريعي المُنتخب، بعد تهميشه وتعطيله سنوات.
بموازاة فرض هيمنته التامة على الهيئات القضائية، بحيث بات يتحكّم تماماً بالسلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، مع تضييق على السلطة الرابعة وملاحقة الصحفيين وأصحاب الرأي.
أما تكتيكياً: فيمكن الحديث عن عدة تطورات مهمة، حدثت خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، أوّلها وأهمها الهرب من إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، بعد انتظار 16 عاماً بحجة عدم موافقة الاحتلال على إجرائها في القدس.
بجانب، عجز قيادة السلطة وصمتها في أثناء هبّات المدينة القدس في إبريل، ثم معركة سيفها في مايو، حيث غابت القيادة تماماً، وبدت منطوية على ذاتها في المقاطعة، من دون أي مبادرة سياسية أو حتى حضور إعلامي.
والأسوأ أنها واصلت التنسيق الأمني مع الاحتلال، لكبح جماح الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية، ومنعه من التضامن بقوة مع الهبّات والمعركة، وبالتالي فتح جبهاتٍ ومعارك استنزاف إضافية في مواجهة الاحتلال المرهق على جبهات القدس وغزة.
وأخيراً حادثة مقتل الناشط نزار بنات في أثناء اعتقاله من جهاز الأمن الوقائي التابع للسلطة في نهاية يونيو الماضى وفشل هذه الأخيرة في تقديم إجابات وتفسيرات منطقية ومقبولة تجاه الحادثة[3].
ثانيًا: هل تنجح هذه المظاهرات فى الإطاحة بالسلطة الفلسطينية؟:
ولكن، رغم المظاهرات الشعبية الكبيرة التى تطالب برحيل السلطة، إلا أن معظم التحليلات ترجح عدم قدرة المتظاهرين على تحقيق هذا المطلب (رحيل السلطة)، وذلك لمجموعة من الأسباب أهمها:
– بعد أن وقعت منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق أوسلو، وبموجبه أُنشئت السلطة الفلسطينية، نشأت مع السلطة جماعات مصالح مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسلطة ومؤسساتها من خلال خلق مؤسسات وأجهزة دولانية (وزارات وهيئات وأجهزة أمن وغير ذلك)، وبنى اقتصادية واجتماعية مختلفة، إضافة إلى أن مشروع السلطة الفلسطينية استثمر فيه الغرب مليارات الدولارات وليس من السهل السماح بانهياره، وما يفسر ذلك حجم تدفق الأموال في الأيام الأخيرة، وسلسلة الاتصالات بقياداتها من أطراف إسرائيلية وإقليمية ودولية.
– أن السلطة لا تزال تقوم بدورها الوظيفى فى حماية إسرائيل وأمنها عبر الالتزام بالاتفاقيات الأمنية معها، وعليه قد يتجاوز العالم كل عورات السلطة ما دامت محافظة على هذا الدور الوظيفي[4].
وفى هذا السياق، فإن الإدارة الأميركية، ومعها حكومة دولة الاحتلال، تصارع من أجل بلورة خطّة جديدة تهدف إلى إعادة إنعاش السلطة من البوّابة الاقتصادية، في مقابل ترتيبات طُلب من الرئيس محمود عباس العمل عليها في ما يتعلّق بالنظام السياسي الفلسطيني، استعداداً لليوم التالي لمغادرته الرئاسة.
وبحسب مصدر رفيع في السلطة تحدّث إلى “الأخبار”، فإن الخطّة الأميركية – الإسرائيلية التي يجري التباحث فيها مع مسؤولين فلسطينيين، تتمحور حول توفير مصادر دعم مالي جديدة للسلطة، عبر تفعيل اللجنة الإسرائيلية-الفلسطينية المشتركة للقضايا الاقتصادية (التي نص عليها الملحق الاقتصادي لاتفاقيات أوسلو المسمى “بروتوكول باريس”)، وإزالة الحواجز التي من شأنها تسهيل النشاط الاقتصادي للسلطة الفلسطينية.
بجانب، التباحث مع الأطراف الدولية، وخاصة الولايات المتحدة، في إعادة الدعم الذي كان يُقدّر بـ400 مليون دولار سنوياً[5].
كذلك، زيادة الصادرات الأردنية إلى الضفة الغربية من 160 مليون دولار إلى حوالي 700 مليون دولار، وهو ما تم الاتفاق عليه أثناء زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد إلى العاصمة الأردنية عمّان، والتي تزامنت مع لقاء سري بين رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بعد قطيعة سنوات بين البلدين[6].
وتأتى تلك التسهيلات الإسرائيلية والأمريكية للسلطة مقابل قيام الأخيرة بفرض قبضة حديدية على مدن الضفة لمواجهة العمليات الفردية أو المنظّمة ضدّ قوّات الاحتلال. وتعديل النظام السياسي الفلسطيني خلال الفترة المقبلة، وإقرار قانون يسمح بتعيين نائب لعباس يتولّى مهامّ الرئاسة في حال مغادرة الأخير أو موته، بحيث يستمرّ النائب في القيادة في ظلّ تعذّر إجراء انتخابات.
وهى الترتيبات التى تهدف من خلالها واشنطن وتل أبيب إلى ترتيب الأوضاع الداخلية للسلطة بما لا يسمح لحركة “حماس” بالسيطرة على الوضع السياسي الفلسطيني بعد رحيل عباس الذي يبلغ من العمر 85 عاماً ولا يبدو وضعه الصحّي جيداً[7].
– أن بقاء السلطة وتعزيز مكانتها يمثل مصلحة إسرائيلية لمجموعة من الاعتبارات منها:
1- منع سيطرة حماس على الساحة الفلسطينية وتعزيز قوتها وتأثيرها السياسي، لاسيّما في الضفة الغربية.
2- منع حصول تصعيد أمني في الضفة الغربية، وذلك في ظل وجود حكومة جديدة تحاول إثبات قدرتها على الحفاظ على الاستقرار الأمني النسبي في الضفة الغربية.
3- إبقاء موضوع البرنامج النووي الإيراني في سلم أولويات الأجهزة السياسية والأمنية الإسرائيلية، وتهميش الموضوع الفلسطيني إقليمياً ودولياً من خلال الحفاظ على الوضع القائم، وبقاء السلطة يُبقي الوضع على ما هو عليه على الأرض، وهو الخيار الأنسب حالياً لإسرائيل وحكومتها الجديدة.
4- إرضاء الإدارة الأمريكية بقيادة بايدن التي تُبدي تفهماً للعقبات التي تواجه الحكومة الإسرائيلية الجديدة في التقدم نحو تسوية شاملة للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، إلا أنها تؤيد القيام بخطوات تعزز الثقة وتحسن حياة المواطنين الفلسطينيين والإسرائيليين في المنطقة.
ولا يعني ذلك أن الحكومة الإسرائيلية ستكون داعمة للسلطة الفلسطينية بالمطلق، إذ ستبقى إسرائيل تتبع سياسة الضغط والابتزاز للسلطة، وخاصة في ظل وجود معارضة يمينية قوية بقيادة نتنياهو، كما في قرار حكومة بينيت في 11 يوليو الحالى بتجميد جزء من عائدات الضرائب التي تجبيها لصالح السلطة لاستمرارها في دفع الرواتب إلى عوائل الفلسطينيين الذين ينفذون هجمات ضد إسرائيل. كما أن إسرائيل قد لا تتعجل فى تقديم الدعم للسلطة؛ لأن استمرار التظاهرات ضد السلطة قد يُضعفها داخلياً، وذلك يصب في مصلحة المركبات اليمينية في الحكومة للتسويق بعدم وجود شريك فلسطيني مستقر وقويّ من أجل استئناف العملية السلمية.
وأخيرًا، فإن إسرائيل قد تستغل هذه التظاهرات لتغيير القيادة الفلسطينية الحالية واستبدالها بقيادة جديدة قادرة على السيطرة على الساحة الفلسطينية، ومنع حماس من الانتشار السياسي في الضفة الغربية.
خاصة أن إسرائيل ترى أن اللحظة مناسبة لتحقيق ذلك في ظل وجود استعداد دولي لتغيير القيادة الفلسطينية الجديدة، وبخاصة إذا كان البديل قيادة معتدلة تقبل بشروط الرباعية، وهنا يلاحظ مثلاً الدعم الأمريكي لسلام فياض رئيس الحكومة الفلسطينية السابق، والذي زار في أواخر يونيو الماضي قطاع غزة لجسّ نبض الفصائل الفلسطينية حول إمكانية توليه رئاسة الحكومة الفلسطينية مجدداً[8].
———————————————————
[1] “تواصل الاحتجاجات على مقتل نزار بنات بهتافات تدعو لرحيل عباس وإجراء الانتخابات”، 17/7/2021، الرابط:
[2] “أزمة النظام السياسي الفلسطيني والمطلوب لحلهـا”، العربى الجديد، 25/7/2021، الرابط:
[3] “لماذا انتفض الشارع الفلسطيني ضد السلطة؟”، العربى الجديد، 21/7/2021، الرابط:
[4] “مستقبل السلطة الفلسطينية”، المركز الفلسطينى للإعلام، 25/7/2021، الرابط:
[5] “ترتيبات أميركية – إسرائيلية لما بعد عباس: اختيار «الخليفة» مقابل تحسينات اقتصادية”، الأخبار، 15/7/2021، الرابط:
[6] ” ما خيارات الحكومة الإسرائيلية تجاه أزمة السلطة الفلسطينية؟”، مركز الإمارات للسياسات، 15/7/2021، الرابط:
[7] “ترتيبات أميركية – إسرائيلية لما بعد عباس: اختيار «الخليفة» مقابل تحسينات اقتصادية”، مرجع سابق.
[8] ” ما خيارات الحكومة الإسرائيلية تجاه أزمة السلطة الفلسطينية؟”، مرجع سابق.